بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

نعم انما اعتبر ذلك في الامتثال ، لما عرفت من انه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لامرها ، وآخذا في امتثال الامر بذيها ، فيثاب بثواب أشق الاعمال (١) ، فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ، ولو لم

______________________________________________________

فانه ظاهر في صرافته في الطريقية إلى ذي المقدمة ، فالمأمور به في الحقيقة عقلا والمراد شرعا بتبع ارادة الواجب النفسي هو صرف التمكن والقدرة بعد اتيانه على اتيان الواجب النفسي والقدرة عليه أو ترتب الواجب عليه ، فلا محالة يكون ذات ما هو مقدمة هو المأمور به عقلا وهو المراد بالارادة القهرية شرعا.

(١) توضيحه ـ بحيث لا يكون منافيا لما سبق منه ـ بامرين :

الاول : انه قد ظهر من كلامه في اشكال العبادية في الطهارات الثلاث ان السر في وقوعها عبادية هو اتيانها بقصد التوصل بها.

الثاني : ان الامتثال في الامر التوصلي الغيري عند المصنف على ما يتحصل من مجموع كلماته بنحوين ، لانه قد صرح : بان حصول ذات ما هو مقدمة من دون أي قصد يسقط به الوجوب الغيري ويصدق على المأتي به انه هو الواجب الذي تعلق به الامر الغيري ، وظهر ـ مما مر ـ منه ان عبادية الامر الغيري منوطة بقصد التوصل به الذي يلازمه قصد امتثال الامر الغيري وكون المكلف مندفعا بهذا الداعي.

فاذا عرفت هذا نقول : ان مراده بقوله : «لا يكاد يكون الآتي بها» : أي بذات ما هو مقدمة «بدونه» : أي بدون قصد التوصل بها «ممتثلا لامرها» هو الامتثال بالمعنى الثاني : أي لا يصدق عليه انه ممتثل لامرها ومندفعا به : بان يقال انه أتى بها بداعي امتثال امرها ، وليس غرضه ان الامتثال بمعنى الاتيان بما تعلق به الامر منوط بقصد التوصل بها ، ولذا عقب هذا بقوله : «وآخذا في امتثال الامر بذيها فيثاب بثواب أشقّ الاعمال» فغرضه من الامتثال المنوط بقصد التوصل هو الذي يلازمه كونه آخذا في امتثال الامر بذي المقدمة ، فانه لا يعقل ان يكون في صدد امتثال ذي

١٨١

يقصد به التوصل ، كسائر الواجبات التوصلية ، لا على حكمه السابق الثابت له ، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه ، فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو إطفاء حريق واجب فعلي لا حراما ، وإن لم يلتفت إلى التوقف والمقدمية (١) ، غاية

______________________________________________________

المقدمة بحيث يصدق عليه انه في طريق الامتثال لذي المقدمة في حال اتيانه بالمقدمة ولا يكون قاصدا للتوصل بالمقدمة.

(١) ليس هذا تفريعا على قوله : نعم ، بل هو تفريع على ما ذكره سابقا من عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع الفعل الذي يؤتى به من غير قصد التوصل على صفة الوجوب ، وان المتعلق للامر المقدمي هو ذات ما هو مقدمة لا عنوان المقدمية المنوطة بقصد التوصل.

توضيح هذا التفريع : انه بناء على عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب وان ذات ما هو مقدمة هو الواجب الغيري لا المقصود به التوصل ـ نقول : إن ذات ما هو مقدمة مع الغض عن عروض الوجوب الغيري عليه اما ان يكون مباحا أو مستحبا أو مكروها أو حراما ، وكونه واجبا نفسيا خارج عن الكلام ، اذ مع وجوبه النفسي بالذات لا يعقل ان يكون واجبا غيريا لانشغال المحل بالوجوب النفسي ، ولانه لا مجال لجعل الداعي إلى إتيانه مقدميا بعد ان كان قد جعل الداعي إلى إتيانه لنفسه ، واما الاحكام الأخر فلا شبهة في انقلاب حكمه إذا كان مباحا أو مستحبا أو مكروها إلى الوجوب ـ بناء على الملازمة وسريان الوجوب إلى المقدمة من وجوب ذيها ـ وعدم معقولية ان يكون للواقعة الخاصة حكمان متضادان ـ كما سيأتي بيانه في مبحث اجتماع الامر والنهي ـ فلا يعقل بعد عروض الوجوب على المقدمة ان تكون مباحة أو مستحبة أو مكروهة لمنافاة عدم الإذن في الترك مع الاذن في الترك.

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

واما إذا كان ذات ما هو المقدمة محرما فإما ان ينحصر الواجب به : بان يتوقف الواجب النفسي عليه ولا يكون هناك فرد غير هذه المقدمة المحرمة ، وهذا الفرض هو موضوع كلام المصنف اولا ، واما المقدمة غير المنحصر الواجب بها فسيأتي الكلام فيها في ذيل العبارة.

ولا يخفى : انه إذا انحصرت مقدمة الواجب النفسي في المحرم وقلنا ببقاء المقدمة على حرمتها لا بد من الالتزام بسقوط الواجب النفسي المنحصر مقدمته في المحرم ، اذ لا يعقل اجتماع الوجوب والحرمة فيه وان قلنا بجواز اجتماع الامر والنهي ، اذ من يقول بالجواز انما يقول به فيما له المندوحة لا فيما لا مندوحة فيه وفرض المقام عدم المندوحة فاذا لم يسقط الواجب النفسي عن وجوبه : بان كان اهم من الحرمة المتعلقة بمقدمته فلا مناص من سقوط حكم حرمة المقدمة وانقلاب حكمها إلى الوجوب الغيري المقدمي ، فاذا توقف انقاذ غريق لنفس محترمة على الدخول في ملك الغير من دون اذنه فلا بد من سقوط حرمة الدخول والتصرف في ملك الغير إذا انحصر انقاذ الغريق المسلم على الدخول والتصرف فيه.

إذا عرفت هذا فنقول : انه بناء على كون الواجب الغيري ذات ما هو المقدمة يقع الدخول في ملك الغير واجبا وان لم يقصد الداخل التوصل بدخوله لانقاذ الغريق ، لأن ذات ما هو مقدمة وهو الدخول في ملك الغير هو الذي ترشح له الوجوب ، فهو مصداق للواجب الغيري وقد ارتفع حكم حرمته لتوقف الانقاذ الواجب الأهم عليه ، واذا كان الواجب بالوجوب الغيري المقدمة المقصود بها التوصل لا يقع الدخول مصداقا للواجب وان كان لا يقع ايضا مصداقا للمحرم لتوقف حصول الواجب الأهم عليه ، لعدم امكان تنجز الواجب الاهم مع بقاء ما يتوقف عليه وجوده على حرمته ، فهو لا يقع مصداقا للواجب لعدم قصد التوصل به ولا محرما لتوقف وجود الواجب عليه.

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فالفرق بين مسلك التقريرات في اعتبار قصد التوصل ، ومسلك المصنف هو وقوع الدخول مع كونه تصرفا في ملك الغير مصداقا للواجب على مختار المصنف ، ووقوعه لا واجبا ولا محرما بناء على مسلك التقريرات ، ولذلك لم يصرح المصنف بوقوعه على مسلك التقريرات محرما ، واكتفى بكونه على مسلكه يقع مصداقا للواجب دون مسلك التقريرات ، فصرح : بانه بناء على عدم اعتبار قصد التوصل يقع الدخول والتصرف في ملك الغير مصداقا للواجب الغيري وان لم يقصد الداخل التوصل ولذا قال (قدس‌سره) : «فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات» الواقعة على «صفة الوجوب» وان لم يقصد بها امتثال امرها على ما سبق من رأيه : من ان الواجبات التوصلية تقع على وصف الامتثال وان لم يقصد بها امتثال امرها ، لا انها يسقط بها الوجوب التوصلي لتحقق الغرض ، ولكن لا تقع على صفة الامتثال كما هو رأي غيره في الفرق بين التوصلي والتعبدي ، وقد مرت الإشارة اليه في شرح قوله : فافهم.

وعلى كل فعلى رأيه (قدس‌سره) لا بد له من الالتزام بما ذكره من وقوع ذات ما هو المقدمة على صفة الوجوب وان لم يقصد به التوصل ، ولا يبقى على ما له من الحكم السابق قبل عروض مقدميته ، فاذا كان حكمه السابق الحرمة وكان الواجب النفسي اهم ترتفع حرمة الفعل ويقع واجبا وان لم يقصد به التوصل ، ولذا بعد ان ذكر انه يقع على صفة الوجوب قال : «لا على حكمه السابق الثابت له» : أي الحكم الثابت لهذا الفعل «لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه» كالدخول في ملك الغير بغير اذنه ، فان حكمه الثابت له هو الحرمة قبل توقف الانقاذ الذي هو الواجب الفعلي الاهم فيكون هو المنجز فعلا على الدخول ، وبعد عروض هذا التوقف ترتفع الحرمة ، ولذا قال مفرعا : «فيقع الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق أو اطفاء حريق واجب فعلي» ولا يقع حراما على حكمه

١٨٤

الامر يكون حينئذ متجرئا فيه (١) ، كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة ، فيما لم يقصد التوصل إليه أصلا. وأما إذا قصده ، ولكنه

______________________________________________________

السابق وان لم يقصد به التوصل ولذا قال : «لا حراما» : أي يقع واجبا لا حراما «وان لم يلتفت» الداخل «إلى التوقف والمقدمية».

(١) لا يخفى ان هذا تتمة لما ذكره من وقوع الفعل مصداقا للواجب الغيري ، ولا يبقى على حكمه السابق وان لم يلتفت الداخل المتصرف في ملك الغير من دون اذنه إلى كون دخوله مقدمة لواجب اهم لأن دخوله مصداق للواجب الغيري التوصلي ، ومع وقوعه مصداقا للواجب لا يعقل ان يكون مصداقا للمحرم ، إلّا انه حيث لم يلتفت إلى كونه مقدمة لواجب اهم فهو غافل عن كون ما أتى به مصداقا للواجب ، وحيث انه يعلم بان دخوله تصرف في ملك الغير من دون إذنه فيكون على هذا معتقدا لكونه مصداقا للمحرم فهو في دخوله قد أقدم على ارتكاب المحرم ، فهو كمن شرب المائع بعنوان كونه خمرا إن كان ماء.

غايته ، ان الفرق بين المقام وبين شرب المائع الذي يتبين انه ماء : ان في شرب المائع قد انتفت الحرمة لانتفاء موضوعها وهو الخمر ، وفي المقام قد ارتفع نفس حكم الحرمة لا موضوعها وهو التصرف في ملك الغير ، ولا فرق في مناط التجري صدقا ونتيجة بين هذين الامرين ، وعلى كل فهو في دخوله له يكون متجريا فيما اتى به لانه اقدم فيه على العصيان وارتكاب المحرم وان لم يكن ما اتى به محرما واقعا بل هو مصداق للواجب ، والى هذا أشار بقوله : «غاية الامر يكون حينئذ» : أي بدخوله في ملك الغير مع التفاته إلى كونه تصرفا من غير اذن المالك وعدم التفاته إلى مقدميته وتوقف الواجب الاهم عليه فانه على هذا يكون «متجريا فيه» : أي في فعله هذا الذي هو فعل المقدمة التي يراها بما لها من عنوانها الخاص بها محرمة وقد غفل عن كونها مقدمة ومصداقا للواجب الغيري.

١٨٥

لم يأت به بهذا الداعي ، بل بداع آخر أكده بقصد التوصل ، فلا يكون متجرئا أصلا (١).

______________________________________________________

(١) لما ذكر صورة عدم الالتفات إلى كونه مقدمة لواجب اهم مع التفاته إلى كونه تصرفا في ملك الغير بغير اذنه وانه يكون متجريا عقبه بصورة الالتفات ، ومهم صور الالتفات اربعة :

الأول : ان يكون ملتفتا إلى كون الدخول مقدمة للواجب الاهم وقد دخل بقصد التوصل إلى الواجب ، وفي هذا الفرض يقع مصداقا للواجب على المسلكين وهو واضح.

الثاني : ان يكون ملتفتا إلى كونه مقدمة للواجب الاهم ولكنه متردد في امتثال الواجب الاهم فلا يكون دخوله بقصد التوصل ، فعلى مسلك المصنف يقع مصداقا للواجب ، وعلى مسلك التقريرات لا يقع واجبا ولا محرما ، وعلى كل فلا يكون متجريا بالفعل.

الثالث : ان يكون ملتفتا ولكنه كان بانيا على مخالفة الواجب الاهم ، فحيث كان يجب عليه البناء على امتثال الواجب المنجز ولم يبن على الامتثال يكون متجريا بالنسبة إلى الواجب الاهم الذي هو ذو المقدمة ، وانما لم يعد عاصيا لانه لم يترك ما هو مقدمة حتى يكون تركا للواجب ، فهو بالفعل له مجال لأن يأتي بالواجب ولان لا يأتي به ولكنه حيث يجب كان عليه البناء على الاتيان به ولم يبن فهو متجر بالنسبة إلى ذي المقدمة لا عاص بالفعل فتأمل.

واما بالنسبة إلى نفس المقدمة فعلى مسلك المصنف لا يكون متجريا لانه قد اتى بما هو الواجب الغيري ، واما على مسلك التقريرات فاذا قلنا بصحة الترتب فلا مانع من وقوع المقدمة محرمة لأن المقدمة الواجبة هي المقصود بها التوصل والقدر المتيقن من كون تنجز الواجب لا يجامع حرمة ما يتوقف عليه فيما إذا لم يكن بانيا على عدم امتثال الواجب الاهم ، اما إذا كان بانيا على امتثال الواجب الاهم فلا مانع من ان

١٨٦

وبالجملة : يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه أصلا ، وإلا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، كما لا يخفى (١). ولا يقاس

______________________________________________________

يخاطب بعد بنائه على عدم الامتثال للواجب المتوقف على هذه المقدمة بحرمة الدخول في ملك الغير بغير اذنه والله العالم.

الرابع : ان يكون ملتفتا ولكنه لم يات بالمقدمة بقصد التوصل وحده بل انضم اليه قصد آخر كقصد التفرج ـ مثلا ـ ولازمه ان يكون بانيا على قصد امتثال الواجب الاهم ، وفي الفرض على كل حال لا يكون ما اتى به حراما على كلا المسلكين ولا متجريا لا بالنسبة إلى المقدمة ولا بالنسبة إلى ذي المقدمة ، وقد أشار إلى الفرض الثالث والرابع ، فأشار إلى الثالث بقوله : «كما انه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة» كما عرفت وجهه ، والى الامر الرابع بقوله : «واما إذا قصده ولكنه لم يات به بهذا الداعي بل بداع آخر اكده بقصد التوصل فلا يكون متجريا» كما عرفت أيضا.

(١) هذا تلخيص ما ذهب اليه من عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

ومحصله : انه حيث كان الملاك لوجوب المقدمة هو توقف الواجب عليها وكان هذا الملاك مما يقوم به ذات ما هو مقدمة ، فلا بد وان يكون هو الواجب من دون قيد له أو شرط.

ومن الواضح ـ أيضا ـ ان ذات ما هو مقدمة مما يمكن ان يقصد به التوصل إلى ذي المقدمة ، فلا محالة يكون قصد التوصل من فوائد ما هو مقدمة بالحمل الشائع فلذا قال : «وبالجملة يكون» قصد «التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة» وهي المقدمة بالحمل الشائع من دون تقييدها أو اشتراطها بقصد

١٨٧

على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها ، حيث يسقط به الوجوب ، مع أنه ليس بواجب ، وذلك لأن الفرد المحرم إنما يسقط به الوجوب ، لكونه كغيره في حصول الغرض به ، بلا تفاوت أصلا ، إلا أنه لاجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب ، وهذا بخلاف ما هاهنا ، فإنه إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في حصول الغرض ، فلا بد أن يقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضي فيه بلا مانع ، وإلا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة ، والتالي باطل بداهة ، فيكشف هذا عن

______________________________________________________

التوصل في وقوعها على صفة الوجوب ولذا قال : «لا ان يكون قصده» : أي التوصل بها «قيدا أو شرطا لوقوعها على صفة الوجوب» ثم علله بما ذكرنا : من ان ملاك وجوب المقدمة ثابت لما هو بذاته مقدمة لا المقدمة المقصود بها التوصل ، فقال «لثبوت ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه اصلا» هذا هو البرهان لكون الواجب ذات ما هو مقدمة وهو المقدمة بالحمل الشائع ، ثم أشار إلى نقض على من يشترط في وقوعها على صفة الوجوب تقييدها بقصد التوصل بما حاصله : انه لو كان قصد التوصل شرطا لوقوعها على صفة الوجوب لما امكن ان يسقط الامر الغيري المتعلق بالمقدمة باتيان ذات ما هو مقدمة من دون قصد التوصل بها ، إذ الواجب المتعلق للامر لا يعقل ان يسقط الامر المتعلق به إلّا باتيان ما تعلق به الامر ، فلو كان متعلق الامر هو المقدمة المقصود بها التوصل لما سقط الامر في الواجب الغيري باتيان ما هو مقدمة بالحمل الشائع من دون قصد التوصل ، والى هذا أشار بقوله : «وإلّا لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به».

١٨٨

عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا ، وانتظر لذلك تتمة توضيح (١).

______________________________________________________

(١) هذا جواب منه (قدس‌سره) عن سؤال مقدر يمكن ان يورد على دليله الاخير : من عدم امكان سقوط الواجب والامر به باتيان ما هو مقدمة بالحمل الشائع من دون قصد التوصل.

وحاصل السؤال والايراد : ان الامر التوصلي لا ينحصر سقوطه باتيان متعلق امره ، فانه كما يسقط باتيان الواجب وما هو متعلق الامر كذلك يسقط الامر التوصلي باتيان ما لا يعقل ان يكون فردا له لحصول الغرض الذي يدعو إلى الوجوب الغيري.

وبعبارة اخرى : ان الغرض في الواجب التوصلي كما يتحمله فرده ويسقط به الوجوب كذلك يتحمله ما ليس فردا له ويسقط بواسطة حصول الغرض منه الامر التوصلي ، كما في الفرد المحرم من افراد المقدمة وهي الدابة المغصوبة التي يحصل بها الوصول إلى مناسك الحج الواجب ، مع انه لا يعقل ان يكون الامر بالمقدمة شاملا للفرد المغصوب المحرم ، ولكنه حيث يحصل به الغرض يسقط الامر المتعلق بالمقدمة غير المغصوبة كالدابة المملوكة والمستأجرة ، فاذا امكن ان يسقط الامر المقدمي بالفرد المحرم فلا مانع من ان يسقط باتيان ما هو مقدمة بالحمل الشائع وان كان الواجب الغيري هو المقدمة المقصود بها التوصل.

وحاصل الجواب ـ عن هذا السؤال ـ : هو انه مما لا يمكن الريب فيه ان ثبوت ملاك الوجوب في فرد من دون مانع عنه لا محالة يجعل ذلك الفرد مصداقا للواجب ، اذ لا يعقل التخلف بعد تحقق العلة التامة من ثبوت المقتضي وعدم المانع ، وحيث كان الفرد المحرم قد ثبت فيه المقتضي ، لأن الدابة المغصوبة كالدابة المملوكة في انه بها يحصل قطع المسافة المؤدية إلى محل المناسك في الحج ، ولكن ثبوت المانع فيها وهو الغصب منع من تعلق الامر الغيري بها ولا انحصار بها ، ومع الانحصار ـ أيضا ـ

١٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يتنجز الحج لانه مشروط بالاستطاعة والممنوع شرعا كالممتنع عقلا ، ففرض تنجز الحج وجود فرد مباح من المقدمة يكون هو الواجب لثبوت المقتضي فيه بلا مانع ، دون الفرد المحرم فانه وان ثبت فيه المقتضي إلّا انه شفع بالمانع ومع وجود المانع لا تتم العلة التامة للحكم فيه فلا يعقل ان يتعلق به الوجوب الغيري ، وحيث ثبت المقتضي فيه فبإتيانه يحصل الغرض الداعي إلى الوجوب الغيري فيسقط وان لم يكن الفرد المحرم من مصاديق متعلق الوجوب الغيري.

فاذا عرفت هذا نقول : ان ذات ما هو مقدمة لا يعقل ان يسقط به الوجوب من دون تحمله للغرض الداعي إلى الوجوب الغيري ، وإلّا لجاز ان يسقط وجوب كل شيء بكل شيء وهو محال ، فالامر لا يعقل ان يسقط إلّا بما فيه ملاكه ، فاذا كان في ذات ما هو مقدمة ملاك الوجوب الغيري ـ ومن الواضح انه لا مانع من ان يكون ذات ما هو مقدمة واجبا كما كان المانع في الفرد المحرم ـ فلا محالة يكون سقوط الوجوب به لانه فرد الواجب وهو المطلوب ، والى هذا أشار بقوله : «وهذا بخلاف ما هاهنا فانه ان كان كغيره مما يقصد به التوصل» إلى آخر كلامه : أي الفرد المحرم ليس كمقامنا وهو ذات ما هو مقدمة ، فانه في الفرد المحرم لا يؤثر المقتضي لثبوت المانع ، بخلاف ما هاهنا فانه إذا كان ذات ما هو مقدمة قد ثبت المقتضي فيه وهو انه مما يحصل به التوصل إلى ذي المقدمة «فلا بد ان يقع على صفة الوجوب مثله» : أي مثل المقدمة التي قصد بها التوصل حيث انه قد ثبت فيه ولا مانع ، ولذا قال : «لثبوت المقتضي فيه بلا مانع وإلّا لما كان يسقط به الوجوب ضرورة والتالي باطل» وهو عدم سقوط الوجوب به ، فسقوط الوجوب به دليل على انه مما يقوم به الغرض وكونه بلا مانع وانه ليس كالفرد المحرم ـ أيضا ـ معلوم بالضرورة ، فاذا تم ثبوت المقتضي فيه وانه لا مانع فيه فلا بد وان يكون سقوط الوجوب به لانه فرد الواجب ، اذ لا مانع عن كونه كذلك ، واذا كان ذات ما هو مقدمة يسقط به الوجوب المستلزم ذلك لكونه فردا له كشف هذا عن ان الواجب ذات ما هو مقدمة من دون تقيده بقصد التوصل ،

١٩٠

والعجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعض مقرري بحثه قدس‌سره بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل في وقوعها كذلك ، فراجع تمام كلامه زيد في علو مقامه ، وتأمل في نقضه وإبرامه (١).

______________________________________________________

ولذا قال : «فيكشف هذا عن عدم اعتبار قصده» : أي قصد التوصل «في الوقوع على صفة الوجوب قطعا».

قوله : «وانتظر لذلك تتمة توضيح» عند تعرضه لرأي صاحب الفصول في تقييد المقدمة بالموصلة.

(١) حاصل ما يشير اليه المصنف هو انه في التقريرات شدد النكير على صاحب الفصول في قوله بالمقدمة الموصلة.

والمتحصل من رد التقريرات للقول بالمقدمة الموصلة : هو انه لا وجه لتخصيص بعض المقدمات وهي التي يترتب عليها الواجب بالوجوب بعد ان كان ما هو الملاك للوجوب يعمها وغيرها من المقدمات التي لا يترتب عليها الواجب ، والملاك الذي لوجوب المقدمة كما ينفي تقييد المقدمة بالموصلة كذلك ينفي تقييدها بقصد التوصل أيضا ، ولذا كان ذلك موضع عجب المصنف (قدس‌سره) ، فانه قال في التقريرات في رد صاحب الفصول ما هو نصه : «بعد القول بان الحاكم في هذا الباب العقل ونحن بعد ما استقصينا التامل لا نرى للحكم بوجوب المقدمة وجها الا من حيث ان عدمها يوجب عدم المطلوب ، وهذه الحيثية هي التي يشترك فيها جميع المقدمات وان اختص بعضها بالاستلزام الوجودي أيضا كما في العلة التامة» (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) مطارح الانظار : ص ٧٧ حجري.

١٩١

وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب ، فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا ما له دخل في غرضه الداعي إلى إيجابه في المقدمة الموصلة. والباعث على طلبه ، وليس الغرض من المقدمة إلا حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، ضرورة أنه لا يكاد يكون الغرض إلا ما يترتب عليه من فائدته وأثره ، ولا يترتب على المقدمة إلا ذلك ، ولا تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب ، وما لا يترتب عليه أصلا ، وأنه لا محالة يترتب عليهما ، كما لا يخفى.

وأما ترتب الواجب ، فلا يعقل أن يكون الغرض الداعي إلى إيجابها والباعث على طلبها ، فإنه ليس بأثر تمام المقدمات ، فضلا عن إحداها في غالب الواجبات ، فإن الواجب إلا ما قل في الشرعيات والعرفيات فعل اختياري ، يختار المكلف تارة إتيانه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى عدم إتيانه ، فكيف يكون اختيار إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها ، فضلا عن كل واحدة

______________________________________________________

وهذا كلام صريح في ان الملاك للوجوب المقدمي هو ان ما يلزم من عدمه العدم هو الذي يترشح له الوجوب ، ولا ينبغي تخصيص الوجوب بخصوص ما يلازم وجوده وجود ذي المقدمة وهو المقدمة الموصلة ، وهذه الحيثية التي نفى بها تخصيص الوجوب بخصوص الموصلة ينتفي بها أيضا تخصيص المقدمة وتقييدها بقصد التوصل ، فإن المقدمة المقصود بها التوصل والتي لم يقصد بها التوصل تشتركان في الحيثية المذكورة وهي انها يلزم من عدمها العدم ، ولذا قال المصنف ان الشيخ الذي يحكي رأيه صاحب التقريرات شدد النكير على صاحب الفصول في قوله بوجوب خصوص المقدمة الموصلة في رده له «بما يتوجه على اعتبار قصد التوصل» وجعله قيدا «في وقوعها كذلك» : أي في وقوع المقدمة على صفة الوجوب.

١٩٢

منها نعم فيما كان الواجب من الافعال التسبيبية والتوليدية ، كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته ، لعدم تخلف المعلول عن علته ومن هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة ، يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة في خصوص الواجبات التوليدية (١).

______________________________________________________

(١) هذا شروع في الكلام مع صاحب الفصول القائل بوجوب خصوص المقدمة الموصلة : أي وجوب خصوص المقدمة التي يترتب عليها الواجب.

وحاصل البرهان الذي ينفي تقييد المقدمة بقيد انها موصلة بحيث يترتب عليها ذو المقدمة ما أشار اليه بقوله : «فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب الا ما له دخل في غرضه» إلى آخر كلامه.

وتوضيحه : هو انه لا يعقل ان يكون الداعي إلى وجوب المقدمة الّا ما تتحمله المقدمة من ربطها وصلتها بذي المقدمة ، فلا بد ان نرى ان الغرض الداعي إلى وجوب المقدمة هل هو ترتب ذيها عليها أو التمكن من ايجاد ذيها بعد ايجادها؟

ولا يخفى ان ترتب ذي المقدمة لا يعقل ان يكون هو الغرض المترتب على كل جزء من أجزاء المقدمة ، فإن وجود المعلول انما هو من آثار وجود العلة التامة ولا يعقل ان يكون مترتبا على كل جزء من اجزائها لفرض كون العلة التامة مركبة ، واذا كان مترتبا على كل جزء من اجزائها لزم الخلف من كون المجموع هو العلة التامة له ، فلازم القول بالمقدمة الموصلة هو ان المترشح من الواجب النفسي وجوب واحد لمجموع العلة التامة كالوجوب الواحد النفسي المتعلق بالمركب من أجزاء متعددة ، وانما يكون لكل جزء من أجزاء المقدمة حصة من ذلك الوجوب الواحد المنبسط على الجميع ، فوجوب كل جزء من الأجزاء هو وجوب ضمني يكون ببسط الوجوب على جميع الأجزاء وان لكل جزء من أجزاء المركب حصة منه ، ولا يكون لكل جزء وجوب في عرض وجوب الجزء الآخر غير مرتبط امتثال كل منها بامتثال الجزء الآخر

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وحيث ان المقدمة التي يتوقف عليها الواجب على نحوين : بعضها اختيارية وهي التي يكون آخر جزء منها هو الارادة التي يتعقبها وجود ذي المقدمة فيتوسط بين وجود ذي المقدمة ووجود مقدماتها الارادة وهي المسماة بالمقدمات المباشرية الاختيارية. أو النحو الثاني هي المقدمات التي يتعقبها ذو المقدمة من دون توسط ارادة بينه وبين مقدماته وهي المسماة بالاسباب التوليدية كالاحراق المترتب على الالقاء في النار.

وقد اتضح مما ذكرنا : ان ترتب ذي المقدمة على المقدمات ليس اثرا لكل واحدة منها بل هو اثر مجموعها ، وهناك شيء آخر يكون هو اثرا لكل واحدة من هذه المقدمات ، وهو ان لكل مقدمة من هذه المقدمات اثرا يخصها وهو سد عدم ذي المقدمة من ناحيته. ومن الواضح ان كل مقدمة إذا وجدت فقد سد عدم ذي المقدمة من هذه الناحية ولا ربط لسد العدم من ناحية مقدمة بسد العدم لذي المقدمة من ناحية اخرى ، ولازم هذا ان يكون لكل مقدمة وجوب غيري في عرض الوجوب الغيري الآخر المتعلق بالمقدمة الاخرى.

فاذا عرفت هذا نقول : الداعي إلى ايجاب المقدمة ان كان هو الاثر المترتب على مجموعها فلا بد من الالتزام بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ولا مناص عنه ، وان كان الداعي إلى ايجاب المقدمة هو سد العدم من ناحيتها فلا بد من كون الواجب هو المقدمة التي بها يسد عدم ذي المقدمة من هذه الناحية سواء سدّ عدم ذي المقدمة من ناحية مقدمة اخرى ام لا ، ولازم هذا عدم اختصاص الوجوب المقدمي بخصوص المقدمة الموصلة.

وادعى المصنف ان الغرض الداعي إلى ايجاب المقدمة هو الثاني وهو سد العدم فانه إلى ما ذكرنا يرجع قوله : «وليس الغرض من المقدمة الا حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة» فإن امكان حصول ذي المقدمة بعد حصول المقدمة مرجعه إلى كون الاثر الداعي إلى الوجوب هو سد العدم من ناحية كل مقدمة بنفسها ، وليس المراد من هذا الامكان هو الامكان الذاتي ، فإن الامكان الذاتي

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

للممكن لا ينتزع الّا من ذات الممكن ، والممكن الذاتي ممكن بالذات سواء امتنع وقوعه أو امكن وقوعه ، بل المراد من هذا الامكان هو خروج الشيء شيئا فشيئا من ناحية القوة إلى الفعلية ، فذو المقدمة حيث كان مقدورا عليه بواسطة القدرة على مقدماته فكل مقدمة وجدت أوجبت خروج القدرة على ذي المقدمة من حد ما هو بالقوة إلى حد الفعلية ، فإن القدرة على ذي المقدمة بواسطة وجود هذه المقدمة قد صارت بالفعل بعد ما كانت بالقوة ، وقد أشار في البرهان إلى كون الداعي الى ايجاب المقدمة هو هذا دون الاثر المترتب على مجموع المقدمات بقوله : «ضرورة» إلى آخره.

وحاصله : انه لا بد ان يكون الغرض الداعي إلى ايجاب المقدمة هو الاثر المترتب على نفس المقدمة دون الاثر غير المترتب عليها. وقد عرفت ان ترتب ذي المقدمة ليس اثرا لكل جزء من أجزاء العلة التامة ، فلا يعقل ان يكون الترتب موجبا لوجوب كل مقدمة في عرض المقدمة الاخرى.

ولا يخفى : ان هذا البرهان لا يتم الّا بامر قد اخذه مفروغا عنه ، وهو ان لكل مقدمة وجوبا في عرض وجوب المقدمة الاخرى ، فاذا كان هذا امرا مسلما فلا بد وان ينتج ان الاثر الداعي هو سد العدم دون الاثر الذي هو اثر لمجموع المقدمات ، إلّا ان لازم هذا ليس الّا لزوم اختصاص الوجوب بالمجموع. واذا لم يكن من المسلم ان لكل مقدمة وجوبا فلا غضاضة شديدة في هذا الالتزام.

وعلى كل فقد أشار إلى ما ذكرنا بقوله : «لا يكاد يكون الغرض الا ما يترتب عليه» : أي على الواجب ، وكان الاولى ان يكون الضمير مؤنثا ليعود إلى المقدمة فانها اقرب من كون الواجب مرجعا للضمير «من فائدته واثره ولا يترتب على المقدمة الا ذلك» وهو حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة «ولا تفاوت فيه» : أي لا تفاوت في هذا الاثر وهو امكان حصول ذي المقدمة بعد حصوله «بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه اصلا وانه لا محالة يترتب عليهما» : أي انه لا محالة يترتب عليهما حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة ، فإن المقدمة

١٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

سواء ترتب عليها الواجب ام لم يترتب يصح ان يقال : ان الاثر لكل مقدمة هو حصول ما لو لاه لما امكن حصول ذي المقدمة. ولا يعقل على هذا ان يكون الاثر الداعي إلى ايجاب المقدمات هو ترتب الواجب عليها ، فإن ترتب الواجب انما يمكن ان يكون اثرا داعيا إلى الايجاب في خصوص المقدمات والاسباب التوليدية ، فإن غيرها من الاسباب والمقدمات الاختيارية يتوسط بينها وبين جملة المقدمات الاختيار ، إذا كان نفس الاختيار من جملة مجموع المقدمات التي يترتب عليها الواجب فلا يعقل القول بوجوب مثل هذه المقدمات ، لأن وجوب مجموعها لازمه تعلق الامر بنفس الارادة والاختيار ، واذا لم يعقل ان يتعلق الامر بنفس الاختيار فالمركب ينتفي تعلق الوجوب بمجموعه بامتناع احد اجزائه ، فلا بد لمن يقول : بان الغرض الداعي للوجوب هو ترتب ذي المقدمة ان لا يقول بوجوب مثل هذه المقدمات.

وقد ظهر من هذا ان هذا برهان آخر غير البرهان الاول قد مزج بينهما المصنف في هذا البرهان وأشار اليه وانه من متفرعات ما ذكره بقوله : «وقد انقدح» إلى آخر كلامه.

وعلى كل فالمتحصل من كلام المصنف (قدس‌سره) ـ من قوله : «فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب» إلى قوله : «فإن قلت» ـ برهانان على عدم وجوب خصوص المقدمة الموصلة.

الأول : انه لو كان الواجب هو خصوص الموصلة لاختص الوجوب بخصوص العلة التامة التي هي مجموع المعدّ والسبب والشرط ولا يترشح الوجوب لكل واحد واحد من اجزاء العلة التامة ، فلا يكون المعدّ وحده ولا السبب وحده ولا الشرط وحده بمقدمة ، لأن ترتب ذي المقدمة انما يكون على العلة التامة ، فاذا كان هو الداعي للوجوب فلا بد وان يختص الوجوب بخصوص العلة التامة ، وقد اخذ من المسلم كون أجزاء العلة مقدمة كما ان العلة التامة مقدمة ، واذا كانت أجزاء العلة

١٩٦

فإن قلت : ما من واجب إلا وله علة تامة ، ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.

قلت : نعم وإن استحال صدور الممكن بلا علة ، إلا أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء علته ، وهي لا تكاد تتصف بالوجوب ، لعدم كونها بالاختيار ، وإلا لتسلسل ، كما هو واضح لمن تأمل (١) ،

______________________________________________________

مقدمة فلا بد وان يكون الغرض الداعي هو الامر المشترك بين العلة الناقصة والعلة التامة ، وليس هو الّا ما ذكره : وهو حصول ما لولاه لما امكن حصول ذي المقدمة.

الثاني : انه لو كان الواجب خصوص المقدمة الموصلة لكان جملة من المقدمات التي من المسلم وجوبها غير واجبة ، وهي المقدمات التي يتوسط بينها وبين ذي المقدمة اختيار المكلف ، لأن المجموع الذي من جملته ارادة المكلف لا يعقل ان يتعلق بها امر لعدم امكان تعلق الامر بالارادة ، لانه يشترط في متعلق الامر أن يكون اختياريا والارادة بنفسها غير اختيارية فلا يعقل ان تكون جزءا من المركب المتعلق به الامر والمركب ينتفي بانتفاء احد أجزائه ، فلا تكون هذه المقدمات بواجبة ويختص الوجوب المقدمي بخصوص الاسباب التوليدية.

(١) حاصل ان قلت وقلت ـ هو ما ذكرنا : من كون الارادة إذا كانت جزءا من العلة التامة فلا يعقل ان يتعلق امر بالعلة التامة التي من اجزائها الارادة والّا لتسلسلت الارادات ، وهذا ما تكرر منه (قدس‌سره) : من أن الفعل الاختياري ما كان عن ارادة ، فاذا كان متعلق الامر هو الارادة فلا بد وان تكون نفس الارادة ـ أيضا ـ عن ارادة حتى تكون من الافعال الاختيارية التي اختياريتها من شرائط تعلق التكليف بها ، واذا كانت الارادة من الافعال الاختيارية المحتاجة إلى الارادة سرى هذا الحكم إلى جميع افراد الارادة لوضوح جريان حكم الطبيعي على جميع افراده فيلزم تسلسل الارادات إلى ما لا يتناهى وهو باطل.

١٩٧

ولانه لو كان معتبرا فيه الترتب ، لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب عليها ، بحيث لا يبقى في البين إلا طلبه وإيجابه ، كما إذا لم تكن هذه بمقدمته ، أو كانت حاصلة من الاول قبل إيجابه ، مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف ، كما في سقوط الامر بالكفن أو الدفن ، بسبب غرق الميت احيانا أو حرقه ، ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة (١).

______________________________________________________

(١) هذا هو البرهان الثالث الذي أشار اليه في عدم تقييد المقدمة الواجبة بالموصلة.

وتوضيحه : ان سقوط الامر ينحصر في ثلاثة اشياء : موافقته واطاعته باتيان متعلقه ، وبعصيانه وترك الاتيان بما امر به حتى يفوت محلّه ، وبانعدام موضوع الامر كما في ما لو غرق الميت فانه يسقط الامر المتعلق بوجوب غسله ودفنه لارتفاع موضوع التكليف بسبب غرق الميت ، أو بأن يكون موجودا قبل تعلق الامر كما في المقدمة الموجودة قبل تنجز الأمر بذيها.

ولا اشكال أيضا في ان الامر المتعلق بالمقدمة لا يعقل بقاؤه بعد اتيان المكلف بها قبل اتيانه بذي المقدمة ، إذ الامر انما هو بداعي جعل الداعي إلى متعلقه. ومن الواضح انه بعد الاتيان بالمقدمة لا مجال لجعل الداعي من المولى لها بعد اتيان المكلف بها ، فلا بد من الالتزام بسقوط الامر المقدمي بعد الاتيان بالمقدمة وقبل الاتيان بذيها ، ولازم الالتزام بسقوط الامر في ذلك الوقت هو كون الواجب بالوجوب المقدمي غير متقيد بالايصال ، فانه لو كان متقيدا بالايصال لما كان من المعقول سقوطه قبل الاتيان بذي المقدمة ، اذ متعلق الامر هو المقدمة التي يترتب عليها الواجب ، وقبل الاتيان بذي المقدمة لا توصف المقدمة المطلوبة بانها مما ترتب عليها الواجب ، فسقوط الامر المقدمي قبل اتيان ذي المقدمة دليل على ان متعلق الامر هو ذات ما هو المقدمة لا المقدمة المقيدة بالايصال ، وقد أشار المصنف إلى الجزء الاخير من البرهان

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بقوله : «لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد الاتيان بها» لما عرفت من انه لو كان المأمور به بالامر المقدمي المقدمة الموصلة لما كان وجه لسقوط الامر بها بمجرد اتيانها وقبل الاتيان بذي المقدمة قوله : «بحيث لا يبقى في البين إلّا طلبه وايجابه» لوضوح انه بعد الاتيان بالمقدمة لا يكون الباقي الا الامر بذي المقدمة دون الامر بالمقدمة ، وبهذا يشير إلى لزوم القول بسقوط الامر المقدمي بمجرد الاتيان ، وانه لا وجه لبقائه منتظرا فيه ترتب الواجب على المقدمة وانه بالوجدان بعد الاتيان بالمقدمة يسقط الامر المتعلق بها ويكون حالها كما لو لم تكن بمقدمة في انه لا امر لها ، وهذا مراده من قوله : «كما اذا لم تكن هذه بمقدمته» أو ان هذه المقدمة المأتي بها يكون حالها حال المقدمة الموجودة قبل تنجز التكليف بذيها ، فإنه كما ان مثل هذه المقدمة الموجودة قبل تنجّز الامر بذيها لا امر بها كذلك المقدمة المأتي بها لا امر بها.

وهذا كله تحقيق لما ادعاه من سقوط الامر المقدمي بمجرد الاتيان بالمقدمة وقبل الاتيان بذيها ، وأشار إلى الجزء الآخر من البرهان وهو انحصار السقوط بما مر بقوله : «مع ان الطلب» إلى آخر كلامه ، والى النتيجة بقوله : «ولا يكون الاتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة» لأن سقوط الامر إذا لم يكن بالعصيان ولا بارتفاع الموضوع وبالوجود مثل التنجز فلا بد وان يكون سقوط الامر المقدمي بموافقته ، واذا كان سقوط الامر المقدمي بالموافقة وهو في حال ما قبل الاتيان بذي المقدمة ، فلازم ذلك ان يكون متعلق الامر المقدمي هو ذات ما هو مقدمة دون المتقيدة بالايصال ، والّا لكان اللازم ان لا يسقط وان يكون سقوطه مراعي ومنتظرا باتيان ذي المقدمة.

١٩٩

إن قلت : كما يسقط الامر بتلك الامور ، كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به فيما يحصل به الغرض منه ، كسقوطه في التوصليات بفعل الغير ، أو المحرمات (١).

قلت : نعم ولكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض ، من الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع ، وهو كونه بالفعل محرما ، ضرورة أنه لا يكون بينهما تفاوت أصلا ، فكيف يكون أحدهما متعلقا له فعلا دون الآخر (٢)؟

______________________________________________________

(١) حاصل ان قلت الايراد على ما ادعاه : من انحصار السقوط فيما ذكره ، وان سقوط الامر التوصلي لا ينحصر بما ذكر لانه كما يسقط بما مر كذلك يسقط بفعل الغير له ويسقط ـ أيضا ـ بالفعل المحرم غير المعقول شمول الامر له. وحيث لا ينحصر السقوط بما ذكر فمن الجائز ان يكون سقوط الامر بمجرد الاتيان لا من باب تحقق الامتثال للامر المقدمي ، بل هو كسقوط الامر بفعل الغير وبالفرد المحرم ، فهو سقوط ولكنه ليس للموافقة حتى يلزمه ان يكون متعلق الامر المقدمي هو غير المقيد بالموصلة.

(٢) وحاصله ان الحصر المذكور لم يكن حصرا لجميع موارد سقوط الامر حتى يكون ما ذكر ـ في قوله : قلت ـ نقضا عليه ، بل الحصر انما كان بالنسبة إلى ما يستند إلى المكلف ، فإن سقوط الامر المرتبط بكونه سقوطا مستندا إلى المكلف ينحصر فيما ذكرنا فيكون سقوطه بفعل الغير خارجا عن موضوع الحصر ، واما سقوطه بالفرد المحرم فقد مر ـ فيما سبق ـ انه انما يسقط بالفرد المحرم لتحمله لملاك الوجوب ، ولكن من حيث وجود المانع لا يمكن ان يكون مشمولا للامر لوجود المانع ، فسقوطه بالفرد المحرم انما هو لأن في الفرد المحرم الغرض الداعي للوجوب ، ولا شبهة ان الفرد المحرم كالفرد المحلل في تحملهما لما هو الغرض الداعي للامر ، وسقوط الامر بالفرد المحرم بمجرد وجوده دليل على ان نفس الفرد المحرم من دون انتظار للايصال يسقط به

٢٠٠