بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

بين أن يكون راجعا إلى الهيئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأن يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب (١) ، فإن كان في مقام الاثبات ما يعين حاله ، وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية فهو ، وإلا فالمرجع هو الاصول العملية (٢).

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه انما يدور امره في مرحله الثبوت حيث لم يعلم حاله ، إذ الكلام في القيد الذي علم انه قيد في خطاب المولى ولم يعلم حاله ، فلا بد ـ حينئذ ـ في مرحلة الثبوت والإمكان ـ قبل الرجوع إلى القواعد العربية والظهورات العرفية في الكلام المتداول ـ :

انا نحتمل ان يكون راجعا إلى الهيئة فلا يجب تحصيله قطعا ، إلّا انه يحتمل ان يكون بنحو الشرط المتأخر فيكون الوجوب حاليا فتجب مقدمات الواجب قبل زمانه ، ويحتمل ان يكون بنحو الشرط المقارن وان نفسه هو الشرط لا لحاظه وحيث كان بنفسه وبذاته متأخرا فلا بد من تأخر الوجوب وكونه مقارنا لتحققه فلا وجوب قبل تحققه فلا تجب مقدمات الواجب قبل زمانه.

ونحتمل ان يكون راجعا إلى المادة ، وهو تارة يكون غير واجب التحصيل كما إذا اخذ حصوله بنحو الاتفاق وبطبعه ، واخرى يكون واجب التحصيل كما إذا لم يؤخذ كذلك.

(٢) قد عرفت ان هذه الاحتمالات انما هي في مرحلة الثبوت قبل الرجوع إلى مرحلة الإثبات المستفادة من القواعد العربية ، وأما بعد الرجوع إلى القواعد العربية فربما يتعين حال القيد ، كما عرفت في ان الظاهر من قول القائل : ان جاءك زيد فاكرمه كونه راجعا إلى الهيئة وهو مقدمة وجوب ، وحيث لم يكن الوجوب مفروض الوجود فلا يكون اخذ القيد بنحو الشرط المتأخر ، وربما يكون الرجوع إلى القواعد موجبا لكونه راجعا إلى المادة كقوله : صل عن طهارة ، وحيث لم يؤخذ على سبيل الاتفاق فيجب تحصيله ، وربما يكون ماخوذا على سبيل الاتفاق كما لو قال : صل

١٢١

وربما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة والمادة ، بترجيح الاطلاق في طرف الهيئة ، وتقييد المادة ، بوجهين (١):

أحدهما : إن إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لافراده ، فإن وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق ، يشمل جميع

______________________________________________________

إلى اربع جهات في القبلة المشتبهة وان لم يكن حال القيد معلوما ـ بان كان مستفادا من الاجماع ـ ولم يعرف انه راجع إلى الهيئة أو المادة فالمرجع هو الاصول العملية ، فتجري البراءة بالنسبة إلى الوجوب قبل وقت الواجب ، وتجري البراءة بالنسبة إلى وجوب المقدمات قبل زمان الواجب أيضا ، واذا شك في كون القيد واجب التحصيل تجري البراءة أيضا ، وعلى كل فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه الاصول من البراءة أو غيرها.

(١) يظهر من تقريرات الشيخ انه إذا دار الامر بين كون القيد راجعا إلى الوجوب المستفاد من الهيئة أو الى الواجب الذي هو المادة ، ولم يكن هناك ما يعين احدهما من القواعد المعروفة المتبعة في مقام الظهور ـ فلا وجه للرجوع إلى الاصول العملية ، بل هناك ما يقتضي كون القيد راجعا إلى المادة ومقيدا لاطلاقها ، واطلاق الهيئة يبقى على حاله غير مقيد ، لأن الشرط لا شبهة في كونه قيدا يرجع إما إلى تقييد اطلاق الهيئة أو تقييد اطلاق المادة.

ولا يخفى ان هذا الكلام منه (قدس‌سره) جار على مسلك القوم القائلين بمعقولية رجوع القيد إلى الهيئة ، اما بناء على ما تقدم من مسلكه من عدم معقولية الرجوع إلى الهيئة فلا وجه لهذا الدوران عنده ، بل القيد على مسلكه متعين رجوعه إلى المادة ، وخصوصا بناء على دليله الاول في عدم امكان تقييد الهيئة من انها معنى حرفي غير قابل للاطلاق والتقييد. وعلى كل فقد ذكر وجهين في لزوم رجوع القيد إلى المادة وابقاء اطلاق الهيئة على حاله :

١٢٢

التقادير التي يمكن أن يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة (١).

______________________________________________________

(١) وحاصل هذا الوجه انه لا اشكال ان الصيغة ـ مثلا ـ مشتملة على هيئة تدل على الوجوب ومادة هي متعلق الوجوب ، فأكرم زيدا ـ مثلا ـ له هيئة تدل على الوجوب وله مادة تدل على ان متعلق هذا الوجوب هو اكرام زيد ، ولا اشكال ان الامر المتعلق بطبيعة من الطبائع يكفي في امتثاله ايجاد الطبيعة في ضمن أي فرد من افرادها ، فشمول طبيعة الاكرام المأمور بها للافراد التي تتحقق طبيعة الاكرام في ضمنها عموم بدلي ، فيدل اطلاق المادة على ان أي فرد من افراد هذه الطبيعة إذا جيء به على البدل يتحقق المأمور به ويحصل الامتثال ، فشمول المادة بالنسبة إلى افراد الاكرام الممكن تحققها في ازمنة متعددة على البدل ، وليس على نحو الشمول الاستغراقي لعدم وجوب جميع افراد الاكرام في جميع الازمنة ، بل ولا فردين من أفراد الاكرام في حالة واحدة ، بل المطلوب الذي يتحقق الامتثال به هو فرد واحد من الاكرام دائما. هذا بالنسبة إلى جميع افراد الاكرام المتعاقبة في الازمنة ، وكذا بالنسبة إلى افراد الاكرام العرضية التي يمكن وقوعها أو بعضها في زمان واحد ، كاكرامه بالضيافة وباحترامه وتبجيله فانه يمكن ان يقع التبجيل والضيافة في زمان واحد فانه ـ أيضا ـ بدلي بالنسبة اليها ، واما الوجوب المستفاد من الهيئة فشموله بالنسبة إلى جميع الازمنة التي يمكن ان يتحقق الاكرام فيها استغراقي ، فانه يجب طبيعة الاكرام البدلي في هذا الزمان وفي الزمان الثاني وفي الثالث ، فشمول الوجوب لافراد الوجوب بنحو الشمول والاستغراق ، فالمستفاد من الهيئة شمول استغراقي كالعام الاستغراقي والمستفاد من شمول المادة شمول بدلي ، واذا دار الأمر بين تقييد ما يدل على الاستغراق وبين ما يدل على البدل فيتعين تقييد الشمول البدلي دون الاستغراقي ، وكأنه يرجع إلى ان ما يدل على الشمول الاستغراقي اقوى مما يدل على الشمول البدلي ، ولعله لكون العموم البدلي مقيدا بكونه واحدا وانه يكتفى فيه بفرد واحد

١٢٣

ثانيهما : إن تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة ويرتفع به مورده ، بخلاف العكس ، وكلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى.

أما الصغرى ، فلاجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان لاطلاق المادة ، لانها لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة ، بخلاف تقييد المادة ، فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله ، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.

وأما الكبرى ، فلان التقييد وإن لم يكن مجازا إلا أنه خلاف الاصل (١) ، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق ، وبين أن يعمل عملا

______________________________________________________

فهو بعد ان تقيد لبا : بانه يكتفي فيه بالواحد فهو في معرض التقييد ، بخلاف العموم الاستغراقي فانه شمولي لجميع الافراد ، فليس في نفس شموله واستيعابه تقييد فهو أبعد عن التقييد وليس في معرضه.

(١) حاصل هذا الثاني : هو انه قد عرفت ان القيد الذي يلحق الهيئة يلحق المادة قطعا ، فانه من الواضح انه إذا كان الوجوب مقيدا بالوقت ـ مثلا ـ فلا بد وان يكون الواجب مقيدا به أيضا ، فإن وجوب الاكرام إذا كان مقيدا بوقت فمن الضروري ان الاكرام لا يعقل ان يكون قبل الوقت الذي تقيد به وجوب الاكرام ، وأما إذا كان الوقت قيدا للمادة ـ وهي الاكرام ـ فإن الوجوب يمكن ان يتقيد ـ أيضا ـ بالوقت ويمكن ان لا يتقيد : بان يكون الوجوب قبل وقت الواجب وهو الاكرام.

فاذا اتضح هذا : نقول ان القيد إذا كان راجعا إلى الهيئة يلزم تقييدان : تقييد الهيئة وتقييد المادة ، لما عرفت من القيد الراجع إلى الهيئة راجع إلى المادة ومقيد لها أيضا ، فاذا دار امر القيد بين كونه راجعا إلى الهيئة أو راجعا إلى المادة يتعين رجوعه إلى المادة ، لأن رجوعه إلى المادة لا يلازمه تقييد الهيئة ، فحينئذ يكون لنا تقييد واحد وهو تقييد المادة فقط ، وكلما دار الامر بين تقييدين وتقييد واحد فلا بد

١٢٤

يشترك مع التقييد في الاثر ، وبطلان العمل به وما ذكرناه من الوجهين موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الاستاذ العلامة أعلى الله مقامه (١) ، و

______________________________________________________

من الاقتصار على تقييد واحد ، لأن التقييد خلاف الاصل وان لم نقل بان التقييد يقتضي المجازية كما هو مذهب سلطان العلماء (١) لكنه مع ذلك خلاف الاصل ، لوضوح ان التقييد والتخصيص كحجة مزاحمة لحجية الاطلاق والعموم يرفع بواسطتها اليد عن الاطلاق والعموم ، فما لم تكن تلك الحجة واضحة لا يزاحم الاطلاق والعموم في حجيتهما على الشمول الاطلاقي أو العمومي فالتقييد خلاف الاصل الاولي ، فاذا دار الامر بين ان نرتكب خلاف الاصل في مقامين أو في مقام واحد يقتصر على المقام الواحد ، وبعد ان علمنا ان هنا قيدا إما ان يلحق الهيئة أو المادة ولكنه علمنا ـ أيضا ـ ان لحوقه للهيئة يلزم منه تقييدان وهو مخالفة للاصل في مقامين ولحوقه للمادة يلزم منه تقييد واحد ، فلا بد من الاقتصار على التقييد الواحد ومخالفة الاصل في مقام واحد فقط ، فهنا صغرى وكبرى ثابتتان ينتج من الجمع بينهما لزوم رجوع القيد إلى المادة.

اما الصغرى ، فقد عرفت انه يلزم من رجوع القيد إلى الهيئة تقييدان ، ومن رجوعه إلى المادة تقييد واحد.

واما الكبرى ، وهي ان التقييد خلاف الاصل فلا بد من الاقتصار على مخالفة الاصل بمقدار الضرورة ، وحيث كان التقييد لازما فلا بد وان نقتصر على تقييد واحد وينتج من هذا لزوم رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

(١) هذا هو كجواب عن اشكال يمكن ان يورد عليه.

وحاصله : ان ما ذكرت من انه كما دار الامر بين تقييدين أو تقييد واحد فالتقييد الواحد اولى انما يتم في غير المقام ، كمثل ان تتقدم جملتان او جمل ثم يلحقها قيد

__________________

(١) راجع معالم الاصول : ص ١٥٦ حجري.

١٢٥

أنت خبير بما فيهما أما في الاول : فلان مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا بخلاف المادة ، إلا أنه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ، لانه أيضا

______________________________________________________

فنشك في كونه راجعا إلى كلتيهما أو إلى واحدة منها وهي الاخيرة فقط فنقتصر على الاخيرة ، اما في مثل المقام فليس كذلك فانه ليس لنا إلّا جملة واحدة والقيد لاحق لها قطعا ، غايته انه إذا لحق الهيئة كان هناك تقييد واحد ولكن يلحقه ويتبعه من غير مئونة بل للملازمة الضرورية تقييد آخر وهو تقييد المادة ، بخلاف ما إذا لحق المادة فانه لا يلازمها تقييد الهيئة ، وهذا غير الجملتين فانه لا ملازمة ضرورية بين تقييد احداهما وتقييد الاخرى ، بل تقييد كل منهما في عرض تقييد الأخرى ، وفي المقام إذا رجع القيد إلى الهيئة فتقييد المادة ليس في عرض تقييد الهيئة بل في طوله وملازم له وبتبعه.

وبعبارة اخرى : انه إذا لحق القيد للهيئة ليس هناك مخالفة للاصل في مقامين بل مخالفة واحدة غايته يلازمها بالضرورة والاستلزام مخالفة اخرى. هذا هو الاشكال.

فاجاب عنه بقوله : «لا فرق في الحقيقة» إلى آخر كلامه.

وحاصل الجواب : انه بعد ما عرفت ان التقييد معناه مزاحمة الحجة القائمة على الاطلاق ورفع اليد عنها فمخالفة الاصل انما هي لكون الاصل يقتضي عدم مزاحمة الحجة القائمة إلّا بحجة واضحة ـ يتضح انه لا فرق فيه عند الحقيقة بين التقييد العرضي وبين التقييد الطولي ، وهو ان يعمل عملا لازمه واثره رفع اليد عن اطلاقين ، وفي المقام وان لم يكن تقييد المادة في عرض تقييد الهيئة إلّا ان لازم رجوع القيد إلى الهيئة بطلان اطلاق المادة ورفع اثره وعدم العمل به ، بخلاف رجوعه إلى المادة فانه لا يلزم فيه بطلان اطلاق الهيئة ورفع اثره وعدم العمل به ، وهذا هو الذي أشار اليه بقوله : «ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الاطلاق» : أي لا فرق في مخالفة الاصل بين التقييد للاطلاق عرضا «وبين» التقييد الطولي وهو «ان يعمل عملا يشترك مع التقييد» العرضي «في الاثر وبطلان العمل به».

١٢٦

كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، غاية الامر أنه تارة يقتضي العموم الشمولي ، وأخرى البدلي ، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا ، كما لا يخفى. وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لاجل كون دلالته بالوضع ، لا لكونه شموليا ، بخلاف المطلق فإنه بالحكمة ، فيكون العام أظهر منه ، فيقدم عليه ، فلو فرض أنهما في ذلك على العكس ، فكان عام بالوضع دل على العموم البدلي ، ومطلق بإطلاقه دل على الشمول ، لكان العام يقدم بلا كلام (١).

______________________________________________________

(١) وحاصل الجواب عن دليله الاول ـ وهو ترجيح جانب تقييد اطلاق المادة لكونه بدليا ، وابقاء اطلاق الهيئة بحاله من دون تقييد لكونه اطلاقا شموليا ـ : ان الاطلاق في الهيئة والمادة وان كان كما ذكر : من كونه شموليا استغراقيا في الهيئة وبدليا في المادة ، إلّا ان مجرد ذلك لا يقتضي رجوع القيد إلى المادة بعد ان كان الاستغراقية في الهيئة والبدلية في المادة كل منهما مستفاد من الاطلاق ومقدمات الحكمة.

نعم ، لو كان الاستغراقية في الهيئة مستفادة من الوضع والبدلية في المادة مستفادة من الاطلاق لكان موجبا لترجيح تقييد المادة وابقاء اطلاق الهيئة بحاله.

وبعبارة اخرى : ان الترجيح انما يكون لأقوائية الدلالة ، لا لسعة المدلول. ومن الواضح ان الفرق بين الهيئة والمادة انما هو في سعة الهيئة بالاستغراقية وضيق المادة للبدلية ، واما الدلالة ففي كل منهما على حد سواء ، لأن كلا منهما مستفاد من الاطلاق.

والذي يدلك على ان المدار على اقوائية الدلالة دون سعة المدلول ان البدلية لو كانت مستفادة من الوضع ، والسعة والاستغراق مستفادة من الاطلاق لترجح تقييد الهيئة وابقاء المادة بحالها.

وبالجملة : ان الترجيح لعموم العام لانه وضعي على اطلاق المطلق لكونه بمقدمات الحكمة لأقوائية الدلالة الوضعية على الدلالة الاطلاقية ، وأما إذا كان كل

١٢٧

وأما في الثاني : فلأن التقييد وإن كان خلاف الاصل ، إلا أن العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة ، وانتفاء بعض مقدماته ، لا يكون على خلاف الاصل أصلا ، إذ معه لا يكون هناك إطلاق ، كي

______________________________________________________

من الدلالتين بالاطلاق ـ كما في المقام ـ فلا ترجيح لإحداهما على الاخرى ، لأن شمول الهيئة لجميع افراد الوجوب المفروضة انما هو بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وإلّا فالهيئة لم توضع للدلالة على الاستغراق بل الهيئة دالة على طبيعة الوجوب ، وحيث يمكن ان يكون مستغرقا لجميع الافراد ولا معين لفرد خاص من افراد الوجوب فلو اراد المولى فردا خاصا لبينه ، وكذلك الحال في المادة فإن الشمول على البدل مستفاد من الاطلاق أيضا ، فإن المادة تدل على طبيعة الاكرام وحيث انه تتحقق الطبيعة بفرد من افرادها ولا ترجيح لفرد على فرد فلا بد ان يكون المراد واحدا على البدل ، ولو اراد فردا خاصا لبينه ، فالدلالة في كلتيهما بالاطلاق فلا موجب لترجيح تقييد احداهما على الأخرى.

والحاصل : ان المدار على الاظهرية وهي انما تكون في الدلالة لا في المدلول ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فلو فرض انهما في ذلك على العكس» : أي كانت المدلولية غير الاستغراقية وهي البدلية مستفادة من دلالة وضعية وكانت المدلولية الاستغراقية مستفادة من الاطلاق لتعين تقييد المدلولية الاستغراقية لأن دلالتها اضعف من دلالة الشمول البدلي والشمول البدلي اظهر دلالة فهو اقوى واظهر ، وعبارة المتن واضحة.

وأما ما ذكرناه : من كون البدلية في معرض التقييد دون الاستغراقية ففيه :

اولا : ان الشمول البدلي ليس تقييدا ، وكيف يكون تقييدا وهو شمول أيضا؟ غايته انه حيث كان متعلقه الطبيعة والطبيعة تحصل بفرد من افرادها ـ عقلا ـ فتكون النتيجة واحدا على البدل.

وثانيا : ان كونه في معرض التقييد ليس من المرجحات العقلائية ولا الشرعية.

١٢٨

يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل.

وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الاصل ، إلا كونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدمات لا يكاد ينعقد له هناك ظهور ، كان ذاك العمل (١) المشارك مع التقييد في

______________________________________________________

(١) حاصل ما ذكره جوابا عن دليله الثاني المؤلف : من الصغرى وهي كون لازم تقييد الهيئة تقييدين وتقييد المادة تقييدا واحدا ، ومن كبرى وهي ان التقييد خلاف الاصل فيقتصر فيه على تقييد واحد وهو تقييد المادة.

وتوضيح الجواب عنه : وهو يرجع إلى المناقشة في الكبرى ، وهو ان التقييد المخالف للاصل هو ان يتم اطلاق المطلق ويكون له ظهور تام في اطلاقه ، وحينئذ إذا دار الامر بين تقييدين وتقييد واحد يتعين التقييد الواحد ، وفي المقام ليس كذلك لأن الكلام في الصيغة المقترنة بما نشك رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة فلا يتم في المقام اطلاق حتى يكون مخالفته من مخالفة الاصل ، لأن من جملة شروط تمامية الاطلاق وجريان مقدمات الحكمة ان يكون الكلام خاليا من القرينة أو مما يحتمل قرينيته ، أما إذا كان الكلام محفوفا بما يحتمل قرينيته ، بل هو محفوف بمقطوع القرينية وانما الاحتمال في تعيين مرجع هذه القرينة فلا يتم الاطلاق الذي تكون مخالفته مخالفة للاصل ، بل في المقام تقييد لو رجع إلى أي منهما سواء إلى الهيئة أو إلى المادة لا يكون من التقييد المخالف للاصل ، لعدم تمامية الاطلاق في المقام لا للهيئة ولا للمادة ، فلا يكون المورد من موارد الكبرى المسلمة.

وما ذكرناه في الجواب اوضح مما تؤدي اليه عبارة المتن ، فإن المتحصل منها ان التقييد وان كان خلاف الاصل إلّا ان رجوع القيد إلى الهيئة الذي لازمه تقييد المادة ليس فيه مخالفة للاصل ، لانه برجوع القيد إلى الهيئة لا يتم الاطلاق في المادة ، لأن تمامية الاطلاق فيها يتوقف على عدم القرينة وبرجوع القيد إلى الهيئة يكون قرينة على

١٢٩

الاثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق ، مشاركا معه في خلاف الاصل أيضا (١).

______________________________________________________

تقييد المادة قبل تمامية الاطلاق وجريان مقدمات الحكمة فيها ، فلا يكون تقييد المادة الملازم لتقييد الهيئة من مخالفة الاصل لانه قال في المتن : «فلان التقييد وان كان خلاف الاصل إلّا ان العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة» : أي ان العمل الذي هو رجوع القيد إلى الهيئة اللازم منه تقييد المادة أيضا يوجب هذا العمل عدم جريان مقدمات الحكمة في المادة ، لأن جريان مقدمات الحكمة المتوقف عليها الاطلاق انما يتم حيث لا قرينة ، فاذا رجع القيد إلى الهيئة كان قرينة على تقييد الهيئة قبل ان يتم في المادة اطلاق بجريان مقدمات الحكمة فيها ، ولازم هذا الرجوع «انتفاء بعض مقدماته» : أي انتفاء بعض مقدماتها : أي بعض مقدمات الحكمة وهو عدم القرينة.

وقد عرفت : انه إذا رجع القيد إلى الهيئة تكون هناك قرينة على تقييد المادة ، ومع وجود القرينة على تقييدها كيف يتم فيها الاطلاق؟ واذا لم يتم فيها الاطلاق لا يكون تقييدها اللازم لتقييد الهيئة من التقييد المخالف للاصل ، فهذا العمل الذي يلازمه تقييد ان «لا يكون على خلاف الاصل اصلا اذ معه لا يكون هناك اطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الاصل» وهو التقييد للاطلاق بعد تماميته.

وبعبارة اخرى : ان التقييد المخالف للاصل هو التقييد المخالف للظهور ، ولا ينعقد للمادة ظهور بعد رجوع القيد إلى الهيئة فلا يكون تقييدها مخالفا للاصل والى هذا أشار بقوله : «وبالجملة» إلى آخر كلامه.

(١) قد عرفت ان رجوع القيد إلى الهيئة تقييد للهيئة ويلازمه ان لا يبقى مجال معه لاطلاق المادة وهذا في مقام الاثر كتقييد المادة صريحا. قوله : «مشاركا معه في خلاف الاصل» : أي ان هذا العمل وهو رجوع القيد إلى الهيئة يشارك تقييد المادة

١٣٠

وكأنه توهم : أن إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ، ورفع اليد عن العمل به ، تارة لاجل التقييد ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به ، وهو فاسد ، لانه لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك المقدمات (١).

نعم إذا كان التقييد بمنفصل ، ودار الامر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة كان لهذا التوهم مجال ، حيث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور (٢)

______________________________________________________

الصريح في بطلان اطلاقها ، ولكنه لا يشارك التقييد الصريح في مخالفة الاصل ، لأن التقييد الصريح لا يكون إلّا بعد تمامية الظهور في اطلاق المطلق ، وهنا لا يتم اطلاق المطلق حتى يكون تقييده من مخالفة الاصل فهو يشارك التقييد في الاثر ولا يشاركه في مخالفة الاصل.

(١) حاصله : انه فرق بين الظهور المستفاد من العموم والمستفاد من الاطلاق ، فإن الظهور العمومي وضعي للفظ ودلالته ذاتية عليه فيكون تقييده وتخصيصه من مخالفة الاصل ، والظهور الاطلاقي انما هو بمقدمات الحكمة ولا دلالة ذاتية وضعية للفظ عليه ، بل انما يتم بعد تمامية جميع مقدماته التي منها عدم القرينة وهي منتفية في المقام فلا يكون التقييد فيه مخالفا للاصل ، بخلاف الظهور الوضعي فإن تقييده صريحا أو العمل اللازم منه تقييده مخالف للاصل ، ولذا قال : «وهو فاسد» : أي توهم ان اطلاق المطلق كعموم العام توهم فاسد ، لأن عموم العام ثابت لذات اللفظ بواسطة الوضع ، واطلاق المطلق انا يتم بجريان مقدمات الحكمة غير الجارية كما عرفت.

(٢) حاصله : انه قد عرفت ان الكلام في الشرط المتصل بالصيغة المشترك رجوعه إلى الهيئة أو الى المادة ، اما إذا كان هذا الشرط جاء بكلام منفصل وشك في رجوعه إلى الهيئة أو إلى المادة فما ذكره يتم في انه ينبغي ان يكون راجعا إلى المادة ، لانه بعد ان تم الكلام الاول يتم الظهور فيكون هناك ظهوران : ظهور للهيئة وظهور للمادة ، ويلزم من رجوعه إلى الهيئة ـ عمل لازمه ـ تقييدان ، ومن رجوعه إلى المادة تقييد واحد ،

١٣١

ولو بقرينة الحكمة (١) فتأمل (٢).

______________________________________________________

ففي رجوعه إلى الهيئة يلزم زيادة مخالفة الاصل فيقتصر على الاقل مخالفة وهو رجوع القيد إلى المادة.

(١) لانه سيأتي ـ على رأي المصنف ـ ان اطلاق المطلق وتمامية ظهوره يتوقف على عدم القرينة في نفس الكلام الملقى لا على عدم القرينة إلى الابد ، واذا كان القيد في كلام منفصل والكلام الاول خال من القرينة يتم الظهور في المادة أو الهيئة ، ويلزم الاقتصار على الاقل مخالفة وهو تقييد المادة فقط ، دون تقييد الهيئة الذي يكون من لوازمه تقييد المادة أيضا.

(٢) يمكن ان يكون اشارة إلى ان ما ذكره الشيخ ـ أيضا ـ لا يتم في القرينة المنفصلة بناء على مذاقه في الاطلاق ، لأن مسلكه في الاطلاق يتوقف على عدم القرينة إلى الابد لا على عدم القرينة في الكلام الملقى فقط ، فمتى وجد بيان انهدم الاطلاق فلا يكون التقييد على هذا مخالفا للاصل أيضا ، ويمكن ان يكون اشارة إلى ما ذكره سابقا في القرينة المتصلة من الفرق بين عموم العام واطلاق المطلق ، وانه يتم في عموم العام دون اطلاق المطلق فانه ـ أيضا ـ لو كان العموم وضعيا أيضا ، لا يتم لعدم تمامية الظهور فيه ـ أيضا ـ لانه من موارد احتفاف الكلام بمحتمل القرينية فلا يتم ظهور حتى في الوضعيات ، فلا فرق بين العموم المستفاد من الوضع والاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة.

ويمكن ان يكون اشارة إلى ان هذا الفرض في المقام محال ، لعدم امكان ان يكون القيد راجعا إلى الهيئة والمادة معا في كلام واحد ، فلا يعقل ان ينعقد للكلام ظهور في رجوع القيد اليهما معا ، وعليه فلا بد وان يكون الكلام المشكوك في كون القيد راجعا فيه إلى الهيئة أو المادة مجملا ، وحينئذ فلا محالة يكون الكلام المنفصل بيانا لهذا الاجمال ، والله العالم.

١٣٢

ومنها : تقسيمه إلى النفسي والغيري ، وحيث كان طلب شيء وإيجابه لا يكاد يكون بلا داع ، فإن كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب ، لا يكاد التوصل بدونه إليه ، لتوقفه عليه ، فالواجب غيري ، وإلا فهو نفسي ، سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه ، كالمعرفة بالله ، أو محبوبيته بما له من فائدة مترتبة عليه ، كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات هذا (١) ، لكنه لا يخفى أن الداعي لو كان هو

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان قوله ـ : ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري إلى قوله ثم انه لا اشكال ـ يحتوي على ما ذكره التقريرات تعريفا للواجب النفسي والغيري ، والايراد على تعريف التقريرات ، ثم الاشكال على اشكاله على التقريرات ، والجواب عنه ، ثم يذكر ما ينبغي ان يكون جوابا عما اشكله على تعريف التقريرات ، ثم ذكر احتمال ان تعريف القوم للواجب النفسي والغيري يرجع إلى تعريف التقريرات ، وان ما اورده عليه التقريرات غير تام لأن مرادهم منه يرجع إلى ما ذكره هو.

فإن القوم عرفوا النفسي : بانه ما امر به لنفسه والواجب الغيري ما امر به لغيره.

فاورد عليهم في التقريرات : بان تعريف الواجب النفسي غير منعكس لخروج جملة الواجبات النفسية عنه ، فإن الواجبات النفسية على نحوين :

الأول : ان يكون الواجب النفسي بنفسه وبذاته محبوبا كمعرفة الله فانه بنفسه محبوب ومطلوب.

والثاني : كجملة الواجبات النفسية الأخر فانها ليست بذاتها محبوبة ، بل المحبوب والمطلوب في الحقيقة هو ما يترتب عليها من الآثار ، فالواجب في الحقيقة والمحبوب في الواقع هو اثرها المترتب عليها ، فإن معراجية المؤمن والنهي عن الفحشاء المترتبة على الصلاة ـ مثلا ـ هي المحبوبة والمطلوبة في الواقع ، ومثل هذه الواجبات على تعريف القوم تخرج عنه ، فالتعريف غير منعكس : أي غير جامع لجميع افراد المعرّف.

١٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأورد على تعريف الغيري بانه غير مطّرد : أي غير مانع من دخول غير افراد المعرّف فإن الواجب الغيري الذي عرفوه : بانه ما امر به لغيره يشمل الواجبات الغيرية ، كمقدمة الواجب فإنها امر بها لغيرها ، ويشمل الواجبات النفسية المذكورة التي خرجت عن تعريف الواجب النفسي فإنها قد امر بها لغيرها ، لما عرفت ان المطلوب والمحبوب في الحقيقة فيها هو آثارها لا هي بنفسها فيصدق عليها ما عرفوا به الواجب الغيري ، فلذلك عدل في التقريرات عن تعريف القوم وعرفهما بما ذكره في المتن وذكر له مقدمة : وهي انه لا اشكال ان الوجوب من غير داع محال لعدم الجزاف والتشهّي في الواجبات الشرعية فلا بد وان تكون لغرض وداع دعا إلى ايجابها ، والى هذه المقدمة أشار بقوله : «وحيث كان طلب شيء وايجابه لا يكاد يكون بلا داع» وحينئذ نقول ان الداعي إلى إيجاب الواجب ان كان هو التوصل به إلى واجب آخر لتوقف هذا الواجب الآخر عليه بحيث لولاه لا يحصل التوصل والتمكن منه فهذا الواجب غيري ، وإذا لم يكن الداعي إلى وجوب الواجب هو التوصل به إلى واجب آخر فالواجب نفسي ، سواء كان هذا الواجب النفسي محبوبا ومطلوبا لذاته كمعرفة الله أو كان محبوبا لما يترتب عليه من الفائدة والاثر الذي هو المحبوب في الحقيقة.

فتحصل مما ذكر : ان الواجب الغيري ما وجب للتوصل به الى واجب آخر ، والواجب النفسي ما وجب لا لواجب آخر «سواء كان الداعي» إلى وجوب هذا الواجب «محبوبية» هذا «الواجب بنفسه كالمعرفة بالله أو» كان الداعي إلى وجوبه محبوبيته لا بنفسه بل «بما له من فائدة مترتبة عليه كاكثر الواجبات من العبادات» كالصلاة والزكاة والغسل والوضوء ، فإن الغرض من الزكاة تنمية الاموال والضمان الاجتماعي للفقراء ، والغرض من الغسل والوضوء هو النور المترتب عليهما والذي به تندفع ظلمة الحدث الاكبر والاصغر ، ومثلها «التوصليات» كالتطهير من الخبث وازالة القذارة ودفن الميت وساير الواجبات الكفائية التي بها يحصل النظام الاجتماعي.

١٣٤

محبوبيته كذلك أي بما له من الفائدة المترتبة عليه كان الواجب في الحقيقة واجبا غيريا ، فإنه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما ، لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة (١).

______________________________________________________

(١) لما فرغ من تعريف التقريرات للواجب النفسي والغيري ـ اورد عليه بقوله : لكنه.

وحاصله : ان تعريف التقريرات للواجب النفسي غير صحيح ـ أيضا ـ فانه عرّف الواجب النفسي : بانه ما كان وجوبه لا بداع التوصل به إلى واجب آخر سواء كان محبوبا بذاته أو محبوبا لما يترتب عليه من الآثار والفوائد فإن الواجبات التي كان المحبوب فيها في الحقيقة آثارها تكون واجبات غيرية ، لأن المحبوب في الحقيقة والمطلوب واقعا هو آثارها فتكون هي قد وجبت للتوصل بها إلى واجب آخر ، لأن الفائدة المترتبة عليها إما ان تكون غير لازمة التحصيل وعلى هذا لا يعقل ان يكون الأمر في تلك الواجبات وجوبيّا اذ لا يعقل ان تكون واجبة لغاية غير واجبة ، وان كانت تلك الآثار المترتبة عليها واجبة التحصيل فالواجب في الحقيقة تلك الآثار والفوائد المترتبة عليها التي هي اللازم تحصيلها ، فإن ما يلزم تحصيله هو الواجب ، وعليه فتكون تلك الواجبات انما وجبت لأنها يتوصل بها إلى ما هو الواجب واللازم التحصيل ، وهذا مراده من قوله : «لا يخفى ان الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك أي بما له من الفائدة المترتبة عليه» فيكون الواجب في مثل هذه الواجبات في الحقيقة والواقع هو ما لها من الفائدة المترتبة عليها ، وعلى هذا «كان الواجب في الحقيقة» في مثل هذا الواجب الذي كانت الفائدة المترتبة عليه هي المحبوبية «واجبا غيريا» لأن الواجب في الحقيقة فائدته لا هو ، وانما وجب هو للتوصيل به إلى الفائدة المترتبة فيصدق عليه حد الواجب الغيري ، والدليل على ذلك ما ذكره بقوله : «فانه لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما لما دعي إلى إيجاب ذي الفائدة».

١٣٥

فإن قلت : نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما ، إلا أنه حيث كانت من الخواص المترتبة على الافعال التي ليست داخلة تحت قدرة المكلف (١) ، لما كاد يتعلق بها الايجاب.

قلت : بل هي داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلا لما صح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسببات ، موردا لحكم من الاحكام التكليفية (٢).

______________________________________________________

(١) حاصل ان قلت : ان تلك الواجبات التي تكون الفائدة المترتبة عليها محبوبة حبا لزوميا لا يصدق عليها تعريف الواجب الغيري ويصدق عليها تعريف الواجب النفسي لا غير ، لأن تلك الآثار والفوائد المترتبة وان كانت محبوبة لزوما إلّا انها ليست بواجبة ، واذا لم تكن واجبة كان تلك الواجبات ليست واجبا غيريا ، لأن تلك الآثار المترتبة عليها ليست واجبة فليست هي مما يتوصل بها إلى الواجب ، والسبب في كون تلك الآثار ليست بواجبة هي انه يشترط في الواجب ان يكون مقدورا للمكلف بها ، وتلك الآثار والفوائد ليست بمقدورة وانما هي مما تترتب على المقدور وهي تلك الواجبات التي تلك الآثار والفوائد تترتب عليها ، وقوله : «لما كاد يتعلق بها الإيجاب» هو كتعليل لقوله : «حيث كانت من الخواص المترتبة» وتوضيحه ما بيناه.

(٢) وحاصل الجواب ان تلك الآثار وان كانت غير مقدورة مباشرة وبلا واسطة ولكنها مما تترتب على المقدور مباشرة وبلا واسطة وذلك لا يمنع من التكليف بها ، فإن القدرة التي هي شرط في التكاليف هي الاعم من كون المكلف به مقدورا بلا واسطة كاسباب تلك الآثار أو كونه مقدورا بالواسطة كنفس تلك الآثار ، فإنها وان لم تكن من المقدور بلا واسطة لكنها من المقدور بالواسطة لكون اسبابها مقدورة بلا واسطة ، ولو كان يشترط في المكلف به ان يكون مقدورا بلا واسطة لما تعلق

١٣٦

فالاولى أن يقال : إن الاثر المترتب عليه وإن كان لازما ، إلا أن ذا الاثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله ، بل ويذم تاركه ، صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدمة لامر مطلوب واقعا ، بخلاف الواجب الغيري ، لتمحض وجوبه في أنه لكونه مقدمة لواجب نفسي ، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلا أنه لا دخل له في إيجابه الغيري (١) ، ولعله مراد من

______________________________________________________

التكليف بايجاد التطهير وهو من المقدور بالواسطة لانه مما يترتب على غسل الاعضاء الذي هو المقدور بلا واسطة ولما تعلق التكليف بايجاد الملكية والتملك فانه من المقدور بالواسطة ، فإن المقدور عليه بلا واسطة هو انشاء العقد الذي يترتب عليه التمليك والملكية.

وبالجملة : ان جملة مما وقع التكليف به اما تكليفا أو وضعا هو من المسببات التي كانت مقدورة بواسطة القدرة على اسبابها.

قوله «من الاحكام التكليفية» كان ينبغي ان يعطف عليها الاحكام الوضعية أيضا ، فإن ما ذكره من الامثلة بعضها حكمها تكليفي وبعضها وضعي إلّا انه حيث كان لا يخلو حكم وضعي من حكم تكليفي لذا ذكر الاحكام التكليفية فقط ، وإلّا فالقدرة كما هي شرط في الحكم التكليفي هي شرط ـ أيضا ـ في الوضعي.

(١) وتوضيحه : انه بعد ما عرفت ـ : من كون الواجب الذي يكون الداعي إلى ايجابه امرا خارجا عن ذاته هو واجب غيري ، والواجب النفسي ما كان الداعي إلى ايجابه امرا يختص بذاته ـ نقول بعد قيام القطع بكون هذه الواجبات غير المعرفة بالله من الواجبات النفسية ، فإن من المسلمات التي لا يشك فيها ان الحج والصلاة والزكاة وامثالها من الواجبات النفسية ، ولم يتوهم احد ولم يشك في كون وجوبها غيريا من بدء الاسلام وعصر الائمة عليهم‌السلام إلى هذا العصر ، فيكشف هذا عن ان هذه الواجبات معنونة بعناوين حسنة بذاتها اوجب ايجابها وان كان يلزمها آثار ومصالح

١٣٧

فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لاجل غيره ، فلا يتوجه عليه الاعتراض بأن جل الواجبات لو لا الكل يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية ، فإن المطلوب النفسي قلما يوجد في الاوامر ، فإن جلها مطلوبات لاجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها (١)

______________________________________________________

هي لازمة التحصيل ـ أيضا ـ إلّا ان تلك المصالح والآثار ليست هي الداعية إلى ايجابها النفسي ، بل الداعي الى ايجابها النفسي هو العناوين الحسنة المنطبقة على ذاتها ، وهي بخلاف الواجبات الغيرية فلانه ليس الداعي إلى ايجابها الا كونها مقدمة لما هو الحسن والواجب ، وليس الداعي إلى ايجابها الا كونها مقدمة كذلك ، وان كان ربما يكون في ضمن مقدمات الواجب ما فيه عنوان حسن منطبق على ذاته ، كالوضوء والغسل الواقعين مقدمة للصلاة ـ مثلا ـ إلّا ان وجوبهما لم يكن بداعي حسنهما الذاتي بل بداعي كونهما مقدمة لما هو الحسن والواجب.

وبعبارة اخرى : ان المدار على الوجوب الفعلي لهذه الواجبات فإن كان بداعي الحسن المنطبق على ذاتها فهي واجبات نفسية ، وان كان بداعي كونها مقدمة لما هو الواجب والحسن بالذات فهي واجبات غيرية.

فاندفع بما قلنا ما اشكل على تعريف الشيخ في التقريرات : من ان الآثار والمصالح المحبوبة اللازمة المترتبة على جل الواجبات النفسية توجب كونها واجبات غيرية ، فإن هذه المصالح ليست هي الداعية إلى ايجابها بل الداعي إلى ايجابها هو العناوين الحسنة ، وان كانت تلك المصالح والفوائد مما تترتب على تلك الواجبات النفسية فيصدق عليها انها الواجب الذي لم يكن الداعي إلى ايجابه التوصل به إلى الواجب ، وهذا هو تعريف الواجب النفسي.

(١) أي ما صححنا به تعريف الواجب النفسي الذي عن التقريرات يمكن ان يصحح به تعريف القوم للواجب النفسي : بانه ما امر به لنفسه ، والواجب الغيري : بانه ما امر به لغيره ، فإن مرادهم من قوله لنفسه ولغيره هو ان الأمر به تارة للعنوان الحسن

١٣٨

فتأمل (١).

______________________________________________________

المنطبق عليه ، واخرى لكونه مقدمة لما هو الحسن ، وليس غرضهم بيان الفرق من حيث كون الداعي إلى الايجاب تارة محبوبية ذاته واخرى المصالح والغايات الخارجة عنه ـ فيرد عليهم ما اورده في التقريرات : من ان جل الواجبات النفسية انما وجبت لأجل الغايات المترتبة عليها الخارجة عنها.

وبما احتملنا : من كون مرادهم من قوله لنفسه هو العنوان الحسن ، ومن قولهم لغيره هو كونه مقدمة لما هو الحسن ـ يندفع عنهم ما اورده عليهم في التقريرات ، والى هذا أشار بقوله : «فلا يتوجه عليه» : أي على تفسير القوم وتعريفهم للواجب النفسي بانه ما امر به لنفسه وللواجب الغيري ما امر به لاجل غيره ما اورد عليهم «فلا يتوجه عليه» : أي لا يتوجه على التعريف المذكور للقوم «الاعتراض بان جل الواجبات» إلى آخر كلامه ، وهذا هو اعتراض صاحب التقريرات على تعريف القوم ، وقد عرفت انه يندفع عنهم بما احتملنا وفسرنا به تعريفهم.

(١) يمكن ان يكون إشارة إلى امور :

ـ منها : ان ما ذكره بقوله «والاولى» لا يتم في الواجبات التي كان من المسلم انها نفسية وكان وجوبها لأجل ما يترتب عليها من المصالح والغايات الخارجة عنها ، كوجوب دفن الميت الذي علم ان وجوبه انما هو لحفظ كرامته مما يحل به من التشويه والتفسخ بعد الموت ولأجل ما يلزم من عدم دفنه من الاضرار بالغير من تعفنه ورائحته.

ـ ومنها : ان العناوين الحسنة المنطبقة على هذه الواجبات هي ـ أيضا ـ ليست ذاتية لها بل عارضة والعناوين العارضة كالمصالح والفوائد والغايات الخارجة عنها المترتبة عليها ، لأن عنوان الحسن بالذات ينحصر في عنوان العدل والاحسان ، كما ان عنوان القبح الذاتي ينحصر في الظلم والعدوان ، وما بقى من الاشياء انما تكون حسنة لانتهائها إلى ما هو الحسن بالذات والقبيح بالذات.

١٣٩

ثم إنه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين ، وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري ، فالتحقيق أن الهيئة ، وإن كانت موضوعة لما

______________________________________________________

ـ ومنها : ان ما ذكره في قوله : الاولى ـ لا يدفع ما يرد على التقريرات بعد تصريحه بان الواجب النفسي ما وجب لا لواجب آخر سواء كان الداعي إلى ايجابه محبوبيته الذاتية أو محبوبية لازمه ، فانه في معزل عن العنوان الحسن الذي ذكره مناطا للوجوب النفسي.

ـ ومنها : انه لو اجتمع في الشيء عنوان حسن لذاته وامور مترتبة عليه لازمة الاستيفاء وخارجة عنه ، فقد اجتمع فيه الملاكان : ملاك الوجوب النفسي وملاك الوجوب الغيري فيتأكدان ويكون وجوبا واحدا ولكن لا يصح ان يكون واجبا نفسيا فقط.

ـ ومنها : ان المدار في الغيرية ان يكون وجوب الشيء مترشحا من واجب آخر قد وجب بخطاب يخصه ، والمدار في النفسية ان لا يكون وجوبه مترشحا من واجب آخر ، واما كون الفوائد والمصالح المترتبة على الواجب النفسي هي محبوبة واقعا ويلزم استيفاؤها لا يضر فيما هو ملاك الوجوب ، لانها بعد ان لم تكن تلك المصالح والفوائد مما امر بها وليس لها وجوب قد تعلق بها ، فالواجبات المترتبة عليها تلك المصالح يصدق عليها انها واجبات لم يترشح الوجوب اليها من واجب آخر.

فما ذكره ايرادا على التقريرات غير وارد ، وما اورده التقريرات على القوم ـ أيضا ـ غير وارد ، فإن مراد القوم في تعريف النفسي : ما امر به لنفسه : أي بان لا يكون الوجوب قد ترشح عليه من واجب آخر ومرادهم بالغيري : بانه ما امر به لغيره : أي ما كان وجوبه قد أتاه من ناحية وجوب آخر ، وليس نظرهم إلى الدواعي والمصالح التي تدعو إلى الوجوب.

١٤٠