بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير أمرها ، غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) ان ما اورده على هذا الوجه الاول من التقريرات امران :

الأول : ما أشار اليه بقوله : مضافا ، وحاصله : انه إذا كان الغرض من قصد اتيانها بامرها الإشارة إلى العنوان المنطبق عليها لا ينحصر ذلك الغرض باتيانها بقصد امرها ، بل يمكن ان يشار إلى عنوانها من دون اتيانها بقصد امرها : بان يؤتى بها موصوفة بانها لها امر غيري لا بجعل الامر الغيري داعيا وغاية إلى اتيانها ويكون الداعي إلى اتيانها غير قصد الامتثال ، كما لو اتى بغسل الوجه واليدين لأجل التبريد : بان قصد ان يبرد نفسه بغسل وجهه ويديه الموصوف هذا الغسل بكونه قد تعلق به امر غيري مقدمي ، فانه إذا وصفه بكونه مامورا به فقد أشار إلى العنوان المنطبق على هذا الغسل للوجه واليدين ، فيحصل قصد العنوان الذي تكون هذه الطهارات به مقدمة من دون قصد عباديتها بقصد امتثال امرها ، والى هذا أشار بقوله : «ولو بقصد امرها وصفا» لهذه الطهارات «لا غاية وداعيا» الذي معناه اتيانها بقصد امرها «بل كان الداعي إلى هذه الحركات» الغسلية «الموصوفة بكونها مامورا بها شيئا آخر غير امرها» ولا يخفى ان شيئا آخر هو خبر لكان : أي كان الداعي إلى هذه الحركات شيئا آخر غير قصد الاتيان بها بامرها الغيري بل كان الداعي هو التبريد. ومن الواضح ان في اتيانها موصوفة بكونها مامورا بها ولكن بداعي التبريد تحصل الإشارة الاجمالية المرآتية الى العنوان المنطبق عليها ولكن لا تقع عبادية.

والثاني : ما أشار اليه بقوله : «انه غير واف» إلى آخره ، وحاصله : قد عرفت ان قصد امتثال الامر الغيري لا يوجب القرب والثواب ، فلو فرضنا امكن ان تكون عبادة بقصد امرها فيدفع به اشكال العبادية إلّا انه لا يدفع بما ذكره من اتيانها بقصد امرها اشكال ترتب المثوبة والقربية عليها.

١٦١

ثانيهما : ما محصله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة ، إنما يكون لاجل أن الغرض من الامر النفسي بغاياتها ، كما لا يكاد يحصل بدون قصد التقرب بموافقته ، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها كذلك ، لا باقتضاء أمرها الغيري. وبالجملة وجه لزوم إتيانها عبادة ، إنما هو لاجل أن الغرض في الغايات ، لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا ، بقصد الاطاعة (١).

______________________________________________________

والحاصل : انه قد مر ان في الطهارات اشكالين :

احدهما : كون الامر المقدمي الغيري توصلي لا تعبدي والطهارات امرها عبادي لا توصلي.

ثانيها : ان الامر الغيري لا يقتضي استحقاق الثواب مع ان الطهارات التي يؤتى بها مقدمة يترتب عليها الثواب كما تظافرت بذلك الاخبار ، فلو فرضنا أنه امكن ان يكون امرها الغيري عباديا فيندفع اشكال التوصلية بما ذكره في التقريرات ولكن اشكال ترتب الثواب عليها لم يندفع بما ذكره : من اتيانها بقصد امرها الغيري للإشارة الاجمالية إلى عنوانها ، وهذا مراده بقوله : «انه غير واف بدفع اشكال ترتب المثوبة عليها كما لا يخفى».

(١) وتوضيحه : انه قد مر عليك في اخذ قصد الامر في متعلق الامر : من انه من المحال ، ولكن حيث علمنا انه لا يتم الغرض في الاوامر النفسية العبادية إلّا باتيانها بقصد امتثال امرها يحكم العقل بلزوم اتيانها بقصد الامر ، ومثله نقول ـ هنا ـ في خصوص الطهارات الثلاث : وهو انه علمنا ان الغرض في الواجب النفسي العبادي كما انه لا يحصل إلّا بإتيان الواجب النفسي بقصد امره ، كذلك علمنا ان الغرض المتوقف حصوله على احد هذه الطهارات لا يحصل إلّا بإتيانها ـ أيضا ـ كالواجب النفسي بقصد امرها ، فاتيان هذه المقدمات من بين ساير مقدمات الواجب بلزوم اتيانها بقصد امرها انما هو لدعوة من الغرض في الواجب النفسي الذي لا بد من

١٦٢

وفيه أيضا إنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها (١) ، وأما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات ، من الالتزام بأمرين :

______________________________________________________

حصوله ، فتوقف حصول الغرض في الواجب النفسي كما يلزمنا العقل لأجله بقصد القربة في الواجب النفسي كذلك يلزمنا بقصد القربة في خصوص هذه الطهارات من بين ساير المقدمات بلزوم إتيانها عبادية بقصد امرها.

فاتضح : ان عباديتها ليس من ناحية الامر الغيري المتعلق بها ، بل من ناحية الغرض الذي يلزم تحصيله في الواجب النفسي.

قوله : «الأمر النفسي بغاياتها» : أي الامر النفسي المتعلق بغاياتها كالامر المتعلق بالصلاة التي هي الغاية للوضوء المأتي به لاستباحة الصلاة ومقدمة لها.

قوله : «بموافقته» : أي كما لا يكاد يحصل الغرض المترتب على نفس الغاية التي هي الصلاة إلّا باتيان الصلاة نفسها بقصد موافقة امرها كذلك لا يحصل هذا الغرض من هذه الطهارات إلّا باتيانها ـ أيضا ـ بقصد موافقة امرها الغيري ، فالداعي لاتيانها بقصد امرها الغرض الذي دعا إلى ايجاب الامر النفسي لا نفس الامر الغيري ، وكون الغرض في المقام بالنسبة إلى هذه الطهارات كذلك قد عرفناه من الخارج.

(١) اورد عليه المصنف بايراده الثاني الذي اورده على الوجه الاول ، لانه لم يكن اتيان هذه الطهارات بقصد امرها لأجل المرآتية كما في الوجه الاول حتى يرد عليها الايراد الاول الذي اورده على الوجه الاول.

وحاصله : انه إذا امكن ان نعلم من الخارج بان الغرض في الواجب النفسي المتوقف على هذه الطهارات لا يحصل إلّا بقصد اتيانها بداعي امرها وعبادية ، فإن اشكال المثوبة وان الاوامر الغيرية لا تستحق قربا ولا ثوابا بعد باق بحاله لا يدفعه اتيانها بقصد امتثال امرها فانه يصلح كون امرها عباديا ، واما إشكال أنه لا يوجب

١٦٣

أحدهما : كان متعلقا بذات العمل.

والثاني : بإتيانه بداعي امتثال الاول ، لا يكاد يجزئ في تصحيح اعتبارها في الطهارات ، إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها ، لا يكاد يتعلق بها أمر من قبل الامر بالغايات ، فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها ، ليتمكن به من المقدمة في الخارج.

هذا مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا ، فتذكر (١).

______________________________________________________

قربا ولا مثوبة فانه باق على حاله والى هذا أشار بقوله : «وفيه أيضا انه غير واف بدفع اشكال ترتب المثوبة عليها».

(١) وتوضيح هذا التصحيح انه قد مر في اخذ قصد القربة في متعلق الامر النفسي انه بعد ان امتنع اخذ قصد القربة في متعلق الامر بامر واحد ، بان يقول : صل بقصد امتثال الامر لما يرد عليه من المحاذير وقد قام الدليل من الاجماع أو غيره انه لا بد من اتيان الصلاة بقصد القربة فنلتزم بامرين : احدهما يتعلق بذات الصلاة ، والثاني في اتيانها بقصد امرها تصحيحا لاخذ قصد القربة في متعلق الامر اخذا شرعيا ، فنلتزم بمثله في المقام بعد قيام الاجماع على لزوم اتيان هذه الطهارات الواقعة مقدمة ـ للصلاة أو لغيرها كالطواف أو مس كتابة المصحف الكريم ـ ان تكون عبادة وقربية من دون ساير مقدمات الواجب ، وقد قام الدليل ـ أيضا ـ على ان الامر الغيري الترشحي توصلي لا عبادي فنلتزم في خصوص الطهارات بامرين : امر يتعلق بذاتها ، وامر يتعلق باتيانها بقصد القربة فيرتفع الاشكالان معا ، فإن الامر الغيري المتعلق بذاتها توصلي لا عبادي وعباديتها قد اتت من الامر الثاني ، ويرتفع اشكال المثوبة ـ أيضا ـ فإن الامر المقدمي التوصلي بذاته لا يقتضي مثوبة ، واما انه إذا قام الدليل بان هذا الامر الغيري المتعلق بهذه الطهارات إذا أتى بقصد امتثاله يستحق المكلف عليه المثوبة فلا مانع من ذلك هذا ، وان كان المهم في نظر هذا التصحيح هو

١٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تصحيح عبادية الطهارات فقط كما هو ظاهر المتن حيث قال : واما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادات من الالتزام بامرين احدهما كان متعلقا بذات العمل والثاني باتيانه بداعي امتثال الاول ، لا يكاد يجدي في تصحيح اعتبارها في الطهارات.

ثم لا يخفى : ان الفرق بين هذا التصحيح لعبادية الطهارات وبين تصحيح التقريرات في وجهه الثاني ، هو ان اتيان هذه الطهارات بقصد امتثال امرها الغيري انما هو من ناحية الغرض فالعقل يلزم باتيانها بقصد الامتثال ، وفي هذا التصحيح الاتيان بقصد امرها شرعي وقع في خطاب ثان يتعلق بالاول وان هذا لا يرد عليه اشكال المثوبة ، ولذا لم يورده المصنف عليه.

وعلى كل فقد اورد المصنف على هذا التصحيح بايرادين :

الأول : ما أشار اليه بقوله : إذ لو لم تكن بنفسها إلى آخره.

وحاصله : ان الالتزام بامرين الذي ذكروه في تصحيح العبادات النفسية لا يكاد يجزئ في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في الطهارات التي اوامرها غيرية ، لأن الاوامر الغيرية ترشحية من الواجب النفسي الذي يتوقف على هذه المقدمات لأجل توقفه عليها ، لأن من اراد شيئا اراد ما يتوقف عليه ذلك الشيء ، فإن كان في ذات هذه الطهارات من دون قصد اطاعتها ملاك للوجوب الغيري يترشح اليها الامر ولكن لا تحتاج إلى قصد الاطاعة وهو خلاف الفرض ، لأن المفروض انها مقدمة لا بذاتها بل باتيانها بقصد الاطاعة فذات هذه الطهارات ليس فيها ملاك الوجوب الغيري ، إذ لا توقف للواجب النفسي على ذات هذه الطهارات من دون قصد القربة ، واذا لم يكن في ذاتها ملاك الوجوب النفسي فكيف يترشح عليها الامر الاول المتعلق بذاتها كما زعمه هذا المصحح لتتميم اتيانها بقصد القربة ، واذا لم يترشح لها امر يتعلق بذاتها فلا مجال لان ياتي الامر الثاني المتعلق بالامر الاول ، لأن وجود الامر الاول المتعلق بذات هذه الطهارات ماخوذ في موضوع الامر الثاني ، لانه يقول : ائت بها

١٦٥

الثاني : إنه قد انقدح مما هو التحقيق ، في وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها (١) ، نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها امرها الغيري ،

______________________________________________________

بقصد امرها فلا بد ان يكون هناك امر غيري متعلق بذاتها ، وقد عرفت انه لا وجه له لأن الامر لا يترشح إلّا الى ما فيه ملاك المقدمية ، وذات هذه الطهارات ليس فيها ملاك المقدمية فلا يترشح لذاتها امر غيري ، وهذا مراده بقوله : «إذ لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها لا يكاد يتعلق بها امر من قبل الامر بالغايات» اذ الامر المترشح من قبل غاياتها وهي الواجبات النفسية لا يترشح إلّا إلى ما فيه ملاك المقدمية ، واذا لم يكن في ذواتها ملاك المقدمية لا يترشح لها امر ، واذا لم يترشح امر يتعلق بذاتها «فمن اين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق بذاتها» وقوله من سنخ الطلب الغيري لأن هذا الطلب الذي يتعلق بذاتها لا بد وان يكون غيريا ـ أيضا ـ ليكون موضوعا للامر الثاني حتى يتمكن المكلف بواسطة الامر الاول المحقق للموضوع بالنسبة الى الامر الثاني من اتيانها بما هي مقدمة عبادية في الخارج ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ليتمكن به من المقدمة في الخارج».

الايراد الثاني : ما أشار اليه بقوله : «هذا مع ان في هذا الالتزام» إلى آخره.

وحاصله : ان تصحيح قصد القربة بامرين في نفس الواجب النفسي المعتبر فيه قصد القربة غير صحيح كما مر مفصل ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي ، ولذا قال : «مع ان في هذا الالتزام» وهو الالتزام بامرين «ما في تصحيح اعتبار قصد الاطاعة في العبادة» : أي يرد على الالتزام بامرين هنا ما يرد عليه هناك ولذا عقبه بقوله : فتذكر.

(١) هذا هو التذنيب الثاني ، وحاصله : انه بعد ان كانت هذه الطهارات لا تكون مقدمة ومما لها دخل توقف ذي المقدمة عليها إلّا إذا اتى بها قربية وعبادية ، فهي بما هي عبادة مقدمة للواجب النفسي فهل يتوقف اتيانها كذلك على قصد غاياتها

١٦٦

لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة ، فان الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلا إذا قصد التوصل إلى الغير ، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا القصد (١) ، بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ،

______________________________________________________

والتوصل بها إلى غايتها ام لا يتوقف على ذلك؟ وقد أشار المصنف إلى : انه قد انقدح مما مر انه لا يشترط في وقوعها عبادة وقربية على ذلك بما عرفت من مختاره في دفع الاشكالين المتقدمين : وهو ان هذه الطهارات بنفسها مستحبات نفسية وراجحات عبادية وهي بما هي كذلك مقدمة للواجب النفسي ، فحينئذ لا يشترط في وقوعها قربية قصد الغايات : أي قصد كونها مقدمة لغاية من الغايات المتوقفة عليها ، ولذا أن من المعروف انه يجوز اتيان الوضوء بقصد الكون على الطهارة ولا يلزم قصد استباحة الصلاة أو مس المصحف الكريم أو غير ذلك من الغايات المتوقفة على الوضوء أو غيره ، ولذا قال (قدس‌سره) : «قد انقدح مما هو التحقيق» وهو ما اشرنا اليه : من كونها بنفسها مستحبات نفسية وراجحات عبادية وبما هي كذلك مقدمة.

فيتضح من هذا التحقيق «وجه اعتبار قصد القربة في الطهارات» وهو قصد رجحانها النفسي وامرها الذاتي المتعلق بها وهو امر عبادي ، فلا تتوقف صحتها بمعنى وقوعها عبادية على قصد التوصل بها إلى غاياتها ، بل تتأتى صحتها ولو لم يؤت بها بقصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها.

(١) حاصله : انه على ما سلكناه : من كونها بنفسها مستحبات نفسية وراجحات عبادية قد اخذ في نفسها قصد القربة مع الغض عن امرها الغيري لسنا بحاجة إلى تصحيح عباديتها من ناحية امرها الغيري ، بخلاف مسلك التقريرات وغيره ممن يظهر منهم حصر طريق عباديتها بقصد امرها الغيري ، فعلى مسلكهم هذا لا يعقل صدورها عبادة إلّا إذا قصد بها امتثال امرها الغيري ، وحيث ان الامر الغيري هو المترشح من الواجب النفسي وهو الغاية للامر الغيري ، فمعنى قصد الامر الغيري هو

١٦٧

ولو لم يقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلا. وهذا هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهم من أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية ، فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها ، فإنه فاسد جدا ، ضرورة أن عنوان

______________________________________________________

قصد امتثال هذا الامر المترشح من غايته ، ومعنى هذا هو قصد التوصل بهذه المقدمة إلى غايتها.

وبعبارة اخرى : ان اتيان هذه المقدمة بما هي مقدمة لا بد فيه من قصد التوصل بهذه المقدمة إلى غايتها وذيها ، فما لم يقصد بهذه المقدمة التوصل بها إلى الغاية لا يتأتى قصد امتثال امرها الغيري المتوقف على قصده وقوعها عبادة المتوقف عليه صحتها ، فإنها ما لم تقع عبادة لا تقع صحيحة ومقدمة لغايتها لأن المفروض انها حيث تقع عبادية تكون مقدمة لغايتها ، فوقوعها صحيحة يتوقف على عباديتها المتوقفة على قصدها الغيري الذي معنى قصد امتثال امرها الغيري هو قصد التوصل بها إلى غاياتها ، ولذا نرى بعضهم يحتاط في الوضوء فلا ياتي به مقدمة للصلاة الّا بعد حضور وقت الصلاة وان يقصد به الاستباحة للصلاة ، وهو معنى قصد الامر الغيري والتوصل بها إلى غايتها ، وهذا ما أشار اليه بقوله : «لكان قصد الغاية مما لا بد منه في وقوعها صحيحة» لانحصار قربيتها المنوطة بها صحتها بقصده الذي معناه قصد الغاية ، وأشار إلى التعليل الذي ذكرناه بقوله : «فإن الامر الغيري لا يكاد يمتثل إلّا إذا قصد التوصل إلى الغير حيث لا يكاد يصير» الامر الغيري «داعيا الا مع هذا القصد» لما عرفت : من ان معنى قصد امتثال الامر الغيري وكونه داعيا إلى الاتيان بالمقدمة هو التوصل بها إلى الغاية ، فاذا كان هذا هو معنى قصد امتثال الامر الغيري فما لم يقصد التوصل بها لا يعقل ان يكون المحرك والداعي هو قصد امتثال الامر الغيري.

١٦٨

المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدمة له ، وإنما كانت المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها الاولية ، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها (١).

______________________________________________________

(١) قد ظهر مما ذكرنا ان اتيانها بقصد التوصل بها هو الذي يتقوم به قصد القربة فيها وعباديتها ، لأن قصد امتثال امرها الغيري لا يتأتى إلّا بقصد التوصل بها إلى غاياتها ، وأيضا هو معنى اتيانها بعنوان كونها مقدمة ، فإن قصد عنوان كونها مقدمة هو قصد اتيانها بما هي يتوصل بها إلى ما يتوقف عليها وهل عنوان مقدميتها الا ذلك؟

فتحصل من هذا : ان قصد التوصل بها واتيانها بهذا القصد وهو قصد غاياتها المتوقفة عليها به تحصل القربة وبه تقع عبادة ، وهو السبب في وقوع قصد الامر الغيري قربيا فهو الملاك في الحقيقة لوقوع هذه المقدمة عبادة وقد اشار إلى هذا بقوله : «بل في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة ولو لم يقصد امرها» فان قصد التوصل بها يحصل من دون قصد الامر وان قصد امتثال الامر الغيري انما يكون قربيّا لاجل قصد التوصل بها ، فقصد التوصل بها وحده يكفي وهو الملاك في وقوعها عبادة وقربيّة ، ولازم هذا وهو كون الملاك في وقوعها قربيّة قصد التوصل بها امران :

الأول : ان من لا يقول بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة وجوبا غيريا ترشحيا شرعيا ، بل يقول : بان الامر باتيانها عقلي ارشادي وليس لها وجوب غيري شرعي مع توقف هذه المقدمة ـ أي الطهارات ـ على قصد القربة في وقوعها مقدمة صحيحة يحصل بها صحة الواجب النفسي المتوقف عليها ، فاذا كان يقول باستحبابها ورجحانها بنفسها فيقصد امرها المتعلق بنفسها ولا ينحصر عباديتها بقصد امرها الغيري ، واذا كان ممن لا يقول برجحانها واستحبابها في نفسها فينحصر قصد العبادية فيه ووقوعها قربية على قصد التوصل بها إلى غاياتها ، لما عرفت : من انه بقصد التوصل بها تقع عبادة وانه هو الملاك في الحقيقة في وقوعها عبادة ، فحينئذ

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يتوقف اتيانها قربية على قصد امتثال الامر الغيري ، بل قصد التوصل بها أولى في وقوعها قربية من قصد امتثال الامر الغيري ، لما عرفت : من انه هو الملاك في وقوع قصد امتثال الامر الغيري مقربا ، والى هذا أشار بقوله : «بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها اصلا».

الامر الثاني : الايراد على التقريرات ، وحاصل ما ذكر في التقريرات ان السرّ في كون المصحح لاعتبار قصد القربة فيها هو قصد التوصل بها إلى غاياتها هو ان الامر الغيري قد تعلق بعنوان المقدمية ، لما سيأتي من التقريرات من ان المقدمة الواجبة التي يترشح اليها الامر الغيري هي المقدمة المقيّدة بقصد التوصل ، فالامر الغيري متعلق بعنوان المقدمية لا بما هو بالحمل الشائع مقدمة.

ولا يخفى ان كل عنوان اخذ متعلقا للامر لا يحصل الامتثال له الا بقصده ، إذ لم يتعلق الامر بذات المعنون بل قد تعلق بعنوان المعنون ، ولا بد في اتيان ما تعلق به الامر في حصول الامتثال للامر ، فإن من الامور التي قياساتها معها ان امتثال الامر لا يحصل إلّا باتيان ما تعلق به الامر ، فاذا كان متعلق الامر هو عنوان المقدمية فلا يحصل الامتثال للمقدمة التي هي متعلق الامر الغيري الّا بقصد عنوان المقدمية. وقد ظهر مما ذكرنا سابقا ان عنوان المقدمية لا يحصل إلّا باتيانها مقصودا بها التوصل إلى غاياتها.

فتحصل من جميع ما ذكرناه : ان قصد القربة انما يحصل في المقدمة حيث يقصد بها امتثال الامر المتعلق بها وحصول قصد القربة في هذه الطهارات لازم فيتوقف على اتيان ما تعلق به الامر الغيري ، والذي تعلق به الامر الغيري هو عنوان المقدميّة وعنوان المقدمية لا يحصل إلّا بقصد التوصل بها إلى غاياتها.

فالسر في كون قصد التوصل بها موجبا لعباديتها هو هذا ، وهو توقف عنوان المقدمية التي هي المتعلق للامر الغيري عليه ، وليس السر في كون قصد التوصل بها

١٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

موجبا لعباديتها ما ذكره المصنف : من انه بنفسه موجبا للعبادية والقربية أو انه هو الملاك في وقوع الامر الغيري قربيا.

فالفرق بين مسلك المصنف ومسلك التقريرات : ان قصد التوصل بها إلى غاياتها هو بنفسه قصد عبادي عند المصنف ، وعند التقريرات انه طريق لحصول متعلق الامر وهو عنوان المقدمية ، وقد أشار المصنف إلى المقدمات الثلاث التي بنى عليها في التقريرات السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع هذه الطهارات عبادة ، فأشار إلى ان المتعلق هو عنوان المقدمية لا ذاتها بقوله : «من ان المقدمة انما تكون مامورا بها بعنوان المقدمية» وأشار إلى انه لا بد في مقام الامتثال من قصد عنوان المقدمية بقوله : «فلا بد عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان» وأشار إلى ان قصد عنوان المقدمية لا يحصل إلّا بقصد التوصل بها بقوله : «وقصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها» وقد عرفت ان السر في كون قصد التوصل موجبا لعباديتها هو ما ذكرنا ، لا انه من حيث توقف عنوان المقدمية عليه ، مضافا إلى فساد هذا المبنى الذي به يتم ما ذكره ، لوضوح ان اهم مقدمات هذا المبنى هو كون الامر متعلقا بعنوان المقدمية ، وقد مر عليك ويأتي ان الامر انما يتعلق بما هو بالحمل الشائع مقدمة لا بعنوان المقدمية ، لوضوح ان الامر الغيري يترشح من الواجبات النفسية لما يتوقف عليه الواجب النفسي ، والواجب النفسي انما يتوقف على ذات ما هو مقدمة وهو المعبر عنه بما هو بالحمل الشائع مقدمة ، لما مر عليك سابقا ان الحمل الشائع عند المصنف هو حمل الكلي الطبيعي على فرده الخارجي دون مطلق افراده ، فإن الواجب النفسي موجود خارجي يتوقف وجوده على موجود خارجي وعنوان المقدمية مفهوم خطوري لا خارجي ، ولا يعقل ترشح الامر الا إلى ما يتوقف عليه الواجب ، فعنوان المقدمية لا يعقل ان يترشح اليها امر لأن المتحمل للغرض هو ذات المعنون فلا يترشح الامر الا اليه ، فانه لا يحصل بالعلة الا معلولها لا غيره ، وإلّا لجاز ان يصدر كل شيء من كل شيء ، فعنوان المقدمية

١٧١

الامر الرابع : لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة ، يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة ، كما أشرنا إليه في مطاوي

______________________________________________________

لا توقف عليه فلا وجوب له ولا امر ، والى هذا أشار بقوله : «فانه فاسد جدا» : أي كون الواجب بالوجوب الغيري هو عنوان المقدمية لا ما هو بالحمل الشائع مقدمة فاسد جدا «ضرورة ان عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب» إذ الغرض من المقدمة انما يقوم بالموجود الخارجي من ما هو مقدمة اما عنوان المقدمية فليس بموقوف عليه الواجب النفسي «ولا بالحمل الشائع مقدمة له» : أي للواجب النفسي لوضوح ان عنوان المقدمية هو مفهوم المقدمية وهو بالحمل الاولي مقدمة ، واما ما هو بالحمل الشائع مقدمة فهو الفرد وخصوص الفرد الخارجي عند المصنف لانه هو منبع الآثار كما تقدم منه هذا الراي مرارا «وانما كانت المقدمة هو نفس المعنونات» فإنها هي التي يقوم بها الغرض الذي يتوقف عليه الواجب النفسي بما له من العنوان المختص به ، فإن الوصول إلى الغاية ـ مثلا ـ يتوقف على المشي بعنوان كونه مشيا وهو العنوان الاولى للمشي ، فان ماهية المشي هي التي هذا الموجود فرد لها اولا وبالذات ، وحيث انه يقوم به الغرض المتوقف عليه الوصول إلى الغاية فهو مقدمة بالعنوان الثاني ، واما عنوانه الاولي الذي هو فرد لماهيته فهو عنوان المشي ولذا قال : إن المقدمة هي المعنونات «بعناوينها الاولية والمقدمية» التي هي العنوان الثاني لها «انما تكون» : أي عنوان المقدمية «علة لوجوبها» بما لها من عناوينها الاولية.

١٧٢

كلماتنا ، ولا يكون مشروطا بإرادته (١) ، كما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم رحمه‌الله في بحث الضد ، قال : وأيضا فحجة القول بوجوب

______________________________________________________

(١) هذا الامر الرابع معقود لبيان ما هي المقدمة التي يترشح اليها الوجوب على الملازمة ، فهل هي المقدمة المقيّدة بحال ارادة المكلف لذيها كما يظهر من صاحب المعالم (١) ، أو انها المقدمة التي قصد بها التوصل كما في التقريرات (٢) أو المقدمة الموصلة كما في الفصول (٣) ، أو انها التي يتمكن المكلف بعد الاتيان بها من إتيان الواجب غير المقيدة بارادة ذيها ولا المقصود بها التوصل ولا المتصفة بالايصال.

اما كونها غير مقيدة بارادة ذيها بمعنى ان مقدمة الواجب انما تجب حيث يكون المكلف مريدا لذي المقدمة ، فيرجع إلى كون وجوب المقدمة مشروطا بارادة المكلف لذى المقدمة فيكون الوجوب في ذي المقدمة مطلقا وغير مقيد ، اذ لا يعقل ان يكون وجوب ذي المقدمة مشروطا بارادة المكلف للواجب : أي لذي المقدمة والّا لا نقلب الواجب إلى المباح ، فإن وجوب الواجب إذا كان مشروطا بارادة المكلف له لازمه انه إذا لم يرده لا يكون واجبا ، وهذا معناه ارخاء العنان للمكلف إذا لم يرد ان ياتي بالواجب ، فيرجع إلى ان المكلف إذا اراد الواجب فليأت به واذا لم يرده فلا مانع من عدم اتيانه وهذا هو المباح لبّا ، مضافا إلى ان الوجوب بداعي جعل الداعي ، فاذا كان المكلف مريدا للشيء فلا داعي لجعل الداعي له فيكون الوجوب لغوا.

ومما ذكرنا يتضح : ان اشتراط وجوب المقدمة بارادة المكلف لذيها لازمه اشتراط وجوبها نفسها بارادتها أيضا ، لوضوح ان ارادة المقدمة انما هو لأن من اراد شيئا اراد ما يتوقف عليه ، فلا بد من انه إذا اراد ذي المقدمة يريد المقدمة أيضا فيكون

__________________

(١) معالم الدين : ٢٧٤.

(٢) مطارح الانظار : ٧٨.

(٣) الفصول الغرويّة : ٦٩.

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب المقدمة منوطا بارادتها نفسها فيلزمه ما ذكرناه.

مضافا إلى ان وجوب المقدمة من رشحات وجوب ذي المقدمة ، وحيث لا يعقل ان يكون وجوب ذيها مقيدا بارادته نفسه فلا يعقل ان يكون وجوبها أيضا مقيدا بارادة ذيها ، اذ لا يعقل تخلف المعلول عن علته ، فانه حيث كان في حال عدم ارادة المكلف لذيها وجوب ذيها موجودا وكان هو العلة لوجوبها ، فلا بد وان يكون وجوبها في حال عدم ارادة المكلف لذيها موجودا أيضا ، اذ لا يعقل تخلف المعلول عن علته ، فالمقدمة لا بد وان تكون تابعة في الاطلاق والاشتراط لذيها ولذا قال (قدس‌سره) في صدر المبحث «ان وجوب المقدمة ـ بناء على الملازمة ـ يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة» وأشار إلى ما ذكرناه : من وجوب التبعية بالبراهين المتقدمة بقوله في ذيل العبارة : «وانت خبير بان نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى وان كان نهوضها على اصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة» لامكان ان يقال بعدم الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها بدعوى : ان الامر انما هو لداعي جعل الداعي من الشارع حيث لا يكون داع من العقل يكفي عنه ، وحيث لا غرض من المقدمة إلّا ان ذيها متوقف عليها والعقل يحكم بلزوم اتيانها لتوقف الواجب عليها ، فلا داعي للوجوب الشرعي مع حكم العقل وارشاده.

واما الاستشهاد لوجوب المقدمة بالوجدان بانا نرى وجدانا ان من اراد شيئا اراد مقدمته ، فالمسلم من الوجدان هو ارادة المقدمة ممن اراد ذيها فانما هو في المراد المباشري التكويني لا المراد التشريعي ، فإن الاحكام التشريعية لا بد وان تكون بمقدار الحاجة اليها وحيث لا حاجة إلى الامر تشريعا بالمقدمة لحكم العقل بلزوم اتيانها فلا وجوب شرعي للمقدمة.

وعلى كل فإن جماعة من المتقدمين والمتأخرين انكروا الملازمة بين وجوب المقدمة شرعا ووجوب ذيها ، لكنه بعد القول بالملازمة لا بد من تبعية وجوب

١٧٤

المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلا على الوجوب ، في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر وأنت خبير بأن نهوضها على التبعية واضح لا يكاد يخفى ، وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة ، كما لا يخفى (١).

وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة؟ كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه بعض أفاضل مقرري بحثه ، أو ترتب ذي المقدمة عليها بحيث لو لم يترتب عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، كما زعمه صاحب الفصول (قدس‌سره) أو لا يعتبر في

______________________________________________________

المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط بحكم تبعية المعلول لعلته ، فلا يعقل ان يكون المعلول اخص من علته ، فان كون المقدمة مقيدة بارادة المكلف لذيها وكون وجوب ذيها غير مقيد بذلك لازمه كون المعلول اخص من علته ، ومرجعه إلى تخلف المعلول عن علته وهو من المحالات المسلمة.

(١) قال في المعالم في آخر مبحث الضد (١) في مقام تحقيق انه يمكن ان يقال بعدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن الضد الخاص ، وان قلنا بوجوب ما لا يتم الواجب الا به بعد ان ذكر وجها اولا لما ادعاه قال : وأيضا فحجة القول إلى آخره العبارة التي ذكرت في المتن ، وهي نص عبارة المعالم ، والظاهر منها هو كما ذكره الماتن : هو انا نقول بوجوب المقدمة مقيدا بارادة المكلف لذيها ، إلّا انه يحتمل بعد ضم هذا الوجه إلى الوجه الاول انه يريد ان يقول بمقالة التقريرات : وهو ان المقدمة الواجبة هي المقصود بها التوصل إلى الواجب والله العالم.

__________________

(١) معالم الدين : ص ٢٧٣.

١٧٥

وقوعها كذلك شيء منهما الظاهر عدم الاعتبار (١) أما عدم اعتبار قصد التوصل ، فلاجل أن الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لاجل المقدمية والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح (٢) ولذا اعترف بالاجتزاء

______________________________________________________

(١) قد عرفت في صدر المسألة ان اشتراط قصد التوصل في المقدمة : بان الوجوب الغيري انما يترشح للمقدمة التي قصد بها التوصل إلى ذيها هو مقالة التقريرات ناسبا له إلى الشيخ الانصاري ـ طاب ثراه ـ ، وتخصيص الوجوب الغيري بخصوص المقدمة التي يترتب ذوها عليها وهي المقدمة الموصلة إلى الواجب النفسي هي مقالة صاحب الفصول ، وحيث لا يقول باحدهما المصنف (قدس‌سره) قال : «وهل يعتبر في وقوعها» : أي وقوع المقدمة «على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي التوصل» إلى آخره أو انه يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب «ترتب ذي المقدمة عليها» : أي على المقدمة «بحيث لو لم يترتب» إلى آخر كلامه ، وهو قول صاحب الفصول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة «أو» انه «لا يعتبر في وقوعها» على صفة الوجوب لا قصد التوصل بها ولا ترتب ذيها عليها ، بل الواجب المترشح اليه الوجوب الغيري هي المقدمة مطلقا التي يمكن بعد الاتيان بها من اتيان الواجب سواء قصد التوصل بها أو لم يقصد ، وسواء ترتب الواجب عليها أو لم يترتب ، وحيث كان هذا هو مختاره قال : الظاهر عدم الاعتبار.

(٢) لما كان مختاره هو وجوب المقدمة غير المقيدة باتيانها بقصد التوصل بها إلى ذيها ولا المقدمة الموصلة ـ شرع في ابطال القول باعتبار قصد التوصل ، ثم سيأتي التعرض منه لابطال القول بالمقدمة الموصلة ، وحيث لم يذكر المصنف حجة في المقام لمذهب التقريرات فلا بأس بالإشارة إلى ما يمكن ان يكون حجة لما ذهب اليه.

فنقول : ان العلة للحكم تارة تكون شرعية ومستفادة من الدليل الشرعي كاستفادة ان التغيير باوصاف النجاسة علة لتنجس الماء ، ومثل هذه العلة لا يجب ان يدور الحكم مدارها ولذا قالوا ببقاء نجاسة الماء وان ذهب التغيير ، وقد مر بعض ما له

١٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ربط في انواع العلل الشرعية لاحكامها في مبحث المشتق في مقام تمسك القائل بالاعم بآية السارق والسارقة وآية (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

واخرى تكون العلة للحكم الشرعي هي العلة العقلية للحكم الارشادي منه كما في المقام ، فإن الوجوب الشرعي انما هو لما يحكم العقل بوجوبه لو لا الحكم الشرعي به ، وهو كونه مقدمة للواجب يتوقف وجوده عليها ، ومن المسلمات ان الحيثيات التعليلية للاحكام العقلية حيثيات تقييدية لها ، فإن العقل الحاكم بحسن ضرب اليتيم للتأديب يحكم بان الضرب الحسن لليتيم هو المأتي به بقصد التأديب لا مطلق الضرب ، فما لم يقصد بالضرب لليتيم عنوان التأديب : بمعنى أن لا يأتي بضرب اليتيم بداعي تأديبه ، فما لم يكن الضرب حينئذ معنونا بكونه للتأديب لا يقع الضرب حسنا بل يقع قبيحا محرما ، فإن ضرب اليتيم لغير تأديبه ظلم له وعدوان عليه فهو قبيح ومحرم والمقام من هذا القبيل فإن العقل انما يحكم بوجوب المقدمة لانها مقدمة للواجب فلا بد من قصد هذا العنوان ، فالمقدمية حيثية تعليلية لحكم العقل بوجوب المقدمة ، وقد عرفت ان الحيثيات التعليلية حيثيات تقييدية في الاحكام العقلية.

وفيه : ان الحيثيات التعليلية في الاحكام العقلية حيثيات تقييدية لها إلّا انه لا يلزم ان تكون تلك الحيثيات قصدية دائما ، بل ربما تكون قصدية وربما لا تكون ، ففي ضرب اليتيم للتأديب لا بد من كونها قصدية لأن ما يحكم العقل بحسنه هو الضرب المأتي به بداعي التأديب لا مطلق ضرب اليتيم ، فان ما كان يؤتى به بغير داعي التأديب لا يكون حسنا فلا بد من قصد عنوان التأديب تحقيقا للحيثية التعليلية التقييدية العقلية.

واما في مقامنا فالحيثية التعليلية لحكم العقل بوجوب المقدمة هو توقف الواجب عليها وهذه الحيثية التعليلية تقييدية أيضا ، ولكن المتحصل منها ان الواجب الغيري هو الذي يتوقف الواجب عليه وهذه حيثية غير قصدية ، فإن ما يتوقف الواجب عليه هو نفس ما هو مقدمة في الخارج سواء أقصد بإتيانه عنوان المقدمية ام لا ، والى هذا

١٧٧

بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية ، لحصول ذات الواجب ، فيكون تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص (١)

______________________________________________________

أشار المصنف بقوله : «واما عدم اعتبار قصد التوصل فلأجل ان الوجوب لم يكن بحكم العقل الا لأجل المقدمية والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فيه واضح» فالعلة التي هي القيد في المقام للمقدمة الواجبة هي كونها يتوقف عليها الواجب وهذه العلة التي هي القيد موجودة في المقدمة سواء قصد باتيانها التوصل بها أو لم يقصد.

(١) لا يخفى ان الامر المتعلق بشيء لا يسقط إلّا بالعصيان أو الامتثال ، وامتثاله لا يعقل ان يتحقق إلّا باتيان ما تعلق به الامر ، فان كان متعلقه امرا قصديا فلا يعقل ان يسقط في مقام امتثاله إلّا باتيانه بعنوانه ، إذ القصدية انما تتعلق بعنوانه فان لم يؤت به مقصودا به عنوانه لا يعقل سقوطه ، وان كان متعلقه غير قصدي فيسقط باتيان الفعل المتعلق بالامر وان لم يكن عنوان الفعل مقصودا ، فلو كان المتعلق به الامر الغيري في مقدمة الواجب هو المقصود بها التوصل لا ما هو بالحمل الشائع مقدمة لما امكن ان يسقط الامر الغيري باتيان ذات ما هو مقدمة من دون قصد التوصل بها ، فاذا كان الامر بالمقدمة يسقط باتيان ذات ما هو مقدمة كشف ذلك عن ان المتعلق للامر الغيري ليس امرا قصديا بل هو ذات ما هو مقدمة لا المقدمة المقصود بها التوصل إلى ذيها.

وقد اعترف في التقريرات بالاجتزاء وسقوط الامر المتعلق بالمقدمة باتيان ذات ما هو مقدمة وان لم يقصد به التوصل في غير المقدمات العبادية ، لوضوح ان العباديات امور قصدية لا يعقل امتثال اوامرها إلّا باتيانها مقصودا بها امتثال امرها الملازم لقصدها معنونة بعناوينها ، والكلام في غير المقدمات العبادية وانه هل يشترط في امتثالها قصد التوصل بها ام لا؟ وقد عرفت ان سقوط اوامرها باتيانها غير مقصود بها شيئا يكشف عن ان متعلق الامر فيها هو ذات ما هو مقدمة لا عنوان مقدميتها الذي ينحصر امتثاله باتيانها مقصودا بها التوصل إلى ذيها.

١٧٨

فافهم (١).

______________________________________________________

فاعتراف التقريرات بالاجتزاء باتيان ذات ما هو مقدمة من دون قصد مقدميته لازمه الاعتراف ضمنا بان متعلق الامر فيها هو ذات ما هو مقدمة لا هي بعنوان المقدمية ، وإلّا لما امكن ان يسقط الامر المتعلق بها.

وقد اخذ المصنف اعتراف التقريرات بالاجتزاء دليلا عليه على ان المتعلق للامر هو ذات ما هو مقدمة دون المقدمة المقصود بها التوصل ، فقال بعد ان ذكر عدم دخالة قصد التوصل «ولذا اعترف» أي صاحب التقريرات بالاجتزاء «بما لم يقصد به ذلك» : أي قصد التوصل «في غير المقدمات العبادية لحصول ذات الواجب» لأن المقدمات العبادية لا بد وان تكون قصدية ولازم الاعتراف بالاجتزاء بما لم يقصد به التوصل وسقوط الامر المقدمي به هو انه باتيان ما لم يقصد به التوصل يحصل ذات الواجب وإلّا لما امكن ان يسقط الامر ، وحصول ذات الواجب بما لم يقصد به التوصل دليل على ان متعلق الامر الغيري ليس قصديا بل هو ذات ما هو مقدمة ، واذا كان ذات الواجب يحصل بما لم يقصد به التوصل «فيكون تخصيص الوجوب» المقدمي «بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص».

(١) لعله يشير إلى ما يمكن ان يقال : انه لا فرق بين التوصلي والتعبدي في كون صدق الامتثال في كل منهما منوطا بقصد اتيان الواجب بما هو واجب ، لأن التكليف في الامور الاختيارية لا يصدق عليه انه امتثال لما تعلق به التكليف إلّا باتيان ما تعلق به التكليف بما هو فعل اختياري اتى به لاسقاط ما تعلق التكليف به فلا بد من اتيان الواجب بما هو واجب ، فالامتثال في التوصلي والتعبدي على حد سواء في صدق كونه امتثالا للامر بانه منوط في كليهما باتيان الواجب بما هو واجب ، واتيان الواجب بما هو واجب منوط باتيانه عمدا في حال الاختيار مقصودا به انه مصداق لما تعلق به التكليف ، ومآل هذا إلى لزوم قصد عنوان المقدمية الذي لا يتاتى إلّا بقصد التوصل بها ، وانما الفرق بين التعبدي والتوصلي في ان التوصلي يسقط باتيان ما تعلق به إذا

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

اتى به لا بقصد الامتثال ، بل لغرض من الاغراض أو اتى به غير ملتفت إلى عنوانه اصلا أو حصل بلا مباشرة من المكلف ، كما لو وقع الماء على يده النجسة فطهرها وهو لا يعلم ، أو يعلم ولكن كان مضطرا إلى وضع ما تنجس في الماء كما لو وقع في الماء الكثير فغمر المكان المتنجس منه ، ففي هذه المقامات كلها يسقط الامر التوصلي لحصول الغرض الداعي إلى التكليف ، ولكنه لا يصدق على ذلك انه امتثال للامر المتعلق به.

وعلى هذا المبنى يمكن لصاحب التقريرات ان يقول بالاجتزاء فيما لم يقصد به التوصل لتأتي الغرض من الامر به ، ولكن لا يلزم ان يكون هذا منه اعترافا : بان متعلق الامر في المقدمة ذات ما هو مقدمة وان لم يقصد به التوصل ، لما عرفت : من ان حصول الامتثال في متعلق الامر التوصلي منوط بالقصد والعمد إلى اتيان الواجب بما هو واجب ، فلا ملازمة بين اعترافه بالاجتزاء وبين قوله بلزوم التوصل في اتيان ما هو متعلق الامر في المقدمة.

إلّا انه لو امكن ان نقول بهذا في صدق امتثال الواجب التوصلي النفسي فلا نقول به في الامر الغيري ، لأن الامر الغيري الشرعي انما نقول به لكون وجوده قهريا لأن من يريد شيئا يريد مقدماته وإلّا فهو على نمط الامر العقلي الارشادي ، والعقل حيث يرى ان المقدمية متقومة بذات ما هو مقدمة لانه هو الذي يتوقف عليه التمكن من الواجب النفسي ، أو ترتب الواجب النفسي فلا بد وان يكون ذات ما هو مقدمة هو الواجب العقلي وهو الواجب الشرعي ـ أيضا ـ على القول بالملازمة.

وبعبارة اخرى : حيث ان الامر المتعلق بالواجب النفسي التوصلي ليس له ظهور في كونه صرف طريق إلى الغرض المترتب عليه بل الغرض كان داعيا اليه ، لا أن المأمور به في الواقع هو الغرض المترتب على الواجب النفسي التوصلي والواجب التوصلي وقع طريقا اليه ، فلا بأس بان نقول : فيه ان امتثاله وامتثال الامر التعبدي على حد سواء كما ذكرنا ، ولكن الامر ليس كذلك في الواجب التوصلي المقدمي ،

١٨٠