بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

نعم على مختاره (قدس‌سره) لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه ، لتعلق بها الطلب في الحال على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال ، وذلك لان إيجاب ذي المقدمة على ذلك حالي ، والواجب إنما هو استقبالي ، كما يأتي في الواجب المعلق ، فإن الواجب المشروط على مختاره ، هو بعينه ما اصطلح عليه صاحب الفصول من المعلق ، فلا تغفل.

______________________________________________________

والمعروف في الواجب المشروط من رجوع القيد إلى الهيئة وانه لا طلب فعلي ولا وجوب كذلك قبل تحقق الشرط.

وأما على مختار الشيخ من رجوع القيد الى المادة فان الشرط على هذا ليس مقدمة وجوب كما هو بناء على كونه من قيود الهيئة بل هو من المقدمات الوجودية كسائر الشرائط للواجب الّا أن هذا الشرط بالخصوص اخذ على نحو لا يعقل ان يترشح عليه الوجوب ، فإن قول القائل : ان جاءك زيد فاكرمه ـ بناء على رجوعه إلى المادة ـ ان المطلوب هو اكرام زيد المقيد بتحقق مجيئه من باب الاتفاق ، ومع فرض اخذه شرطا من باب الاتفاق لا يعقل ان يكون واجبا ، فإن لازم كونه واجبا وجوب تحصيله ، ومن الواضح ان وجوب تحصيله ينافي كونه ماخوذا على سبيل الاتفاق ، لأن الماخوذ حصوله على سبيل الاتفاق لازمه انه لا يجب تحصيله ، ففرض كونه واجبا بالوجوب المقدمي انه يجب تحصيله ، وقد فرض انه لا يجب تحصيله فيلزم الخلف من كونه واجبا بالوجوب المقدمي.

ومنه يتضح : ان المحذور فيه ليس طلب الحاصل ـ كما مرّ بناء على رجوع القيد إلى الهيئة ـ بل محذوره الخلف ، فما يظهر من المصنف : من كون المحذور فيه ـ أيضا ـ طلب الحاصل لا يخلو من مسامحة إلّا ان يؤوّل كلامه : بان هذا الشرط قبل حصوله لا يعقل ان يكون واجبا لانه اخذ على سبيل الاتفاق وبعد حصوله لا يعقل لانه من طلب الحاصل.

٨١

هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت انه على رأي الشيخ ـ من رجوع القيد إلى المادة ـ ان الهيئة غير مقيدة بالشرط ، فالوجوب الذي هو مفادها لا يكون مقيدا ومشروطا بالشرط ، وإذا لم يكن مشروطا بشيء فيكون فعليا ، واذا كان الشرط الراجع إلى المادة محقق الوقوع في المستقبل : بان علم بمجيء زيد في غد فالواجب يكون محققا في المستقبل ، واذا كان الوجوب فعليا والواجب محققا في ظرفه فلا بد وان يسري الوجوب إلى ساير مقدماته الوجودية بالفعل ، اذ لا مانع عن سريان الوجوب لفرض تحقق الوجوب بالفعل ومعلومية تحقق الواجب في ظرفه فتكون مقدماته الوجودية واجبة.

نعم ، لو كان الواجب غير معلوم التحقق في ظرفه لا تكون مقدمات الواجب الوجودية معلومة الوجوب ، لأن الغرض من وجوبها توقف وجود الواجب عليها ، ومتى كان الواجب غير معلوم التحقق لا يعقل ان تكون مقدماته الوجودية معلومة الوجوب ، لعدم معلوميّة ما هو الغرض من وجوب مقدماته.

وعلى كل فقد اتضح : ان الواجب المشروط على رأي الشيخ : من رجوع القيد فيه إلى المادة وكون الهيئة الدالة على الوجوب غير مقيدة يرجع إلى الواجب المعلق ، لأن الواجب المعلق كما سيأتي بيانه ـ كون الوجوب فيه فعليا وحاليا والواجب استقباليا ، وليس هذا إلّا الواجب المشروط على رأي الشيخ الذي علم بتحقق شرطه في المستقبل ، والفرق بينهما في التسمية ، فإن صاحب الفصول يسميه بالواجب المعلق ، والشيخ يسميه بالواجب المشروط والقيد راجع إلى المادة ، وإلّا فلا فرق بينهما في الحقيقة ، وسيأتي في الواجب المعلق وجوب جميع مقدمات الواجب المعلق ، واذا كان الواجب المشروط عند الشيخ يرجع إلى الواجب المعلق فلا بد من التزامه بوجوب جميع مقدماته عدا الشرط الذي اخذ في المادة ، والى هذا أشار بقوله : «لو كانت له مقدمات وجودية غير معلق عليها وجوبه» لما عرفت ان المقدمة التي علّق عليها الطلب والوجوب لا يعقل وجوبها حتى على رأي الشيخ من عدم تعلق الوجوب

٨٢

وأما المعرفة ، فلا يبعد القول بوجوبها ، حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار قبل حصول شرطه ، لكنه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها إلا مع الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف ، فيستقل بعده بالبراءة ، وإن العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان ، والمؤاخذة عليها بلا برهان (١).

______________________________________________________

عليها ورجوع القيد إلى المادة ، ولكن لو كانت هناك مقدمات اخرى لم يعلّق عليها الطلب «لتعلق بها الطلب في الحال» لأن الوجوب فعلي.

(١) تعلم الاحكام ومعرفتها باوامرها ونواهيها مما لا اشكال في وجوبه ، لقيام الاجماع والاخبار على ذلك ، كما ذكروا ذلك عند البحث في هذه المسألة مفصلا في شرائط الاصول من مباحث البراءة ، وقد وقع الكلام في ان وجوبها هل هو وجوب مقدمي أو انه نفسي أو انه عقلي ارشادي ، واذا امكن القول : بان وجوبها مقدمي في الواجبات المطلقة فلا يمكن القول به في الواجبات المشروطة لعدم الوجوب قبل تحقق الشرط ، فانه إذا كان ذو المقدمة غير واجب قبل تحقق شرطه فلا يعقل القول بوجوب المقدمة الساري وجوبها اليها من وجوب ذيها ، وهذا الاشكال هو السبب في التعرض لها في المقام ، فانه بناء على الواجب المشروط وان القيد راجع إلى الهيئة وانه لا وجوب قبل تحقق الشرط لازمه عدم وجوب المعرفة قبل تحقق الشرط ، لأن المقدمة تابعة في الاطلاق والاشتراط لذيها ـ بناء على كون وجوب المعرفة وجوبا مقدميا ـ ولا يمكن القول : بان وجوب المعرفة وجوب مقدّمي ، لانه قد قام الاجماع والاخبار على وجوب المعرفة مطلقا في الواجبات المطلقة والمشروطة.

وقد اختار المصنف ان وجوبها ليس وجوبا مقدميّا من باب الملازمة بينها وبين وجوب ذيها ، بل هي واجبة لاستقلال العقل بوجوبها بملاك وجوب الفحص عن اوامر المولى ونواهيه عقلا لئلا يقع العبد في مخالفة المولى في احكامه المنجزة ، فإن العبد

٨٣

فافهم (١).

______________________________________________________

الملتفت إلى انه غير مهمل وانه له تكاليف منجزة عليه ويجب امتثالها ولا تعلم تلك التكاليف ـ عادة ـ الّا بالبحث والفحص عن تلك الاحكام ومعرفتها وتعلمها لئلا يقتحم فيما يخالف المولى ، وان اهماله للفحص والتعلم خروج عن زي الرقيّة ورسم العبودية ، فالفحص والتعلم واجب بوجوب عقلي ، ولا فرق في حكم العقل بذلك في الواجبات المطلقة والمشروطة ولذا قال (قدس‌سره) : «فلا يبعد القول بوجوبها» : أي بوجوب الفحص والتعلم «حتى في الواجب المشروط بالمعنى المختار» وهو رجوع القيد إلى الهيئة وان الوجوب مشروط وقبل تحقق الشرط لا وجوب ، ومع ذلك يجب الفحص والتعلم في الواجب المشروط «قبل حصول شرطه لكنه لا بالملازمة» : أي ليس الوجوب وجوبا مقدميا من باب الملازمة حتى يقال : بانه لا مجال في الواجب المشروط قبل حصول شرطه «بل من باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الانام بمجرد قيام احتمالها» فإن العقل حيث يحتمل وجود احكام منجزة لا يحصل التوقي عن اقتحامها إلّا بالفحص والتعلم ، فيحكم بوجوب الفحص والتعلم وانه لو لم يفحص ويتعلم ووقع في مخالفة المولى يستحق العقاب والذم ، فباحتمال العقل وجود احكام منجزة يحكم بوجوب الفحص والتعلّم. نعم ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بالاحكام يحكم بالبراءة لو وقع في مخالفتها ، وان العقاب عليها عقاب بلا بيان.

فاتضح : ان الملاك في وجوب التعلم والمعرفة عند العقل هو احتمال وجود احكام منجزة لا يحصل التوقي من الاقتحام فيها الّا بالفحص والتعلم ، فالمعرفة واجبة بوجوب عقلي لا بوجوب مقدّمي ، فلا اشكال في وجوبها قبل تحقق الشرط ، لأن وجوبها عقلي بملاك غير ملاك الوجوب المقدمي.

(١) لعله يشير بقوله : فافهم ـ إلى انه على هذا المبنى لا فرق بين المعرفة وساير مقدمات الواجبات المشروطة قبل تحقق شرطها ، لأن تعلم الواجب المشروط قبل تحقق شرطه

٨٤

تذنيب : لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقا ، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فكذلك على الحقيقة على مختاره (قدس‌سره) في الواجب المشروط ، لان الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه ، إلا أن تلبسه بالوجوب في الحال ، ومجاز على المختار ، حيث لا تلبس بالوجوب عليه قبله ، كما عن البهائي رحمه‌الله تصريحه بأن لفظ الواجب مجاز في المشروط ، بعلاقة الاول أو المشارفة (١).

______________________________________________________

انما هو لاحتمال ان لا يسع الوقت بعد تحقق الشرط لمعرفة الواجب وامتثاله فينتهي الحال إلى ترك الواجب في ظرفه باختياره ، وعلى هذا المبنى فلا فرق بين المعرفة وساير مقدمات الواجب المشروط التي يحتمل انه إذا لم تتهيأ قبل تحقق الشرط قد تؤدي إلى ترك الواجب في ظرفه ، ولعله لا يلتزم به القائلون بوجوب المعرفة.

(١) قد تقدم ان المشتق حقيقة في المتلبس ، ومطابقه الذي يصح حمله عليه حقيقة المتلبس بالمبدإ ، فاذا كان الحمل بلحاظ حال التلبس فهو حقيقي وان كان التلبس في الماضي أو المستقبل. ولا إشكال في ان حمله بالفعل على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل مجاز قطعا ، ولا إشكال ـ أيضا ـ في ان لفظ الواجب مشتق من المشتقات.

ولا يخفى ان الواجب المشروط الذي يتحقق شرطه في المستقبل ليس بواجب فعلا بناء على مذهب المشهور : من كون القيد راجعا إلى الهيئة ، وان الشرط من مقدمات الوجوب لا الواجب ، وأما بناء على مسلك الشيخ (قدس‌سره) وان القيد يرجع إلى المادة فيكون من مقدمات الواجب دون الوجوب ، وان الوجوب فعلى فيكون الواجب المشروط على هذا واجبا بالفعل لتلبسه بالوجوب بالفعل ، فاذا اطلق لفظ الواجب على الواجب المشروط باعتبار حال تلبسه فهو حقيقة على مسلك المشهور وعلى مسلك الشيخ ، وانما الفرق بينهما انه على مسلك الشيخ هو مطابق له بالفعل ، وعلى مسلك المشهور يكون مطابقا له في حال تحقق الشرط ، وهذا مراده (قدس‌سره)

٨٥

وأما الصيغة مع الشرط ، فهي حقيقة على كل حال لاستعمالها على مختاره (قدس‌سره) في الطلب المطلق ، وعلى المختار في الطلب المقيد ، على نحو تعدد الدال والمدلول ، كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد (١).

______________________________________________________

«على الحقيقة مطلقا» : أي على مذهب الشيخ وعلى مذهب المشهور ، لما عرفت ان الاطلاق بلحاظ حال التلبس.

واما اطلاق لفظ الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حاله قبل حصول شرطه ، فعلى مسلك المشهور مجاز لانه من اطلاق المشتق على من سيتلبس بالمبدإ في المستقبل وهو من المجاز قطعا ، واما على مسلك الشيخ فهو من الاطلاق الحقيقي لانه متلبس بالمبدإ في تلك الحال ، لأن الوجوب عنده فعلي قبل حصول الشرط ، ولذا قال (قدس‌سره) : «واما بلحاظ حال قبل حصوله» : أي اطلاق الواجب على الواجب المشروط في حالة قبل حصول شرطه «فكذلك على الحقيقة على مختاره» : أي ان اطلاقه عليه بلحاظ تلك الحال فهو ـ أيضا ـ من الاطلاق الحقيقي على مسلك الشيخ لما قد عرفت : من ان الواجب المشروط على مسلكه وجوبه فعلي قبل حصول شرطه ، فهو متلبس بالوجوب قبل حصول شرطه ، وان كان ظرف اتيان الواجب منوطا بتحقق الشرط في المستقبل ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لأن الواجب وان كان امرا استقباليا» : أي ظرف اتيانه استقبالي لانه منوط بتحقق الشرط في المستقبل «إلّا ان تلبسه بالوجوب في الحال».

وأما على مسلك المشهور الذي هو المختار للماتن ، فقد عرفت ان اطلاقه بلحاظ حال الواجب قبل حصول شرطه فهو من المجاز ، ولذا قال : «ومجاز على المختار حيث لا تلبس» للواجب المشروط «بالوجوب عليه» : أي على المختار الذي هو مسلك المشهور «قبله» : أي قبل حصول الشرط.

(١) لا يخفى ان الصيغة عند المصنف موضوعة للوجوب الذي هو المقسم للمطلق والمشروط ، لأن الهيئة موضوعة للبعث الوجوبي المتعلق بالمادة ، فالاطلاق

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والاشتراط خارجان عما هو الموضوع له في هيئة الصيغة ، ولذا يصح تقسيمه إلى الوجوب المطلق والمشروط ، فتقول : افعل تنقسم إلى الوجوب المطلق والمشروط. والمصنف ذكر اولا المستعمل فيه الصيغة في الواجب المشروط ، والفرق بينه وبين الشيخ ، ثم عطف عليه الصيغة المستعملة في الواجب المطلق المقابل للمشروط.

وحاصل ما ذكره : ان الصيغة في الواجب المشروط على كل من رأي المصنف والشيخ مستعملة في الوجوب والطلب ، وانما الفرق بينهما ان القيد على رأي الشيخ في الواجب المشروط يرجع إلى المادة ، فالوجوب المستفاد من الصيغة وجوب مطلق غير مقيد ، وعلى رأي المصنف حيث ان القيد يرجع إلى الهيئة فالشرط راجع إلى الوجوب إلّا ان الهيئة قد دلت على ذات المقيد وهو الوجوب والشرط دل على قيده ، فالهيئة مستعملة في نفس الوجوب أيضا ، والمجموع قد دل على الطلب المقيد ، ولذا قال (قدس‌سره) : «واما الصيغة مع الشرط فهي حقيقة على كل حال» : أي انها على كل حال مستعملة في الوجوب حقيقة ، غايته ان الشيخ لا يرى الوجوب المستفاد من الصيغة مقيدا لأن القيد عنده من قيود الواجب الذي هو المادة دون الوجوب ، فلا بد وان يكون الطلب والوجوب المستفاد من الصيغة هو المطلق ولذا قال : «لاستعمالها على مختاره» : أي على مختار الشيخ «(قدس‌سره) في الطلب المطلق».

وأما على مختار المصنف ـ من رجوع القيد إلى الهيئة ، وان الوجوب هو الذي يلحقه الشرط والقيد فائضا الصيغة مستعملة في ذات المقيد الذي هو الطلب والقيد مستفاد من الشرط ولذا قال : «وعلى المختار في الطلب المقيد» : أي مستعملة في الطلب المقيد ولكن «على نحو تعدد الدال والمدلول» فالصيغة لم تستعمل في الوجوب المشروط ـ بما هو مشروط ـ بل قد استعملت في الوجوب ، والشرط قد استفيد من الدال الآخر ، ثم عطف على الصيغة في الواجب المشروط الصيغة في الواجب المطلق ، وان الصيغة فيه ـ أيضا ـ مستعملة في الوجوب والاطلاق ـ أيضا ـ مستفاد من الدال الآخر ، غايته ان الدال الآخر هو مقدمات الحكمة ولذا قال :

٨٧

لا المبهم المقسم (١) فافهم (٢).

______________________________________________________

«كما هو الحال فيما إذا اريد منها المطلق المقابل للمقيد» : أي كما ان الوجوب المشروط مستفاد بنحو تعدد الدال والمدلول كذلك الوجوب المطلق المقابل للمشروط ـ أيضا ـ وجوبه مستفاد من الصيغة واطلاقه من دال آخر وهو مقدمات الحكمة ، فالوجوب المطلق مستفاد بنحو تعدد الدال والمدلول كالحال في الواجب المشروط.

(١) لا يخفى ان الوجوب المطلق تارة يراد منه ما يقابل المشروط ، واخرى يراد منه ما يقابل المطلق والمشروط الذي هو المقسم للوجوب المطلق والوجوب المشروط ، ففيما إذا كان المراد منه المطلق المقابل للمشروط فالمراد من الاطلاق هو السعة المقابل للتقييد والاشتراط ، وحيث انه موضوع لنفس الوجوب فلا بد وان تكون السعة مستفادة من دال آخر وهو مقدمات الحكمة ، واما إذا كان المراد منه المطلق الذي هو المقابل للوجوب المطلق والمشروط وهو المقسم لهما فالصيغة تكون مستعملة في نفس ما وضعت له من دون ضم شيء اليها فلا حاجة إلى دال آخر فتعدد الدال والمدلول في الوجوب المطلق المقابل للوجوب المقيد : أي المشروط ، لا في الوجوب المطلق المقابل لكليهما الذي هو المقسم لهما.

والحاصل : ان تعدد الدال والمدلول في الوجوب المطلق الذي هو قسم مقابل للوجوب المشروط ، لا في الوجوب المطلق الذي يراد منه المقسم لهما الذي هو مبهم من حيث السعة والتقييد ، ولذا اطلق عليه المبهم ، لأن المطلق المقابل للمقيد تستفاد منه السعة فلا يكون الطلب المستفاد منه مبهما بل مبيّنا بالسعة والاطلاق ، بخلاف المطلق المقسم فانه لا يستفاد منه سعة ولا تقييد فهو مبهم.

(٢) لعله يشير بقوله : «فافهم» إلى ان الصيغة على رأي الشيخ في الشرط لا ينبغي ان يستفاد منها الوجوب المطلق المقابل للمشروط ، لانها على رأيه موضوعة بالوضع العام والموضوع له الخاص ، فمدلولها جزئي والجزئي غير قابل للاطلاق والتقييد.

٨٨

ومنها : تقسيمه إلى المعلق والمنجز ، قال في الفصول إنه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له ، كالمعرفة ، وليسم منجزا ، وإلى ما يتعلق وجوبه به ، ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له ، وليسم معلقا كالحج ، فإن وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة ، أو خروج الرفقة ، ويتوقف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أن التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل. انتهى كلامه رفع مقامه.

لا يخفى أن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى ، وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا ، حيث ادعى امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك ، أي إثباتا وثبوتا ، على خلاف القواعد العربية وظاهر المشهور ، كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي ، أنكر على الفصول هذا التقسيم ، ضرورة أن المعلق بما فسره ، يكون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلك ، كما هو واضح ، حيث لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول ، كان هو المعلق المقابل للمشروط.

ومن هنا انقدح أنه في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط ، بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور ، والقواعد العربية ، لا الواجب المعلق بالتفسير المذكور. وحيث قد عرفت بما لا مزيد عليه امكان رجوع

______________________________________________________

أو انه يشير إلى التأمل والتدقيق في ان الوجوب المطلق المقابل للمشروط اطلاقه كالاشتراط مستفاد من دال آخر ، غايته ان الدليل عليه هو مقدمات الحكمة ، وأما نفس الصيغة فغير موضوعة له.

٨٩

الشرط إلى الهيئة ، كما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا يكون مجال لانكاره عليه (١).

______________________________________________________

(١) ينقسم الوجوب عند صاحب الفصول (١) إلى ثلاثة اقسام : منجّز ، ومعلّق ، ومشروط. والمنجّز ما كان وجوبه فعليا ، والواجب فيه ـ أيضا ـ كذلك ومثل له بالمعرفة ، والمعلق ما كان وجوبه فعليا والواجب معلق على شيء غير حاصل ، كالحج بعد الاستطاعة وقبل وقته ، والمشروط ما كان الوجوب فيه غير فعلي : بان كان معلقا على شرط غير حاصل كالحج قبل تحقق الاستطاعة.

وينقسم الوجوب عند الشيخ إلى قسمين : مطلق ، ومشروط. والمطلق هو ما كان وجوبه فعليا والواجب لم يكن مشروطا بشرط غير حاصل ، والمشروط ما كان وجوبه فعليا والواجب فيه مشروط بشرط غير حاصل.

ولا يخفى ان ظاهر عبارة الفصول المنقولة في المتن ـ اولا ـ هو اختصاص الواجب المعلق بما كان شرط الواجب امرا غير مقدور ، ولكن الذي يظهر من كلامه بعد ذلك انه لا اختصاص للواجب المعلق بغير المقدور ، بل يعم حتى ما كان الشرط للواجب فيه مقدورا ولكنه اخذ على نحو الإنفاق.

ولا يخفى ـ أيضا ـ ان الفرق بين الوجوب المطلق والمشروط عند الشيخ هو كون الاول فعليا منجزا ، والثاني فعليا غير منجز على ما يظهر من البرهان الذي اقامه على إنكار الواجب المعلق ـ كما مر ـ.

وملخصه ان الارادة المنبعثة عن المصلحة القائمة بالفعل تارة تكون لا على تقدير وغير معلقة على شيء فهي ارادة مطلقة ومنجزة.

واخرى تكون الارادة المنبعثة عن المصلحة القائمة بالفعل غير منجزة وانما تكون منجزة على تقدير شرط يرتبط بالفعل المتعلق للارادة.

__________________

(١) الفصول الغروية : ص ٦٤.

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

والاول هو الواجب المطلق ، والثاني هو الواجب المشروط ولذلك بعد هذا التقسيم انكر الواجب المعلق.

إذا عرفت هذا يتضح : ان الواجب المشروط عند الشيخ هو الواجب المعلّق عند الفصول. والشيخ في الحقيقة انما أنكر الواجب المشروط عند المشهور الذي يكون الشرط فيه راجعا إلى الوجوب لا إلى الفعل الواجب ، واقام البرهان على امتناع رجوع الشرط إلى الوجوب ثبوتا واثباتا.

أما ثبوتا فلأن الهيئة التي مفادها الوجوب هي من المعاني الحرفية ، والمعنى الحرفي جزئي غير قابل للاطلاق والتقييد.

واما إثباتا فلأن المادة : أي الفعل الذي فيه المصلحة اما مطلقة أو مشروطة ، وأما نفس الارادة والوجوب فليس فيه مصلحة لا مطلقة ولا مشروطة فلذلك كان القيد لبّا يرجع إلى المادة لا إلى الهيئة ـ كما مر مفصلا ـ فالشرط يرجع إلى المادة ثبوتا لأن المادة قابلة للاطلاق والتقييد لأن فيها المصلحة التي هي تكون تارة مطلقة واخرى مشروطة ، فالاثبات ـ أيضا ـ يقضي بان المادة هي التي تكون مطلقة ومشروطة ، والى ما ذكرناه أشار المصنف بقوله : «حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى» يحتمل ان يكون مراده من ذاك المعنى هو الواجب المعلق عند الفصول ، ويحتمل ان يكون اراد بذاك المعنى هو الواجب المشروط عند الشيخ من رجوع القيد إلى المادة ، فيكون قوله : «جعل الشرط» تفسيرا لذاك المعنى الذي أشار اليه.

قوله : «ثبوتا واثباتا» قد عرفت مراده من الثبوت والاثبات.

قوله : «ما تقدم عن البهائي» وهو تصريح البهائي : بان اطلاق الواجب على الواجب المشروط مجاز قبل تحقق شرطه ولو كان فيه فعليا والقيد يرجع إلى المادة لكان الاطلاق حقيقيا لفعلية الوجوب.

٩١

نعم يمكن أن يقال إنه لا وقع لهذا التقسيم ، لأنه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط وخصوصية كونه حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم ، وإلا لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ، ولا اختلاف فيه ، فإن ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا كما يأتي إنما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته ، لا من استقبالية الواجب (١).

______________________________________________________

قوله : «انكر على الفصول الخ» لأن التقسيم عنده كما عرفت ثنائي والمشروط يرجع إلى المعلق ، عند الفصول فلذا لا مجال عنده للواجب المعلق اذ لا يعقل ان يكون الواجب المعلق شيئا مقابلا للواجب المشروط.

قوله : «انما انكر الواجب المشروط الخ» لأن الواجب المشروط عنده هو المعلق عند الفصول ، فهو في الحقيقة قد انكر الواجب المشروط الذي يكون القيد فيه راجعا إلى الهيئة الذي هو الواجب المشروط عند المشهور.

(١) بعد ان كان ايراد الشيخ على الفصول بعدم تعقل المعلق في غير محله ـ أورد المصنف عليه : بان هذا التقسيم لا موقع له فيما هو المهم في المقام ، لأن الكلام في وجوب المقدمة وانها تابعة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، وان وجوبها مناط بفعلية وجوب ذيها ، والمعلق وجوبه فعلي كالمنجّز فمقدمته واجبة مثله ، فليس لهذا التقسيم اثر في وجوب المقدمة بل هي واجبة سواء أكان الوجوب منجزا ام لا ولا ربط لها بكون الواجب في المنجّز حاليا وفي المعلق استقباليا لأنها انما تتبع الوجوب الفعلي والوجوب فيها على حد سواء ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ولا اختلاف فيه» : أي ان صحة التقسيم منوطة بما إذا كان اختلاف فيما هو المهم ، والحال لا اختلاف فيما هو المهم في هذا التقسيم «فإن ما رتبه عليه» : أي الاثر الذي رتبه صاحب الفصول على المعلق من وجوب مقدماته «فعلا كما يأتي إنما هو اثر اطلاق وجوبه» وكون وجوبه غير مشروط بشيء لأن الشرط في المعلق يعود للواجب لا للوجوب ، ووجوب المقدمات يتبع اطلاق

٩٢

فافهم (١).

ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق ، وهو أن الطلب والايجاب ، إنما يكون بازاء الارادة المحركة للعضلات نحو المراد ، فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد ، فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به ، فكيف يتعلق بأمر استقبالي؟ فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر (٢).

______________________________________________________

الوجوب «وحاليته» ولا ربط لوجوب المقدمة بالواجب حتى يكون وجوبها في المنجز غير وجوبها في المعلق ، لأن الفرق في المعلق والمنجز انما هو في الواجب لا في الوجوب.

(١) ولعله أشار بقوله : «فافهم» إلى ان الفصول انما صح له التقسيم باعتبار كون المعلق يشترك مع الواجب المشروط في كون زمان الواجب فيهما متأخرا ، ويفترق المعلّق عن المشروط ان زمان الوجوب فيه متقدم ، ووجوب المقدمة منوط بتقدم زمان الوجوب ، والّا لو كان الوجوب متأخرا كزمان الواجب كما هو في المشروط لما وجبت مقدماته.

(٢) لقد أشكل على الواجب المعلّق باشكالات : منها هذا الذي أشار اليه المنسوب إلى صاحب تشريح الاصول (١).

وحاصله : ان الارادة التشريعية هي بازاء الارادة التكوينية ، والارادة التكوينية ـ كما عرفوها ـ : هي الجزء الأخير من العلة التي تتحرك بها العضلات نحو الفعل المراد ، فلا يعقل انفكاك زمان وجود المراد عن زمان وجود الارادة وإلّا لزم تخلف المعلول عن علته التامة ، لأن المفروض ان الارادة هي الجزء الاخير من العلة التامة فلا بد من كون العلة تامة ، ومع تمام العلة ، لا يعقل تخلف المعلول عنها.

__________________

(١) تشريح الاصول : ص ١٩١ حجري.

٩٣

قلت : فيه أن الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي ، كما تتعلق بأمر حالي ، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل ، ضرورة أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المئونة ليس إلا لاجل تعلق إرادته به ، وكونه مريدا له قاصدا إياه ، لا يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك (١) ولعل الذي أوقعه في الغلط ما

______________________________________________________

والفرق بين الارادة التكوينية والتشريعية هي ان الاولى هي ارادة الفعل للفاعل نفسه : بان يريد فيفعل ، والثانية هي ارادة الفعل من الغير ، فكما لا يمكن تخلف المراد عن الارادة التكوينية زمانا فكذلك لا يمكن تخلف المراد التشريعي عن الارادة التشريعية زمانا ، فكيف يعقل ان يكون الوجوب الذي هو الارادة التشريعية والطلب من الغير متحققا في زمان لا يكون المطلوب فيه والمراد معقول التحقق؟ لوضوح اشتراط حصوله بزمان متأخر بحيث لو كان المكلف في تمام الانقياد والطاعة لا يعقل ان يتحقق منه الامتثال ، والمفروض ان الارادة التشريعية والطلب والبعث بازاء الارادة التكوينية وبعث الشخص نفسه إلى الفعل بحيث لو حلت محلها لعملت عملها ، فعلى هذا لا يعقل ان يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا ولذا قال : «فكما لا يكاد تكون الارادة منفكة عن المراد» : أي إذا تمّ عدم معقولية انفكاك الارادة التكوينية عن المراد التكويني «فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به» لأن الايجاب هو الارادة التشريعية التي هي بمنزلة الارادة التكوينية «فكيف يتعلق بأمر استقبالي».

(١) توضيحه : ان الارادة ليست هي إلّا الشوق المؤكد الذي يبعث المريد على تحصيل متعلق ارادته ، ودون هذه المرتبة لا يسمى بالارادة ، فما لم يبلغ الشوق إلى حد يكون باعثا لصاحبه على تحصيل ما تعلقت به ارادته لا يسمى بالارادة ، لأن الارادة هي الشوق المؤثر بالفعل ، والشوق غير الباعث على تحصيل المراد ليس مؤثرا بالفعل فليس هو بارادة لعدم بلوغه حد التأثير.

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا شبهة ـ وجدانا ـ في ان الشوق الذي ينبعث منه تحريك العضلات إلى مقدمات المراد قد بلغ حد الارادة ، لوضوح تأثيره في تحصيل المراد.

والبرهان على بلوغه لحد الارادة ان ارادة المقدمات معلولة لارادة ذي المقدمات فما لم تكن هناك ارادة لذي المقدمة لا تنبعث منها ارادة المقدمة وبالوجدان انه ربما يكون الزمان الذي يمكن فيه حصول المراد لا يحصل إلّا بعد ازمنة متعددة تكون ظروفا للمقدمات التي يتوقف عليها حصوله.

فاتضح مما ذكرنا : ان الارادة المتعلقة بالمراد موجودة قبل الزمان الذي يمكن فيه حصول المراد ، وهو الزمان الذي يكون فيه متحركا نحو تحصيل المقدمات التي لا يمكن ان يحصل المراد الّا بعد تحققها وتحصيلها. واذا تم البرهان على تحقق الارادة في وقت لا يمكن فيه حصول المراد لتوقفه على مقدماته ـ اتضح ان الارادة كما تتعلق بأمر فعلي حالي تتعلق ـ أيضا ـ بأمر استقبالي.

وبعبارة اخرى : ان الارادة ليست هي الّا الشوق التام في كونه سببا للمراد ، وبحيث لا نقصان في ذات كونه شوقا للمراد.

تارة : يكون المراد لا مقدمات له فيحصل بمجرد بلوغ الشوق إلى ذلك الحد.

واخرى : يكون له مقدمات فلا يعقل حصوله الّا بعد مقدماته ولكن لا نقصان في ذات الشوق المتعلق بالمراد ، لوضوح انه بعد حصول المقدمات لا يترقى الشوق المتعلق بالمراد من حد الضعف إلى القوة ، بل هو على ما هو عليه قبل تحقق جميع المقدمات ، ولو لم يكن بالغا إلى حد التمام في الشوقية لما انبعثت منه ارادة تحصيل المقدمات ، فالشوق المتعلق بما له مقدمات تام في سببيته وانما لم يتحقق المراد لوجود المانع وهو توقفه على المقدمات ، أمّا ذات السبب هو الشوق المتعلق بالمراد فلا نقصان فيه.

وقد اتضح مما ذكرنا وجه قوله : «ان الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلق بأمر حالي» ، وقد أشار إلى البرهان الذي ذكرناه بقوله : «ليس إلّا لأجل

٩٥

قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات نحو المراد ، وتوهم أن تحريكها نحو المتأخر مما لا يكاد ، وقد غفل عن أن كونه محركا نحوه يختلف حسب اختلافه ، في كونه مما لا مئونة له كحركة نفس العضلات ، أو مما له مئونة ومقدمات قليلة أو كثيرة ، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له ، والجامع أن يكون نحو المقصود (١) ، بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الارادة

______________________________________________________

تعلق إرادته» : أي ان تحمل المشاق في تهيئة المقدمات وتحصيلها ليس الّا لأجل تعلق ارادته به : أي بذي المقدمة ، لأنه من إرادته لذي المقدمة تنشأ ارادة المقدمات وتحصيلها ، ففي زمان إرادة المقدمات التي هي المعلول لارادة ذي المقدمة لا بد وان تكون العلة التي هي ارادة ذي المقدمة موجودة لعدم إمكان تحقق المعلول في زمان ولا تكون العلة متحققة في ذلك الزمان ، فلا بد في ذلك الزمان وهو زمان المقدمات من تحقق «كونه مريدا له» : أي مريدا لذي المقدمة «قاصدا اياه» : أي قاصدا لذي المقدمة ، ولو لا تحقق كونه مريدا لذي المقدمة وتحقق قصده التام له الذي لا نقصان فيه لما تحقق له قصد المقدمات وتحمل المشاق في المقدمات وانه «لا يكاد يحمله على التحمل» : أي على تحمل مشاق المقدمات «الا ذلك» : أي إلّا قصده وارادته التامة لذي المقدمة.

(١) وحاصله بيان احتمال السبب لهذا القائل ـ بعدم امكان تعلق الارادة بأمر استقبالي ـ : هو انه قد سمع ان القوم يعرفون الارادة بانها الشوق المؤكد المحرك للعضلات ، وتوهم ان مرادهم هو ان الارادة البالغة لحد السببية التامة كونها تحرك العضلات نحو المراد الاصلي : أي المراد الذي تعلّقت به اولا وهو ذو المقدمة ، فما لم يكن بحيث تتحرك العضلات اليه لا يكون الشوق المتعلق به ارادة ، فالشوق انما يكون ارادة حيث يكون زمان المراد حاليا ، وأما اذا كان زمانه استقباليا فلا يعقل ان تتحرك

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

العضلات اليه ، ولذا ذهب إلى عدم امكان تعلق الارادة بأمر استقبالي ، وعليه تبيّن محالية الواجب المعلق ، لأن الارادة التشريعية بإزاء الارادة التكوينية.

وهذا توهم باطل بعد ان عرفت ان الشوق المتعلق بالمراد الاستقبالي لا نقصان في ذاته ، ولو كان ناقصا لما نشأت منه ارادة المقدمات.

ومراد القوم في تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات هو كون الشوق بالغا في ذاته إلى حد التمامية بحيث انه لو كان المراد مما ليس له مقدمات لتحركت العضلات اليه ، وان كان مما له مقدمات فتتحرك العضلات لمقدماته ، فمرادهم من تحريك العضلات الأعم من كونها لنفس المراد أو لمقدماته اولا ، ثم اليه لعدم امكان حصوله الّا بعد تحقق مقدماته ، والذي يدلّك على كون الشوق المؤكد التام هو المحرك للعضلات بنحو اعم ـ من كونه لنفس المراد أو لمقدماته ـ ان نفس تحريك العضلات ربما يكون هو المراد الاصلي ، كما لو كان الغرض الاصلي قائما بنفس تحريك العضلات كما في الرياضة البدنية ، فإن نفس تحريك العضلات هو المطلوب بالأصالة ، وربما لا تكون حركة العضلات مطلوبة بالاصالة بل كانت مطلوبة لأن يتعقبها تحقق المراد المتعلق للغرض بالاصالة ، كما لو كان المراد بالاصالة الوصول إلى مكان فإن حركة العضلات تكون مطلوبة بالتبع لأن طلبها انما هو لكونها مقدمة للوصول ، ولا إشكال ان الشوق المتعلق بالوصول إلى مكان الذي كانت حركة العضلات مقدمة له هو كالشوق المتعلق بنفس حركة العضلات ، وعلى كل منها يصدق انه شوق مؤكد محرك للعضلات.

فتبيّن : ان مرادهم في التعريف بالمحرك للعضلات هو الاعم من كونه محركا لذات المراد أو لمقدماته ، اذ لا فرق بين مقدميّة نفس تحريك العضلات ، وبين غيره من المقدمات التي يتوقف عليها تحقق المراد بالاصالة ، ولذا قال : «والجامع ان يكون نحو المقصود» : أي ان مرادهم من تحريك العضلات هو الأمر الجامع بين حركة العضلات لنفس المراد أو حركة العضلات لمقدماته ، فالجامع لهما ان يكون الشوق

٩٧

بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الارادة ، وإن لم يكن هناك فعلا تحريك لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مئونة أو تمهيد مقدمة ، ضرورة أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي ، محتاج إلى ذلك (١) هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث ،

______________________________________________________

بالغا إلى حد يحرك العضلات نحو المراد سواء كان اليه بالذات أو تحريكا إلى مقدماته ، لأن التحريك إلى مقدماته انما نشأ من الشوق المؤكد التام المتعلق به.

(١) حاصله : اقامة دليل آخر على ان مراد القوم من الشوق المحرك للعضلات هو المرتبة التي لا نقصان فيها من حيث كونها شوقا ، بحيث يحرك العضلات لو لا المانع ولو لم يحرك العضلات فعلا لا إلى المطلوب بالذات ولا إلى مقدماته ، وذلك فيما إذا كان المطلوب امرا استقباليا ولم يكن له مقدمات فهناك مانع من تحريك العضلات اليه ، لانه امر استقبالي وليس له مقدمات حتى يكون تحريك للعضلات اليها ، ولكن الشوق في حد ذاته كان شوقا لا نقصان فيه ، فمثل هذا الشوق المؤكد هو الارادة عندهم وان لم يحرك العضلات اصلا.

والدليل على كونه هو ارادة وان لم يحرك هو مقايسة هذا الشوق لو كان متعلقا بشيء محبوب جدا للمريد ، فانه بالوجدان إذا قيس إلى شوق آخر متعلق بشيء آخر ، وكان هذا الآخر اقل اهمية ومحبوبية عند المريد من الشوق الاول ولكنه ما كان هناك مانع له من تحريك العضلات اليه ، أو كان الشوق الثاني ـ الذي هو اقل في حد الشوقية من الشوق الاول ـ متعلقا بأمر استقبالي ولكنه كان محتاجا إلى تهيئة مقدمات ، فإن الشوق الثاني يحرك العضلات إما اليه أو إلى مقدماته مع انه اقل في حد ذات الشوقية من الشوق الاول. فكيف يعقل ان يكون الشوق الثاني ارادة مع انه اقل في حد الشوقية من الاول ولا يكون الشوق الاول ارادة؟ والى هذا أشار بقوله : «ضرورة ان شوقه اليه ربما يكون اشد» بان يكون متعلق هذا الشوق الاول له اهمية

٩٨

ضرورة أن البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به ، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة ، وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره ، فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ، ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه ، والاطناب إنما هو لاجل رفع المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب (١).

______________________________________________________

جدا عند المريد ، فلا بد وان يكون اشد «من الشوق المحرك فعلا نحو أمر حالي» فيما كان امرا حاليا لا مانع من تحريك العضلات اليه ، أو كان متعلقه امرا استقباليا ولكن كان له مقدمات تحتاج إلى تهيئة فانه يتحرك نحو مقدماته ، ولذا قال : «أو استقبالي محتاج إلى ذلك» : أي يحتاج إلى مقدمات فيكون الشوق محركا ـ أيضا ـ ولكن إلى المقدمات.

وعلى كل فهذا الشوق الذي هو اقل في الشوقية من الاول لا يعقل ان يكون ارادة لكونه محركا للعضلات ، ولا يكون الشوق الاول ـ مع انه اتم منه في الشوقية ـ ارادة لكونه لا يحرك العضلات ، إذ لا يعقل ان يكون الناقص ارادة ولا يكون التام ارادة ، والكمال في حد الذات الذي هو العلة في تحريك العضلات اولى بان يكون موجبا لصدق الارادة من تحريك العضلات الذي هو معلول ولازم للشوق ، فيكون المقياس في صدق الارادة تحريك العضلات ، ولا يكون المقياس في صدقها تمامية ذات الشوق وكماله ، كما عرفت في ان الشوق الاول المتعلق بما له الاهمية أتم من الشوق الثاني المتعلق بما أهميته اقل منه.

(١) لا يخفى ان المستشكل على الواجب المعلق قال : انه كما لا يمكن الانفكاك بين الارادة التكوينية والمراد التكويني ، كذلك لا يمكن الانفكاك بين الارادة التشريعيّة والمراد التشريعي ، فلا يعقل ان يكون البعث حاليا والمبعوث اليه امرا استقباليا.

٩٩

وربما أشكل على المعلق أيضا ، بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث ، مع أنها من الشرائط العامة (١).

______________________________________________________

فاورد عليه المصنف بقوله : «هذا» وحاصله : لا بد من الانفكاك بين الارادة التشريعية والمراد التشريعي سواء امكن الانفكاك بين الارادة التكوينية والمراد التكويني ـ كما مرّ البرهان عليه ـ أو لم يمكن الانفكاك كما يدعيه المستشكل في الارادة التكوينية : بتوهم انها الجزء الأخير من العلّة ، لأن الارادة التشريعية ليست هي الجزء الاخير من العلة قطعا ، فإن البعث المتعلق بشيء انما هو بداعي جعل الداعي للمكلف إلى الانبعاث ، ولا يعقل ان يكون هذا البعث داعيا للمكلف إلى انبعاثه عنه الا بعد تصور المكلف له والتامل فيما يترتب عليه من اطاعة المولى فحينئذ ينبعث عنه ، فالأمر المنجز المتعلق بشيء حالي لا مقدمات له اصلا لا بد وان يتاخر زمان الانبعاث عنه عن زمانه الذي هو زمان البعث ولو بزمان قصير.

ومن الواضح انه لا فرق بين الطول والقصر في زمان الانفكاك ، فاذا كان الانفكاك لازما ولو زمانا قصيرا في الامر المنجز الذي لا حالة منتظرة للانبعاث عنه ، فكيف يكون الانفكاك في الزمان الطويل كما في الواجب المعلق مانعا؟ ، وان من الواضح : انه إذا كان الانفكاك بين البعث والانبعاث مستحيلا فلا يعقل ان يقع الانفكاك بينهما لا في زمان قصير ولا طويل ، وقد عرفت أنه لا بد من الانفكاك بزمان ما ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة».

(١) هذا من جملة الاشكالات التي أوردت على الواجب المعلق.

وحاصله انه لا إشكال في ان كون البعث بعثا فعليا مشروطا بالشرائط العامة ، التي من جملتها كون المكلف قادرا على اتيان متعلق التكليف ، واذا لم يكن قادرا فلا يعقل ان يكون البعث بالنسبة اليه فعليا.

ولا ريب انه إذا كان زمان الاتيان بمتعلق التكليف استقباليا لا قدرة للمكلف فعلا على اتيان متعلق التكليف ، واذا لم يكن للمكلف قدرة بالفعل على اتيان متعلق

١٠٠