بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وظاهر كلتا الشرطيتين واضح الفساد.

اما الاولى : فلوضوح عدم الترتب والملازمة بين المقدم فيها والتالي ، لانه لا تلازم بين عدم وجوب المقدمة وبين كونها مباحة شرعا ، لجواز ان لا تكون محكومة بحكم من الشارع اصلا بعد حكم العقل بلزوم اتيان المقدمة ، وقولهم : ان لكل واقعة حكما انما هو في غير مورد حكم العقل في الواقعة ، فإن العقل إذا حكم بلزوم اتيان المقدمة لا يبقى مجال لحكم الشارع.

وبعبارة اخرى : ان لكل واقعة حكما انما هو إذا لم يمنع مانع عن الحكم كما في المتلازمين في الوجود ، فانه إذا كان حكم احدهما هو الوجوب أو الحرمة فإن الملازم الآخر لا ينبغي ان يكون محكوما بحكم آخر الزامي مناف لحكم الملازم للزوم التكليف بما لا يطاق ، ولا غير الزامي للغويته بعد ان كان اما لازم الترك اذا كان حكم ملازمه الحرمة أو لازم الاتيان اذا كان حكمه الوجوب ، ولا يكون محكوما بحكم ملازمه لعدم ملاكه فيه.

وعلى كل فلا ملازمة بين عدم وجوب المقدمة وبين كونها محكومة بالاباحة شرعا.

واما الشرطية الثانية : وهي انه وحين الحكم باباحة المقدمة فاما ان يبقى الواجب النفسي على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وان لم يبق على وجوبه لزم خروج الواجب عن كونه واجبا فانها أيضا واضحة الفساد.

فإن فيه ، أولا : ان حكم الشارع بإباحة المقدمة ليس الزاما منه بترك المقدمة ، بل معنى حكمه بالاباحة لها انه لا الزام منه لفعل المقدمة ولا بتركها ، وانه لا عقاب منه على تركها ولا ثواب في فعلها ، وحكمه كذلك لا ينافي بقاء الواجب النفسي على وجوبه ، فإن العبد غير ملزم من الشارع بالترك حتى يكون من التكليف بما لا يطاق ، والعقل يلزمه باتيان المقدمة لأن في تركها يكون ترك الواجب ويستحق العقاب على ترك الواجب لا على تركها.

٢٦١

وفيه بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى ، لا الاباحة الشرعية ، وإلا كانت الملازمة واضحة البطلان ، وإرادة الترك عما أضيف إليه الظرف ، لا نفس الجواز ، وإلا فمجرد

______________________________________________________

وثانيا : ما أشار اليه صاحب المعالم : من انه لا يعقل ان تكون القدرة على الواجب النفسي متوقفة على وجوب المقدمة ، فإن لازم ما ذكره هذا المستدل : بان بقاء الواجب النفسي على وجوبه مع كون حكم المقدمة هو الاباحة يلزم منه التكليف بما لا يطاق : أي التكليف بغير المقدور ، ولازم هذا ان تكون المقدورية على الواجب النفسي متوقفة على ايجاب المقدمة.

ومن الواضح أيضا : ان وجوب الواجب النفسي متوقفا على كونه مقدورا ، لأن القدرة من الشرائط العامة لسائر التكاليف ، فوجوب الواجب النفسي يتوقف على مقدورية الواجب النفسي.

ولا اشكال ـ أيضا ـ في ان العلة في وجوب المقدمة هو وجوب الواجب النفسي ، لأن وجوبها غيري يترشح من الواجب النفسي ، فاذا كان مقدورية الواجب النفسي تتوقف على وجوب مقدمته يلزم الدور ، لوضوح توقف وجوب الواجب النفسي ، على مقدورية الواجب النفسي ومقدوريته تتوقف على وجوب مقدمته ، ووجوب مقدمته تتوقف على وجوب الواجب النفسي ، فيلزم توقف وجوب الواجب النفسي على نفسه ، لانه يتوقف على المقدورية المتوقفة على وجوب المقدمة المتوقف على نفس وجوب الواجب النفسي ، والى هذا أشار صاحب المعالم (١) بقوله : «وتأثير الايجاب في القدرة غير معقول».

فاتضح مما ذكرنا : ان بقاء هذا الاستدلال على ظاهره واضح فساده بحيث لا صورة له ، فلذا التزم المصنف باصلاحه بان يكون له صورة قابلة لتوهم المتوهم.

__________________

(١) معالم الدين : ص ٢٤٦.

٢٦٢

الجواز بدون الترك ، لا يكاد يتوهم معه صدق القضية الشرطية الثانية ما لا يخفى ، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين ، ولا يلزم أحد المحذورين ، فإنه وإن لم يبق له وجوب معه ، إلا أنه كان ذلك بالعصيان ، لكونه متمكنا من الاطاعة والاتيان ، وقد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره ، مع حكم العقل بلزوم إتيانها ، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب (١).

______________________________________________________

(١) وحاصل ما شار اليه من اصلاحه : هو ان يراد من الجواز في الشرطية الاولى هو عدم المنع من الترك لا الاباحة الشرعية ويراد من المضاف اليه لفظ حين ـ الذي هو الظرف ـ هو الترك لا عدم المنع ، وبعد هذا الاصلاح يكون لهذا الاستدلال صورة.

فإن المتحصل منه على هذا هو انه لو لم تجب المقدمة لما منع من تركها ، واذا لم يكن المكلف ممنوعا عن تركها فله ان يتركها ، وحين تركها فاما ان يكون الواجب باقيا على وجوبه فيلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب عن كونه واجبا.

وبعد اصلاحه فيه ما لا يخفى : لانه حين تركها لا مانع من بقاء الواجب على وجوبه ولا يلزم اما التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب ، لانه حال ترك المقدمة اما ان يكون بعد مجال لاتيانها فلا مانع من بقاء وجوب الواجب لانه يستطيع فعل المقدمة وفعل الواجب بعدها ، واذا لم يبق مجال للواجب بعد ترك المقدمة فإن الواجب يسقط لتحقق عصيانه باختياره لترك مقدمته باختياره.

والحاصل : انه إذا لم تجب المقدمة شرعا فلا يمنع الشارع من تركها ، وليس لازم عدم المنع منه ان لا يبقى الواجب على وجوبه أو التكليف بما لا يطاق ، لأن سبب عدم منعه عن تركها انه ليس فيها مناط الوجوب الشرعي بعد حكم العقل بلزوم اتيانها ، وليس لازم عدم المنع من الشارع عن شيء الا عدم العقاب على الترك ، وهذا اللازم غير باطل ، فإن التارك للمقدمة لا يعاقب على تركها ، وانما يعاقب

٢٦٣

نعم لو كان المراد من الجواز جواز الترك شرعا وعقلا ، يلزم أحد المحذورين ، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الاولى ممنوعة ، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا ، لامكان أن

______________________________________________________

على ترك الواجب إذا لزم من تركها تركه وهو عقاب على ترك الواجب بالاختيار ، اذ يمكنه ان يطيع ويفعل المقدمة ويفعل الواجب.

وعلى كل فقد اتضح : انه إذا لم يمنع الشارع عن ترك المقدمة لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، اذ ليس معنى عدم المنع عن ترك المقدمة لزوم تركها ، ولا يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا. وقد أشار إلى لزوم اصلاح الاستدلال بارادة عدم المنع من الجواز بقوله : «بارادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى» لأن الاباحة الشرعية لا تلازم عدم الوجوب ، فاذا كان المراد لزوم الاباحة الشرعية إذا لم تجب المقدمة فهي ملازمة واضحة الفساد ، ولذا قال : «لا الاباحة الشرعية وإلّا كانت الملازمة واضحة البطلان» وأشار إلى لزوم اصلاح الشرطية الثانية بقوله : «وارادة الترك عما اضيف اليه الظرف» وانه لا بد وان يراد من قوله : حينئذ ـ انه حين الترك لا حين الجواز ، لانه من الواضح عدم الملازمة بين عدم المنع الشرعي والتكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن وجوبه ، ولذا قال : «لا نفس الجواز» إلى آخر كلامه. وقوله : «ما لا يخفى» هو المبتدأ المتأخر للخبر المتقدم الذي هو قوله : فيه ، وأشار إلى الجواب بعد الاصلاح بقوله : «فإن الترك بمجرد عدم المنع» إلى آخره الذي محصله ما عرفت : من ان الترك للمقدمة لعدم منع الشارع عنه لا يقتضي لزوم التكليف بما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا ، ولذا قال : «لا يوجب صدق احدى الشرطيتين» فإن الشرطية الثانية تنحل إلى شرطيتين ، لأن الشرطية التي لها تاليان على سبيل منع الخلو تنحل إلى شرطيتين لا يخلو الحال عن إحداهما ، وقد أشار إلى انه لا يلزم احد المحذورين بصرف عدم المنع من الترك بقوله : «ولا يلزم احد المحذورين إلى آخر كلامه.

٢٦٤

لا يكون محكوما بحكم شرعا ، وإن كان واجبا عقلا إرشادا ، وهذا واضح (١).

______________________________________________________

(١) قد ظهر ـ مما مر ـ انه إذا اريد من الجواز في الشرطية الاولى عدم المنع فالشرطية صحيحة ، ولا مانع من الالتزام بها إلّا ان الخلل في الشرطية الثانية ، ولكن إذا اريد من الجواز في الشرطية الاولى هو الجواز شرعا وعقلا فإن الشرطية الثانية تكون صحيحة ، لانه مع جواز الترك للمقدمة شرعا وعقلا لا يعقل ان يبقى الواجب على وجوبه ، ومع بقائه على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، لأن الواجب النفسي مراد لزوما لانه واجب فيجب سد ثغور عدمه من كل جهة ، وانما جاز للشارع ان لا يوجب سد عدمه من ناحية مقدمته اتكالا على حكم العقل بلزوم سده ، واذا فرض ان العقل لا يحكم بلزوم سده فحكم الشارع بلزوم اتيانه وترخيصه بعدم لزوم سد عدمه متنافيان ، فمراده من لزوم احد المحذورين هو انه يلزم التنافي بين الوجوب المطلق والترخيص الشرعي وحكم العقل بالترخيص أيضا.

وبعبارة اخرى : انه لازم الترخيص العقلي والشرعي في ترك المقدمة انه لا عقاب على ترك الواجب المستند إلى ترك المقدمة ، ولازم هذا عدم الوجوب النفسي فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، وهو مراده من لزوم احد المحذورين دون التكليف بما لا يطاق ، لبداهة ان الحكم بالترخيص لترك المقدمة لا يرفع القدرة فيلزم التكليف بما لا يطاق.

وعلى كل فقد تبين صحة الشرطية الثانية على فرض كون المراد بالجواز هو الجواز العقلي والشرعي ، إلّا ان الشرطية الاولى ـ حينئذ ـ لا تكون صحيحة لعدم الملازمة بين عدم وجوب المقدمة وجوازها شرعا وعقلا ، لجواز ان تكون المقدمة المرفوع وجوبها عند الشارع ان تكون واجبة بحكم العقل ولا يكون لها حكم اصلا عند الشرع لاكتفائه بحكم العقل بلزوم اتيانها ، وقد أشار إلى منع الملازمة في

٢٦٥

وأما التفصيل بين السبب وغيره ، فقد استدل على وجوب السبب بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور ، والمقدور لا يكون إلا هو السبب ، وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا ، ولا يكون من أفعال المكلف وحركاته أو سكناته ، فلا بد من صرف الامر المتوجه إليه عنه إلى سببه.

ولا يخفى ما فيه ، من أنه ليس بدليل على التفصيل ، بل على أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب ، مع وضوح فساده ، ضرورة أن المسبب مقدور للمكلف ، وهو متمكن عنه بواسطة السبب ، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة ، كانت بلا واسطة أو معها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

الشرطية الاولى إذا كان المراد من الجواز فيها الجواز شرعا وعقلا بقوله : «ممنوعة بداهة انه لو لم يجب شرعا لا يلزم ان يكون جائزا شرعا وعقلا لامكان ...» إلى آخره.

(١) قد ظهر ـ مما مر ـ ان المقدمة بناء على كون المناط في وجوبها هو حصول ما لولاه لما امكن حصوله ، لازمه ان المقدمة واجبة بجميع اجزائها سببا كان أو شرطا أو معدا ، وان كان المناط هو ترتب الواجب عليها فالمقدمة الواجبة هي العلة التامة بوجوب واحد ، بخلاف الاول فإن لكل جزء منها وجوبا على حدة ، وهذا قول ثالث وهو التفصيل بين السبب وغيره.

واستدل له : بان القدرة شرط في التكاليف والقدرة هي القوة المنبثة في العضلات التي تحركها الارادة ، والعضلات انما تتحرك إلى السبب ، واما المسبب فلا تصل اليه القوة المنبثة في العضلات.

وهذا الاستدلال غريب من مدعي التفصيل ، لانه اولا : ان القدرة العضلانية كما انها موجودة بالنسبة إلى السبب كذلك موجودة بالنسبة إلى جميع أجزاء العلة من الشرط والمعد ، فلا تكون نتيجته وجوب خصوص السبب. واظن ان الغرض من هذا التفصيل هو وجوب خصوص المقدمة التوليدية دون المقدمة الاختيارية ، فإن

٢٦٦

وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ، فقد استدل على الوجوب في الاول بأنه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا ، حيث أنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة.

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي أنه لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة الواجب ، ولو كانت مقدميته

______________________________________________________

المقدمة الاختيارية المسبب فيها مباشري تتحرك العضلات اليه ، والاستدلال يدل على ان القدرة مناط التكليف ، ففي الفعل الارادي تتحرك العضلات نحو المسبب فيصح التكليف به ولا يتعلق بمقدمته وجوب وان كانت مقدورة لارشاد العقل اليها ، وفي الامور التوليدية لا يتعلق التكليف بالمسبب لانه غير مقدور ، فالمتعلق للتكليف هو السبب دون المسبب.

ولا يخفى ان لازم ذلك كون المقدمة السببية التوليدية وجوبها نفسي لا مقدمي غيري.

وعلى كل فقد اورد عليه المصنف بايرادين :

الأول : ان لازم هذا الاستدلال كون التكليف المتعلق بالمقدمة نفسيا لا غيريا ، فلا يكون هذا تفصيلا في التكليف الغيري المقدمي بين السبب وغيره ، والى هذا أشار بقوله : «وفيه من انه ليس بدليل على التفصيل» إلى آخره.

الثاني : ان القدرة التي هي شرط في التكاليف اعم من القدرة بلا واسطة وهي الموجودة في المسببات المباشرية والقدرة مع الواسطة وهي الموجودة في التكاليف بالمسببات التوليدية ، فالمسبب التوليدي مقدور عليه بالقدرة على سببه ، ولا يعتبر في صحة تعلق التكليف بشيء الا كونه مقدورا عليه ولو بالواسطة والى هذا أشار بقوله : «مع وضوح فساده ضرورة ان المسبب مقدور للمكلف» إلى آخر كلامه. ولا يخفى ان هذا الجواب الثاني يصلح جوابا حتى على ما احتملناه : من ان مراد المفصل هو وجوب خصوص المقدمات التوليدية كما لا يخفى.

٢٦٧

متوقفة على تعلقه بها لدار ، والشرطية وإن كانت منتزعة عن التكليف ، إلا أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط ، لا عن الغيري (١) ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه ليس غرض هذا المفصل هو وجوب خصوص الشرط الاصطلاحي ، بل مراده من الشرط ما يتوقف عليه الواجب.

وحاصل هذا التفصيل : ان ما يتوقف عليه الواجب ، تارة يكون مما يعرفه العقل والعادة ومثل هذا لا يكون واجبا لارشاد العقل والعرف اليه ، واما الشرط الذي لا يدركه العقل ولا يعرفه العرف وانما دل على اشتراطه وجوبه المستفاد من الشارع فهذا بالخصوص هو الواجب ، لانه لو لا إيجاب الشارع له لما كان شرطا ، ولذا يقولون في أمثال هذه الشروط ان الشرطية منتزعة عن التكليف. وقد اجاب عنه المصنف بجوابين :

الاول : ما مر منه في اول المبحث في تقسيم المقدمة إلى شرعية وعقلية بان المقدمة الشرعية ترجع إلى العقلية اذ لو لا دخالتها في ترتب الغرض على الواجب لما كانت شرطا ، غايته ان هذه الدخالة حيث لا يهتدي اليها العقل والعرف أبانها الشارع المطلع على الواقعيات. فاذا كان المناط في الوجوب المقدمي هو دخالته في ترتب الغرض فلا فرق بين الشرط العقلي والشرعي والى هذا أشار بقوله : «وفيه مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي».

والثاني : انه قد عرفت ان المراد من الشرط والشرطية في المقام هو المقدمة والمقدمية ، فاذا كانت مقدمية الشرط الشرعي ماخوذة ومنتزعة عن وجوبه يلزم الدور ، لأن الوجوب المقدمي انما يترشح من الواجب النفسي على ما هو مقدمة وشرط لتوقف الواجب النفسي عليه ، فترشح الوجوب إلى المقدمة يتوقف على كونها مقدمة ، واذا كانت شرطية المقدمة متوقفة على الوجوب المقدمي لزم الدور ، لأن الوجوب يتوقف على كونها مقدمة ، وكونها مقدمة شرطية تتوقف على الوجوب

٢٦٨

فافهم (١).

تتمة : لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب ، فتكون مستحبة لو قيل بالملازمة وأما مقدمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة ، إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا ، كما كان متمكنا قبله ، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه ، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما ، نعم ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب ، لا محالة يكون مطلوب الترك ، ويترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه

______________________________________________________

كما زعمه المستدل : من كون المقدمية والشرطية انما تنتزع من الوجوب المقدمي فهو دور واضح ، واليه أشار بقوله : «انه لا يكاد يتعلق الامر الغيري» إلى آخره.

ثم لا يخفى ان قولهم : ان الشرطية منتزعة عن التكليف ، ليس غرضهم انها تنتزع عن التكليف المقدمي ، بل مرادهم انها منتزعة عن التكليف النفسي المتعلق بشيء قد اخذ فيه شيء يتوقف الغرض من الواجب النفسي عليه ، كقوله : صل عن طهارة أو تستر أو استقبال ، والى هذا أشار بقوله : «والشرطية وان كانت منتزعة عن التكليف ...» إلى آخره.

(١) لعله أشار إلى ان غرض المفصّل من قوله : لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا ليس توقف مقدّميته في مرحلة الثبوت والواقع على وجوبه ليلزم الدور ، بل غرضه ان الشرطية في مقام الاثبات تتوقف على الوجوب ولا مانع منه ، لأن الوجوب انما يتوقف على ما هو مقدمة ودخيل واقعا ، والمتوقف على الوجوب هو الشرطية في مقام الاثبات ، اذ لو لا ايجابه شرعا لما انتزع منه في مقام الخطاب انه شرطا للواجب ، فالوجوب يتوقف على الشرطية الثبوتية ، وتتوقف على الوجوب الشرطية الاثباتية ، واذا اختلف الموقوف والموقوف عليه فلا دور.

٢٦٩

المقدمة ، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته (١).

______________________________________________________

(١) المقصود من هذه التتمة هو الفرق بين مقدمة الواجب والمستحب ، ومقدمة الحرام والمكروه ـ بناء على القول بالملازمة ـ فانه حيث ان الوجود إذا كان مطلوبا يحتاج إلى سد انحاء عدمه من كل جهة وكل جهة من جهات ما له دخالة في عدمه يتوقف وجوده على ايجادها ، وحيث كان وجوده مطلوبا فتولد من ارادته ارادات لجميع ما يتوقف عليه وجوده ، فإن المطلوب ان كان واجبا كانت مقدماته جميعا واجبة ، وان كان مستحبا كانت مقدماته جميعا مستحبة أيضا.

واما الحرام والمكروه فحيث ان وجوده مبغوض والمطلوب عدمه ، وعدم الشيء يتحقق بترك احد مقدماته ولا يتوقف تركه على ترك جميع مقدماته ، فلذا لا تكون جميع تروك مقدماته مطلوبة ، اذ لا يلازم وجودها وعدم تركها وجود المبغوض ، وحيث ان وجوده يحصل بالمقدمة الاخيرة وبتركها يتحقق تركه فلذا تتعين للنهي وتكون هي المنهي عنها فقط. إلّا ان الافعال حيث انها تنقسم إلى اختيارية وهي التي تكون الجزء الاخير من العلة فيها هي الارادة ، والارادة لا يعقل ان تكون متعلقة للامر والنهي كما هو رأي المشهور في ان الشرط في التكاليف ان تكون اختيارية ، واما الاختيار بنفسه وهو الارادة ليس باختياري وإلّا لزم التسلسل ـ كما مر غير مرة ـ فلذا كانت مقدمات الفعل الاختياري سواء الحرام أو المكروه كلها ليست منهيا عنها فلا تكون مكروهة ولا محرمة ، لأن ما عدا الارادة فيها قد عرفت انه لا وجه لارادة تركها فلا وجه لحرمتها أو كراهتها ، اذ لا يحصل بوجودها وجود المبغوض المحرّم أو المكروه ، والمقدمة الاخيرة فيها هي الارادة والارادة لا تكون متعلقة لامر ولا نهي ، وتنحصر مقدمة الحرام أو المكروه المنهي عنهما بالنهي المقدمي في خصوص المقدمة الاخيرة في الاسباب التوليدية ، لأن المقدمة الاخيرة فيها يحصل بوجودها وجود المبغوض ومن عدمها يستمر عدم المبغوض.

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

فالمتحصل من جميع ما ذكرنا : ان المقدمة المنهي عنها في الحرام والمكروه هو خصوص المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية ، وقد أشار الى ان مقدمة المستحب كمقدمة الواجب بقوله : «لا شبهة في ان مقدمة المستحب كمقدمة الواجب» إلى آخر كلامه. والسبب ما عرفت : من انه بناء على الملازمة تترشح من ارادة الشيء ارادة لكل واحدة من مقدماته ، فمن الواجب يترشح الوجوب ومن المستحب يترشح الاستحباب لكل ما يتوقف عليه الوجود المطلوب ، وقد أشار إلى انه في الحرام والمكروه لا يترشح من النهي ـ منهما ـ نهي ما عدا المقدمة الاخيرة في خصوص الافعال التوليدية بقوله : «واما مقدمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة» وظاهر هذا هو عدم النهي عما هو مقدمة للحرام أو المكروه مطلقا سواء الاخيرة أو غيرها. إلّا انه سيصرح بان خصوص المقدمة الاخيرة في المقدمات التوليد يتعلق بها النهي الغيري.

ثم شرع في تعليل ذلك بقوله : «اذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا» : أي ان من المقدمات ما يتمكن مع فعله من ترك الحرام والمكروه اختيارا ، وهي جميع مقدماته ما عدا المقدمة الاخيرة منها فانه مع فعلها يستطيع ترك الحرام ، فترك الحرام كما انه متحقق في حال تركها كذلك هو متحقق في حال فعلها ، فانه لو فعلها جميعا ما عدا الاخيرة منها فهو بعد متمكن من ترك الحرام اختيارا بترك المقدمة الاخيرة منها ، فهو مع فعلها كحاله قبل فعلها في كونه متمكنا من ترك الحرام اختيارا ، والى هذا أشار بقوله : «كما كان متمكنا قبله فلا دخل له اصلا في حصول ما هو مطلوب من ترك الحرام أو المكروه» : أي فلا دخل لفعل ما عدا المقدمة الاخيرة في حصول ما هو المنهي عنه ، لانه مع فعل هذه المقدمات جميعا عدا الاخيرة المكلف يستطيع من ترك المنهي عنه باختياره وذلك بتركه اختيارا للمقدمة الاخيرة ، ففعل هذه المقدمات لا دخل له بحصول المنهي عنه الذي هو الحرام. وحيث انه مع فعل هذه المقدمات ترك الحرام أو المكروه متحقق بترك المقدمة الاخيرة فلا موجب لأن يترشح

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

من طلب ترك الحرام طلب ترك هذه المقدمات : أي ما عدا الاخيرة ، ولذا قال : «فلم يترشح من طلبه» : أي من طلب ترك الحرام أو المكروه طلب ترك مقدماتهما وهي ما عدا المقدمة الاخيرة ، وقد أشار إلى توجه النهي إلى خصوص المقدمة الاخيرة بقوله : «نعم ما لم يتمكن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب الترك» وهي المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية ، فانه بعد فعلها لا يتمكن من ترك الحرام أو المكروه ، فبتركها يتحقق تركهما وبفعلها يحصل ما طلب تركه وهو الحرام أو المكروه ، فتكون هذه المقدمة بالخصوص هي المنهي عنها والمترشح لها النهي من النهي التحريمي والنهي الكراهتي ، ولذا قال : لا محالة يكون مطلوب الترك وهو ما لم يتمكن مع فعله من ترك المطلوب تركه «ويترشح من طلب تركهما» : أي الحرام أو المكروه «طلب ترك خصوص هذه المقدمة» وهي المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية.

وقد أشار إلى عدم حرمة ما عداها من المقدمات وهي جميع المقدمات المتقدمة على المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية ، وجميع المقدمات في الافعال الاختيارية سواء الاخيرة منها وغيرها لا تكون منهيا عنها ولا يترشح لها نهي غيري بقوله :

«فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته».

وتوضيحه : انه قد عرفت ان النهي الغيري انما يترشح لترك المقدمة التي يكون مع فعلها لا يبقى مجال للترك المطلوب ولا يترشح لغيرها من المقدمات ، واذا لم يكن للحرام مثل هذه المقدمة لا تكون مقدمة من مقدماته مترشحا لها النهي الغيري.

وبعبارة اخرى : ان المقدمة التي يترشح لها النهي الغيري هي المقدمة التي بتحققها يكون المنهي عنه ضروري التحقق ، واذا لم يكن للمنهي عنه مثل هذه المقدمة لا تكون مقدمة من مقدماته بحرام ، وهذا معنى قوله : «فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته» لأن المقدمة التي يترشح لها النهي من المحرم أو المكروه هي خصوص هذه المقدمة وهي المقدمة

٢٧٢

لا يقال : كيف ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها يوجد ، ضرورة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد (١).

______________________________________________________

الموصوفة بكونها بعد تحققها يكون الحرام ضروري التحقق وهذا معنى قوله لا يبقى معها اختيار تركه.

وعلى هذا تنحصر المقدمة المحرمة بالمقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية ، لأن الافعال الاختيارية وان كان لها مقدمة أخيرة بحيث إذا وجدت لا بد وان يوجد الحرام أو المكروه بعدها إلّا أن هذه المقدمة الاخيرة هي الارادة والارادة لا تكون متعلقة للامر أو النهي ، وقد أوضح هذا بقوله : لا يقال ، والجواب بقوله : فانه يقال.

(١) حاصله : ان الممكن لا يعقل ان يوجد إلّا إذا كانت له علة تامة بحيث يجب ان يوجد معها ، إذ الممكن مسلوب الضرورة من الطرفين وتأتيه الضرورة واللزوم من قبل غيره وهي علته ، ولا يجوز ان يوجد الممكن إلّا إذا كان بحيث يجب ان يوجد ، لانه إذا جاز ان يوجد مع امكان ان لا يوجد جاز ان يوجد من غير علة لأن لازم ذلك ان يترجح احد طرفيه على الآخر من دون مرجح فيكون قد حصل ترجح لاحد اطرافه من دون مرجح ، وهو معنى حصول المعلول من غير علة وتفصيله موكول إلى محله.

وعلى كل ان الممكن ما لم يجب لم يوجد وهي قضية مبرهن عليها في محلها بحيث اصبحت اليوم من المسلمات. وحيث ان الفعل التوليدي والفعل الاختياري يشتركان في الامكان فكل منهما لا يعقل ان يوجد إلّا ان يكون ضروريا ، ومعنى كون وجوده ضروريا هو ان لا يبقى مجال لتركه ، فكما ان في الافعال التوليدية مقدمة أخيرة يكون وجود الفعل عندها ضروريا ، كذلك في الافعال الاختيارية مقدمة أخيرة يكون الفعل معها ضروريا.

وعلى هذا فكيف يختص النهي الغيري بخصوص المقدمة الاخيرة في الافعال التوليدية دون الافعال الاختيارية؟ مع ان الفعل الاختياري كالتوليدي في انه

٢٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ضروري التحقق عند حصول مقدمته الاخيرة ، والى هذا أشار بقوله : «كيف» : أي كيف يكون في خصوص الافعال التوليدية مقدمة بحيث يكون الفعل عندها ضروريا فيترشح له النهي الغيري ولا يكون في الافعال الاختيارية مثلها ، وانه ليس في الافعال الاختيارية مقدمة يترشح لها النهي مع انها مثل الافعال التوليدية لها مقدمة أخيرة يكون الفعل عند وجودها ضروريا ، وهذا مراده من قوله : «ولا يكاد يكون فعل» : أي لا يعقل ان يوجد فعل «الا عن مقدمة لا محالة معها يوجد» وهي الجزء الاخير من العلة التامة التي لا محالة انه عند وجودها يوجد المعلول «لضرورة ان الشيء ما لم يجب لم يوجد».

فاجاب عنه بقوله : «فانه يقال» الخ.

وحاصله : انه نعم لا يفترق الحال في الافعال التوليدية والافعال الاختيارية في ان لكل منهما مقدمة اخيرة يجب عند وجودها وجود الفعل وهي الجزء الاخير من العلة التامة ، إلّا ان الجزء الاخير في الافعال التوليدية فعل اختياري يمكن ان يتعلق به النهي ، كالالقاء في النار الذي عند حصوله يحصل الاحتراق وكحركة المفتاح الذي يحصل بتحققها حركة الفتح للمزلاج ، والالقاء وحركة المفتاح فعلان اختياريان للفاعل ، واما في الافعال الاختيارية فمقدمتها الاخيرة هي الارادة وهي لا يعقل ان تكون متعلقة لامر أو نهي ، لأنها نفس الاختيار التي هي مبادئ الافعال الاختيارية ، والاختيار ليس بالاختيار وإلّا لتسلسلت الارادات ، ولذا قال : «نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام» فالافعال الاختيارية كالافعال التوليدية لها مقدمة اخيرة يجب معها صدور الفعل «لكنه لا يلزم ان يكون ذلك» : أي المقدمة التي يجب عندها صدور الفعل «من المقدمات الاختيارية بل» مقدمته الاخيرة «من المقدمات غير الاختيارية كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار وإلّا لتسلسل» كما مر غير مرة في ان الارادة من مبادئ الفعل الاختياري واما هي فليست اختيارية وإلّا لزم التسلسل.

٢٧٤

فإنه يقال : نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام ، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية ، بل من المقدمات غير الاختيارية ، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار ، وإلّا لتسلسل ، فلا تغفل ، وتأمل.

«فصل»

الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا ، فيه أقوال ، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور :

الاول : الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية ، أو الجزئية ، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين ، وطلب ترك الآخر ، أو المقدمية على ما سيظهر (١) ، كما أن المراد بالضد هاهنا ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان عنوان هذه المسألة قد اشتمل على الفاظ : الامر ، وبالشيء ، ويقتضي ، والنهي والضد.

ولفظ الامر والشيء والنهي لا تحتاج إلى تفسير ، وبقي لفظ الاقتضاء والضد.

فعقد الامر الاول لتفسيرهما. ومعنى الاقتضاء لغة وعرفا هو الاستيجاب ، فيقال اقتضى الحال كذا : أي استوجب الحال كذا ، وفعل فلان ما يقتضيه كرمه : أي ما يستوجبه كرمه ، فلذا كان الاقتضاء بحسب هذا المفهوم العام يشمل الدلالة اللفظية والعقلية ، فمسألة الضد سواء كانت لفظية أو عقلية فلفظ الاقتضاء يشملها.

واتضح أيضا : ان الاقتضاء بمعناه العام يشمل الاقتضاء بنحو العينية المفهومية والمصداقية ، وقد ادعيت العينية المصداقية في خصوص الضد العام ، وسيأتي التعرض لها في الامر الثالث إن شاء الله تعالى.

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

واما العينية المفهومية فلم يدعها احد ، لأن العينية بحسب المفهوم معناها الترادف ولا يعقل الترادف بين مفهوم الامر بشيء ومفهوم النهي عن ضده. وكيف يكون المفهوم الايجابي مرادفا للمفهوم السلبي؟ نعم ، يمكن ان يكون مصداق المفهوم الايجابي مصداقا ـ أيضا ـ للمفهوم السلبي وان اختلفت جهة انتزاعهما بل لا بد ان يكون جهة انتزاعهما مختلفة ، اذ لا يعقل انتزاع ما حقيقته النفي والعدم مما حقيقته الايجاب والثبوت ، فإن الانسان ـ مثلا ـ يكون مصداقا لمفهوم الناطق ولمفهوم لا بقر ، ولكن جهة انتزاع الناطقية فيه غير الجهة التي ينتزع منها انه لا بقر.

وعلى كل فلفظ الاقتضاء يشمل العينية المصداقية والمفهومية وان لم يدع الثانية احد ، ويشمل أيضا لفظ الاقتضاء الاقتضاء بنحو الجزئية : بان يدعى ان جزء معنى الامر بالشيء هو النهي عن ضده وهي الدلالة التضمنية.

ويشمل لفظ الاقتضاء ـ أيضا ـ اللزوم بمعانيه الثلاثة : اللزوم البين بالمعنى الاخص : وهو ما يكفي في تصور اللازم تصور الملزوم فقط فالتلازم بينهما امر مفروغ عنه ، وقد بلغ إلى حد انه بمجرد حضور الملزوم في الذهن يحضر اللازم أيضا وهذا مناط الدلالة الالتزامية. واللزوم البين بالمعنى الاعم : وهو ما يحتاج الجزم باللزوم بينهما إلى تصور الملزوم وتصور اللازم وشيء آخر كالزوجية والاربعة ، فإن الزوجية لازم بين بالمعنى الاعم للاربعة ، اذ لا يكفي في تصورها نفس تصور الاربعة ، بل لا بد من معرفة كون الاربعة منقسمة بمتساويين. واللزوم غير البين : هو الذي يحتاج الجزم باللزوم فيه إلى اقامة برهان كالحدوث للعالم ، ومنه ما يدعى من اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ، لأن ترك احد الضدين من مقدمات وجود الآخر فانه من التلازم غير البين ، اذ لا بد فيه من اقامة الدليل على كون عدم احد الضدين من مقدمات وجود الضد الآخر ، والى ما ذكرنا أشار بقوله : «الاقتضاء في العنوان اعم من ان يكون بنحو العينية أو الجزئية أو اللزوم» وقد أشار إلى اللزوم بمعنييه

٢٧٦

هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا (١).

______________________________________________________

الاولين بقوله : «من جهة التلازم بين طلب احد الضدين وطلب ترك الآخر» والى اللزوم بمعناه الثالث بقوله : «أو المقدمية».

(١) حيث كان المراد من الضد في اصطلاح الاصوليين غير المراد منه في اصطلاح المنطقيين فلا بأس ببيان حال النسب بين الشيئين تتميما للفائدة.

فنقول : قد ذكروا في مقام تقسيم النسبة بين الشيئين ان كل مفهوم إذا لحظ مع مفهوم آخر ، فإما ان يكونا مشتركين في ماهية نوعية واحدة فهما مثلان ، ولذا يقولون : المثلان هما الفردان من طبيعة نوعية واحدة.

واذا لم يشتركا في ماهية واحدة : بان كان لكل واحد منهما ماهية نوعية تخصّه غير الآخر ، فاما ان لا يكون لهما إباء عن الاجتماع في محل واحد فهما المتخالفان كالسواد والحلاوة ، فإن الطبيعة النوعية للسواد هو الكيف المبصر والطبيعة النوعية للحلاوة هو الكيف المذوق لكنهما لا إباء لهما عن الاجتماع في محل فيكون الشيء الواحد اسودا وحلوا.

واما ان يكون لهما إباء عن الاجتماع في محل واحد فهما المتقابلان ، والتقابل اما ان يكون بين امرين وجوديين ، أو وجودي وعدمي ، ولا يعقل ان يكون التقابل بين عدميين اذ لا ميز في الاعدام من حيث العدم.

والوجودان المتقابلان تارة يكونا متلازمين في التصوّر ومتكافئين في القوة والفعلية فهما المتضائفان كالفوق والتحت ، واخرى لا يكونان متلازمين فهما ضدان ، الّا ان اهل المعقول يشترطون في تقابل التضاد أن يكون الوجودان المتقابلان بينهما غاية الخلاف والتباعد ، فيطلقون الضدين على السواد والبياض لا على السواد والحمرة.

والتقابل بين وجودي وعدمي تارة يكون بنحو العدم والملكة : وهما الوجود والعدم المتقابلان اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان عمن له القابلية لهما كالعمى

٢٧٧

الثاني : إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة ، وإن كانت أنه هل يكون للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة ، إلا أنه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص ، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد ، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق

______________________________________________________

والبصر ، فإن العمى ليس هو اللابصر بل هو عدم البصر ممن له قابلية ان يكون بصيرا ولذلك يرتفعان عمن ليس له القابلية كالجدار فانه لا اعمى ولا بصير.

واخرى : هما الوجود والعدم اللذان لا يمكن ان يجتمعا ولا يرتفعا عن شيء اصلا كالبصر واللابصر ، فإن الجدار وان لم يصدق عليه العمى إلّا انه يصدق عليه انه لا بصر له ، وهذا التقابل هو تقابل الايجاب والسلب.

واذا عرفت هذا عرفت ان الضد باصطلاح اهل فن المعقول والمنطق يختص بالوجوديين ولا يشمل الوجودي والعدمي.

واما الضدان عند الاصوليين فهما مطلق المتعاندين سواء كانا وجوديين أو احدهما وجودي والآخر عدمي ، فالضدّية عندهم هي التعاند والتنافي ولذلك يقسمون الضد إلى عام وخاص.

ومرادهم بالضد العام مطلق العدم والترك فلو كانت الضدية عندهم كما هي باصطلاح اهل المنطق لما صح تقسيم الضد إلى المعاند الوجودي والعدمي.

ولا يخفى أيضا انه لا يشترط في المتضادين عند الاصوليين ان يكون بينهما غاية الخلاف ، فالسواد والحمرة عندهم من المتضادين أيضا ، وقد أشار إلى ان المراد بالضد في المقام هو الضد عند الاصوليين بقوله : «كما ان المراد بالضد هاهنا هو مطلق المعاند» إلى آخر كلامه.

٢٧٨

المقال ، في المقدمية وعدمها ، فنقول وعلى الله الاتكال (١) : إن توهم توقف الشيء على ترك ضده ، ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين

______________________________________________________

(١) ينبغي اولا ، بيان ان المهم في هذه المسألة هو اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص دون ضده العام الذي سيتعرض لاقتضائه في الامر الثالث ، فلذلك ابتدأ في البحث عن اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص في هذه الجهة الثانية.

ثم لا يخفى ان الاقتضاء المذكور في العنوان هو استيجاب شيء لشيء وهو يشمل أي نحو من انحاء اللزوم ، إلّا انه لما كان من الواضح ان الامر بالشيء لا يستلزم النهي عن ضده الخاص بنحو اللزوم البين بالمعنى الاخص ، بحيث يلزم من مجرد تصور الامر بالشيء تصور النهي عن ضده الخاص ، ولا يستلزمه بنحو اللزوم البين بالمعنى الاعم كملازمة الزوجية للاربعة ، إذ لو كان كذلك لما احتاج إلى اقامة البراهين والنقض والابرام ، فلم يبق الّا اللزوم غير البين الذي يحتاج إلى اقامة البرهان.

وقد استدل عليه المشهور القائلون باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ـ بعد البناء على الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته ـ ان من جملة مقدمات وجود الشيء عدم ضده الخاص ، واذا كان عدم الضد الخاص واجبا لانه مقدمة للواجب ولا ريب ان الامر بالشيء يقتضي النهي عن نقيضه ـ كما هو واضح ـ مضافا إلى ما سيأتي التعرض له في الامر الثالث ونقيض العدم هو الوجود فاذا كان عدم شيء مطلوبا كان نقيضه وهو الوجود منهيا عنه ، فالامر بالشيء يستلزم وجوب عدم ضده الخاص المستوجب للنهي عن وجود الضد الخاص. فعمدة ادلة القائلين باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص هو المقدمية ، ولذا قال : «انما ذهبوا اليه» : أي إلى الاقتضاء لأجل توهم مقدمية ترك الضد ، فلذا اوجب ذلك التعرض لبيان السبب لتوهم كون عدم الضد الخاص من مقدمات وجود ضده.

٢٧٩

الوجودين ، وقضيتها الممانعة بينهما ، ومن الواضحات أن عدم المانع من المقدمات (١).

وهو توهم فاسد ، وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين ، لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق ، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) وحاصله ، ان السبب لذهاب القائلين بان عدم الضد مما يتوقف عليه وجود ضده : هو انه مما لا ريب فيه ان العلة التامة لوجود الشيء مركبة من مقتض وشرط ، ومن جملة الشروط عدم المانع فعدم المانع من أجزاء علة وجود الشيء.

ولا اشكال ان كل ضد يمنع بوجوده وجود الضد الآخر فالتمانع بينهما مما لا يمكن انكاره ، فاذا كان وجود احد الضدين مانعا لوجود الآخر كان عدمه من شرائط وجود الآخر ، واذا كان عدم الضد من أجزاء علة الضد الآخر فالامر بالشيء يقتضي الامر بمقدماته ـ بناء على الملازمة ـ فعدم الضد مطلوب لمقدميته للواجب المطلوب وجوده ، واذا كان عدم شيء مطلوبا كان نقيضه وهو وجود الضد الآخر منهيا عنه ، فالامر بشيء يقتضي النهي عن ضده لانه يقتضي وجوب عدمه ووجوب عدم الشيء يقتضي النهي عن وجوده ، وهذا الاقتضاء انما جاء من طلب وجود الضد الآخر بحسب هذا النحو من الاستلزام.

فعمدة السبب في توهم المقدمية هو التمانع بين الضدين ، ولذا قال : «ان توهم توقف الشيء على ترك ضده ليس إلّا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين» إلى آخر كلامه.

٢٨٠