بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وما يقال : من انه لا يعقل ان يكون للامر بالأهم اطلاق يشمل عصيانه فلا تجتمع الفعليتان.

فانه يقال اولا : ان الامر بالأهم لا يعقل ان يشمل زمان عصيانه المتحقق خارجا دون الزمان الماخوذ العصيان فيه بنحو الشرط المتأخر.

وثانيا : ان المطاردة تدور مدار فعلية الأمر بالضدين ووجودهما ، لأن كلا منهما بفعليته يقتضي طرد الآخر ، فالأمر بالأهم وان لم يكن له اطلاق لساني يشمل العصيان مطلقا إلّا ان المدار في المطاردة هو الوجود والفعلية وهي متحققة لفعليتهما معا في الزمان الذي لم يتحقق العصيان فيه خارجا ، والى هذا أشار بقوله : «ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير بالأهم» : أي كيف لا يطارد الامر بالأهم الامر بغير الأهم ـ وهو الامر بالمهم ـ «وهل يكون طرده له» : أي طرد المهم للاهم «الا من جهة فعليته ومضادة متعلقه له» والفعلية متحققة ومضادة المتعلقين معلومة «وعدم ارادة غير الأهم على تقدير الاتيان به» يشير بهذا إلى الفرض الاول الذي ذكرناه وهو انه في حال اطاعة الأهم لا مطاردة.

وحاصله : انه لا ملازمة بين عدم المطاردة في فرض الاتيان بالأهم ووجود المطاردة في فرض عدم ارادة الأهم وعدم الاتيان به وعصيانه ، فانه في الفرض الاول لا تحقق للامر بالمهم ، وفي الفرض الثاني الامر بالمهم متحقق ، واذا كان فعليا فلا بد وان يطارد الامر بالأهم ، وليست الّا ان كلّا منهما يقتضي امتثالا لا يمكن معه امتثال الآخر لتضاد متعلقهما ، فعدم طرد المهم للاهم في حال الاتيان بالأهم لعدم تحقق المهم «لا يوجب عدم طرده» : أي لا يوجب عدم طرد المهم «لطلبه» : أي لطلب الأهم «مع تحققه» : أي مع تحقق المهم «على تقدير عدم الاتيان به» : أي عدم الاتيان بالأهم «وعصيان امره فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير» وهو تقدير عدم الاتيان بالأهم وعصيانه لا على تقدير الاتيان به واطاعته.

٣٢١

إن قلت : فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات (١)؟

______________________________________________________

والجواب الثاني : ما أشار اليه بقوله : «مع انه يكفي الطرد من طرف الامر بالأهم».

وتوضيحه : انه إذا قلتم بفعلية كلا الامرين فلا بد من الالتزام بالمطاردة من الجانبين ، وان قلتم بعدم فعلية الامر بالمهم فعلية مطلقة وان الفعلية المطلقة للامر بالأهم وحده ، لأن الامر بالمهم حيث كان مشروطا بعصيان الأهم ففعليته مقيدة بخلاف الامر بالأهم ، فإن فعليته مطلقة وغير مشروطة بشيء ، فمرجع هذا إلى ان الامر بالأهم حيث يكون فعليا مطلقا فهو يطرد الامر بالمهم ولا يكون له مجال معه ، واذا لم يكن له مجال معه فلا تكون له فعلية مع فعليته ، واذا لم يكن الامر بالمهم فعليا فكيف يمكن قصد امتثال امره؟ والحال ان مراد المصحح بنحو الترتب هو امكان اتيان المهم بقصد امتثال امره الفعلي.

فاتضح : ان الفعلية المطلقة من جانب الأهم وحده تكفي في عدم فعلية الامر بالمهم وطرده عن ان يكون فعليا ، ولذا قال : «فانه على هذا الحال» : أي على حال عدم الاتيان بالأهم «يكون» الامر بالأهم «طاردا لطلب الضد» وهو المهم «كما كان» طاردا له «في غير هذا الحال» : أي في غير حال عدم الاتيان به وهو حال اطاعة الامر الأهم «فلا يكون له» أي للامر بالمهم «معه» : أي مع الامر بالأهم «اصلا بمجال» وما ذكرنا ينبغي ان يكون مراده من كفاية الطرد من جانب واحد. فلا يرد عليه ان هذا غير معقول وان المطاردة لا بد وان تكون من الجانبين.

(١) هذا هو الوجه الرابع الذي ذكروه لصحة الترتب وهو ان وقوعه ادل دليل على امكانه ، اذ غير الممكن لا يعقل وقوعه والوقوع آية الامكان ، ومتى امكن ان يقع فلا بد من صحته إذا وقع.

٣٢٢

قلت : لا يخلو إما أن يكون الامر بغير الاهم ، بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة. وإما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لو لا المزاحمة ، وأن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالاهم ، لا أنه أمر مولوي فعلي كالامر به ، فافهم وتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

ومن الواضح وقوعه في العرفيات فانه واقع في الاوامر العرفية ان يقول السيد لعبده : افعل هذا ، فإن عصيت ولم تفعل فافعل هذا ، وقد وقع في الشرع أيضا ومثلوا له بما إذا وجب عليه الخروج من بلده في شهر رمضان لسفر الحج الواجب بحيث يكون اداء الحج موقوفا على السفر في شهر رمضان لحصول الرفقة ـ مثلا ـ في ذلك الشهر دون غيره فلم يمتثل امر الخروج وبقى في بلده ، فانه يتوجه اليه الامر بالصوم ما دام في بلده مع ان الامر بالأهم وهو الخروج إلى سفر الحج متوجه ، فتوجه التكليفين انما هو على نحو الترتب ، فانه مامور بالخروج امرا مطلقا وغير مقيد بشيء ، ومامور بالصوم على تقدير عدم الخروج وعدم امتثاله له فهو امر مقيد بعدم امتثال الامر بالخروج ، واذا ثبت وقوع الامرين على نحو الترتب عرفا وشرعا فهو اعظم دليل على امكانه وصحته.

(١) وتوضيحه : انه في الشرع لم يرد الامران بلسان الترتب ، فانه لم يصلنا على لسان الشارع انه قال اخرج لسفر الحج في رمضان وان لم تمتثل فصم ، وانما هو دعوى ان لازم فتوى المشهور بوجوب الصوم على من لم يخرج هو الأمر على نحو الترتب ، وسيأتي التعرض لجوابه.

واما الاوامر العرفية فالجواب عنها : بان غاية ما جاء في العرف هو ظهور كون الامرين مجتمعين على نحو الترتب ، والظهور العرفي لا يقاوم البرهان العقلي على محالية الاجتماع بنحو كون الامرين متحققين معا ومولويين ، فلا بد من تأويل الاوامر العرفية ، اما بان يكون مراد الآمر بقوله : افعل هذا فإن لم تفعله في وقت كذا

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ مثلا ـ فافعل هذا : انه إذا لم تفعله فقد تجاوزت عن الامر به ، ولا محالة مع تجاوز الآمر عن امره يسقط امره ولا يبقى إلّا الامر بالمهم فلا جمع بين الضدين ، وقد أشار اليه بقوله : «لا يخلو اما ان يكون الامر بغير الأهم بعد التجاوز عن الامر به» : أي بعد التجاوز عن الامر بالأهم «و» عن «طلبه حقيقة» وقد عرفت انه مع تجاوز الآمر عن امره ورفع يده عنه لا بد من سقوطه ، فيبقى الامر بغير الأهم وحده فلا جمع بين الامرين المولويين على نحو الترتب.

واما ان يكون امره ليس مولويا بل ارشاديا إلى تاتي الصوم بقصد رجحانه الذاتي ، فإن الصوم حيث كان ملازما لنقيض الضد المأمور به فلا امر به للتلازم وليس بمنهي عنه ، فيمكن اتيانه بقصد رجحانه الذاتي ومحبوبيته الذاتية ، والامر بالصوم ارشاد إلى امكان الاتيان به بقصد رجحانه لا ينافي حرمة نقيض الضد الآخر الملازم لهذا الضد ، فإن المتلازمين لا يعقل ان يختلفا في الحكم الذي لازمه كون الامر بهما مولويا.

اما الامر ارشادا في فعل احد الضدين ـ المهم ـ فيجتمع مع النهي المولوي لنقيض الضد الأهم الملازم ، والى هذا أشار بقوله : «واما ان يكون الامر به ارشادا» إلى آخر كلامه.

وقوله : «لو لا المزاحمة» : أي ان الضد لم يفقد بواسطة ملازمته لما هو المحرم من رجحانه الذاتي وغرضه ومصلحته شيئا ، وهو باق على ما كان عليه من المصلحة والغرض الموجبين للأمر به مولويا لو لا المزاحمة ، فالمزاحمة انما اسقطت الامر به مولويا. واما مصلحته فلم تمس بشيء فيصح الاتيان به بداعي محبوبيته الذاتية المعلولة لهذه المصلحة ، ويستحق على اتيانه المثوبة لوقوعه مقربا ويخفف به معصيته للامر الأهم لأن الحسنات يذهبن السيئات.

واما ما وقع في الاوامر الشرعية كالفتوى بصحة الصوم في شهر رمضان مع امره بالخروج إلى سفر الحج الأهم.

٣٢٤

ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الامرين لعقوبتين ، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ، ولذا كان سيدنا الاستاذ (قدس‌سره) لا يلتزم به ـ على ما هو ببالي ـ وكنا نورد به على الترتب ، وكان بصدد تصحيحه (١) ، فقد ظهر أنه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلّا ملاك الامر.

______________________________________________________

فالجواب عنه : انه حيث لم يرد صريحا من الشارع انه إذا لم تسافر فصم فالفتوى بالصحة اما مبنية على قصد رجحانه الذاتي ، أو توهم امكان الترتب.

(١) لا يخفى ان الترتب المدعى اما بين الموسع والمضيق ، واما بين المضيقين.

ولا اشكال انه لا بأس بالتزام العقاب على ترك المضيق في وقته ، وعلى ترك الموسع إذا ترك في جميع وقته كالإزالة والصلاة فيما إذا ترك الازالة والصلاة في جميع الوقت ، إلّا ان الترتب كما يتأتى بين الموسع والمضيق كذلك يتاتى بين المضيقين.

وعلى القول بصحة الترتب فلا بد من الالتزام بعقابين على ترك المضيقين ، فلو فرضنا ـ مثلا ـ ان الوقت لا يسع إلّا لصلاة اليومية أو لصلاة الآيات وقلنا ان اليومية اهم ، فعلى القول بعدم صحة الترتب فلا خطاب الا باليومية وليس إلّا عقاب واحد على تركها.

وعلى القول بالترتب فالخطاب يكون : صل اليومية فإن لم تصلها فصل الآيات ، فاذا تركهما فلا مناص من الالتزام بعقابين : عقاب على ترك اليومية وعقاب على ترك الآيات ، والالتزام بعقابين لازم صحة العقاب على ما لا يطاق وهو محال من الحكيم ، وذلك لأن المفروض ان الوقت لا يسع إلّا احدهما وحيث يكون كذلك فلا يسع الا امتثالا واحدا ، والعصيان الموضوع لصحة العقاب انما هو بازاء الامتثال ، فاذا كان الوقت لا يسع إلّا امتثالا واحدا فلا يكون في قباله الاعقاب واحد ، فالعقاب المتعدد على ما لا يسع إلّا امتثالا واحدا لازمه صحة العقاب على ما لا يطاق ، وقبح

٣٢٥

نعم فيما إذا كانت موسعة ، وكانت مزاحمة بالاهم في بعض الوقت ، لا في تمامه ، يمكن أن يقال : إنه حيث كان الامر بها على حاله ، وإن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الاهم من أفرادها من تحتها ، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك الامر ، فإنه وإن كان الفرد خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلا أنه لما كان وافيا بغرضها كالباقي تحتها ،

______________________________________________________

العقاب على ما لا يطاق كالتكليف بما لا يطاق قبيح على الحكيم ، بل لعله السبب في عدم صحة التكليف بما لا يطاق.

لا يقال : ان الالتزام بعقابين في المقام كالالتزام بعقابين على دخول الدار المغصوبة وعلى الخروج منها ، مع ان الخروج بعد الدخول مما لا بد منه والعقاب على ما لا بد منه عقاب على ما لا يطاق.

والسر في جوازه هو القدرة على تركه بترك الدخول ، ومتى كان الشيء مقدورا ولو بالواسطة صح العقاب عليه ، والمقام مثله فإن المكلف يسعه ان لا يعاقب اصلا بامتثاله الأهم ، ويسعه ان يكون له عقاب واحد بان يفعل المهم في حال ترك الأهم ويقدر على تركهما فيعاقب عليهما.

فانه يقال : فرق بين المقامين فإن العقاب على الدخول والخروج انما هو لكون لكل منهما خطاب في عرض الآخر ، غايته ان الدخول مقدور على تركه بلا واسطة والخروج مقدور الترك بالواسطة ، وليس في المقام امران في عرض واحد احدهما مقدور بواسطة والآخر مقدور بلا واسطة ، بل هما امران متوجهان دائما في زمان لا يسع إلّا امتثالا واحدا ، والدخول والخروج لهما امتثالان وذلك بترك الدخول ، فانه بترك الدخول يتحقق أيضا ترك المنهي عنه وهو التصرف في الغصب الذي من مصاديقه ترك الخروج.

وبعبارة اخرى : إذا صح ان يكون لهما امتثالان صح ان يكون لهما عقابان ، واذا لم يكن لهما امتثالان فلا يصح ان يكون لهما عقابان.

٣٢٦

كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال ، والاتيان به بداعي ذلك الامر ، بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا (١).

______________________________________________________

(١) هذا لازم ما مر فانه على القول بالترتب يمكن اتيان العبادة بقصد امتثال امرها ، فيصح الاتيان بالصلاة في حال ترك الازالة بقصد امرها. وحيث عرفت عدم صحة الترتب فلا يمكن الاتيان بها بقصد امرها.

ثم لا يخفى انه قد عرفت ان الترتب له مقامان : المضيقان ، والموسع والمضيق ، وفي المضيقين لا يعقل اتيان المهم إذا كان عبادة بقصد امتثال امره ، وينحصر اتيانه عبادة بقصد ما فيه من ملاك المحبوبية لما عرفت : من انه بمزاحمته بالأهم لم يسقط منه الا الامر به لأجل الملازمة ، ولكنه باق على ما هو عليه من ملاكه ومحبوبيته ، والعبادة كما تقع عبادة بقصد امتثال امرها كذلك تقع عبادة بقصد محبوبيتها وهو قصد ما هو الملاك للامر بها وينحصر اتيانها عبادة بذلك ، والى هذه أشار بقوله : «فقد ظهر انه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو اهم منها الا ملاك الامر» كاليومية والآيات ، فانه لو فرضنا اهمية اليومية وعند تركها يصح اتيان الآيات بما فيها من المحبوبية والمصلحة التي هي الملاك للامر بها.

ويظهر من المصنف بان قصد الملاك منحصر في المضيقين لا في الموسع والمضيق ، فانه في الموسع قد تصور المصنف امكان اتيان العبادة المهمة بقصد امتثال امرها ، وأشار اليه بقوله : «فيما إذا كانت موسعة وكانت الخ».

وتوضيحه : ان الامر متعلق بالطبيعة اما بنحو الطبيعة السارية في افرادها ، أو بالطبيعة بنحو يكون اول الافراد وآخرها بنحو الحدين ، والمأمور به هو الطبيعة بين هذين الحدين والفرق بينهما ان المتعلق هو الطبيعة الملحوظ انطباقها على افرادها في الاول ، وفي الثاني لا يكون التطبيق ملحوظا للآمر وانما هو بيد المكلف.

وعلى كل فالطبيعة بما هي مامور بها لا تسع هذا الفرد المزاحم بالأهم ولكنه انما لا تسعه بما هي مامور بها لابتلائه بالمزاحم ، لا لقصور فيه من حيث كونه مصداقا

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للطبيعة بما هي ، ولا من حيث عدم وفائه بالغرض أو المصلحة التي هي الملاك للأمر به ، فالطبيعة بما هي وبما فيها من الغرض والمصلحة تسعه ، وانما لا تسعه بما هي مامور بها لابتلائه بالمزاحم ، والمزاحمة أوجبت خروج هذا الفرد عن تعلق الامر به فقط ، من دون عروض نقص فيه من ساير الجهات الموجودة في بقية افراد الطبيعة ، فالامر بالطبيعة بعد خروج هذا الفرد المزاحم عن ان يسعه الامر أوجب تضيق دائرة المتعلق للطبيعة واختصاصها بما هي مامور بها بغير هذا الفرد ، إلّا ان هذا الفرد الخارج عن ان يشمله الأمر مساو لسائر افراد الطبيعة في كل جهة عدا انه لا يمكن ان يشمله الامر. وكما ان الاتيان بفرد مما يشمله الامر يحصل به الغرض ويسقط به الامر ، كذلك الاتيان بهذا الفرد الخارج عما يتعلق به الامر يحصل به الغرض ويسقط به الامر لحصول غرضه ، واذا كان الفرد الخارج بهذه المثابة فيمكن ان يقصد باتيانه امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسع هذا الفرد الخارج بما هي مامور بها ، ولكن تسعه بما هو مصداق لنفس الطبيعة وبما هو واف بالغرض والمصلحة كسائر افرادها التي تسعها بما هي مامور بها ، وقصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة لا يتوقف على خصوص الاتيان بالفرد الذي تسعه الطبيعة بما هي مامور بها ، لأن قصد امتثال الامر هو قصد الاتيان بما يحصل به تمام الغرض ويسقط به الامر ، والمفروض ان الفرد الخارج يحصل باتيانه تمام الغرض ويسقط باتيانه الامر المتعلق بالطبيعة ، اذ لا معنى لبقائه بعد حصول تمام غرضه. فكما يمكن قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بالفرد الذي تسعه الطبيعة المأمور بها كذلك يمكن قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسع هذا الفرد بوصف كونها مأمورا بها بهذا الفرد الخارج عنها ، فيقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة الخارج عنها هذا الفرد.

وبعبارة اخرى : ان خروج الفرد عن الطبيعة المأمور بها على ثلاثة انحاء :

الاول : ان يكون فردا لطبيعة اخرى كالفرد الزكاتي والفرد الصومي فانه لا يعقل ان يحصل بهما امتثال الامر المتعلق بطبيعة الصلاة.

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ان يكون خروج الفرد عن الطبيعة المأمور بها لعروض تخصيص للامر بالطبيعة اوجب خروج هذا الفرد كخروج العالم الفاسق بالتخصيص عن الامر المتعلق باكرام العلماء ، فإن مثل هذا الفرد بعد ابتلائه ذاتا بالمانع وهو الفسق صار ليس كسائر افراد الطبيعة المتعلق بها الامر ، وحكمه حكم النحو الاول في انه لا يعقل ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسعه.

الثالث : ان يكون خروج الفرد لابتلائه بالأهم المزاحم للامر بالمهم فقط من دون عروض شيء على هذا الفرد الخارج ، فالفرق بين الثاني والثالث هو ان المانع عن تعلق الامر بالفرد الخارج قد عرض ذات الفرد الخارج ، وفي الثالث لم يعرض المانع على ذات الفرد الخارج وانما منع عن تعلق الامر به فقط ، فهو كسائر افراد الطبيعة المأمور بها من كل جهة من حيث ذاته وذاتها ولم يفترق عنها إلّا انه لأجل المزاحمة صار لا يمكن ان يتعلق به الامر ، فلا مانع من ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة التي لا تسعه بما هي مأمور بها ، ولذا قال : «حيث كان الامر بها على حاله» بمعنى انه لم يطرأ على الأمر المتعلق بالطبيعة تضيق لأجل التخصيص «وان صارت» الطبيعة «مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من افرادها من تحتها» فهي مضيقة للمزاحمة لا للتخصيص والفرد خرج عنها وصارت ضيقة بخروجه إلّا انه لا شيء عرض على هذا الخارج عنها بل العارض انما عارض الامر وزاحمه عن ان يتعلق به فقط ، وحيث كان الحال كذلك «امكن ان يؤتى بما زوحم منها» وهو الفرد الخارج «بداعي ذاك الامر» المتعلق بالطبيعة الخارج عنها هذا الفرد للمزاحمة «فانه وان كان» هذا الفرد «خارجا عن تحتها بما هي مامور بها إلّا انه لما كان وافيا بغرضها» ومساو لبقية افرادها من حيث ذاته وذاتها من كل جهة فهو «كالباقي تحتها كان عقلا» هذا الفرد الخارج عنها كالفرد الباقي تحتها فهو «مثله في الاتيان به في مقام الامتثال والاتيان به بداعي ذلك الامر بلا تفاوت» لما عرفت ان قصد امتثال الأمر يتأتى في الفرد الذي يحصل به تمام الغرض ويسقط باتيانه الامر ، وهذا الشرط

٣٢٩

ودعوى أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالاهم ، وإن كان من أفراد الطبيعة ، لكنه ليس من أفرادها بما هي مأمور بها فاسدة ، فإنه إنما يوجب ذلك ، إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك تخصيصا لا مزاحمة ، فإنه معها وإن كان لا تعمه الطبيعة المأمور بها ، إلا أنه ليس لقصور فيه ، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما تعمه عقلا ، وعلى كل حال ، فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وإطاعة الامر بها ، بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا.

هذا على القول بكون الاوامر متعلقة بالطبائع.

وأما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك (١) ، وإن كان جريانه عليه

______________________________________________________

موجود في هذا الفرد الخارج كما هو موجود في الفرد المندرج فلا تفاوت عند العقل في امكان قصد امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بكل واحد من هذين الفردين.

(١) حاصل هذه الدعوى ان الامر انما هو بداعي جعل الداعي ، ومعنى قصد امتثاله هو الاتيان بتحريك من الامر وبدعوة منه ولا يكاد يدعو الا إلى متعلقه. وحيث فرض خروج هذا الفرد المهم بواسطة مزاحمته بالأهم عن كونه متعلقا للامر فلا يعقل ان يدعو الامر اليه ، فلا يعقل ان يقصد بهذا الفرد الخارج امتثال الامر غير المتعلق به على الفرض ، فهو وان كان من افراد الطبيعة بما هي لكنه ليس من افرادها بما هي متعلقة للامر ، والى هذا أشار بقوله : «وان كان من افراد الطبيعة إلى آخره».

وقد اجاب عنها بقوله : «فاسدة فانه انما يوجب الخ» وقوله فاسدة خبر قوله ودعوى.

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ومحصل الجواب : ما اشرنا اليه في الحاشية السابقة وهو ان الامر وان كان لداعي جعل الداعي إلى امتثاله إلّا ان امتثاله ليس إلّا الاتيان بما هو متحمل لتمام غرضه ويسقط الامر بالاتيان به ، وهذا الفرد الخارج حيث كان مثل ساير افراد الطبيعة من ناحية الغرض التام ويترتب على الاتيان به سقوط الامر لاستيفاء الغرض منه ، فلا مانع من ان يقصد به امتثال الامر المتعلق بالطبيعة وان كانت لا تسع هذا الفرد من حيث المزاحمة ، إلّا ان هذا الفرد ليس من افراد طبيعة اخرى حتى يخرج تخصصا ، ولم يبتل بالمانع في نفس ذاته حتى يخرج تخصيصا كخروج العالم بالفسق عن طبيعة اكرم العلماء ، وانما خرج عنه للمزاحمة فقط ، وهو مثل ساير افراد الطبيعة من كل جهة تخص ذات الفرد ، فلا مانع ـ حينئذ ـ من ان يقصد بهذا الفرد الخارج الذي هذه صفته امتثال الامر المتعلق بالطبيعة ، والى هذا أشار بقوله : «فانه انما يوجب ذلك» : أي ان خروج الفرد انما يوجب عدم امكان قصد الامتثال للطبيعة التي لا تسعه «إذا كان خروجه عنها بما هي كذلك» : أي بما هي مامور بها لأجل كونه «تخصيصا لا مزاحمة فانه معها» : أي فانه مع المزاحمة «وان كان لا تعمه» : أي لا تعم الفرد الخارج «الطبيعة المأمور بها» بما هي مامور بها «إلّا انه» أي إلّا ان عدم عمومها له «ليس لقصور» في ذات الفرد الخارج كما في الفرد الخارج تخصيصا «بل» عدم عمومها له «لعدم امكان تعلق الامر بما يعمه» : أي عدم امكان تعلق الامر بالطبيعة «بما يعمه» : أي بما يعم هذا الفرد «عقلا» لأجل ابتلاء الامر بالمهم بالامر بالأهم ، فلا يعقل ان يعم الامر بالمهم لهذا الفرد المبتلى بترك الأهم الذي هو المحرم لعدم امكان اختلاف المتلازمين في الوجود في ناحية الحكم ، فيسقط الامر بالمهم عن امكان عمومه وشموله لهذا الفرد لذلك ، لا لاختلاف في ذات هذا الفرد المهم مع ساير افراد طبيعته المأمور بها لعدم ابتلائها بالأهم.

٣٣١

أخفى ، كما لا يخفى (١) فتأمل (٢).

______________________________________________________

«وعلى كل» فحيث كان هذا الفرد مساويا لبقية الافراد من كل جهة «فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال واطاعة الامر بها» : أي اطاعة الامر المتعلق بالطبيعة «بين هذا الفرد وساير الافراد اصلا».

(١) الوجه في كونه بناء على تعلق الامر بالفرد اخفى ، هو ان الفرق بين تعلق الامر بالطبيعة وتعلقها بالفرد : هو عدم دخول المشخصات للطبيعة الموجودة في المأمور به بناء على تعلقه بالطبيعة ، ودخول المشخصات في المأمور به بناء على تعلقه بالفرد ، واذا كانت المشخصات داخلة في المأمور به فينحل الامر المتعلق بالفرد إلى أوامر بافراد متباينة ، لوضوح ان مشخص كل فرد من افراد الطبيعة غير مشخصات الفرد الآخر ، واذا كان المتعلق امورا متباينة فقد يتوهم انه لا يعقل ان يقصد امتثال الامر المتعلق بشيء مباين بايجاد شيء يباينه ، وهل هذا الا كقصد امتثال الامر بالصلاة باتيان الصوم.

ويدفع هذا التوهم ان من الواضح ان مباينة افراد طبيعة واحدة ليست كمباينة افراد طبيعتين ، لأن افراد الطبيعة الواحدة وان تباينت في كون مشخص كل حصة منها غير مشخص الحصة الاخرى منها إلّا ان الغرض الذي يترتب عليها واحد ، واذا كان الغرض واحدا وقصد الامتثال ليس إلّا قصد الاتيان بما فيه الغرض التام الذي دعا لهذا الامر فلا محيص من انه باتيانه يسقط الامر بخلاف افراد الطبيعتين فانهما لا يشتركان في غرض واحد.

(٢) ولعله إشارة إلى ان قصد امتثال الامر ان كان معناه دعوة الامر وتحريكه إلى الفعل فلا يعقل ان يحرك الامر إلى غير ما تعلق به ، وان كان قصد الامتثال معناه قصد الاتيان بما فيه الغرض الداعي إلى الامر الذي بإتيانه يسقط الامر ، فهو معنى قصد الملاك والتحريك بداعي الملاك لا بدعوة الامر ، وليس هنا شيء ثالث يكون معنى لقصد الامتثال.

٣٣٢

ثم لا يخفى أنه بناء على إمكان الترتب وصحته ، لا بد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتظار دليل آخر عليه ، وذلك لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتناع الاجتماع في عرض واحد ، لا كذلك ، فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة ولم يكن في الملاك كفاية ، كانت العبادة مع ترك الاهم صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال ، كما إذا لم تكن هناك مضادة (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه ان لدليل الصلاة اطلاقا يشمل اتيانها في كل جزء من أجزاء وقتها ، وبعد ابتلائها بالازالة فلا يعقل الامر بهما : بان يكون كل منهما في عرض واحد ، وبناء على عدم امكان الترتب لا بد من تقييد اطلاق دليل الصلاة بغير ما يشمل هذا الفرد من الصلاة المزاحم بالازالة مطلقا سواء أطاع الامر بالازالة أو عصاه.

واما بناء على امكان الترتب فلا بد من تقييدها بمقدار أن لا يكون الامر بها في عرض الازالة وذلك : بان يامر بها مترتبة على عصيان الامر بالازالة ، فالأمر بالصلاة في حال عصيان الازالة متحقق ، لأن تقييد الاطلاق باكثر من مقدار ما ترتفع به المزاحمة تقييد له من غير موجب للتقييد ، ويكون رفع يد عن الحجة بغير الحجة.

فالقول بامكان الترتب يلازمه وجود الامر بالصلاة على ذلك النحو ، فاذا قلنا بان الامر العبادي ينحصر امتثاله بقصد الامر ولا يتأتى بقصد المحبوبية وملاكها فلا بد من قصد امتثال الامر الموجود بالصلاة في اتيانها عبادة ، وعلى الترتب الأمر بها موجود لأن المزاحمة لم توجب سقوطه مطلقا سواء أطاع الامر بالازالة أو عصاه ، بل انما اوجبت تقييده بعصيان الازالة ، فيقصد امتثال الامر بالصلاة في حال عصيان الازالة وتصح الصلاة وتقع متقربا بها كما لو لم تكن مبتلاة بالازالة.

قوله : «لا كذلك» : أي لا على الترتب فإن الصلاة إذا زوحمت بالازالة فلا يصح الامر بها في عرض الازالة قطعا ، واما الأمر بها معلقة على عصيان الازالة فإن قلنا بصحة الترتب يصح الامر بها كذلك ، وان قلنا بعدم صحة الترتب فيسقط

٣٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الامر بها مطلقا سواء اطاع الامر بالازالة أو عصاه ، ومع القول بالترتب لا بد من تقييده بالعصيان للازالة ، ولا وجه لسقوطه مطلقا اذ الضرورات تقدر بقدرها ، والامر بالصلاة انما لا يعقل ان يكون في عرض الازالة بان يقول المولى : بعد عروض الامر بالازالة صل مطلقا ازلت ام لم تزل ، اما بان يقول ان عصيت فصل فلا مانع منه على القول بامكان الترتب ، واذا امكن للمولى ان يقول كذلك فلا بد وان يقول كذلك ، لأن سقوط الامر بالصلاة مطلقا عند عروض الامر بالازالة تقييد باكثر مما يلزم وهو لا يصح ، فالامكان ملازم للوقوع في المقام.

قوله : «ولم يكن في الملاك كفاية» هذه هي الثمرة بين القول بالترتب وعدمه ، فانه مع القول بامكان وقوعها عبادة بقصد الملاك لا تكون الثمرة عملية بل تكون علمية ، فإن من يقول بالترتب ويقول بصحة وقوعها عبادة بقصد الملاك يسعه إيقاعها عبادة بقصد امتثال امرها ، ويسعه ايقاعها عبادة بقصد ملاكها ايضا ، ومن يقول بعدم معقولية الترتب ويقول بصحة قصد الملاك فانه وان لم يسعه قصد امتثال الامر في المضيقين أو في الموسع والمضيق بناء على ما ذكرناه في وجه التامل ، إلّا انه يسعه ايقاعها عبادة بقصد الملاك فلا تكون ثمرة عملية.

واما إذا كان القائل بعدم الترتب لا يقول بصحة اتيانها بقصد الملاك فلا بد من التزامه ببطلانها لعدم امكان وقوعها عبادة ، واذا كان القائل بعدم وقوعها عبادة بقصد ملاكها وكان ممن يقول بالترتب فتقع الصلاة عبادة كما لو كانت غير مزاحمة بالازالة ، أو كانت الازالة بنحو لا تنافي الصلاة : بان كانت لا تحتاج إلى تحريك ينافي الصلاة ولا استدبار القبلة ، والى هذا أشار بقوله : «فلو قيل بلزوم الامر في صحة العبادة» وان قصد الملاك لا يفيد في وقوعها عبادية «ولم يكن في» قصد «الملاك كفاية كانت العبادة مع ترك الأهم» وعصيانه «صحيحة لثبوت الامر بها في هذا الحال» : أي في حال عصيان الأهم وترك اطاعته ـ بناء على امكان الترتب ـ وتكون

٣٣٤

فصل

لا يجوز أمر الآمر ، مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا ، ضرورة أنه لا يكاد يكون الشيء مع عدم علته ، كما هو المفروض هاهنا ، فإن الشرط من أجزائها ، وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه مما لا يخفى (١) ، وكون الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام. نعم لو كان المراد من لفظ الامر ، الامر ببعض مراتبه ، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الآخر ، بأن يكون النزاع في أن أمر الامر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعليته.

______________________________________________________

الصلاة صحيحة في حال عصيان الازالة «كما إذا لم تكن هناك» بين الصلاة والازالة «مضادة اصلا».

(١) لا يخفى ان ذكر علم الآمر في العنوان ينبغي ان يكون مستدركا ، اذ الشرط انما هو للامر لا لعلم الآمر ، فسواء علم الآمر بالانتفاء أو لم يعلم بالانتفاء فالشرط شرط للامر. فينبغي ان يكون العنوان لا يجوز الأمر مع انتفاء شرطه.

ظاهر العنوان ان المراد من الامر مرتبته الفعلية ، وان الضمير في شرطه يرجع إلى الامر بهذه المرتبة ، وعلى هذا فكونه شيئا غير جائز من اوضح الواضحات ، اذ بعد كون الشرط شرطا للامر بمرتبته الفعلية ففعليته على الفرض منوطة بالشرط ، والآمر يعلم بانتفاء شرط فعلية امره ، ومع هذا فكون امره فعليا لازمه اما الخلف وهو كون ما فرض شرطا للفعلية ليس بشرط لها ، أو وجود المعلول مع عدم تمامية علته ، وحيث ان فرض الخلف فرض الخروج عن موضوع العنوان فلذا لم يشر اليه ، وأشار إلى المحذور الثاني فقال : «ضرورة انه لا يكاد يكون الشيء مع عدم علته».

٣٣٥

وبعبارة أخرى كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية لعدم شرطه ، لكان جائزا ، وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات غنى وكفاية ، ولا يحتاج معه إلى مزيد بيان أو مئونة برهان.

وقد عرفت سابقا أن داعي إنشاء الطلب ، لا ينحصر بالبعث والتحريك جدا حقيقة ، بل قد يكون صوريا امتحانا ، وربما يكون غير ذلك (١). ومنع كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدّا واقعا ، وإن كان

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه حيث كان وجود المعلول من دون علته التامة واضح الفساد ، فحملا لكلام القائلين بالجواز قد قيل : ان مراد القائلين بالجواز هو الامكان الذاتي دون الامكان الوقوعي.

وتوضيحه : ان ظاهر قولهم : هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه هو انه هل يمكن ان يقع أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه وهذا واضح الفساد ، اذ لازم الجواز انه يمكن ان يقع المعلول من دون تمامية علته ، والحال ان الممكن الجائي له الوجود من ناحية وجود علته لا يعقل وجوده قبل وجود علته التامة ، فلذا في مقام التأويل أولوا الجواز في العنوان بارادة الامكان الذاتي وهو سلب الضرورة عن الطرفين ، ومن المعلوم ان الممكن مسلوب الضرورة عن الطرفين لحيثية امكانه المنتزعة عن مقام ذات الممكن بما هو ممكن ، سواء تمت علة وجوده أو لم تتم.

فيكون المتحصل من هذا التأويل ان القائل بالجواز يقول ان الامر مع عدم علة وقوعه هو باق على إمكانه الذاتي ، وهذا أيضا من الواضحات التي لا تقبل الإنكار ، فإن الامكان الذاتي لا يفارق الممكن سواء وجد أو لم يوجد ، اذ وجوده عند تمامية علته وان كان واجبا وضروريا ، إلّا ان هذه الضرورة آتية له من ناحية الغير وهي علته لا من ناحية ذاته ، فهو في حد ذاته وان وجب وجوده الّا انه لا اقتضاء له من حيث ذاته لا لوجوده ولا لعدمه.

٣٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ يكون الإنكار عليهم في غير محلّه فهل يسوغ لأحد من ساير الطلبة ان ينكر على القائلين : بان الممكن ممكن سواء وقع أو لم يقع ، فكيف يسوغ الانكار عليهم من اعلام العلماء؟

فارجاع الجواز في كلام القائلين بالجواز إلى الامكان الذاتي في غير محله ، ولذا قال : «وكون الجواز في العنوان» بمعنى الامكان الذاتي «بعيد عن محل الخلاف بين الاعلام».

وقد ذكر هو (قدس‌سره) تاويلا لكلام القائلين بالجواز غير هذا التاويل أشار اليه بقوله : «لو كان المراد من لفظ الامر الخ».

وحاصل هذا التاويل : ان يراد من امر الآمر هو الأمر بمرتبته الانشائية ، ومن الضمير في شرطه الراجع إلى الامر هو الامر بمرتبته الفعلية ، فيكون المتحصل من هذا انه هل يجوز أمر الآمر بمرتبته الانشائية مع علمه بانتفاء شرط فعليته؟

وينبغي ان لا يخفى انه خلاف الظاهر ، لأن الظاهر من الضمير الراجع إلى شيء ان يكون راجعا اليه بما له من معناه الاول ، فارجاع الضمير اليه بان يراد منه معنى آخر غير معناه الاول بنحو الاستخدام خلاف الظاهر ، ولذا كان تأويلا.

وعلى كل فيكون النزاع في ان الامر حيث انه بداعي جعل الداعي فمع علم الآمر بان هذا الامر لا يبلغ درجة الفعلية لانتفاء شرط فعليته هل يجوز ان ينشئه؟ فالقائل بعدم جوازه يقول انه حيث ان مرتبة الانشاء انما هي لأجل ان يبلغ درجة الفعلية ، وحيث لا يبلغها لانتفاء شرطها يكون انشاؤه لغوا. والقائل بالجواز يقول بعدم انحصار الغاية في انشائه في كونه لجعل الداعي بل يكون له غايات اخرى ، فلذا يجوز ان ينشئه وان علم انه لا يبلغ درجة الفعلية.

والمصنف يرى جواز انشائه وان علم انه لا يبلغ درجة الفعلية ، واستدل على جوازه بوقوعه وهو اتم دليل عليه ، فلذا قال : «وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

غنى وكفاية» فإن الأوامر الامتحانية واقعة في الشرع كأمر ابراهيم بذبح اسماعيل ، ووقوعها في العرف واقع بالوجدان.

ولا اشكال انه في الأوامر الامتحانية انشاء للطلب وهو انشاء لا يتخطى مرتبة الانشاء ، لأن الغرض منها لا يتعلق بالفعل المتعلق للامر بل في كون المكلف في صدد الانقياد والاطاعة ، فاذا خطر للمكلف الاطاعة حصل الغرض من الامر الامتحاني.

وبعبارة اخرى : ان الانشاء ان كان بداعي البعث والتحريك إلى ايجاد الفعل خارجا فهو الذي يبلغ درجة الفعلية وهو الذي يكون طلبه بداعي الجد ، والطلب الذي لا يبلغ مرتبة البعث والتحريك لإيجاد الفعل خارجا فهو الطلب الصورى الباقي في حد انشائيته.

ومما ذكرنا يتضح : ان العبد إذا كان لا ينكشف للمولى كونه داخلا تحت رسم العبودية الّا بان يفعل المأمور به ، كما في المولى العرفي بالنسبة إلى عبده حيث انه لا يعلم ما في نفس عبده ، فربما لا ينكشف ذلك له الّا بأن يفعل العبد ما أمر به ، فأمر مثل هذا بالفعل ليس امرا امتحانيا بل امر حقيقي بداعي الجد. غاية الأمر ان الغرض المتعلق بايجاد الفعل خارجا هو ان يكون كاشفا عن كون العبد داخلا فيما ينبغي له من رسم العبودية ، ولا يلزم ان يكون الغرض المترتب على الفعل الخارجي امرا خارجيا أيضا كأمر المولى عبده بان يشرب المائع الخاص لأجل نفعه لمزاج العبد.

وعلى كل فانشاء الطلب لا يتوقف ولا ينحصر بان يكون الداعي لإنشائه هو البعث الجدي إلى ايجاد الفعل كما عرفت ـ فيما تقدم ـ من مباحث الامر ان الانشاء قد يكون بداعي الجد إلى ايجاد متعلق الامر ، وقد يكون بداعي الامتحان ، وقد يكون بداعي الترجي كانشاء العاشق طلب زيارة محبوبه مترجيا منه ذلك ، ولذا قال (قدس‌سره) : «قد عرفت سابقا ان داعي انشاء الطلب لا ينحصر بالبعث» إلى آخر كلامه ، وقوله : «وغير ذلك» هو غير داعي الامتحان من الترجي والتمني وغيرها من الدواعي التي مر ذكرها في مبحث الامر.

٣٣٨

في محله ، إلا أن إطلاق الامر عليه ، إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير البعث توسعا ، مما لا بأس به أصلا ، كما لا يخفى.

وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض والابرام ، وربما يقع به التصالح بين الجانبين ويرتفع النزاع من البين (١) ، فتأمل جيدا (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه ربما يقال ان الامر موضوع لانشاء الطلب الذي يكون بداعي الجد فلا يكون الانشاء بغير هذا الداعي امرا.

فانه يقال : انه وان لم يكن امرا حقيقيا إذا كان مقيدا بكونه بداعي الجد الّا انه يكون امرا توسعا ومجازا ، ويصح اطلاق الامر عليه مع قيام قرينة على ذلك.

(٢) ربما يكون إشارة إلى انه لا يقع التصالح بين القائلين بالجواز والقائلين بعدم الجواز ، بحمل القائلين بالجواز على ان يريدوا من الامر مرتبته الانشائية ، ومن الضمير الراجع اليه في شرطه مرتبته الفعلية ولا يلزم من هذا القول بامكان ان يوجد المعلول من دون علته التامة. والقائلون بعدم الجواز ارادوا من الامر مرتبته الفعلية ، ومن الضمير الراجع اليه في شرطه أيضا مرتبته الفعلية ، واما إذا كان المراد من الأمر مرتبته الانشائية ومن ضمير شرطه مرتبته الفعلية فانهم يقولون بجوازه ولا ينكرونه لوقوعه في الشرعيات والعرفيات ، ولأن داعي انشاء الامر لا ينحصر في البعث الجدي ولا يلزم ان يكون دائما بداعي جعل الداعي والبعث والتحريك.

الّا ان هذا التصالح ـ أيضا ـ بعيد عن ظواهر كلماتهم لانه :

اولا : ليس من المألوف استعمال الاستخدام في عناوين المسائل التي هي محل النزاع.

ثانيا : انهم رتبوا ثمرة على هذا الخلاف ، وان ثمرة القول بالجواز ترتب الكفارة على من افطر عمدا في شهر رمضان ثم حدث في اثناء اليوم حيض أو سفر قبل الظهر. والقائلون بعدم الجواز اما ان يلتزموا بعدم الكفارة أو انحلال الامر بصوم

٣٣٩

فصل

الحق أن الاوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد ، ولا يخفى أن المراد أن متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد ، كما أن متعلقه في النواهي هو محض الترك ، ومتعلقهما هو نفس الطبيعة المحدودة بحدود والمقيدة بقيود ، تكون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات ، بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكنا ، لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا ، كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام ، بل في المحصورة ، على ما حقق في غير المقام. وفي مراجعة الوجدان للانسان غنى وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك ، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها الخارجية ، وعوارضها العينية ، وإن نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب ، وإن كان ذاك لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية.

فانقدح بذلك أن المراد بتعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد ، انها بوجودها السعي بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود ، متعلقة للطلب ، لا أنها بما هي هي كانت متعلقة له ، كما ربما يتوهم ، فإنها كذلك ليست إلا هي ، نعم هي كذلك تكون متعلقة للامر ، فإنه طلب الوجود (١) ،

______________________________________________________

اليوم إلى اوامر بعدد قطعات النهار ، وهذه الثمرة ظاهرة في كون مراد المجوزين والمانعين هو الأمر بمرتبته الفعلية ومن ضمير شرطه هو أيضا مرتبته الفعلية؟

(١) ظاهر المصنف وغيره ان الخلاف في ان متعلق الطلب هل هو وجود الطبيعة أو وجود الافراد.

٣٤٠