بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

يعمهما ، إلا أن إطلاقها يقتضي كونه نفسيا ، فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لا اشكال فيما إذا علمنا حال الوجوب وانه نفسي أو غيري أو قام دليل من الخارج على كونه نفسيا أو غيريا ، وانما الاشكال فيما إذا لم نعلم حاله ولم يقم دليل من الخارج على تعيين احدهما ، وحينئذ لا بد من الرجوع إلى الاطلاق الذي يمكن ان يعين احدهما لو كان لنا إطلاق ، وإلّا فالرجوع إلى ما تقتضيه الاصول.

ولا يخفى : ان الرجوع إلى الاطلاق يقتضي تعيين كون الوجوب نفسيا لا غيريا ، وتوضيحه بامرين :

الأول : انه قد عرفت ان الوجوب الغيري هو الوجوب المترشح من وجوب آخر ، فهو الوجوب المربوط بوجوب آخر والواجب النفسي هو الوجوب غير المربوط بوجوب آخر.

الثاني : ان قيد الوجوب الغيري قيد وجودي وهو ربط وجوبه بوجوب آخر ، والوجوب النفسي قيده عدم ربطه بوجوب آخر ، ولا يخفى ان القيد في المقام هو الربط وعدم الربط ، فاذا كان القيد هو ربط الوجوب لا بد من بيان له ، واما إذا كان القيد عدم الربط يكفي عدم بيان الربط بيانا له ، فاذا كان المولى في مقام البيان وانتفى القدر المتيقن ولا قرينة شخصية فالكلام ـ حينئذ ـ خال عما يدل على ربط هذا الوجوب المستفاد من الصيغة بوجوب آخر ، فلو كان هذا الوجوب وجوبا مربوطا لكان على المولى البيان ، اما إذا كان غير مربوط كان عدم بيان الربط كافيا فيه ، وحيث كان القيد في الغيرية هو الربط وفي النفسية عدم الربط فالاطلاق في الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا : أي كونه وجوبا غير مرتبط.

وبعبارة اخرى : ان الوجوب النفسي ما كان وجوبه مرادا لنفس ذاته ، والوجوب الغيري ما كان مرادا لغير ذاته فيكفي ذكر نفس ذات الوجوب في كونه مرادا فيما كان الوجوب نفسيا ، بخلاف الوجوب الغيري فإن ذكر نفس ذات

١٤١

وأما ما قيل من أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة ، لدفع الشك المذكور ، بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد ، نعم لو كان مفاد الامر هو مفهوم الطلب ، صح القول بالاطلاق ، لكنه بمراحل من الواقع ، إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الامر ، ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الارادة وحقيقتها ، لا بواسطة مفهومها ، وذلك واضح لا يعتريه ريب (١).

______________________________________________________

الوجوب غير كاف فيه بل لا بد من ذكر ارتباطه بغيره ، فالاطلاق يقتضي النفسية وان كانت الهيئة لم توضع الا للوجوب الذي هو اعم من الوجوب النفسي والغيري إلّا ان الاطلاق يقتضي كونه نفسيا ، والى هذا أشار بقوله : «ان الهيئة وان كانت موضوعة لما يعمهما» إلى آخر كلامه.

والحاصل : ان الشرط والقيد الوجودي ـ وهو كونه شرطا لغيره ومن متعلقات وجوب آخر ـ هو الذي يجب على المتكلم الحكيم التنبيه عليه ، بحيث لو لم ينبه عليه كان مخلا بغرضه ، بخلاف عدم كونه من متعلقات غيره وعدم شرطيته لغيره لا يجب عليه التنبيه عليه ، بل يكفي عدم بيان كونه من متعلقات الغير بيانا ، وله ان يقتصر على الكلام الدال بذاته على صرف الوجوب معتمدا على كون الوجوب نفسيا على الاطلاق.

(١) لا يخفى ان النزاع بين التقريرات والمتن في ان الاطلاق الذي يمكن التمسك به في تعيين النفسية هو اطلاق المادة فقط ، وان الواجب البدلي المستفاد من المادة هو واجب نفسي لا غيري.

وكيفية التمسك باطلاقه لاثبات النفسية هو ما ذكر في اطلاق الهيئة كما هو رأي التقريرات ، أو انه كما يمكن التمسك باطلاق المادة كذلك يمكن التمسك باطلاق الهيئة فيمكن التمسك بهما معا ، ولكنه حيث يمكن التمسك باطلاق نفس الوجوب

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي هو المستفاد من الهيئة لا نحتاج إلى التمسك بمتعلق الوجوب وهو الواجب المستفاد من المادة.

وعلى كل فالنزاع بين التقريرات والمتن في امكان التمسك باطلاق الهيئة وعدمه ، فقوله : «واما ما قيل من انه لا وجه للاستناد إلى آخره» هو ما ذكر في التقريرات دليلا على عدم امكان التمسك باطلاق الهيئة ، وحاصله يتضح بامرين :

الأول : ان القابل لأن يكون له اطلاق أو تقييد هو المفهوم ونفس الماهية غير المراد منها فردا معينا من افرادها ، اما لو كان المدلول المستفاد من الالفاظ فردا معينا من افراد الماهية فلا يعقل ان يكون له اطلاق أو تقييد ، لأن الفرد المعين خاص جزئي غير قابل للاطلاق والتقييد.

الثاني : ان العقل انما يحكم بلزوم الامتثال إذا كان المراد هو الطلب الحقيقي الواقعي ، اما نفس مفهوم الطلب فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله.

فاذا عرفت هذا يتضح ان مفاد الهيئة لا يمكن التمسك باطلاقه لا لما ذكرناه سابقا : من انه معنى حرفي وهو جزئي ، بل مع الغض عن ذلك ، فلو قلنا : بان مفاد الحرف معنى كلي لا بد في المقام ان نقول ان مفاد الهيئة فرد جزئي لا اطلاق فيه ، لما عرفت : من ان مفاد الهيئة هو الوجوب والطلب الالزامي اللازم الامتثال ، وليس هو إلّا الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية المتعلقة بالمادة ، فانه لو كان مفاد الهيئة هو مفهوم الطلب لما حكم العقل بلزوم امتثاله ، فإن الطلب المستفاد من الهيئة هو الطلب المتعلق بالمادة الذي يتصف المتعلق لها بانه مطلوب. ولا شبهة ان المراد من هذا الوصف للمتعلق هو كونه مطلوبا بطلب واقعي ومرادا بارادة حقيقية ، فانه لو كان المستفاد منها هو مفهوم الطلب لما صح اتصاف الفعل بانه مطلوب ومراد واقعا.

فاتضح مما ذكرنا : انه لا اطلاق للهيئة يدفع به الشك في كون الوجوب نفسيا أو غيريا وهو المراد بقوله : «لدفع الشك المذكور» وقد أشار إلى كون مفاد الهيئة ليس مفهوم الطلب بقوله : «نعم لو كان مفاد الامر» : أي الوجوب المستفاد من الحقيقة

١٤٣

ففيه إن مفاد الهيئة كما مرت الاشارة إليه ليس الافراد ، بل هو مفهوم الطلب ، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف ، ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي ، والذي يكون بالحمل الشائع طلبا ، وإلا لما صح إنشاؤه بها ، ضرورة أنه من الصفات الخارجية الناشئة من الاسباب الخاصة.

نعم ربما يكون هو السبب لانشائه ، كما يكون غيره أحيانا (١).

______________________________________________________

لو كان «هو مفهوم الطلب صح القول بالاطلاق» لما عرفت : من ان القابل لأن يكون له اطلاق هو المفهوم دون الفرد الخاص وقد أشار إلى كون المستفاد منها ليس هو مفهوم الطلب بل مفادها الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية وهو امر خاص لا اطلاق له ولا تقييد بقوله : «لكنه بمراحل من الواقع» : أي ان كون مفادها هو مفهوم الطلب يبعد عن الواقع بمراحل.

واستدل على كون المستفاد منها ليس مفهوم الطلب بل مفادها الطلب الحقيقي وهو فرد خارجي جزئي لا اطلاق فيه بقوله : «إذ لا شك في اتصاف الفعل» إلى آخر كلامه ، فتحصل من كلامه أنه لو قلنا ان الحرف لم يوضع بالوضع العام والموضوع له الخاص فيكون جزئيا لا بد ان نقول ان مفاد الهيئة بالخصوص جزئي خاص للبرهان الذي أشار اليه : من اتصاف الفعل بالمطلوبية وليس مفادها ماهية الطلب اللابشرط القسمي ، وهو المراد بقوله : «مفهوم الطلب» فانه القابل للاطلاق والتقييد.

(١) حاصل الجواب : انه قد عرفت ان الوضع في الحروف قاطبة هو الوضع العام والموضوع له العام ، ولا خصوصية للهيئة من بين الحروف ولا يعقل ان تكون الهيئة دالة على فرد خاص من افراده ، بل مدلولها لا بد وان يكون : «هو مفهوم الطلب» «ولا يكاد» يعقل أن «يكون» مدلول الهيئة «فرد الطلب الحقيقي» الذي يكون هو الطلب بالحمل الشائع الصناعي ، لما قد عرفت في مبحث الطلب والارادة ان

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المصنف يرى ان الحمل الشائع في الطلب وهو حمل الكلي على فرده يختص بحمل الطلب على فرده الحقيقي دون الانشائي والذهني ، ولذا قال : «والذي يكون بالحمل الشائع طلبا».

وقد استدل على انه لا يعقل ان يكون مدلول الهيئة هو الفرد الحقيقي من الطلب وانه لا بد وأن تكون كسائر الحروف مدلولها الماهية لا بشرط القابلة للاطلاق وهي مفهوم الطلب لا فرد خاص منه ـ : بانه لا اشكال ان الصيغة المشتملة على الهيئة هي من المعاني الانشائية لا الاخبارية ، ومن الواضح ان القابل لأن يكون انشائيا ويطرقه الوجود الانشائي هو مفهوم الطلب والماهية لا بشرط ، واما الفرد الحقيقي الخارجي لا يعقل ان يطرقه الوجود والتحقق الانشائي لإباء كل فعلية عن فعلية اخرى كما ان التحقق الانشائي لا يعقل ان يكون طلبا حقيقيا.

ومن الواضح ان الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية وجود خارجي من موجودات عالم النفس كالحب والبغض وامثالهما وتتصف النفس به ، فيقال : ان النفس مريدة ومحبة ومبغضة ، فالطلب الحقيقي من الصفات الخارجية اللاحقة للنفس الناشئة تلك الصفات من اسبابها كالملائمة لها اما بذاتها أو لما يترتب عليها من الاغراض والفوائد الملاءمة للنفس تارة والمنافرة لها اخرى. وعلى كل فالوجود الخارجي لا يعقل انشاؤه بل القابل للانشاء هو المفهوم.

نعم ، قد يكون الوجود الحقيقي للطلب هو السبب في الوجود الانشائي بانشاء مفهوم الطلب ، وربما لا يكون الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية بل يكون السبب لانشاء مفهوم الطلب هو الامتحان والاعتذار وقد يكون غير ذلك كما أشرنا اليه في بعض المباحث المتعلقة بالصيغة وقد أشار إلى ما ذكرنا بقوله : «وإلّا لما صح انشاؤه بها» : أي لو كان المدلول للهيئة هو الطلب الحقيقي لما صح انشاؤه بهيئة الصيغة «ضرورة انه من الصفات الخارجية» إلى آخر كلامه ، وقد أشار إلى ان الطلب

١٤٥

واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية والارادة الحقيقية الداعية إلى إيقاع طلبه ، وإنشاء إرادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي وتحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا ، والوجود الانشائي لكل شيء ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه ، كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن ، بل كان إنشاؤه بسبب آخر.

ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة بالطلب المطلق ، فتوهم منه أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا ، يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمري إنه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقيقي إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي أن لا يكون مفاد الهيئة قابلا له ، وإن تعارف تسميته بالطلب أيضا ، وعدم تقييده بالانشائي لوضوح إرادة خصوصه ، وإن الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها ، كما لا يخفى.

فانقدح بذلك صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط ، كما مر هاهنا بعض الكلام ، وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والارادة ما يجدي في المقام. هذا إذا كان هناك إطلاق (١) ، وأما إذا لم يكن ، فلا بد من الاتيان به

______________________________________________________

الحقيقي ربما يكون هو السبب لانشاء مفهوم الطلب وقد يكون غيره بقوله : «نعم ربما يكون هو السبب لانشائه» : أي الطلب الحقيقي إلى آخره.

(١) يشتمل كلامه هذا ـ إلى قوله : وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والارادة ما يجدي في المقام ـ على امور :

ـ منها : ان الفعل المتعلق للطلب كما يوصف بكونه مطلوبا حقيقيا كذلك يتصف بكونه مطلوبا انشائيا ، وانه متعلق للطلب الانشائي كما انه متعلق للطلب الحقيقي ، لوضوح انه انما يتصف ماهية الطلب بانه حقيقي لكون الطلب الحقيقي نحو من انحاء

١٤٦

فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا ، للعلم بوجوبه

______________________________________________________

الطلب ، وكما ان الطلب الحقيقي نحو من انحائه كذلك الطلب الانشائي نحو من انحائه ايضا.

ـ ومنها : ان كون العقلاء يحكمون بان الذي يجب امتثاله هو الطلب الحقيقي لا ينافي ان يكون المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب ، لأن حكم العقلاء انما هو لأجل انهم يحكمون بتطابق الارادة الانشائية للارادة الجدية وان الارادة الجديّة هي السبب لإنشاء الارادة الاستعمالية وربما يكون غيرها سببا للانشاء ، فاذا كان السبب غير الارادة الجدية فالمتعلق للطلب يتصف بانه مطلوب انشائي لا غير.

ـ ومنها : بيان حقيقة الانشاء وانه ليس إلّا قصد ايجاد المعنى باللفظ لا لغرض الحكاية بل يكون الغرض كون هذا المعنى المنشأ هو نحو وجود وايجاد للمعنى ، وهذا نحو من انحاء وجود المعنى كما مر تفصيله في اتحاد الطلب والارادة.

ـ ومنها : ان منشأ الاشتباه والخلط في توهم ان مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي هو تعبيرهم ان مفادها هو الطلب من دون تقييد له بكونه انشائيا ، وينصرف غالبا من لفظ الطلب غير المقيد إلى الطلب الحقيقي ، ولكن لا وجه لهذا التوهم والانصراف ، فانه انما يتم ويحسن فيما إذا لم يقم البرهان على عدمه ، وعدم امكان إنشاء الطلب الحقيقي دليل على عدم كون مفاد الصيغة هو الطلب الحقيقي ولا بد وان يكون مفادها ما يقبل الانشاء وهو مفهوم الطلب الذي بانشائه يكون طلبا انشائيا.

ـ ومنها : ان هذا النوع من الخلط والاشتباه هو من اشتباه المفهوم بالمصداق ، فإن الطلب الحقيقي مصداق من مصاديق مفهوم الطلب الذي هو المنشأ وهو القابل لا غيره للانشاء ، فتوهم ان المنشأ هو الطلب الحقيقي خلط منه بين المصداق والمفهوم.

وبعد ما ذكرناه من هذه الامور تتضح عبارة المتن وما أراده منها تصريحا أو تلويحا.

١٤٧

فعلا ، وإن لم يعلم جهة وجوبه ، وإلا فلا ، لصيرورة الشك فيه بدويا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) حاصله انه إذا لم يكن هناك اطلاق : بان لم يحرز كون المولى في مقام البيان فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه القواعد ، وحيث علم انه واجب وشك في كيفية وجوبه وانه هل وجوبه نفسي أو غيري فاصل وجوبه محرز ، فاذا علمنا بانه لو كان وجوبه غيريا وشرطا لشيء فإن المشروط به قد تنجّز التكليف به فحينئذ نعلم تنجّز التكليف وفعليته في هذا المشكوك نفسيته أو غيريته ، إذ لو كان نفسيا فتكليفه فعلي ولو كان غيريا فائضا التكليف به فعلي ، لتنجز ما هو مشروط به فلا بد من الاتيان به للعلم بفعليته على كل حال ، واما إذا لم نعلم بفعليته لاحتمال كون المشروط به ليس بفعلي فتجري البراءة في فعليّته لاحتمال كون وجوبه غيريا والمشروط به ليس بفعلي ولا منجز ، فيكون الشك في فعليته بدويّا والشك البدوي مجرى البراءة ولذا قال : «فلا بد من الاتيان به» : أي لا بد من الاتيان فعلا بهذا المشكوك نفسيته أو غيريته للعلم بفعلية الخطاب به اما لنفسيته أو لغيريته لأن ذلك «فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا» : أي فيما إذا علمنا بفعلية التكليف الذي احتمل كون هذا المشكوك شرطا له ، ولا بد حينئذ من العلم بفعلية هذا التكليف المشكوك نفسيته أو غيريته اما لنفسه أو لغيره ، ولذا قال : «للعلم بوجوبه فعلا وان لم يعلم جهة وجوبه والّا» وان لم يكن ما احتمل كونه شرطا له بفعلي «فلا» : أي وحينئذ لا نعلم فعلية التكليف بهذا المشكوك لاحتمال كون وجوبه غيريا ولم يكن ما شرط به فعلى الوجوب ، فتكون فعلية التكليف بهذا المشكوك مشكوكة بالشك البدوي فنجري فيه البراءة ولذا قال : «لصيرورة الشك فيه بدويا كما لا يخفى» وربما يقال : بانه فيما إذا علمنا فعلية هذا المشكوك اما لنفسه أو لغيره : بان كان ما احتمل كونه شرطا له قد تنجز وجوبه فحينئذ تارة نعلم على فرض كونه شرطا ليس بشرط متأخر عن المشروط به ، ويكتفى في هذا الفرض باتيان هذا المشكوك مرة واحدة قبل اتيان

١٤٨

تذنيبان

الاول : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا ، وأما استحقاقهما على امتثال الغيري ومخالفته ، ففيه إشكال (١) ، وإن كان

______________________________________________________

المشروط لانه اما متقدم عليه أو معه ، واما إذا احتملنا انه من الشرط المتأخر عن المشروط به فلا بد من اتيانه مرتين : مرة قبل المشروط ومرة بعد المشروط اداء لحق العلم الاجمالي.

وفيه : ان تنجز العلم الاجمالي انما هو بمقدار العلم به ، والعلم قد قام على كون التكليف بهذا المشكوك فعليا ، فإن كان منجزا فلا يعقل ان يكون شرطا بنحو الشرط المتأخر ، اذ فعليته مع كونه متأخرا عن المشروط به لازمها كون خطابه وفعليته بنحو الواجب المعلق لا المنجز ، واحتمال كون وجوبه فعليا والواجب متأخرا بنحو الواجب المعلق يزيد على العلم بفعليته وهو مشكوك يحتاج إلى بيان ، لأن كون وجوبه فعليا والواجب أمرا متأخرا شيء زائد يحتاج إلى بيان ، وحيث ان المفروض انه لا بيان فكونه بنحو التعليق مجرى البراءة فيكتفى باتيانه مرة واحدة ، ولذا لم يتعرض المصنف له ولا اظن ان يلتزم احد في الواجب النفسي الذي علم بفعليته وشك في كونه منجزا بالفعل أو معلقا يؤتى به في زمان آخر : بانه يجب اتيانه مرتين.

(١) ينبغي توضيح المقام بالكلام في نواح متعددة :

الأولى : ان المراد باستحقاق الثواب والعقاب ليس انه يجب على المولى ان يثيب عبده المطيع ويجب ان يعاقب عبده العاصي ، بل المراد ان العقلاء يحكمون : بان ثواب المولى لعبده المطيع شيء واقع في محله كما ان عقابه لعبده العاصي شيء واقع منه في محله ، وإلّا فمن الواضح ان العقلاء لا يحكمون بوجوب الثواب من المولى وبوجوب العقاب منه.

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الثانية : ان حكم العقلاء باستحقاق الثواب والعقاب أو بمدح المطيع وذم العاصي ليس خاصا في خصوص الاطاعة والعصيان لعنوان يخص باب الاطاعة والعصيان ، بل لأن المورد من موارد القضية العامة : من حكمهم بحسن العدل ومدح فاعله وبقبح الظلم وذم فاعله جلبا للخير ودفعا للشر حفظا للنظام وابقاء للنوع وان انقياد العبد وطاعته عدل منه في مراسم العبودية ، وتجزؤه بعصيانه على مولاه ظلم وخروج عن مراسم الرقية ، فالمطيع فاعل للعدل فيستحق المدح والثواب جلبا للخير والعاصي فاعل للظلم فيستحق الذم والعقاب دفعا للشر.

الثالث : ان حكم العقل باستحقاق العبد للثواب والمدح وللعقاب والذم انما يتم بالنسبة إلى اوامر سائر الموالي وعبيدهم حيث يكون الغرض عائدا إلى المولى فيما امر به ونهى عنه ، واما بالنسبة إلى مولى الموالي وخلقه فلا يتم ذلك ، لوضوح ان الغرض من اوامره ونواهيه لا يعود اليه ، وكيف وهو أغنى الاغنياء؟ ولذا فصل بعضهم : بان الثواب منه تعالى على المطيع تفضل منه إذ العبد لم يفعل باطاعته الا ما يعود نفعه اليه لا إلى المولى ، واما في معصيته فانه تمرد منه على مولاه المتلطف به الذي نهاه عن شيء فعله مفسدة عليه ، وهو ظلم من العبد وخروج من مراسم العبودية وقانون الرقية بالنسبة لهذا المولى اللطيف به المتفضل عليه باخراجه له من ظلمة المفسدة ودركها بنهيه له عنها.

ولكن يمكن ان يقال : ان الحق عدم التفصيل في هذه القضية ، لانه بعد ما عرفت ان باب الاطاعة والعصيان انما هي من مصاديق القضيتين العقلائيتين وهما حسن العدل ومدح فاعله وقبح الظلم وذم فاعله ، فاطاعة العبد مولاه بما هي اطاعة منه له عدل منه ويستحق المدح عليها ، وعصيانه بما هو عصيان لمولاه وتمرد عليه ظلم منه لمولاه ويستحق الذم عليه ، وليس في هاتين القضيتين اناطة بالغرض الداعي إلى امر المولى ونهيه ، بل تراهم بالنسبة اليه ـ تبارك وتعالى ـ يقولون : ان مدحه ثوابه وذمه عقابه وبهذا تظافرت الاخبار في زيادة درجات المطيعين وما أعده لهم من جنانه

١٥٠

التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد ، أو لثواب كذلك ، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.

نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة ، وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له ، من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الاعمال ، حيث صار أشقها (١) ،

______________________________________________________

والاخبار صريحة : بان لكل فعل من افعال العبد الإطاعية ثواب عظيم واجر كبير وان فضله ـ جل منعما ـ في انه يجازي بالحسنة عشرة امثالها ولا يقابل السيئة الا بمثلها إذا لم تسبق رحمته غضبه.

الرابعة : ان هذا مسلم بالنسبة إلى الاوامر والنواهي النفسية. واما بالنسبة إلى الاوامر الغيرية فقد وقع الاشكال في استحقاق الثواب والعقاب عليها.

(١) وتوضيح ذلك ان الاوامر الغيرية مع انها مثل الاوامر النفسية في انها لها وجود كما ان للاوامر نفسية وجودا لأنها معلولات لها والمعلول له حظ من الوجود مثل حظ علته ، لا انه هناك امر واحد ينسب إلى الواجبات النفسية بالذات والى الواجبات الغيرية بالعرض وليس للامر الواحد الا إطاعة واحدة وعصيان واحد لكنها مع ذلك انها اوامر متحققة مثل الاوامر النفسية لا تستحق عقابا ولا ثوابا ، لأنها وجودات قهرية وجدت ملازمة للاوامر النفسية وجدت لتوقف الواجب النفسي عليها.

وبعبارة اخرى : انها وجدت لأن من اراد شيئا اراد مقدمته لتوقفه عليها ، لا انها انما وجدت لذاتها حتى يكون لها إطاعة ومعصية ، فليس الامر بها لأجل ما لها من الاهمية والغرض الذاتي حتى يكون لها اطاعة ومعصية ، بل انما وجدت لأنها لا بد ان توجد قهرا للملازمة بين ارادة الشيء وارادة مقدماته ، وما كان كذلك لا يحكم العقلاء بان له اطاعة تستحق الثواب ولا معصية تستحق العقاب.

١٥١

وعليه ينزل ما ورد في الاخبار من الثواب على المقدمات ، أو على التفضل فتأمل جيدا (١) ، وذلك لبداهة أن موافقة الامر الغيري بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الامر النفسي لا توجب قربا ، ولا مخالفته بما هو كذلك بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات القرب والبعد (٢).

______________________________________________________

نعم ، ربما يتضاعف ثواب الواجب النفسي إذا كانت مقدماته ذات مشقة وكثيره من باب افضل الاعمال احمزها ، وربما يعاقب على ترك المقدمة لكنه ليس عليه بل على ترك الواجب لانه بتركها يترك الواجب ، فالعقاب على تركه لا على ترك المقدمة والى هذا أشار بقوله : «نعم لا باس باستحقاق العقوبة على المخالفة» : أي على المخالفة للواجب النفسي لا على المقدمة «عند ترك المقدمة» إلى آخر كلامه.

ويظهر منه ان المخالفة على ترك الواجب تحصل بمجرد ترك تلك المقدمة ولا يخلو عن نظر ، فالواجب إذا كان ظرفه متأخرا انما يصدق ترك الواجب في ظرفه واما عند ترك المقدمة فلا يصدق انه ترك الواجب ، نعم يصدق ان الواجب محقق الترك في ظرفه ، ولعله لهذا عبر بقوله : لا بأس.

(١) لما ذكر ان الواجب ذا المقدمات الكثيرة تزداد مثوبته لانه يصير من أشقّ الاعمال قال انه على هذا تنزل الاخبار الدالة على ان الثواب على المقدمات ، فهي بمعنى انها سبب لزيادة الثواب على الواجب ، فناسب ان يسند الثواب اليها.

أو نقول : ان الاخبار انما دلت على ان الثواب على المقدمات ولم تدل على ان الثواب عليها من باب الاستحقاق ، فلا بد وان يكون ثوابها من باب التفضل.

(٢) لما ذكر فيما سبق بان ضرورة العقل تحكم بان الامر الغيري لا يقتضي استحقاق العقاب على مخالفته وعصيانه ولا استحقاق الثواب على موافقته واطاعته بما هو امر غيري لضرورة حكم العقل بانه ليس للواجب النفسي ذي المقدمات الكثيرة الا استحقاق عقاب واحد على مخالفته ، ولا يرى العقل تعدد العقاب لترك المقدمات ولتركه وكذلك الحال في مسألة الثواب. وهذه الضرورة حيث انها كفتوى من غير

١٥٢

إشكال ودفع : أما الاول : فهو أنه إذا كان الامر الغيري بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب في موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فكيف حال بعض المقدمات كالطهارات ، حيث لا شبهة في حصول الاطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها ، هذا مضافا إلى أن الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا ، وقد اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة (١).

______________________________________________________

بينة ذكر هذا الدليل ، والسبب لحكم العقل بعدم الاستحقاق الا لعقاب واحد وهو على ترك الواجب النفسي وان تعددت مقدماته لا على ترك المقدمات وإلّا لتعدد العقاب.

وحاصل هذا الدليل : ان الثواب والعقاب يدوران مدار القرب من المولى والبعد عنه ، ولا قرب في اطاعة الامر الغيري ولا بعد في مخالفته ، وانما القرب والبعد في اطاعة الواجب النفسي وعصيانه لذلك لم يكن للامر الغيري عقاب ولا ثواب.

ولكن هذا أيضا كدعوى بلا بينة ، فانه لقائل ان يقول : انه بعد ان كان الامر الغيري في عرض الامر النفسي من حيث كونه له وجود وتحقق فلما ذا لا تكون اطاعته مقربة ومعصيته مبعدة ، فالاولى ان يعلل بما ذكرنا ليكون هو السبب في حكم العقل بعدم الاستحقاق وبعدم القرب والبعد ، ولعل قوله (قدس‌سره) : «لا بما هو شروع في اطاعة الامر النفسي» يشير إلى ما ذكرناه : من ان الامر الغيري حيث انه ارادة قهرية تابعة لارادة ذي المقدمة فليس الامر بها لاقتضاء ذاتها للامر ، بل المقتضي لها هو الواجب النفسي ، فليس لها اطاعة وانما يكون اتيانها شروعا في اطاعة الامر النفسي ومن شئونها ، ولذا لا توجب قربا لنفسها ولا بعدا لذاتها فلا يكون لها ثواب ولا عقاب اللذان هما من تبعات ولوازم القرب والبعد.

(١) الأول : هو الاشكال ، وهو اشكالان أشار إلى اولهما بقوله : فهو انه إذا كان إلى آخره.

والى ثانيهما : بقوله : هذا مضافا إلى ان الامر الغيري إلى آخره.

١٥٣

وأما الثاني : فالتحقيق أن يقال : إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغاياتها إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بد أن يؤتى بها عبادة ، وإلا فلم يؤت بما هو مقدمة لها ، فقصد القربة فيها إنما هو لاجل كونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية ،

______________________________________________________

وحاصل الاشكال الاول : انه قد ثبت مما تقدم ان الامر الغيري بما هو أمر غيري لا مثوبة على امتثاله ولا اطاعة له اطاعة توجب قربا من المولى بموافقة ما امر به. وقد مر ان هذا الحكم عقلي والاحكام العقلية لا تخصيص فيها فلا فرق بين مقدمة ومقدمة ، مع انه قد تظافرت الادلة على كون الطهارة من الوضوء والغسل وبدلهما من التيمم لها ثواب لأن الوضوء نور والغسل اعظم نورية من الوضوء كما هو لسان قوله عليه‌السلام : (وأي وضوء أطهر من الغسل) (١) ودلت الادلة أيضا على انها مقربة من المولى ، وقد تقدم ان الامر الغيري لا قرب فيه.

والاشكال الثاني : هو ان الامر الغيري امر توصلي ولا سيما لما سيأتي ، وتقدم : من ان المقدمة ما هو بالحمل الشائع مقدمة لا عنوان مقدميتها ، لأن التوقف على ذاتها لا على عنوان مقدميتها ، فيحصل الامتثال بالمقدمة وان لم يقصد بها امتثال امرها ، فلا يشترط في مقدميتها قصد القربة مع انه قد دلت الادلة ـ أيضا ـ على ان الطهارات الثلاث : الوضوء والغسل وبدلهما ـ وهو التيمم ـ لا تتم مقدميتها إلّا بقصد القربة ، فاوامرها الغيرية قربية عبادية ، وهذا مناف لما ذكرنا : من أن الامر الغيري توصلي لا تعبدي ، والى هذا أشار بقوله : «هذا مضافا إلى ان الامر الغيري لا شبهة في كونه توصليا» والحال انه «قد اعتبر في صحتها» : أي في صحة الطهارات الثلاث «اتيانها بقصد القربة» فاوامرها تعبدية لا توصلية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١ : ٥١٣ / ١ باب ٣٣ من ابواب الجنابة.

١٥٤

لا لكونها مطلوبات غيرية (١) والاكتفاء بقصد أمرها الغيري ، فإنما هو لاجل أنه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث أنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة (١) ، فافهم.

______________________________________________________

(١) هذا هو الدفع لهذين الاشكالين.

وحاصله الذي به يندفع الاشكالان معا : هو ان ذا المقدمة توقفه يختلف فتارة يتوقف على ذات الشيء ، واخرى يكون توقفه على الشيء بما هو عبادة فيكون بما هو عبادة مقدمة ، فلا تتحقق مقدميته إلّا إذا أتى به عبادة.

وبعبارة اخرى : ان الطهارات الثلاث بذاتها عبادات ومستحبات نفسية وهي مقدمة للواجب كالصلاة والطواف ـ مثلا ـ بما هي عليه بذاتها وذاتياتها ، فاذا كانت بذاتها وبنفسها امورا عبادية فلا بد إذا توقف عليها الواجب ان تتحقق بما هي عليه وتحققها بما هي عليه يلزمه قصد القربة ، فقصد القربة فيها لا لاقتضاء الامر الغيري للقربية ، بل الامر الغيري يدعو إلى تحقق هذه الطهارات وتحقق هذه الطهارات لا يكون إلّا باتيانها بقصد القربة لتوقف تحققها بذاتها على قصد القربة ، فلا بد من اتيانها بقصد القربة لتتحقق ، لا لأن الامر الغيري يدعو إلى قصد القربة بل الامر الغيري يدعو إلى تحققها كما يدعو إلى ايجاد سائر المقدمات لتوقف الواجب عليها ، واما عباديتها فلأن تحققها بذاتها يتوقف على قصد القربة ، وبهذا اندفع الاشكالان اما الاشكال الاول وهو ان اتيانها يقتضي الثواب فليس ذلك الاقتضاء من الامر الغيري فيها دون ساير المقدمات ، بل لأنها بنفسها عبادة والعبادة اتيانها يقتضي ثوابا وقربا ، فثوابها لذاتها ولانها بنفسها مستحبات نفسية لا لأن امرها الغيري يقتضي ثوابا وقربا ، والى هذا أشار بقوله : «فالتحقيق ان يقال : إن المقدمة فيها بنفسها مستحبة وعبادة» لا لأجل امرها الغيري.

واندفع الاشكال الثاني ـ أيضا ـ وهو كون الامر الغيري توصليا لا عباديا بل حيث لا اطاعة له ولا قرب فيه ليس فيه قابلية المقربية. فكيف تقع هذه الطهارات

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عبادة ومقربة مع انها مقدمات ووجوبها غيري؟ وقد عرفت اندفاعه ـ أيضا ـ بما ذكرنا : من ان مقربيتها وعباديتها لا لاقتضاء امرها الغيري لذلك بل لتوقف تحقق ذاتها على اتيانها بقصد القربة ، والى هذا أشار بقوله : «وغايتها» : أي الواجبات النفسية «انما تكون متوقفة على احدى هذه العبادات» : أي متوقفة على وجودها ووجودها وتحققها يتوقف على عباديتها ، فالواجبات النفسية تتوقف على عباديتها واتيانها بقصد القربة لا لأن اوامرها الغيرية المترشحة من الواجبات النفسية تقتضي ذلك بل الذي اقتضى ذلك هو كون ذات هذه الطهارات لا تتحقق إلّا إذا اتي بها بقصد القربة ، لا لدعوة من الامر الغيري للعبادية بل الامر الغيري يدعو الى تحقق ما هو مقدمة ، وكون هذه الطهارات مقدمة ولها الاثر في الواجب النفسي يتوقف على وجودها وتحققها المتوقف على ايجادها بقصد القربة ولذا قال : «فلا بد ان يؤتى بها عبادة» إلى آخر كلامه ، وهو واضح بعد ما ذكرنا.

(١) هذا دفع دخل يمكن ان يورد في المقام.

لا يخفى : ان كلامه لا يخلو عن إجمال ، ويمكن ان يفسر بنحوين :

الاول ، وحاصله : انه لا اشكال في ان الحكم الاستحبابي والحكم الوجوبي من المثلين اللذين لا يعقل ان يجتمعا في شيء واحد في زمان واحد : بان يكون مستحبا وواجبا فحكم هذه الطهارات الاستحبابي بعد عروض الوجوب الغيري يضمحل بحده ويندك في هذا الوجوب الغيري ، لعدم معقولية بقائه بحده فاذا اضمحل الامر الاستحبابي فلم يبق الا الامر الغيري ، وقد عرفت انه ليس له قابلية القربية فكيف يمكن ان تقع هذه الطهارات عبادية ولا أمر فيها يمكن ان يقصد امتثاله لاضمحلال امرها النفسي ، والامر الغيري غير قابل للعبادية.

وحاصل الجواب : انه بعد ما عرفت : من ان الامر الغيري انما يدعو إلى ما هو المقدمة ، ومقدمية هذه الطهارات تتوقف على اتيانها بقصد القربة ، وحيث ان امرها الاستحبابي قد اضمحل بواسطة عروض الوجوب الغيري فلا بد ان يقصد بها امتثال

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

امرها الغيري ، إلّا أنّك قد عرفت ان هذا لا يدفع الاشكال ، لأن الامر الغيري غير قابل للمقربية فلا بد اما ان يقال : ان هذه الأوامر الغيرية في الطهارات حيث انها خرجت من حد الضعف إلى حد القوة ، فإن الامر النفسي الاستحبابي الذي كان فيها بواسطة عروض الوجوب عليه قد خرج من حد الضعف الاستحبابي إلى حد القوة الوجوبية فإنها كانت قبل عروض مقدميتها راجحة وليست لازمة ، وبعد ان صارت مقدمة لازمة فالرجحان الذي كان فيها موجود في ضمن الامر الغيري الوجوبي ، لكن لا بحده من الضعف بل بحد آخر قوي ، فهذا الامر الغيري فيها بالخصوص له قابلية الدعوة الى المقربية.

أو نقول : حيث ان الامر الغيري يدعو إلى ما هو المقدمة ، ومقدمية الطهارات تتوقف على اتيانها عبادة والعبادية لا تنحصر في قصد الامر فلا بد من اتيانها بما هي عليه من رجحانها الذاتي ومحبوبيتها الذاتية ، لأن امرها النفسي الاستحبابي لا وجود له وامرها الغيري ليس فيه قابلية المقربية فيقصد رجحانها الذاتي ومحبوبيتها الذاتية وهذا كاف في قربيتها ، ولعله أشار الى ما ذكرنا بقوله : فافهم.

الاحتمال الثاني : هو ان الدخل الذي يشير إلى دفعه بقوله والاكتفاء بقصد امرها الغيري ـ هو ان الامر الغيري لا يقتضي المقربية وقد قام الاجماع على لزوم اتيان هذه الطهارات بقصد القربة ، وذهب المشهور إلى الاكتفاء في قربيتها بقصد امرها الغيري ، فانهم قالوا بامكان اتيانها بقصد غاياتها ، ومعنى اتيانها بقصد غاياتها هو قصد اتيانها ممتثلا بها الامر المترشح لها من غاياتها ، وهذا كاف في قربيتها عندهم ، وهو مناف لما تقدم : من ان الامر الغيري لا يقتضي المقربية ، فأشار إلى دفعه بقوله : «فانما هو» وحاصله انه انما اكتفى المشهور بقصد امرها الغيري في قربيتها لا لأن الامر الغيري له اقتضاء القربية ، بل لأن قصد امتثال الامر الغيري يلازمه قصد عباديتها ، لأن الامر الغيري يدعو إلى ما هو المقدمة ، ودعوته إلى ما هو المقدمة دعوة إلى اتيانها بما هي : من كونها عبادة ، لأن الامر الغيري لا يدعو إلّا إلى

١٥٧

وقد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين :

______________________________________________________

ما هو مقدمة وله الاثر المتوقف عليه ذو المقدمة ، فيلازم قصد امرها الغيري قصد ما هو عبادة بذاته وحقيقته ، فليست هذه العبادة ناشئة من نفس قصد امرها الغيري بل حيث ان الامر الغيري يدعو إلى اتيانها بذاتها وقصدها معناه انه قصد عباديتها فالاكتفاء بقصد الامر الغيري لانه يلازمه قصد ما هو عبادة ، لأن المقصود الذي هو المقدمة هو عبادة ، فلذا اكتفى المشهور بقصد أمرها الغيري في عباديتها ، وهذا مراده من قوله : «لأجل انه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه» : أي ان الاكتفاء بقصد الامر الغيري في عباديتها لأجل انه يدعو إلى ذاتها وما هو كذلك : أي وما هو عبادة في نفسه «حيث انه» الامر الغيري «لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة» ولعل قوله «فافهم» يشير إلى ان قصد الامر لا ينبغي الاكتفاء به ، فانه وان كان يدعو إلى ما هو عبادة في نفسه الذي بعباديته يكون مقدمة إلّا انه حيث ان هذه الطهارات ليست عبادة بذاتها والامر الغيري ليس فيه اقتضاء العبادة ولا امر فيها آخر غير الامر الغيري حتى تكون قصده موجبا لعباديتها.

نعم ، لو كانت عبادة بذاتها أو امكن ان يجتمع مع الامر الغيري الامر النفسي المتعلق بها لصح الاكتفاء بقصد امرها الغيري لما يلازمه من قصد عباديتها ، فلا بد ان نلتجئ إلى انه بقصد اتيانها بداعي امرها الغيري يتضمن رجحانها الذي في ضمنه فلذا يكتفى به.

فمحصل الجواب عن الاشكالين في الطهارات الثلاث : ان مقربيتها وثوابها وعباديتها انما هو لأنها بنفسها مستحبات نفسية وبما هي مستحبات نفسية وراجحة محبوبة وقعت مقدمة ومطلوبة بالامر الغيري ، فلا دخالة للامر الغيري لا في الثواب عليها ولا في عباديتها بل ثوابها وعباديتها لاستحبابها النفسي ، وقد تفصى في التقريرات عن الاشكالين بوجهين غير ما ذكره المصنف : من كونها بنفسها مستحبات قد أشار اليها في المتن.

١٥٨

أحدهما ما ملخصه : إن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو المقصود منها ، من العنوان الذي يكون بهذا العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها ، لكونه لا يدعو إلا إلى ما هو الموقوف عليه ، فيكون عنوانا إجماليا ومرآة لها ، فإتيان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها ليس لاجل أن أمرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك ، بل إنما كان لاجل إحراز نفس العنوان ، الذي يكون بذاك العنوان موقوفا عليها (١).

______________________________________________________

(١) هذا اول الوجهين ، وتوضيحه : ان هذه الطهارات ليست مقدمة بما تشتمل عليه من الحركات الخاصة من غسل الوجه واليدين ، أو غسل الجسد كله أو ضرب الارض والمسح ، بل هي مقدمة بما لها من العنوان المنطبق عليها ، فلا تقع مقدمة الا بقصدها بعنوانها. وعناوين الافعال تارة تكون قهرية كقصد التنظيف ـ مثلا ـ لغسل الوجه فانه لا يحتاج إلى ازيد من قصد غسل الوجه ، واخرى لا يكون العنوان قهريا بل قصديا لا يتحقق إلّا بقصده ، وعنوان هذه الطهارات الذي به تكون مقدمة قصدي لا قهري قضاء لحق مقدميتها فإنها به تكون مقدمة.

ولا يخفى عليك ـ أيضا ـ ان العنوان القصدي لا يلزم ان يقصد بالتفصيل بل يكفي في تحققه قصده بالاجمال ، فاذا اتى بهذه الافعال بقصد امرها الغيري يتحقق قصد عنوان هذه الطهارات الذي به تكون مقدمة بنحو الاجمال والارشاد ، لأن الامر الغيري انما يدعو إلى ما هو مقدمة ، فقصده قصدها بما هي مقدمة وقصدها بما هي مقدمة قصد اجمالي لعنوانها المنطبق عليها الذي به تكون عبادة وتقع مقدمة للصلاة مثلا ، وان قصد هذا العنوان الاجمالي الذي لها لا يكون إلّا باتيانها بقصد امرها الغيري المقدمي ، فقصد امرها يوجب ان تقع عبادة لا لأن الامر الغيري يقتضي العبادية ، بل لأن الامر الغيري يقتضي قصدها بالوضع الذي به تكون مقدمة ، وهذا لا يكون إلّا بقصد ما لها من العنوان اجمالا وهذا ـ أيضا ـ لا يكون إلّا

١٥٩

وفيه : مضافا إلى أن ذلك لا يقتضي الاتيان بها كذلك ، لامكان الاشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا عليها بنحو آخر ، ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا ، بل كان الداعي إلى هذه الحركات

______________________________________________________

بقصد اتيانها بامرها الغيري ، وقد أشار إلى جميع ما ذكرنا في عبارة المتن فانه أشار إلى انها بعنوانها مقدمة لا بما هي حركات خاصة بقوله : «من العنوان الذي يكون بذاك العنوان مقدمة» وأشار إلى ان قصدها بما لها من العنوان لازم في مقدميتها بقوله : «فلا بد في اتيانها بذاك العنوان» والى ان ذلك العنوان الذي لا بد منه يحصل من اتيانها بقصد امرها بقوله : «من قصد امرها» والى ان قصد العنوان بنحو الاجمال والمرآتية كاف في مقام تحققه بقوله : «لكونه لا يدعو إلّا إلى ما هو الموقوف عليه فيكون عنوانا اجماليا ومرآة لها» والى ان عباديتها المتحققة باتيانها بقصد امرها الغيري لا لأجل ان الامر الغيري يقتضي ذلك بل لأجل كونه وصلة لأن تقع مقدمة بما هي عليه من عنوانها بقوله : «فاتيان الطهارات عبادة واطاعة لامرها ليس لأجل ان امرها المقدمي يقضي بالاتيان كذلك» : أي باتيانها عبادية «بل انما كان لأجل» ان قصد اتيانها بامرها الغيري به يحصل «احراز نفس العنوان الذي يكون» بما هي اتيانها «بذاك العنوان موقوفا عليها» ومقدمة.

فمحصل هذا الجواب الاول : ان قصد اتيانها بامرها الغيري لا لاقتضاء الامر الغيري لقصد امتثاله لما عرفت انه توصلي لا عبادي ، بل لأن به يحصل الإشارة إلى عنوانها الذي به تكون مقدمة. ويظهر انه من الامور المسلمة عند التقريرات ـ بحسب ما دلت عليه عبارة المتن ـ ان قصد امتثال الامر الغيري موجبا لوقوعها عبادة إلّا انه لا اقتضاء في الامر الغيري لذلك لانه توصلي لا عبادي ، وانما اضطرنا اليه في المقام لانه به يحصل القصد الاجمالي إلى العنوان الذي به تكون هذه الطهارات مقدمة وموقوفا عليها.

١٦٠