بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-058-6
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والفرق بينهما هو انه بناء على ان المتعلق للطلب هو وجود الطبيعة تكون المشخصات خارجة عن المطلوب ومن لوازمه ، وبناء على كون متعلق الطلب هو وجود الافراد تكون المشخصات داخلة في المطلوب ، فإن الفرد ليس هو إلّا الطبيعة الموجودة بمشخصاتها.

واختار (قدس‌سره) ان متعلق الطلب هو وجود الطبيعة دون الافراد في الامر ، ومتعلق الطلب في النهي هو ترك الطبيعة دون ترك الفرد ، ولذا قال : «ان متعلق الطلب في الاوامر هو صرف الايجاد كما ان متعلقه في النواهي هو محض الترك ومتعلقهما» : أي ومتعلق الايجاد والترك «هو نفس الطبيعة».

واستدل عليه : بان الوجدان شاهد بان متعلق الغرض هو نفس الطبيعة وجودا أو تركا ، واذا كان متعلق الغرض هو الطبيعة والامر والنهي انما يتعلقان بما هو المتحمل للغرض دون ما هو خارج عنه ، فانه لا يعقل ان يكون الخارج عنه متعلق الغرض داخلا في متعلق الامر والنهي بعد ان كان العلة فيهما هو الغرض ، فيكون دخول ما هو خارج عن الغرض في متعلق الامر من قبيل المعلول من غير علة.

ومن الواضح ان المشخصات لوجود الطبيعة خارجة عما به ثبوت الطبيعة وتحققها فانه بوجودها والمشخصات خارجة عنه ملازمة له ، فإن الغرض المتعلق باكرام زيد يتحقق بوجود اكرامه ، ولا دخل لكون الاكرام في مكان خاص أو زمان خاص في الغرض المترتب على اكرامه ، بحيث لو امكن ان يوجد الاكرام من دون مكان أو زمان لما كان مضرا في تحقق الامتثال ، لحصول ما فيه الغرض الداعي إلى الامر ، وكذلك لو أمكن ان يحصل ترك الطبيعة من دون زمان ـ مثلا ـ لما كان مضرا في تحقق الامتثال لما تعلق به النهي من عدم تحقق المفسدة الداعية لطلب تركه.

وعبارة المتن واضحة ، وان الاستدلال مركب من مقدمتين :

الاولى : وجدانية وهي ان ما فيه الغرض هو ايجاد الطبيعة أو تركها ، وان جميع الخصوصيات الخارجة عن وجود الطبيعة ـ مثلا ـ كمشخصاتها اللازمة لهويتها

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

العينية خارجة عما فيه الغرض ، وان الوجدان هو الشاهد على ذلك ، وجميع ما ذكر في المتن لإثبات هذه المقدمة.

واما المقدمة الثانية البرهانية : وهي انه لا يعقل ان يكون ما هو خارج عما فيه الغرض داخلا في متعلق الطلب ، فلم يشر اليها لكونها امرا مفروغا عنه.

وقد تضمنت عبارة المتن جملا لا بأس بالإشارة إلى تفسيرها :

ـ منها : قوله : «كما هو الحال في القضية الطبيعية الخ». توضيحه ان القضية الطبيعية في اصطلاح المنطقيين هي القضية التي كان الموضوع فيها هو الطبيعة الكلّية بما هي كلّية ، كقولهم : الحيوان جنس ، والانسان نوع ، ولذلك قيدها بقوله في غير الاحكام ، فإن الكلي بما هو كلي لا يعقل ان يكون متعلقا لحكم من الاحكام الشرعية ، اذ لا يعقل ان يكون المطلوب في قوله صلّ هو طبيعة الصلاة الكلية بما هي كلية ، إذ الطبيعة بما هي كلية لا موطن لها الّا الذهن ولا وجود للكلي بما هو كلي في الخارج ، ومتعلق الطلب هو ايجاد الطبيعة خارجا ، فلا يعقل ان يكون المطلوب هو ايجاد الكلي بما هو كلي في الخارج.

وقد عرفت مما ذكرنا : ان متعلق المحمول في القضية الطبيعية المنطقية هو الطبيعة ولا يعقل ان يكون هو الفرد ، اذ عدم معقولية كون الفرد نوعا أو جنسا من اوضح الواضحات ، وهذا هو السبب في تشبيه متعلق الطلب بالقضية الطبيعية.

وحاصله : ان متعلق الطلب هو الطبيعة دون الفرد كما ان الموضوع في القضية الطبيعية هو الطبيعة دون الفرد.

ـ منها : قوله (قدس‌سره) : «بل في المحصورة الخ». لا يخفى ان قولنا الانسان نوع في القضية الطبيعية تمام المنظور فيها هو طبيعة الانسان وهي تمام المنظور اليه ، اذ لا يعقل ان يكون المنظور فيها هو الطبيعة بما هي مرآة للأفراد ، فإن لازمه ان يكون كل فرد من افراد الانسان نوعا وهو باطل ضرورة. والقضية المحصورة هي ما احيطت بحاصر يحصر افرادها كقولهم : كل انسان ناطق ، وحيث كان الغرض منها

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حصر الافراد التي يصدق عليها المحمول وهو الناطق ، فلا بد وان يكون المنظور فيها هي الطبيعة لا بما هي مرآة لافرادها فليست هي تمام المنظور اليه بل هي ما فيه ينظر ، ولذا قالوا : ان الطبيعة في القضية الطبيعية ما له ينظر وفي المحصورة ما فيه ينظر ، الّا انه في كل منهما الطبيعة هي المنظورة دون الفرد ، غايته انه في الطبيعة هي تمام ما ينظر وفي المحصورة الطبيعة ما فيه ينظر ، فالمنظور في كل منهما هو الطبيعة ، ولذا قال : «بل في المحصورة» فانه الطبيعة فيها أيضا هي المنظورة الّا انه لأن تكون كمرآة لغيرها ، والافراد انما يصح ان يقال منظور اليها باعتبار أن ما هو كالمرآة لها هو المنظور ، واما نفس الافراد باعيانها وهوياتها الخاصة فلا يعقل ان تكون حاضرة في ذهن الناظر ، فالمنظور اولا وبالذات في ذهن الناظر هو الطبيعة ، وحيث لم تكن تمام المنظور اليه بل لغرض ان تكون كمرآة لأفرادها فنسب النظر إلى افرادها بالعرض. وعلى كل فالطبيعة في الطبيعية والمحصورة هي المنظورة دون الفرد.

ـ منها قوله (قدس‌سره) : «وان نفس وجودها الخ». توضيحه ان الطبيعة بما هي هي الطبيعي ، والطبيعة المضافة إلى فردها بنحو ان تكون الاضافة داخلة والمضاف خارج هو الحصة ، والمضاف والمضاف اليه معا هو الفرد ، والمتعلق للطلب هو الوجود المضاف إلى الطبيعة فقط دون الوجود المضاف الى حصصها ودون الوجود المضاف إلى افرادها ، لأن المتحمّل للغرض هو الوجود المضاف إلى افرادها ، لأن المتحمل للغرض هو الوجود المضاف إلى الطبيعة فقط دون الوجود المضاف إلى الطبيعة المضافة ، فإن اضافتها كالمضاف اليه خارجان عما فيه الغرض ، وهذا الوجود المطلق المضاف إلى الطبيعة حيث انه يسع ويصدق على كل وجود خارجي للطبيعة يسمى بالوجود السعيّ ، فالمطلوب هو وجود الطبيعة فقط وان كان هذا المطلوب إذا تحقق خارجا لا ينفك عن الاضافة ولا ينفك عن المضاف اليه ، لأن وجود الطبيعة اذا تحقق تتحقق معه المشخصات فلا بد ان تحقق اضافته إلى المشخصات أيضا. ولفظ الخصوصية في المتن تشمل الاضافة والمضاف اليه الذي أشار إلى كونها

٣٤٣

فافهم (١).

دفع وهم : لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب ، إنما يكون بمعنى أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد ، وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة ، وإفاضته ، لا أنه يريد ما هو صادر وثابت في

______________________________________________________

خارجة عما هو متعلق الطلب بقوله : «وان كان ذاك الوجود لا يكاد ينفك في الخارج عن الخصوصية».

ـ ومنها : قوله : «فانقدح بذلك الخ» يريد انه لا ينبغي ان يتوهم من قولهم : ان الطبيعة هي متعلق الطلب في قبال الفرد أن غرضهم ان الطبيعة بما هي متعلقة للطلب ، بل غرضهم ان متعلق الطلب هو الوجود السعي للطبيعة في قبال وجودها المتخصص بخصوصية الفردية ، اذ لا يعقل ان يتعلق الطلب بالطبيعة من حيث هي ، فإن الماهيات من حيث هي ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وانما المتعلق للطلب وجودها المناسب لها وهو وجودها السعي من دون تخصصه بخصوصية.

ووجه الانقداح مما ذكرنا : هو ان الطلب مسبب عن الغرض والغرض انما يقوم بوجودها لا بما هي. نعم حيث كان الامر هو طلب الوجود والوجود يتعلق بالطبيعة من حيث هي صح ان يقال ان الامر متعلق بالطبيعة من حيث هي هي ، وقد اشار إلى هذا بقوله : «نعم هي كذلك» أي نعم ان الطبيعة بما هي تكون متعلقة للامر لا للطلب ، لأن الطلب متعلقه وجود الطبيعة دون الطبيعة بما هي.

(١) لعله إشارة إلى انه لا ينبغي ان يتوهم من التعليل لعدم تعلق الطلب بالطبيعة ان الطبيعة من حيث هي لا تكون متعلقة للطلب ، لأنها ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة هو كون الطبيعة من حيث هي لا يعقل ان تكون متعلقة لشيء اصلا ، فإن كون الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي لا يمنع من ان يتعلق بها شيء ، فإن الوجود انما يتعلق ويعرض للطبيعة من حيث هي ، ولكن حيث انه مسبب عن غرض يقوم بوجودها فلا يعقل ان يتعلق بها من حيث هي وانما يتعلق بوجودها.

٣٤٤

الخارج كي يلزم طلب الحاصل ، كما توهم (١) ، ولا جعل الطلب متعلقا بنفس الطبيعة ، وقد جعل وجودها غاية لطلبها وقد عرفت أن الطبيعة

______________________________________________________

(١) حاصل الوهم ان متعلق الطلب لا يعقل ان يكون وجود الطبيعة ولا بد وان يكون هو الطبيعة ، لانه ليس للماهية الا وجودان : وجود ذهني ، ووجود عيني خارجي وليس هو وجودها الذهني لأنه :

اولا : ان الاغراض انما يتحملها الماهية الموجودة في الخارج دون الموجودة في الذهن.

وثانيا : انه إذا كان المتعلق هو الوجود الذهني فهو الوجود الذهني الذي تحقق في ذهن الآمر وهذا غير مقدور للمكلف تحصيله.

وثالثا : مخالفته للوجدان فإن من طلب طبيعة من عبده لا يريد منه وجودها الذهني ، ولا يعقل ـ أيضا ـ ان يكون المتعلق للطلب هو وجودها العيني الخارجي ، لأن الوجود الخارجي بنفسه لا يعقل ان يكون متعلقا للطلب لأن الطلب من موجودات عالم النفس دون الخارج ، فلا بد ان يكون متعلقه مما يحصل في افقه وعالمه وإلّا انقلب الذهن خارجا أو الخارج ذهنا وهو واضح الفساد.

واما كون متعلق الطلب هو وجود الطبيعة الذهني الفاني في الوجود الخارجي ، بنحو فناء العنوان في معنونه وفناء الصورة في ذي الصورة فهو ـ أيضا ـ غير معقول ، إذ المطابق للصورة لا يعقل ان يكون معدوما في الخارج ، واذا كان موجودا يلزم طلب الحاصل ، اذ لا معنى لتعلق الطلب بالموجود ، فإن الطلب انما هو ليكون سببا للوجود ، فلا يعقل ان يتعلق بالموجود ولذلك كان الطلب الحاصل من المحالات الواضحة. هذا أولا.

وثانيا : ان الطلب إذا كان سببا للوجود والموجود لا يعقل ان يتحمل وجودا آخر ، فإن الموجود لا يكون موجودا فلا يتعلق الطلب بايجاد الموجود.

٣٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل ما ذكرنا : انه إذا كان لا يصح ان يتعلق الطلب بوجود الطبيعي الذهني ولا وجودها الخارجي فلا بد ان يكون متعلق الطلب هو الطبيعة من حيث هي.

والجواب : وهو الدفع الذي أشار اليه بقوله : «لا يخفى ان كون وجود الطبيعة أو الفرد» إلى آخره.

وتوضيحه : ان الطبيعة من حيث هي لا يعقل ان تكون متعلقة للطلب لما عرفت من ان المتحمل للغرض هو وجودها لا هي من حيث هي ، ولا بد ان يكون ما فيه الغرض هو المتعلق للطلب كما عرفت. واما الوجود الذهني للطبيعة فلا يعقل ان يكون هو المتعلق للطلب لما تقدم من المحاذير المذكورة.

فتعين ان يكون متعلق الطلب هو وجود الطبيعة خارجا ، ولا يلزم منه طلب الحاصل ، بتوضيح كيفية تعلق الطلب بوجود الطبيعة خارجا هو ان الشوق من الصفات النفسية ذات المتعلق ، فالشوق لا بد له من تعلق في افق الشوق ، والمعدوم المطلق من كل جهة لا تحقق له اصلا فلا يكون متعلقا للشوق ، والموجود المتحقق في الخارج لا يشتاق إلى وجوده لفرض تحقق وجوده ، فلا بد ان يكون متعلق الشوق وجود الطبيعة خارجا بنحو الفرض والتقدير ، ليخرج بواسطة تعلق الشوق به من الفرض والتقدير إلى الثبوت والتحقق ، فهو معدوم خارجا وموجود فرضا وتقديرا وهو معدوم من جهة وموجود من جهة.

فاتضح : ان متعلق الطلب وجود الطبيعة خارجا بنحو الفرض والتقدير ، ولا يلزم من هذا طلب الحاصل ، ولا فرق في هذا بين القول بتعلق الطلب بوجود الطبيعة أو بوجود الفرد والى هذا أشار بقوله : «ان كون وجود الطبيعة أو الفرد» إلى آخر كلامه.

قوله (قدس‌سره) : «وجعله بسيطا». قد مر فيما تقدم الفرق بين الجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة وهو جعل الشيء : أي كونه موجودا فقط ، ولجعل التأليفي الذي مفاد كان الناقصة جعل الشيء شيئا كجعل الجسم أبيض أو الماء باردا وامثال

٣٤٦

بما هي هي ليست إلا هي ، لا يعقل أن يتعلق بها الطلب لتوجد أو تترك ، وأنه لا بد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فيلاحظ وجودها فيطلبه ويبعث إليه ، كي يكون ويصدر منه (١) ، هذا بناء على أصالة الوجود.

______________________________________________________

ذلك ، والطلب كما يمكن ان يتعلق بجعل الشيء بنحو كان التامة كذلك يمكن ان يتعلق بجعل الشيء شيئا.

ولكنه حيث كان الغرض بيان كيفية تعلق الطلب بصرف وجود الطبيعة أو وجود الفرد ، وليس في مقام بيان كيفية تعلق الطلب وانحائه ـ لذلك خص الجعل البسيط بالذكر ، فقال : «ان الطالب» لشيء «يريد صدور الوجود من العبد» ويريد منه «جعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة وافاضته» : أي ويريد من عبده افاضة الوجود على الطبيعة خارجا «لا انه يريد» منه «ما هو صادر».

(١) لا يخفى ان هذا قول ثالث بين كون متعلق الطلب الطبيعة بما هي ، وبين كون متعلقه وجود الطبيعة.

وسبب القول به ان القائل يرى ان ما به الغرض هو وجود الطبيعة ، وحيث لم يستطع دفع شبهة طلب الحاصل فقال ان متعلق الطلب هو الطبيعة من حيث هي ، ويكون وجودها غاية لتعلق الطلب بها. وقد عرفت انه لا وقع للشبهة وان وجود الطبيعة بنفسه هو المتحمل للغرض ، وهو متعلق الطلب من دون لزوم محذور ، فلا داعي لجعله غاية لمتعلق الطلب بعد ان كان بنفسه يمكن ان يكون متعلقا له. هذا أولا.

وثانيا : ان الطبيعة من حيث هي قد تقدم انه لا يعقل ان تكون متعلقة للطلب ، لانها من حيث هي ليست إلّا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، فلا معنى لتعلق الطلب بها وجعل وجودها غاية لطلبها ، بل لا بد ان يكون متعلق الطلب هو وجود الطبيعة ، فلا بد في مقام تعلق الطلب ان يلاحظ الطبيعة ويلاحظ وجودها وعدمها ، وحيث كان متعلق غرضه وجودها فيطلبها كي يخرجها من الفرض إلى التحقق.

٣٤٧

وأما بناء على أصالة الماهية ، فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة بما هي أيضا ، بل بما هي بنفسها في الخارج ، فيطلبها كذلك لكي يجعلها بنفسها من الخارجيات والاعيان الثابتات ، لا بوجودها كما كان الامر بالعكس على أصالة الوجود. وكيف كان فيلحظ الامر ما هو المقصود من الماهية الخارجية أو الوجود ، فيطلبه ويبعث نحوه ليصدر منه ويكون ما لم يكن ، فافهم وتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

(١) اختلف الحكماء في هذه المسألة :

فذهب فريق إلى اصالة الوجود وانه هو المفاض من الجاعل وهو منبع الآثار ، والماهية امر انتزاعي وهي حدوده.

وذهب الفريق الآخر إلى ان الماهية هي الاصيلة وهي المفاضة من الجاعل تكتسب حيثية من الجاعل يصح ان ينتزع منها انها موجودة ، والوجود امر منتزع عنها إذا اكتسبت تلك الحيثية. ولكن الفريقان اتفقا على ان الماهية من حيث هي هي بحيث لم تكتسب حيثية من الجاعل لا موجودة ولا معدومة.

فإن قلنا ان الاصيل هو الوجود كان الطلب متعلقا بوجودها ، وان قلنا ان الماهية هي الاصيلة كان الطلب متعلقا بحيثيتها التي تكتسبها من الجاعل. فالماهية من حيث هي ليست متعلقة للطلب على أي حال ، لأن الداعي إلى طلبها ما هو منبع الآثار وهو المتحمل للغرض الذي من اجله كانت متعلقة للطلب ، ومنبع الآثار إما وجودها أو حيثيتها التي تكتسب من الجاعل. وعلى هذا فالمتعلق هي الماهية بحيث تكون موجودة إما اصالة أو انتزاعا ، اما من حيث هي فلا يتعلق بها الطلب ، وقد أشار إلى ما ذكرنا بقوله : «هذا بناء على اصالة الوجود» : أي بناء على اصالة الوجود فمتعلق الطلب ايجاد الماهية ووجودها. والفرق بين الوجود والإيجاد اعتباري ، فانه حيث ينسب إلى الماهية فهو وجود الماهية ، وحيث ينسب إلى موجدها فهو ايجاد الماهية.

٣٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

«واما بناء على اصالة الماهية فمتعلق الطلب ليس هو الطبيعة» : أي الماهية «بما هي أيضا» لما عرفت من اتفاقهم على كون الماهية : أي الطبيعة من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا مطلوبة ولا لا مطلوبة «بل» متعلق الطلب بناء على اصالة الماهية الطبيعة «بما هي بنفسها في الخارج» فإن الماهية لا تكون بنفسها في الخارج متحققة إلّا اذا كانت مكتسبة حيثية من الجاعل «فيطلبها كذلك» : أي فيطلبها بما هي بنفسها في الخارج أي بما هي مكتسبة حيثية من الجاعل لانها هي التي تكون متحملة للغرض ، ولا تكون كذلك الا حيث تكون مكتسبة حيثية من الجاعل فيلحظها في مقام تعلق الطلب بها في مرحلة الفرض والتقدير بما هي مكتسبة تلك الحيثية فيطلبها لأن يخرجها من الفرض والتقدير إلى التحقق والثبوت ، ولذا قال : «لكي يجعلها بنفسها» بواسطة الطلب «من الخارجيات والأعيان الثابتات» والماهية انما تكون من الخارجيات ومن الأعيان الثابتة في الخارج حيث لا تكون هي الماهية من حيث هي التي هي لا موجودة ولا معدومة ، بل حيث تكون الماهية مكتسبة حيثية من الجاعل تكون بتلك الحيثية خارجية وبعينها ثابتة في الخارج ، لأن منبع الأثر بناء على اصالة الماهية هي الماهية بحيث تكون كذلك «لا بوجودها» إذ الوجود بناء على اصالة الماهية امر انتزاعي ، ومنبع الاثر هو منشأ انتزاعه وهي الماهية التي تكون خارجية وثابتة بعينها في الخارج ، وبناء على اصالة الوجود يكون الأمر بالعكس.

فالمطلوب يكون وجود الماهية لانه منبع الأثر ، والماهية تكون امرا انتزاعيا محددا للوجود وما به الاثر هو متعلق الطلب ، ولذا قال : «كما كان الامر بالعكس على اصالة الوجود وكيف كان فيلحظ الآمر ما هو المقصود» في مقام طلبه وهو المتحمل للاثر وهو احد الامرين «من الماهية الخارجية» بناء على اصالة الماهية «أو الوجود» بناء على اصالة الوجود «فيطلبه ويبعث نحوه» المكلف ليكون طلبه داعيا «ليصدر منه ويكون ما لم يكن».

٣٤٩

فصل

إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز بالمعنى الاعم ، ولا بالمعنى الاخص ، كما لا دلالة لهما على ثبوت غيره من الاحكام ، ضرورة أن ثبوت كل واحد من الاحكام الاربعة الباقية بعد ارتفاع الوجوب واقعا ممكن ، ولا دلالة لواحد من دليلي الناسخ والمنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها ، كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا بد للتعيين من دليل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا في محله ، أنه لا يجري الاستصحاب فيه (١) ، ما لم

______________________________________________________

(١) إذا نسخ الوجوب فهل هناك دليل على ثبوت حكم من الاحكام للمنسوخ ام لا؟ وتوضيحه يحتاج إلى بيان امور :

الأول : ان الدليل ينحصر في ثلاثة اشياء : دليل الناسخ ، ودليل المنسوخ ، والقواعد العامة ، والذي هو محل الكلام في دلالته هو دليل الناسخ ودليل المنسوخ وخصوص الاستصحاب من القواعد ، لأن هذه الثلاثة إذا وجد أحدها فهي مقدمة على بقية القواعد العامة ، واذ لم توجد فلا اشكال في جريان البراءة عن التكليف بالترك فيكون مؤداها ـ عملا ـ مساوقا للاباحة.

والثاني : ان في المسألة اقوالا :

الأول : بقاء الجواز بالمعنى الاعم الذي هو كالجنس للوجوب والاستحباب والاباحة.

الثاني : الجواز بالمعنى الأخص الذي هو الاباحة.

الثالث : الاستحباب.

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الامر الثالث : ان مساق أدلتهم التي ذكرت في المطولات مشعر بان كلامهم وخلافهم مبني على كون الوجوب امرا مركبا : من الجواز ، مع المنع من الترك.

واما بناء على كون الوجوب امرا بسيطا فلا ينبغي توهم بقاء الجواز لا بالمعنى الأعم ، اذ لا تركيب حتى يقال ان النسخ انما تعلق بالفصل وهو المنع من الترك ، ولا يلزم من ارتفاع الفصل ارتفاع الجنس فيثبت الجواز بالمعنى الاعم.

ولا بالمعنى الاخص بان يقال : ان الجواز بالمعنى الاخص فصله امر عدمي وهو عدم المنع من الترك ، اذ الاباحة ليست هي إلّا جواز الفعل مع عدم المنع عن تركه ، فاذا ارتفع المنع من الترك بواسطة نسخ الوجوب يثبت فصل الاباحة ، فإن هذا الكلام كله انما يتأتى بناء على التركيب دون البساطة ، فإن الوجوب على البساطة إما ان يكون هو الارادة والارادة من الاعراض النفسية والعرض بسيط ، أو هو البعث والتحريك اعتبارا وهو اشد بساطة من العرض.

وعلى كل فإن ما يتوهم الاستدلال به ـ بناء على التركيب ـ هو إما دليل الناسخ أو دليل المنسوخ ، ولا دلالة لهما على شيء مما ادعي.

اما دليل الناسخ فلانه انما دل على ارتفاع هذا المركب : من الجواز والمنع من الترك ، ولم يدل على كيفية الرفع فانه كما يجوز ان يكون المركب مرتفعا لارتفاع بعضه وهو المنع من الترك فيكون الجواز باقيا ـ كما يدعيه القائل ببقاء الجواز ـ كذلك يمكن ان يكون المركب مرتفعا بارتفاع كلا جزئية ، ودليل الناسخ قد دل على الرفع ولا دلالة فيه على ان هذا الرفع بأي نحو. هذا أولا.

وثانيا : ان المدعي للدلالة على الجواز إما يريد الجواز بالمعنى الأعم أو الجواز بالمعنى الأخص ، والجواز بالمعنى الأعم جنس والجنس بما هو جنس كلي لا ثبوت له في الخارج ، انما الثابت في الخارج هو حصص الكلي وكل حصة منه غير حصته الاخرى ، فالحصة منه الموجود في ضمن الوجوب غير الحصة منه الموجودة في ضمن غيره ، والجواز بمعناه الجنسي الكلي ليس حكما من الاحكام الخمسة.

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومما ذكرنا ظهر : انه لا وجه لإرادة الجواز بالمعنى الاخص لأن الجواز الموجود في ضمن الوجوب حصة غير الحصة الموجودة في الجواز بالمعنى الاخص.

وأما الدليل المنسوخ فغاية ما يمكن ان يقال في توجيه دلالته على ثبوت الجواز ان اللفظ الدال على معنى مركب له دلالتان : مطابقية وتضمنيّة ، فهو يدل على الجواز والمنع من الترك بالدلالة المطابقية ، ويدل على الجواز بالدلالة التضمنية ، والناسخ انما دل على رفع دلالته المطابقية فتبقى دلالته التضمنية على الجواز.

وفيه أولا : ان الدلالة التضمنية انما هي من توابع المطابقية ، وبعد ارتفاع الدلالة المطابقية بالنسخ لا تبقى الدلالة التضمنية لانها تبع لها ، وبعد ارتفاع المتبوع لا معنى لبقاء التابع.

وثانيا : ان الدلالة التضمنية التي كانت في ضمن الدلالة المطابقية هي الدلالة على حصة من الجواز ولم يكن هناك دلالة تضمنية على الجواز بمعناه الكلي ، اذ ليس الكلي بما هو كلي جزءا من المركب وانما جزء المركب حصة منه. ومن الواضح ـ أيضا ـ انه لا دلالة تضمنية على حصة اخرى من الجواز حتى يثبت الجواز بالمعنى الأخص ، والحصة التي كانت في ضمن المركب الوجوبي لا بد من ارتفاعها ، اذ لا إشكال في ان هذه الحصة من الجواز غير الحصة الاخرى الموجودة في ضمن غيره من الاباحة والاستحباب.

فاتضح : انه لا دلالة لكل من الدليل الناسخ والمنسوخ على بقاء الجواز بمعناه الأعم ولا بمعناه الاخص. واتضح ـ أيضا ـ مما ذكرنا انه لا دلالة لهما على ثبوت غير الجواز من الاحكام : من الاستحباب والكراهة والحرمة.

اما الاستحباب فلأن فصل الجواز فيه امر وجودي وهو رجحان الفعل على الترك ، ولا ينبغي ان يتوهم دلالة دليل الناسخ الرافع للوجوب على بقاء الجواز متفصّلا بفصل وجودي. وكذلك الكراهة فإن فصلها أيضا الرجحان ، غايته انه للترك على الفعل ، ولا دلالة لدليل الناسخ على بقاء الجواز متفصّلا بفصل رجحان

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الترك. واما الحرمة فمن اوضح الاشياء عدم دلالة الدليل الرافع للوجوب على عدم جواز الفعل والمنع من فعله.

واما الدليل المنسوخ فلم يكن فيه دلالة تضمنية على أحد هذه الأحكام حتى يتوهم بقاؤها بعد ارتفاع الدلالة المطابقية. هذا كله في دلالة دليل الناسخ والمنسوخ وانه لا دلالة لاحدهما على شيء اصلا ، وقد أشار اليه بقوله : «فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ» إلى آخر عبارته.

واما الاستصحاب فقد أشار اليه بقوله : «لا مجال لاستصحاب الجواز الّا بناء الخ» ربما يقال بدلالة الاستصحاب على بقاء الجواز بعد رفع الوجوب بالتقريب الذي ذكرناه ـ في الحاشية السابقة ـ بان الوجوب انما هو الجواز مع المنع من الترك ، ورفعه اما برفع جزئه وهو المنع من الترك ، أو برفع كلا جزئيه ، وحيث كان رفعه برفع أحد جزئيه محتملا فيكون مجرى للاستصحاب ، بان نقول : كان الجواز قبل الناسخ متيقنا وبعد الناسخ مشكوك ارتفاعه لاحتمال ان الناسخ رفع المنع من الترك وحده فنستصحب الجواز الذي كان متيقنا.

وتوضيح الجواب عنه : انه أما على البساطة فلا مجال للاستصحاب ، اذ ليس الحكم الوجوبي مركبا من جنس وفصل بل هو إما الارادة أو البعث اعتبارا بداعي التحريك ، والارادة من اقسام العرض والعرض لا تركب فيه من جنس وفصل ، واعتبار البعث من الامور الاعتبارية وهي ابسط من العرض.

وأما بناء على التركيب فقد عرفت ان الموجود في ضمن النوع أو الفرد هو حصص الكلي ، فالجواز الموجود في ضمن الوجوب غير الجواز في ضمن الاباحة أو الاستحباب ، فالاستصحاب الشخصي للجواز الذي كان في ضمن الوجوب غير جار لانه متيقن الارتفاع.

واما استصحاب الجواز الكلي فتوضيحه : ان الاستصحاب الجاري في الكلي ثلاثة اقسام :

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

القسم الاول : هو استصحاب حصة الكلي الموجودة في ضمن الفرد ، كما لو شككنا في وجود زيد بعد اليقين بوجوده ، فانه في حال وجود زيد كما كنا متيقنين بوجوده كذلك كنا متيقنين بوجود الانسان الذي في ضمنه وهو مجرى الاستصحاب كما ان زيدا مجرى له ، ولا يجري هذا الاستصحاب في مقامنا للقطع بارتفاع تلك الحصة من الكلي بارتفاع الوجوب.

الثاني : من اقسام استصحاب الكلي هو ان يكون مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كما لو علمنا بوجود حيوان في الدار بين كونه إنسانا أو بقّا ، فإن كان بقّا فقد ارتفع جنس الحيوان بارتفاعه ، وان كان انسانا فهو باق قطعا ، ولا مجرى لاستصحاب الفردين بخصوصهما لأن احدهما متيقن الارتفاع والآخر مشكوك الحدوث من الأول لا يقين به. وأما الكلي وهو الحيوان بما هو حيوان فقد كان متيقنا والآن مشكوك.

وقد وقع الكلام في جريان هذا الاستصحاب في نفس الكلي ، ولكنه سواء قلنا بجريانه أو عدم جريانه ليس المقام منه ، فإن الحكم لم يكن مرددا بين الوجوب وغيره قبل ورود الناسخ للوجوب.

الثالث : من اقسام الكلي ما إذا احتملنا حدوث فرد من الكلي مقارنا لارتفاع فرد منه ـ كما في المقام ـ فانه بعد ارتفاع الوجوب تحتمل وجود حصة من الجواز الكلي في ضمن الإباحة أو الاستحباب ، فيمكن ان يقال بجريان الاستصحاب في كلي الجواز لتيقن الكلي بوجود الجواز الذي كان في ضمن الوجوب والشك في ارتفاعه ـ فعلا ـ لاحتمال بقائه بوجوده في ضمن الإباحة أو الاستحباب اللذين حدوثهما كان مقارنا لارتفاع الوجوب ، فيكون كلي الجواز بما هو متيقن سابقا مشكوكا لا حقا ، وقد أشار إلى عدم جريان الاستصحاب الشخصي والكلي بقسميه بقوله : «لا مجال لاستصحاب الجواز إلّا بناء على جريانه في القسم الثالث» إلى آخر كلامه.

٣٥٤

يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية أو الضعيفة المتصلة بالمرتفع ، بحيث عد عرفا انه باق ، لا أنه أمر حادث غيره.

ومن المعلوم أن كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا ، من المباينات والمتضادات ، غير الوجوب والاستحباب ، فإنه وإن كان بينهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا إلا أنهما متباينان عرفا ، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حكم العرف ونظره يكون متبعا في هذا الباب (١).

______________________________________________________

ثم أشار إلى عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث كما ياتي تحقيق عدم جريانه في باب الاستصحاب.

وملخصه : إن الكلي بما هو كلي لا يقين سابق فيه بل اليقين انما هو بالحصة منه الموجودة في ضمن الفرد الوجوبي المرتفع ، والحصة الأخرى التي يحتمل وجودها في ضمن الفرد الذي يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الفرد المرتفع مشكوكة الحدوث ، وأما الكلي بما هو كلي لم يكن متيقن الحدوث ومشكوك الارتفاع ليتم اركان الاستصحاب فيه ، بخلاف القسم الثاني فانه حيث لم يكن في الفرد بخصوصه يقين سابق بل كان اليقين السابق متمحضا في نفس الكلي كان مجال للقول بجريان الاستصحاب فيه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وقد حققنا في محله انه لا يجري الاستصحاب فيه» : أي في هذا القسم الثالث.

(١) لقد استثني من القسم الثالث بعض مصاديقه فقالوا بجريان الاستصحاب فيه ، وهو ما إذا كان المستصحب المتيقن وجوده سابقا ذا مراتب تختلف شدة وضعفا كالبياض وكان المتيقن السابق الفرد القوى منه ، فاذا دل دليل الناسخ على ارتفاع البياض الشديد ويشك في ارتفاعه بجميع مراتبه أو المرتفع خصوص شدته كان الاستصحاب في بقاء البياض بما هو جار ، لأن المرتبة الضعيفة وان كانت عقلا حصة من البياض غير الحصة التي مع المرتبة الشديدة إلّا انه حيث بقاء الموضوع وارتفاعه

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

انما هو بنظر العرف والعرف يرى ان المرتبة الضعيفة الباقية بعد ارتفاع المرتبة الشديدة ليس فردا آخر مباينا للفرد الاول بل في نظره ان الباقي هو الفرد الاول فأركان الاستصحاب فيه بنظر العرف تامة فيجري فيه الاستصحاب ، بل قد يقال بتحقق أركان الاستصحاب عقلا ، لأن البياض بمرتبته الضعيفة ليس حصة من الكلي توجد بعد ارتفاع المرتبة القوية ، بل البياض بمرتبته الضعيفة كان موجودا في ضمن المرتبة الشديدة ، غايته انها لا بحدها الضعفي ، وهو كوجود الاربعة في ضمن الخمسة ، فالمرتبة الضعيفة بنفسها كانت متيقنة والآن مشكوكة فيجري الاستصحاب فيها والاستصحاب شخصي لا كلي ، بل لو قلنا بعدم تمامية هذا ـ عقلا ـ فجريانه بنظر العرف حيث ان موضوع الاستصحاب عرفي ـ أيضا ـ هو استصحاب شخصي لا كلي لما عرفت : من ان الباقي بنظر العرف هو الفرد الأول ولا يرى انه فرد آخر غير الفرد المرتفع ، فالاستصحاب شخصي على كل حال فهو خارج ـ موضوعا ـ عن استصحاب الكلي.

إلّا ان هذا غير منطبق على مقامنا لأن الأحكام متضادة بنظر العرف والعقل ، وليس لها ماهية واحدة متفاوتة أو وجود واحد ذو مراتب وهو واضح بناء على ان الاحكام من الاعتبارات ، وأما بناء على انها هي الارادة فمن الواضح ـ أيضا ـ ان ارادة إرخاء العنان في الاباحة غير ارادة الوجوب أو ارادة الاستحباب وغير ارادة العدم لزوما أو ترجيحا.

نعم يمكن ان يقال ذلك في خصوص الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة ، فانه لو دليل الدليل على ارتفاع الوجوب واحتملنا الاستحباب وقلنا بان الحكم هو الارادة لكان مجال لاستصحاب الارادة التي كانت في ضمن الوجوب لا بحدها الضعفي ، وكذلك الحال في الحرمة والكراهة فإن ارادة العدم لا بحدها الضعفي تكون موجودة في ضمن ارادة العدم بحدها اللزومي الذي هو الحرمة ، إلّا ان الاستصحاب بقاء موضوعه واتحاد المتيقن والمشكوك فيه انما هو بنظر العرف دون العقل ، فالعقل

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وان رأى اتحاد الموضوع إلّا ان العرف يرى ان الاستحباب غير الوجوب والكراهة غير الحرمة فهما عنده من المتضادات ، والعرف هو المحكم في بقاء موضوع الاستصحاب فلا يجري الاستصحاب. وتحقيقه مفصلا موكول إلى باب الاستصحاب فراجع. وقد أشار المصنف إلى ما ذكرناه أولا من جريان الاستصحاب في ذي المراتب المتفاوتة بالشدة والضعف فيما اذا كان المرتفع والمشكوك متصلين كما اذا كان المرتفع هو البياض الشديد والمشكوك هو مرتبة ضعيفة من ذلك البياض الذي كان موجودا بمرتبته الشديدة لا بياضا ضعيفا آخر بقوله : «ما لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية او الضعيفة المتصلة بالمرتفع» كما عرفت من لزوم كون المشكوك هو المرتبة الضعيفة من ذلك البياض الموجود بمرتبته الشديدة لا بياضا آخر «بحيث يعد عرفا انه باق لا انه امر حادث غيره» : أي عند العرف ان المشكوك ليس امرا حادثا غير الذي كان سابقا بل ما كان سابقا هو المشكوك فعلا عنده ، واذا كان كذلك فيجري الاستصحاب لتمامية أركانه ، بل قد عرفت انه كذلك بنظر العقل ـ أيضا ـ وان الاستصحاب شخصي لا كلي ، وقد أشار الى ان العرف والعقل لا يريان ذلك في الاحكام ، بل الاحكام عندهما من المتضادات عدا الاستحباب والوجوب والحرمة والكراهة بقوله : «ومن المعلوم ان كل واحد من الاحكام مع الآخر عقلا وعرفا من المباينات والمتضادات غير الوجوب والاستحباب» وانما اقتصر على الوجوب والاستحباب ولم يذكر الحرمة والكراهة لان الكلام في نسخ الوجوب لا في نسخ الحرمة ، وإمكان استصحاب المرتبة الضعيفة من الارادة التي كانت في ضمن ارادة الوجوب.

ولا يخفى انه يمكن ان يكون هذا الملاك للقول بانه اذا نسخ الوجوب فالباقي بعد ذلك هو الاستحباب.

وعلى كل «فانه وإن كان بينهما» : أي بين الوجوب والاستحباب «التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلا» فان الاستحباب هو المرتبة الضعيفة من الارادة

٣٥٧

فصل

اذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الاشياء ، ففي وجوب كل واحد على التخيير ، بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل ، أو وجوب الواحد لا بعينه ، أو وجوب كل منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعين عند الله ، أقوال (١).

______________________________________________________

والوجوب هو المرتبة الاكيدة الشديدة منها إلّا ان بقاء الموضوع واتحاده مع المشكوك ليس بنظر العقل حتى يمكن جريان الاستصحاب ، بل هو موكول الى نظر العرف والعرف يرى انهما من المتباينين والموضوع فيهما ليس متحدا ، ولذا قال (قدس‌سره) : «إلّا انهما متباينان عرفا» إلى آخر كلامه وقد عرفت ـ أيضا ـ ان هذا الكلام انما يتأتى بناء على ان الحكم هو الارادة ، وأما بناء على انه من الاعتبارات فلا مجال لهذا الكلام اصلا.

(١) اذا ورد الأمر باحد الشيئين كالحمد والتسبيحات في الأخيرتين من الرباعية ، أو احد اشياء كالعتق والصوم والإطعام في خصال الكفارة ، ولا اشكال في ان فعل احد افراد التخيير يحصل به الامتثال ، ولا إشكال ـ أيضا ـ ان ترك الجميع يوجب العقاب.

إلّا ان الإشكال في ان الواجب حقيقة أي شيء هو في الوجوب التخييري ، وقد أشار المصنف الى ان فيه اقوالا اربعة :

الأول : ان الواجب التخييري هو الذي يجوز تركه الى بدل ، فالواجب كل واحد من الاشياء التي وقع بينها التخيير ، بخلاف الواجب التعييني المتعلق بطبيعة واحدة ذات افراد ، فان الواجب فيه واحد وهو الطبيعة وكل واحد من افرادها به يحصل مصداق الواجب لا ان كل واحد منها واجب ، فالتخيير بين الافراد في الواجب التعييني عقلي لا شرعي ، بخلاف الواجب التخييري فان كل واحد من الافراد واجب شرعا اذ ليس المتعلق للوجوب طبيعة واحدة فان افراد الواجب

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

التخييري طبائع متعددة لا افراد طبيعة واحدة كما في الواجب التعييني. هذا هو الفرق الاول بين الواجب التخييري والواجب التعييني.

الفرق الثاني : ان الواجب التعييني متعلق الوجوب فيه لا يجوز تركه الى بدل لأن متعلق الوجوب فيه هي الطبيعة ولا بدل لها ، وأما افراد الطبيعة الواحدة فليس كل واحد منها واجبا يجوز تركه الى بدل ، بل كل واحد منها مصداق الواجب الواحد ، بخلاف الواجب التخييري فان كل واحد منها واجب يجوز تركه الى بدل.

القول الثاني : ان الواجب التخييري هو الواحد من هذه الافراد لا بعينه ، ويحتمل ان يكون المراد هو الواحد لا بعينه مفهوما او الواحد لا بعينه مصداقا وسيشير الى ذلك.

القول الثالث : ان الواجب كل واحد منها ولكنه يسقط بفعل الواجب الآخر ، والفرق بينه وبين القول الاول انه لم يؤخذ في وجوب كل واحد منها انه يجوز تركه الى بدله ولكنه بفعل الآخر لا يبقى مجال لاستيفائه ، فالقول الأول ان كل واحد منها له البدلية في مقام الغرض ، وهذا الاخير لا بدلية فيه في مقام الغرض ولكن الغرض بنحو لو أتى لا بالآخر لا يبقى مجال لاستيفائه ، ففي كل منها على هذا الاخير غرض غير الغرض في الآخر ، بخلاف الاول فان الظاهر منه ان المترتب على كل واحد منها غرض واحد ولذا يجوز ترك كل واحد منها الى بدله.

القول الرابع : ان الواجب من هذه الافراد واحد وهو معين عند الله وهذا ظاهر السخافة فانه اذا كان الواجب واحدا ومعينا فلا معنى لجعل العدل ، لأن هذا العدل اذا لم يكن فيه غرض فيكون مباحا بذاته ، فان كان سقوط الواجب المعين عند الله به لكونه بوجوده يكون مانعا عن حصول الغرض في الواجب المعين فلا بد من المنع عنه لا الأمر به وجعله عدلا وان كان فيه الغرض الذي يحصل من الواجب المعين ، فلا معنى لكون الواجب المعين عند الله بعد ان كان هذا العدل مثله في حصول الغرض به ، إلّا ان يأول هذا القول بان القائل به لم يصح عنده القول الاول ، لعدم الفرق فيه

٣٥٩

والتحقيق أن يقال : إنه إن كان الامر بأحد الشيئين ، بملاك أنه هناك غرض واحد يقوم به كل واحد منهما ، بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض ، ولذا يسقط به الامر ، كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما ، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا ، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان ، ما لم يكن بينهما جامع في البين ، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول.

______________________________________________________

بين الوجوب التخييري والتعييني كما سيتضح وجهه في شرح قوله والتحقيق ، ولا يرى معقولية الواحد لا بعينه كما سيأتي أيضا ، ولم يصح عنده أيضا وجوب كل واحد وسقوطه بفعل الآخر لعدم خلوه عن المحذور ايضا لذلك قال ان الواجب في الخطاب التخييري هو المعين عند الله ، فان الواجب التخييري الموجه الخطاب به لكل واحد تمّ له موضوع الخطاب عنده الّا ان الله يعلم بما ياتي به هذا المكلف ، فالمكلف وان توجه اليه الخطاب بالتخيير لجهله بما سيفعله لكن الله يعلم بالذي يفعله هذا المكلف ، فهو في الحقيقة مخاطب بما سيفعله من هذه الافراد وان كان ظاهر الخطاب التخيير.

وبعبارة اخرى : ان صاحب هذا القول لا يرى معقولية الخطاب بنحو التخيير بين الطبائع المتعددة والموضوع للوجوب غير تام الّا في هذه الطبائع فلذا قال بان الواجب التخييري هو المعين عند الله.

ولا يخفى : ان هذا يرجع إلى كون الواجب كل واحد ولا بد من التزامه بسقوط كل منهما بفعل الآخر ، لانه اذا كان فيه غرض الزامي فان لم يسقط بفعل الآخر كان لازم الاتيان لفرض كونه غرضا الزاميا ، ولا فرق بينه وبين هذا القول الّا في كون الواجب تخييريا واقعا ولكنه في مقام الخطاب يكون المراد به هو احدهما معينا ، فكأنه يتحاشى عن صرف الامر بنحو التخيير.

٣٦٠