تفسير العزّ بن عبدالسلام - ج ٢

عبدالعزيز بن عبدالسلام السّلمي

تفسير العزّ بن عبدالسلام - ج ٢

المؤلف:

عبدالعزيز بن عبدالسلام السّلمي


المحقق: أحمد فتحي عبدالرحمن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5684-6

الصفحات: ٣٩٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

سورة النور (١)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور : ١].

(وَفَرَضْناها) مخففا قدّرنا فيها الحدود ، أو فرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام ، وبالتشديد بيّناها ، أو كثّرنا ما فرض من الحلال والحرام.

(آياتٍ بَيِّناتٍ) حججا دالة على التوحيد ووجوب الطاعة ، أو الحدود والأحكام.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢].

(الزَّانِيَةُ) بدأ بها لأن شهوتها أغلب وزناها أعرّ ولأجل الحبل أضر.

(فَاجْلِدُوا) أخذ الجلد من وصول الضرب إلى الجلد ، وهو أكبر حدود الجلد ؛ لأن الزنا أعظم من القذف ، وزادت السنة التغريب وحد المحصن بالسنة بيانا لقوله (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥] أو ابتداء فرض.

(فِي دِينِ اللهِ) في طاعته.

(رَأْفَةٌ) رحمة نهى عن آثارها من تخفيف الضرب إذ لا صنع للمخلوق في الرحمة.

(تُؤْمِنُونَ) تطيعونه طاعة المؤمنين. (عَذابَهُما) حدهما.

(طائِفَةٌ) أربعة فما زاد أو ثلاثة ، أو اثنان ، أو واحد ، وذلك للزيادة في نكاله.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٣].

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ) خاصة برجل استأذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نكاح أم مهزول كانت بغيّا في الجاهلية من ذوات الرايات وشرطت له أن تنفق عليه فنزلت فيهما ، قاله ابن عمرو ومجاهد رحمهما‌الله تعالى ، أو في أهل الصّفّة من المهاجرين ، كان في المدينة بغايا معلنات بالفجور فهموا بنكاحهن ليأووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن وكن مخاصيب الرحال بالكسوة والطعام ، أو الزانية لا يزني بها إلا زان والزاني لا يزني إلا بزانية ، أو الزانية

__________________

(١) سميت سورة النور لما فيها من إشعاعات النور الرباني بتشريع الأحكام والآداب والفضائل الإنسانية التي هي قبس من نور الله على عباده وفيض من فيوضات رحمته وجوده الله نور السموات والأرض اللهم نوّر قلوبنا بنور كتابك المبين يا رب العالمين ، وهي سورة مدنية ، وقد نزلت بعد سورة الحشر ، وقد تناولت السورة الأحكام التشريعية واهتمت بأمور التشريع والتوجيه والأخلاق وتهتم بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغي أن يربّى عليها المسلمون أفرادا وجماعات وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.

٣

محرمة على العفيف والعفف محرم على الزانية ثم نسخ بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] ، أو خاص بالزاني المحدود لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح غير محدودة ، ولا عفيفة ، والزانية المحدودة لا ينكحها غير محدود ولا عفيف.

(وَحُرِّمَ) الزنا ، أو نكاح الزواني (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٤].

(ثَمانِينَ جَلْدَةً) حد القذف حق الآدمي لوجوبه بطلبه وسقوطه بغفوه ، أو حق الله ، أو مشترك بينهما. ويتعلق به الحق والفسق ورد الشهادة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٥].

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فيزول فسقهم ولا يسقط الحد عنهم وتقبل شهادتهم قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه قاله الجمهور ، أو لا تقبل بحال ، أو تقبل قبل الحد ولا تقبل بعده ، أو عكسه وتوبته بإكذابه نفسه ، أو بالندم والاستغفار وترك العود إلى مثله.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [النور : ٦].

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي هلال بن أمية جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال : يا رسول الله جئت عشيا فوجدت رجلا مع أهلي رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك وثقل عليه فنزلت ، أو أتاه عويمر فقال : يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه به أم كيف يصنع فنزلت فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد نزل القرآن فيك وفي صاحبتك ولا عن بينهما.

(فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) عبر عن اليمين بالشهادة.

قال قيس :

وأشهد عند الله أني أحبها

فهذا لها عندي فما عندها ليا

أو هو شهادة فلا يلاعن الكفار والرقيق.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [النور : ٨].

(وَيَدْرَؤُا) يدفع. (الْعَذابَ) الحد ، أو الحبس ، وإذا تم اللعان وقعت الفرقة بلعان الزوج ، أو بلعانهما ، أو بلعانهما وتفريق الحاكم ، أو بطلاق يوقعه الزوج. ثم تحرم أبدا ، فإن أكذب نفسه ففي حلها مذهبان.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [النور : ١٠].

٤

(فَضْلُ اللهِ) الإسلام.

(وَرَحْمَتُهُ) القرآن ، أو فضله : منته ، ورحمته : نعمته تقديره ورحمته بإمهالكم حتى تتوبوا لهلكتم ، أو لو لا فضله ورحمته لنال الكاذب منكم عذاب عظيم.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ١١].

(الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) عبد الله بن أبي ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت وزيد بن رفاعة وحمنة بن جحش ، والإفك : الكذب أو الإثم.

(خَيْرٌ لَكُمْ) لأن الله تعالى برّا منه وأثاب عليه ، يريد عائشة وصفوان ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، وعائشة رضي الله تعالى عنهما.

(مَا اكْتَسَبَ) عقاب ما اكتسب. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) عبد الله بن أبي ، أو حسان ومسطح والعذاب العظيم : العمى.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور : ١٢].

(لَوْ لا) هلّا. (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي الإفك.

(بِأَنْفُسِهِمْ) ظن بعضهم ببعض ، أو ظنوا بعائشة رضي الله تعالى عنها كظنهم بأنفسهم.

(إِفْكٌ مُبِينٌ) كذب بيّن ، ولم يحد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا من أهل الإفك ؛ لأن الحد لا يقام إلا ببينة أو إقرار ولم ينفذ بإقامته بإخبار الله تعالى كما لا يقتل المنافق بإخباره بنفاقه ، أو حدّ حسان وابن أبي ومسطحا وحمنة فيكون العذاب العظيم الحدّ.

وقال فيهم بعض المسلمين :

لقد ذاق حسان الذي كان أهله

وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم

وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا

وآذوا رسول الله فيها فجللوا

مخازي تبقى عمّموها وفضّحوا

كما ابن سلول ذاق في الحد خزية

كما خاض في قول من الإفك يفصح

فصبت عليهم محصدات كأنها

شآبيب مزن من ذرى المزن تسفح

وقال حسان يعتذر من إفكه :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

٥

مطهرة قد طيب الله خلقها

وطهرها من مكل سوء وباطل

عقيلة حي من لؤي بن غالب

كرام المساعي مجدهم غير زائل

فإن كنت قد قلت الذي قد أتاكم

فلا رفعت سوطي إلي أناملي

وكيف وودّي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

وإن الذي قد قيل ليس بلائط

ولكنه قول امرىء غير ماحل

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١٥].

(تَلَقَّوْنَهُ) بالقبول من غير إنكار ، أو تتحدثون به وتلقونه حتى ينتشر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور : ٢١].

(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) خطاياه ، أو أثره ، أو تخطيه من الطاعة والحلال إلى المعصية والحرام ، أو النذر في المعاصي.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٢٢].

(يَأْتَلِ) ويتأل واحد أي لا يقسم أو لا يقصر ، ما ألوت جهدا أي ما قصرت ، أو يأتل : يقصر ، ويتأل : يقسم ، كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه ينفق على مسطح وكان ابن خالته فلما تكلم في الإفك أقسم أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن لا ينفق عليه ، فنزلت.

(وَلْيَعْفُوا) عن الأفعال. (وَلْيَصْفَحُوا) عن الأقوال ، أو العفو : ستر الذنوب من غير مؤاخذة والصفح : الإغضاء عن المكروه.

(أَلا تُحِبُّونَ) كما تحبون أن تغفر ذنوبكم فاغفروا لمن أساء إليكم فلما سمعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ردّ إليه النفقة.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [النور : ٢٦].

(الْخَبِيثاتُ) خبيثات النساء لخبيثي الرجال ، وخبيثوا الرجال لخبيثات النساء ، وطيبات النساء لطيبي الرجال ، وطيبو الرجال لطيبات النساء ، أو أراد بالخبيثات والطيبات : الأعمال

٦

الخبيثة والطيبة لخبيثي الناس وطيبيهم. أو أراد الكلمات الخبيثات والطيبات لخبيثي الناس وطيبهم.

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ) أزواج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبرآت من الفواحش ، أو عائشة ، وصفوان مبرآن من الإفك ، أو الطيبون والطيبات مبرؤون من الخبيثين والخبيثات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النور : ٢٧].

(تَسْتَأْنِسُوا) تستأذنوا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخطأ الكاتب فكتب (تَسْتَأْنِسُوا) ، أو عبّر عن الاستئذان بالاستئناس لأنه مؤنس ، أو تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح ليعلموا بالدخول عليهم ، أو تعلموا فيها من يأذن لكم ؛ لقوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ) [النساء : ٦] أو الاستئناس : الاستخبار والإيناس : اليقين.

(وَتُسَلِّمُوا) السّلام مسنون بعد الاستئذان على ظاهر الآية ، ولأنه تحية للقاء واللقاء بعد الإذن ، أو السّلام قبل الاستئذان على ما تضمنته السنة ، وإن كان قريبا فإن لم يكن محرما لزم الاستئذان عليه كالأجانب ، وإن كانوا محارم فإن كان ساكنا معهم في المنزل لزمه إنذارهم بدخوله بوطىء أو نحنحة مفهمة إلا الزوجة فلا يلزم ذلك في حقها بحال لارتفاع العورة بينهما وإن لم يكن ساكنا معهم في المنزل لزم الاستئذان بوطىء أو نحنحة ، أو هم كالأجانب.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) [النور : ٢٩].

(بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة ، أو حوانيت التجار ، أو منازل الأسفار ومناخات الرحال التي يرتفق بها المسافرون ، أو الخرابات العاطلة ، أو بيوت مكة.

(مَتاعٌ لَكُمْ) عروض الأموال ومتاع التجارة ، أو الخلاء والبول ؛ لأنه متاع لهم ، أو المنافع كلها. فلا يلزم الاستئذان فيها.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) [النور : ٣٠].

(مِنْ أَبْصارِهِمْ) من صلة ، أو يغضوها عما لا يحل ، أو هي للتبعيض ؛ لأن البصر إنما يجب غضه عن الحرام.

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) بالعفاف عن الزنا ، أو بسترها عن الأبصار ، وكل موضوع فيه حفظ فالمراد به عن الزنا ، إلا في هذا الموضع قاله أبو العالية ، وسميت فروجا ؛ لأنها منافذ

٧

للبدن.

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور : ٣١].

(زِينَتَهُنَّ) الزينة ما أدخلته على بدنها حتى زانها وحسّنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب ، وهي ظاهرة وباطنة فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها.

(إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الثياب ، أو الكحل والخاتم ، أو الوجه والكفان ، والباطنة : القرط والقلادة ، والدملج والخلخال وفي السوار مذهبان وخضاب القدمين باطن ، وخضاب الكفين ظاهر ، والباطنة يجب سترها عن الأجانب ولا يجوز لهم النظر إليها.

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ) بمقانعهن على صدروهن تغطية لنحورهن وكن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن ، أو كانت قمصهن مفرجة الجيوب كالدارعة يبدو منها صدورهن فأمرن بإلقاء الخمر عليها لسترها وكنى عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) الباطنة (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ)

(أَوْ نِسائِهِنَ) المسلمات ، أو عام فيهن وفي الكافرات.

(ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من العبيد والإماء ، أو خاص بالإماء قاله ابن المسيب ومجاهد وعطاء.

(غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) الصغير لا إرب له فيهن لصغره ، أو العنّين لا إرب له لعجزه ، أو المعتوه الأبله لا إرب له لجهله ، أو المجبوب لفقد إربه مأثور ، أو الشيخ الهرم لذهاب إربه ، أو الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل ، أو المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه ، أو تابع القوم يخدمهم لطعام بطنه فهو مصروف الشهوة لذله ، وأخذت الإربة من الحاجة ، أو من العقل من قولهم رجل أديب.

(لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) لم يكشفوها لعدم شهوتهم ، أو لم يعرفوها لعدم تمييزهم ، أو لم يطيقوا الجماع ، وسميت العورة عورة لقبح ظهورها وغض البصر عنها أخذا من عور العين.

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) كن إذا مشين ضربن بأرجلهن لتسمع قعقعة خلاخلهن فنهين

٨

عن ذلك.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [النور : ٣٢].

(وَأَنْكِحُوا) خطاب للأولياء ، أو للأزواج أن يتزوجوا ندبا عند الجمهور أو إيجابا.

(الْأَيامى) المتوفى عنها زوجها ، أو من لا زوج لها من الثيب والأبكار ، رجل أيم وامرأة أيم.

(وَالصَّالِحِينَ) أنكحوا الأيامى بالصالحين من رجالكم ، أو أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى.

(فُقَراءَ) إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح ، أو فقراء من المال يغنهم الله تعالى بقناعة الصالحين ، أو باجتماع الرزقين.

(واسِعٌ) الغنى. (عَلِيمٌ) بالمصالح ، أو واسع الرزق عليم بالخلق.

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٣٣].

(فَكاتِبُوهُمْ) ندبا ، أو وجوبا إذا طلب العبد.

(خَيْراً) قدرة على الاحتراف والكسب ، أو مالا ، أو دينا وأمانة ، أو وفاء وصدقا أو الكسب والأمانة.

(وَآتُوهُمْ) من الزكاة من سهم الرقاب أو بحط بعض نجومه ندبا ، أو إيجابا فيحط ربعها ، أو سهما غير مقدر ، كان لحويطب بن عبد العزى عبد سأله الكتابة فامتنع فنزلت.

(فَتَياتِكُمْ) الإماء. (الْبِغاءِ) الزنا. (تَحَصُّناً) عفة.

(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) لا يتحقق الإكراه إلا عند إرادة التحصن لأن من لا تبغي التحصن تسارع إلى الزنا بغير إكراه ، أو ورد على سبب فخرج على صفة السبب وليس بشرط فيه كان ابن أبيّ يكره أمته على الزنا فزنت ببرد فأخذه وقال : ارجعني فازني على آخر فقالت : لا والله وأخبرت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. وكان ذلك مستفيضا من عادتهم طلبا للولد والكسب.

(لِتَبْتَغُوا) لتأخذوا أجورهن على الزنا. (غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهات دون المكرهين.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ

٩

زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور : ٣٥].

(نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هاديهما أو مدبرهما ، أو ضياؤهما أو منوّرهما ؛ نوّر السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء ، أو السماء بالهيبة والأرض بالقدرة ، أو نوّرهما بالشمس والقمر والنجوم.

(مَثَلُ نُورِهِ) نور المؤمن في قبله ، أو نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قلب المؤمن ، أو نور القرآن في قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نور الله تعالى في قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو قلب المؤمن.

(كَمِشْكاةٍ) كوّة لا تنفذ و (الْمِصْباحُ) السراج ، أو قنديل والمصباح : الفتيلة ، أو موضع الفتيلة من القنديل وهو الأنبوب والمصباح : الضوء ، أو السلسلة والمصباح : القنديل ، أو صدر المؤمن والمصباح : القرآن الذي فيه والزجاجة قلبه والمشكاة ، حبشي معرّب.

(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) القنديل ؛ لأنه فيها أضوأ قاله الأكثرون ، أو المصباح القرآن والإيمان والزجاجة قلب المؤمن.

(كَوْكَبٌ) الزهرة ، أو كوكب غير معين عن الأكثر.

(دُرِّيٌّ) يشبه الدر في صفاته ، درّي : مضيء ، درّيء : متدافع قوي الضوء من درأ دفع ، درّيّ : جار درأ الوادي إذا جرى ، والنجوم الدراري الجواري.

(شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) إبراهيم عليه الصلاة والسّلام ، والزجاجة : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو صفة لضياء دهن المصباح.

(مُبارَكَةٍ) لأنها من زيتون الشام وهو أبرك من غيره ، أو لأن الزيتون يورق غصنه من أوله إلى آخره.

(لا شَرْقِيَّةٍ) ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لقلة زيت الجهتين وضعف نوره ولكنها من شجر ما بينهما كالشام لاجتماع القوتين فيه ، أو لا شرقية تستتر عن الشمس عند الغروب ولا غربية تستتر عنها وقت الطلوع بل هي بارزة من الطلوع إلى الغروب فإنه أقوى لزيتها وأضوأ ، أو هي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أجود لزيتها ، أو ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها ، أو ليست من شجر الدنيا التي تكون شرقية ، أو غربية ، وإنما هي من شجر الجنة ، أو مؤمنة ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ولا يهودية تصلي إلى الغرب ، أو الإيمان ليس بشديد ولا لين ؛ لأن من أهل الشرق شدة وفي أهل الغرب لين.

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) صفاؤه كضوء النهار.

١٠

(وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أو يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له ، أو يكاد العلم يفيض من فم المؤمن العالم قبل أن يتكلم به ، أو تكاد أعلام النبوة تشهد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يدعو إليه.

(نُورٌ عَلى نُورٍ) ضوء النار على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة ، أو نور النبوة على نور الحكمة ، أو نور الرجاء على نور الخوف ، أو نور الإيمان على نور العمل ، أو نور المؤمن هو حجة لله يتلوه مؤمن هو حجة لله حتى لا تخلو الأرض منهم ، أو نور نبي من نسل نبي.

(لِنُورِهِ) نبوته ، أو دينه ، أو دلائل هدايته.

(وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) هذا مثل ضربه للمؤمن في وضوح الحق له وفيه ، أو ضربه لطاعته وسماهما نورا لتجاوزهما عن محلهما ، أو قالت اليهود يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [النور : ٣٦].

(بُيُوتٍ) المساجد ، أو سائر البيوت.

(تُرْفَعَ) تبنى ، أو تطهر من الأنجاس والمعاصي ، أو تعظم ، أو ترفع فيها الحوائج إلى الله تعالى.

(وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يتلى كتابه ، أو تذكر أسماؤه الحسنى ، أو توحيده بأن لا إله غيره ، (فِي بُيُوتٍ) متعلق بقوله كمشكاة ، أو بقوله تعالى (يُسَبِّحُ)

(يُسَبِّحُ) يصلي له ، أو ينزهه. (وَالْآصالِ) العشايا.

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) [النور : ٣٧].

(تِجارَةٌ) التجار : الجلاب المسافرون ، والباعة : المقيمون.

(عَنْ ذِكْرِ اللهِ) بأسمائه الحسنى ، أو عن الآذان.

(تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) على جمر جهنم ، أو تتقلب أحوالها بأن تلحقها النار ثم تنضجها ثم تحرقها ، أو تقلب القلوب : وجيبها وتقلب الأبصار نظرها إلى نواحي الأهوال ، أو تقلب القلوب : بلوغها الحناجر وتقلب الأبصار الزّرق بعد الكحل والعمى بعد الإبصار ، أو يتقلب قلب الكافر عن الكفر إلى الإيمان ويتقلب بصره عما كان يراه غيّا فيراه رشدا.

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [النور : ٣٨].

١١

(بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير جزاء بل يبتديه تفضلا ، أو غير مقدر بالكفاية حتى لا يزيد عليها ، أو غير قليل ولا مضيق ، أو غير ممنون به.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [النور : ٣٩].

(كَسَرابٍ) هو الذي يتخيل لرائيه أنه ماء جار والآل مثله إلا أنه يرتفع عن الأرض ضحى حتى يصير كأنه بين السماء والأرض ، وقيل السراب بعد الزوال والآل قبل الزوال ، والرقراق بعد العصر.

(بِقِيعَةٍ) جمع قاع كجيرة وجار وهو ما انبسط من الأرض واستوى. مثل مضروب لاعتماد الكافر على ثواب عمله فإذا قدم على الله تعالى وجد ثوابه حابطا بكفره ووجد أمر الله عند حشره ، أو وجد الله تعالى عند عرضه ، نزلت في شيبة بن ربيعة ترهّب في الجاهلية ولبس الصوف وطلب الدين وكفر في الإسلام.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠].

(كَظُلُماتٍ) ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل.

(لُجِّيٍّ) واسع لا يرى ساحله ، أو كثير الموج ، أو عميق ، ولجة البحر : وسطه.

(لَمْ يَكَدْ) لم يرها ولم يكد قاله الزجاج ، أو رآها بعد أن كاد لا يراها ، أو لم يطمع أن يراها ، أو يكاد صلة.

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) سبيلا إلى النجاة فلا سبيل له إليها ، أو من لم يهده الله إلى الإسلام لم يهتد إليه. مثل للكافر والظلمات ظلمة الشرك وظلمة الشك وظلمة المعاصي ، والبحر اللجي قلبه يغشاه موج عذاب الدنيا من فوقه موج عذاب الآخرة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) [النور : ٤١].

(صَافَّاتٍ) مصطفة الأجنحة في الهواء.

(صَلاتَهُ) الصلاة : للإنسان والتسبيح : لسائر الخلق ، أو هذا في الطير ؛ ضرب أجنحتها صلاة وأصواتها تسبيح ، أو للطير صلاة لا ركوع فيها ولا سجود ، قاله سفيان ، علم الله صلاته وتسبيحه ، أو علمها هو.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ

١٢

خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [النور : ٤٣].

(يُزْجِي) يسوق. (رُكاماً) يركب بعضه بعضا. (الْوَدْقَ) البرق يخرج من خلال السحاب ، أو المطر عند الجمهور.

(مِنْ جِبالٍ) أي في السماء جبال برد فينزل من السماء من تلك الجبال ما يشاء من البرد ، أو ينزل من السماء بردا يكون كالجبال ، أو السماء : السحاب والسماء صفة للسحاب سمي جبالا لعظمته فينزل منه بردا.

(سَنا بَرْقِهِ) صوت برقه ، أو ضوؤه ، أو لمعانه.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [النور : ٤٤].

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بتعاقبهما ، أو بنقص كل واحد منهما وزيادة الآخر ، أو يغير النهار بظلمة السحاب تارة وبضوء الشمس أخرى ويغير الليل بظلمة السحاب تارة وبضوء القمر أخرى.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النور : ٤٥].

(مِنْ ماءٍ) النطفة ، أو أصل الخلق كله الماء ثم قلب إلى النار فخلق منها الجن وإلى الريح فخلق منها الملائكة وإلى الطين فخلق منه ما خلق.

(عَلى بَطْنِهِ) كالحوت والحية. (عَلى رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير. (عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام ولم يذكر ما زاد لأنه كالماشي على أربع لأنه يعتمد في مشيته على أربع.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) [النور : ٤٨].

(مُعْرِضُونَ) كان بين بشر المنافق وبين يهودي خصومة فدعاه اليهودي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا بشر إلى كعب بن الأشرف ؛ لأن الحق إذا توجه على المنافق دعا إلى غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسقط عنه وإن كان الحق له حاكم إليه ليستوفيه له فنزلت (وَإِذا دُعُوا)

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور : ٤٩].

(مُذْعِنِينَ) طائعين ، أو خاضعين ، أو مسرعين ، أو مقرين.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور : ٥٠].

(مَرَضٌ) شرك ، أو نفاق.

١٣

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النور : ٥٤].

(ما حُمِّلَ) من إبلاغكم. (ما حُمِّلْتُمْ) من طاعته. (تَهْتَدُوا) إلى الحق.

(الْبَلاغُ) بالقول للطائع وبالسيف للعاصي.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [النور : ٥٥].

(الْأَرْضِ) بلاد العرب والعجم ، أو أرض مكة ؛ لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك.

(الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بنو إسرائيل في أرض الشام ، أو داود وسليمان عليهما الصلاة والسّلام.

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) بإظهاره على كل دين.

(لا يُشْرِكُونَ) لا يعبدون إلها غيري ، أو لا يراؤون بعبادتي ، أو لا يخافون غيري ، أو لا يحبون غيري. قيل هي في الخلفاء الأربعة. قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخلافة بعدي ثلاثون» (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور : ٥٨].

(الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) النساء يستأذن في الأوقات الثلاث خاصة ويستأذن الرجال في جميع الأوقات ، أو العبيد والإماء فيستأذن العبد دون الأمة على سيده في هذه الأوقات ، أو الأمة وحدها ؛ لأن العبد يلزمه الاستئذان في كل وقت ، أو العبد والأمة جميعا.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) الصغار الأحرار فإن كان لا يصف ما رأى فليس من أهل الاستئذان وإن كان يصفه فيستأذن في الأوقات الثلاث ولا يلزمهم الاستئذان فيما وراء

__________________

(١) أخرجه ابن حبان (١٥ / ٣٩٢ ، رقم ٦٩٤٣) ، والترمذى (٤ / ٥٠٣ ، رقم ٢٢٢٦) وقال : حسن. والطبراني (٧ / ٨٣ ، رقم ٦٤٤٣) ، والنسائي في الكبرى (٥ / ٤٧ ، رقم ٨١٥٥) ، والطيالسى (ص ١٥١ ، رقم ١١٠٧) ، وأحمد (٥ / ٢٢٠ ، رقم ٢١٩٦٩) ، ونعيم بن حماد في الفتن (١ / ١٠٤ ، رقم ٢٤٩) ، والبغوى في الجعديات (١ / ٤٧٩ ، رقم ٣٣٢٣) ، وابن أبى عاصم في الآحاد والمثانى (١ / ١١٦ ، رقم ١١٣).

١٤

الثلاث. وخصّت هذه الأوقات لخلوة الرجل فيها بأهله وربما ظهر منه فيها ما يكره أو يرى من جسده. وبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقت القائلة غلاما من الأنصار فدخل بغير إذن فاستيقظ عمر رضي الله تعالى عنه بسرعة فانكشف منه شيء فرآه الغلام فحزن عمر رضي الله تعالى عنه لذلك وقال : وددت أن الله تعالى بفضله نهى أن يدخل علنيا في هذه الساعات إلا بإذننا فانطلق إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد هذه الآيات قد نزلت فخر ساجدا.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ) لما اشتملت الساعات الثلاث على العورات سماهن عورات إجراء لعورات الزمان مجرى عورات الأبدان فلذلك خصها بالإذن.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ) جناح في تبذلكم في هذه الأوقات ، أو في منعهم فيها.

(وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) في ترك الاستئذان فيما سواهن.

(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) بالخدمة فلم يحرّج عليهم في دخول منازلكم ، والطوّاف : الذي يكثر الدخول والخروج.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النور : ٥٩].

(الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الرجال أوجب الاستئذان على من بلغ ؛ لأنه صار رجلا.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور : ٦٠].

(وَالْقَواعِدُ) جمع قاعد قعدت بالكبر عن الحيض والحمل ، أو لأنها تكثر القعود بعد الكبر ، أو لأنها لا تراد فتقعد عن الاستمتاع.

(لا يَرْجُونَ) لا يردن لأجل كبرهن الرجال ولا يردهن الرجال.

(ثِيابَهُنَّ) رداؤها الذي فوق خمارها تضعه إذا سترها باقي ثيابها ، أو خمارها ورداءها.

(مُتَبَرِّجاتٍ) مظهرات من زينتهن ما يستدعى النظر إليهن فإنه حرام على القواعد وغيرهن ، وجاز لهن وضع الجلباب لانصراف النفوس عنهن ، وتمنع الشواب من وضع الجلباب ويؤمرن بلباس أكثف الجلابيب لئلا تصفهن ثيابهن.

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) تعفف القاعدة من وضع الجلابيب أفضل لها وأولى بها من وضعه وإن كان جائزا.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ

١٥

بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [النور : ٦١].

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى ... الْمَرِيضِ) كان الأنصار يتحرجون من الأكل مع هولاء إذا دعوا إلى طعام ويقولون الأعمى لا يبصر أطيب الطعام ، والأعرج لا يقدر على الزحام عند الطعام ، والمريض عن مشاركة الصحيح في الطعام ، فكانوا يعزلون طعامهم ، ويرون أنه أفضل من مشاركتهم فنزلت الآية رافعة للحرج في مؤاكلتهم ، أو كان الأنصار يستخلفون أهل الزّمانة المذكورين في منازلهم إذا خرجوا للجهاد فكانوا يتحرجون أن يأكلوا منها فرخص لهم أن يأكلوا من بيوت من استخلفهم ، أو نزلت في سقوط الجهاد عنهم ، أو لا جناح على من دعي منهم إلى وليمة أن يأخذ معه قائده.

(بُيُوتِكُمْ) أموال عيالكم وزوجاتكم لأنهم في بيته ، أو أولادكم فنسبت بيوت الأولاد إليهم كقوله : «أنت ومالك لأبيك» ولذلك لم تذكر بيوت الأبناء ، أو البيوت التي أنتم ساكنوها خدمة لأهلها واتصالا بأربابها كالأهل والخدم.

(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ .. خالاتِكُمْ) أباح الأكل من بيوت هؤلاء إذا كان الطعام مبذولا غير محرز ، فإن مكان محرزا فلا يجوز هتك الحرز ، ولا يتعدى إلى غير المأكول ولا يتجاوز الأكل إلى الادخار.

(مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته يجوز أن يأكل مما يقوم عليه من ثمار الضيعة ، أو يأكل من منزل نفسه ما ادخره ، أو أكله من مال عبده.

(صَدِيقِكُمْ) في الوليمة خاصة ، أو في الوليمة وغيرها وإذا كان الطعام غير محرز ، والصديق واحد يعبّر به عن الجمع ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد جعل الله في الصديق البار عوضا من الرحم المذمومة» والصديق : من صدقك عن مودته ، أو من وافق باطنه باطنك كما يوافق ظاهره ظاهرك ، وما تقدم ذكره محكم لم ينسخ منه شيء ، قاله قتادة : أو نسخ بقوله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٣] وبقوله : «لا يحل مال أمرى مسلم .. الحديث» (١).

(أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) كان بنو كنانة في الجاهلية يرى أحدهم أنه يحرم عليه الأكل وحده

__________________

(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٤ / ٣٨٧ ، رقم ٥٤٩٢) ، وفي السنن الكبرى (٦ / ١٠٠ ، رقم ١١٣٢٥).

١٦

حتى أن أحدهم ليسوق الذود الحفّل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فنزلت فيهم ، أو في قوم من العرب كانوا يتحرجون إذا نزل بهم ضيف أن يتركوه يأكل وحده حتى يأكلوا معه ، أو في قوم تحرجوا من الاجتماع على الأكل ورأوا ذلك دينا ، أو في قوم مسافرين اشتركوا في أزوادهم فكان إذا تأخر أحدهم أمسك الباقون حتى يحضر فرخص لهم في الأكل جماعة وفرادى.

(بُيُوتاً) المساجد ، أو جميع البيوت.

(عَلى أَنْفُسِكُمْ) إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلكم وعيالكم ، أو المساجد ، فسلموا على من فيها ، أو بيوت غيركم فسلموا عليهم ، أو بيوتا فسلموا على أهل دينكم ، أو بيوتا فارغة فسلموا على أنفسكم : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أو سلام علينا من ربنا تحية من الله.

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) السّلام اسم من أسماء الله تعالى ، أو التحية بالسلام أمر من أوامره ، أو الرد عليه إذا سلم دعاء له عند الله ، أو الملائكة ترد عليه إذا سلم فيكون ثوابا من عند الله.

(مُبارَكَةً) بما فيها من الثواب الجزيل ، أو لما يرجى من قبول دعاء المجيب.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور : ٦٢].

(أَمْرٍ جامِعٍ) الجهاد ، أو طاعة الله ، أو الجمعة ، أو الاستسقاء والعيدان وكل شيء تكون فيه الخطبة.

(لِمَنْ شِئْتَ) على حسب ما ترى من أعذارهم ونياتهم. قيل نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه استأذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك أن يرجع إلى أهله ، فأذن له وكان المنافقون إذا استأذنوه نظر إليهم ولم يأذن ، فيقول بعضهم لبعض إن محمدا يزعم أنه بعث بالعدل وهكذا يصنع بنا.

(وَاسْتَغْفِرْ) لمن أذنت له لتزول عنه مذمة الانصراف.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ) نهى عن التعرض لدعائه بإسخاطه فإن دعاءه يوجب

١٧

العقوبة وليس كدعاء غيره ، أو لا تدعونه بالغلظة والجفاء ولكن بالخضوع والتذلل ؛ يا رسول الله ، يا نبي الله ، أو لا تتأخروا عن أمره ولا تقعدوا عن استدعائه إلى الجهاد كما يتأخر بعضهم عن إجابة بعض.

(الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة يلوذ بعضهم ببعض استتارا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن أثقل عليهم من الجمعة وحضور الخطبة ، أو كانوا يتسللون في الجهاد برجوعهم عنه يلوذ بعضهم ببعض.

(لِواذاً) فرارا من الجهاد. (يُخالِفُونَ) يعرضون ، أو عن صلة. (عَنْ أَمْرِهِ) أمر الله تعالى ، أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فِتْنَةٌ) كفر ، أو عقوبة ، أو بلية تظهر نفاقهم. (عَذابٌ أَلِيمٌ) جهنم ، أو القتل في الدنيا.

سورة الفرقان (١)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].

(تَبارَكَ) تفاعل من البركة ، أو خالق البركة ، أو الذي تجيء منه البركة وهو العلو ، أو الزيادة ، أو العظمة.

(الْفُرْقانَ) القرآن ؛ لأن فيه بيان الحلال والحرام ، أو الفرقة بين الحق والباطل ، وقيل الفرقان اسم لكل منزل. (لِيَكُونَ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الفرقان. (لِلْعالَمِينَ) الجن والإنس ؛ لأنه أرسل إليهم.

(نَذِيراً) محذرا من الهلاك ، ولم تعم رسالة نبي قبله إلا نوح عليه الصلاة والسّلام فإنه عم الإنس برسالته بعد الطوفان وقبل الطوفان مذهبان.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) [الفرقان : ٤].

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مشركو مكة ، أو النضر بن الحارث.

(إِفْكٌ) كذب اختلقه وأعانه.

__________________

(١) سميت بهذا الاسم لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي أنزله على عبده محمد وكان النعمة الكبرى على الإنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين ، الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، والنور والظلام ، والكفر والإيمان ، ولهذا كان جديرا بأن يسمى الفرقان ، وهي سورة مكية ما عدا الآيات (٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠) فمدنية ، وقد نزلت بعد سورة يس ، وقد بدأت بالثناء على الله تعالى ، والفرقان هو اسم من أسماء القرآن ، ومحور السورة يدور حول إثبات صدق القرآن وصحة الرسالة المحمدية وحول عقيدة الإيمان بالبعث والجزاء وفيها بعض القصص للعظة والاعتبار.

١٨

(قَوْمٌ) من اليهود ، أو عبد الله بن الحضرمي ، أو عداس مولى عتبة وجبر مولى عامر بن الحضرمي ، أو أبو فكيهة الرومي.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧].

(يَأْكُلُ الطَّعامَ) أنكروا أن يكون الرسول مثلهم محتاجا إلى الطعام متبذلا في الأسواق ، أو ينبغي كما اختص بالرسالة فكذلك يجب أن لا يحتاج إلى الطعام كالملائكة ولا يتبذل في الأسواق كالملوك.

(أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) دليلا على صدقه ، أو وزيرا يرجع إلى رأيه.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨].

(كَنْزٌ) ينفق منه على نفسه وأتباعه كأنهم استقلوه لفقره.

(وَقالَ الظَّالِمُونَ) مشركو مكة ، أو عبد الله بن الزّبعرى.

(مَسْحُوراً) سحر فزال عقله ، أو سحركم فيما يقوله.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الفرقان : ٩].

(ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بما تقدم من قولهم.

(فَضَلُّوا) عن الحق في ضربها ، أو فناقضوا في ذلك لأنهم قالوا : افتراه ثم قالوا يملى عليه.

(سَبِيلاً) مخرجا من الأمثال التي ضربوها ، أو سبيلا لطاعة الله تعالى أو سبيلا إلى الخير.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣].

(ضَيِّقاً) تضيق جهنم على الكافر كمضيق الزّج على الرمح.

(مُقَرَّنِينَ) مكتّفين ، أو قرن كل واحد منهم إلى شيطانه.

(ثُبُوراً) ويلا أو هلاكا ، أو وانصرافاه عن طاعة الله كقول الرجل واحسرتاه واندماه.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [الفرقان : ١٦].

(ما يَشاؤُنَ) من النعيم وتصرف المعاصي عن شهواتهم.

(وَعْداً مَسْؤُلاً) وعدهم الله الجزاء فسألوه الوفاء فوفى ، أو يسأله لهم الملائكة فيجابون إلى مسألتهم ، أو سألوه في الدنيا أن يرزقهم الجنة فأجابهم.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان : ١٧].

(يَحْشُرُهُمْ) حشر الموت ، أو البعث. (وَما يَعْبُدُونَ) عيسى وعزير والملائكة.

١٩

(فَيَقُولُ) للملائكة ، أو لعيسى وعزير والملائكة. (أَأَنْتُمْ) تقرير لإكذاب المدعين عليهم ذلك.

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) [الفرقان : ١٨].

(مِنْ أَوْلِياءَ) نواليهم على عبادتنا ، أو نتخذهم لنا أولياء.

(مَتَّعْتَهُمْ) بتأخير العذاب ، أو بطول العمر ، أو بالأموال والأولاد.

(بُوراً) هلكى ، البوار : الهلاك ، أو لا خير فيهم ، بارت الأرض : تعطلت من الرزع فلم يكن فيها خير ، أو البوار : الفساد بارت السلعة : كسدت كسادا فاسدا.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) [الفرقان : ١٩].

(فَقَدْ) كذبكم الكفار أيها المؤمنون. (بِما تَقُولُونَ) من نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كذب الملائكة والرسل الكفار بقولهم إنهم اتخذوهم أولياء من دونه.

(صَرْفاً) للعذاب عنهم ولا ينصرون أنفسهم ، أو صرف الحجة.

(وَلا نَصْراً) على آلهتهم في تكذيبهم ، أو صرفك يا محمد عن الحق ولا نصر أنفسهم من عذاب التكذيب ، أو الصرف : الحيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال ، وفي الحديث : «لا يقبل منه صرف أي نافلة ولاعدل أي فريضة» أو الصرف : الدية والعدل : القود.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [الفرقان : ٢٠].

(فِتْنَةً) اختبارا يقول الفقير لو شاء لجعلني غنيا مثل فلان وكذلك يقول الأعمى والسقيم للبصير ، والسليم ، أو العداوات في الدين ، أو صبر الأنبياء على تكذيب قومهم ، أو لما أسلم بلال وعمار وصهيب وأبو ذر وعامر بن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم من الفقراء والموالي قال : المستهزئون من قريش انظروا إلى أتباع محمد من فقرائنا وموالينا فنزلت ، والفتنة : البلاء ، أو الاختبار.

(أَتَصْبِرُونَ) على ما امتحنتم به من الفتنة تقديره أم لا تصبرون.

(بَصِيراً) بمن يجزع.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].

(لا يَرْجُونَ) لا يخافون ، أو لا يأملون ، أو لا يبالون.

٢٠