تفسير العزّ بن عبدالسلام - ج ١

عبدالعزيز بن عبدالسلام السّلمي

تفسير العزّ بن عبدالسلام - ج ١

المؤلف:

عبدالعزيز بن عبدالسلام السّلمي


المحقق: أحمد فتحي عبدالرحمن
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-5684-6

الصفحات: ٤٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

الحمد لله رب العالمين ، شرفنا بلغة القرآن ، وجعله لنا هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين ، فهو الصراط المستقيم والنور المبين والشفيع لأهله يوم الدين.

والصلاة والسّلام الأتمان الأكملان على سيد ولد عدنان خير نبي أرسل ، أوحي إليه بخير كتاب أنزل ، وارض اللهم عن الآل الأطهار ، والأصحاب الأخيار ، من المهاجرين والأنصار ، الذين حفظوا كتابك الكريم ، وتناقلوا الشرع الحنيف ، وسنة نبيك الشريف ، فاللهم ألحقنا بهم على الإيمان وأدخلنا معهم جنات النعيم اللهم آمين.

أما بعد

فنقدم لأهل هذا العلم هذا الكتاب القيم لسلطان العلماء عز الإسلام العز بن عبد السّلام.

وبداية نترجم لهذا العلم الهمام فنقول :

مولده ونسبه :

هو العالم العامل عبد العزيز بن عبد السّلام بن أبي القاسم بن الحسن ، السلمي ، الدمشقي ، الملقب بسلطان العلماء ، وشيخ الإسلام ، ويعرف بالعز بن عبد السّلام.

فقيه ، شافعي ، بلغ رتبة الاجتهاد في الدين.

ولد بدمشق سنة ٥٧٧ ه‍ / ١١٨١ : ١١٨٢ م ، ونشأ بها.

رحلاته وجهاده عن طريق الدعوة :

زار بغداد سنة (٥٩٩ ه‍ / ١٢٠٢ : ١٢٠٣ م) فأقام شهرا وعاد إلى دمشق فتولى الخطابة والتدريس بزاوية الغزالي ، ثم الخطابة بالجامع الأموي ، ولما سلم الصالح إسماعيل ابن العادل قلعة صفد للفرنجة اختيارا أنكر عليه ابن عبد السّلام ولم يدع له في الخطبة ، فغضب وحبسه ، ثم أطلقه وخرج إلى مصر ، فولاه صاحبها الصالح نجم الدين أيوب القضاء والخطابة ، ومكنه من الأمر والنهي. ثم اعتزل ولزم بيته. ولما مرض أرسل إليه الملك الظاهر يقول : إن في أولادك من يصلح لوظائفك فقال : لا. وتوفي بالقاهرة سنة ٦٦٠ ه‍ / ١٢٦٢ م.

وقف العز بن عبد السّلام حياته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاشتغل بالخطابة والإمامة ومحاربة البدع ، وكان التوجه بأحاديثه وخطبه إلى العلماء والأئمة اللذين

٣

كانوا يخرجون عن الصراط السوي.

توليه القضاء والتفاف الناس من حوله :

لقد شغل الشيخ ابن عبد السّلام وظيفة قاضي القضاة بمصر زمنا لكنه لم يسلم من مناوئيه وأعوانه حين تعرض لمشكلة بيع المماليك في المزاد فقامت عليه المماليك وأتباعهم ، فاستقال من منصبه ، وانقطع للتدريس في المدرسة الصالحية ، وقام بتدريس الفقه الشافعي بجانب قيامه بالإفتاء والتصنيف.

يعتبر العز بن عبد السّلام زعيما للإصلاح في عصره سياسيا واجتماعيا ودينيا ، وقد بلغ في هذا مرتبة عالية فالتف الناس حوله في مصر وفلسطين والشام ، وعرف بالصراحة في القول والشجاعة في الحق ، ما خاف ملكا ولا أميرا ولا خشي عقابا ، ولا انتظر ثوابا ، وكان على علم وافر وذكاء نادر وتدين عميق راسخ.

مصنفاته :

لم تشغله حياة الجهاد والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن التصنيف فألف رحمه‌الله تعالى من التصانيف البديعة ما يشار إليها بالبنان فمنها :

١ ـ التفسير الذي بين أيدينا ، وهو تفسير صغير وله تفسير كبير.

٢ ـ الإلمام في أدلة الأحكام.

٣ ـ قواعد الشريعة.

٤ ـ قواعد الأحكام في إصلاح الأنام.

٥ ـ ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام.

٦ ـ بداية السول في تفضيل الرسول.

٧ ـ الفوائد.

٨ ـ القواعد الكبرى والقواعد الصغرى.

٩ ـ الفرق بين الإيمان والإسلام.

١٠ ـ مقاصد الرعاية.

١١ ـ مختصر صحيح مسلم.

١٢ ـ بيان أحوال الناس يوم القيامة.

١٣ ـ بداية السول في تفضيل الرسول.

١٤ ـ الفتاوى المصرية.

وفاته :

توفي رحمه‌الله تعالى بالقاهرة سنة (٦٦٠ ه‍) فرحمه‌الله رحمة واسعة جزاء ما قدم

٤

للإسلام والمسلمين (١).

كتاب العز والتفسير :

هذا الكتاب الذي صنفه العز كتاب فيه خلاصة الأقوال في تفسير آيات القرآن الكريم ، وللعز كتاب آخر يسمى بالتفسير الكبير كما جاء في المصادر ولعل الكتاب الذي بين أيدينا خلاصة له ، وعصارة للمعاني الدائرة في فلك التفاسير ، إلا أنك قبل البدء في ارتشاف مع اكتشاف هذه الخلاصة أود في البداية أن أحيلك على بعض المعلومات التي لا بدّ وأن يلم بها قارئ القرآن الكريم ومفسره فأقول مستعينا بالله :

القرآن الكريم وتفسيره :

القرآن الكريم هو : «كلام الله تعالى ووحيه المنزل على خاتم أنبيائه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المكتوب في المصحف ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتعبد بتلاوته ، المتحدى بإعجازه» (٢).

والناظر في القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب ، وعلى الإجمال والتبيين ، وعلى الإطلاق والتقييد ، وعلى العموم والخصوص. وما أوجز في مكان قد بسط في مكان آخر ، وما أجمل في موضع قد بين في موضع آخر ، وما جاء مطلقا في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى ، وما كان عاما في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى.

ولهذا كان لا بدّ لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولا ، فيجمع ما تكرر منه في موضع واحد ، ويقابل الآيات بعضها ببعض ، ليستعين بها على ما ذكر.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المصدر الثاني الذي رجع إليه الصحابة في تفسيرهم لكتاب الله تعالى ، فكان الصحابي إذا أشكلت عليه آية من كتاب الله رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسيرها ، فيبين له عن الله ما خفي عليه ، لأن وظيفته البيان ، كما أخبر الله عنه بذلك في كتابه العزيز حيث قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤].

لذا اشترط العلماء على من يفسر كلام الله ـ عزوجل ـ ويتصدى لهذا المقام الجليل أن يكون ملما بعلوم تعينه على ذلك منها (٣) :

١ ـ اللغة : بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع والفرع ، قال مجاهد : «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله ، إذا لم يكن عارفا

__________________

(١) انظر : الأعلام (٤ / ٢١).

(٢) انظر : مناهل العرفان (١ / ١٥).

(٣) انظر هذه الشروط في : الإتقان (٢ / ٤٧٧).

٥

بلغات العرب» (١).

وقال الإمام مالك : «لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا» (٢).

من هنا أقول : إن العلم الواسع باللغة شرط أساسي ، ولا يكفي الإلمام اليسير بها ، فقد يكون اللفظ مشتركا فيجب على المفسر أن يوجه اللفظ إلى المعنى الذي يفهمه في الآية ، وهذا التعمق في إدراك اللغة كان من جملة الأسباب التي مكنت ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن يكون «حبر القرآن» ورأس المدرسة المكية التي هي أعظم مدارس التفسير في كل زمان ومكان.

٢ ـ النحو : لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من وضعه في الحسبان ، ولا بدّ من الاعتماد عليه قبل البيان.

ومن لم يعرف النحو فإنه قد يقع في أخطاء فاحشة ، ذلك مثل الرجل الذي قرأ قوله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] بجر كلمة «رسوله» ـ الأخيرة ـ ، فكان المفهوم من قراءته تلك أن الله بريء من المشركين ومن رسوله أيضا ، حاشا لله!! فكاد أن يقع هذا الرجل في الكفر وهو لا يدري ، فكان ذلك من جملة الأسباب الحاملة على وضع علم النحو.

٣ ـ علم التصريف : لأن به تعرف أبنية الكلمات والصيغ وألوان التصاريف.

٤ ـ علم الاشتقاق : وهو داخل في علم اللغة والتصريف ، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما ، كالمسيح : أهو من السياحة أو المسح ، فمن الأول سمي المسيح مسيحا لكثرة سياحته ، وأما من الثاني : فلأنه حسب المأثور من القول وإخبار الله عنه في القرآن ، كان لا يمسح على ذي عاهة إلا شفي بإذن الله تعالى.

٥ ـ علوم المعاني والبيان والبديع : وهو علم البلاغة المشهور ، ويعتني بخواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعاني ، من خلال نظم المباني ، وخواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها ، وبوجوه تحسين الكلام. وهذه العلوم الثلاثة هي من أعظم أدوات المفسر ، بل إنها أجل الأدوات لأن ما سبق من العلوم يدخل تحتها.

وقال الزمخشري : «من حق مفسر كتاب الله الباهر ، وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) انظر : البرهان في علوم القرآن (/ ١٦٠) ، ورواه البيهقي عن مالك كما في الإتقان (٢ / ٤٧٤).

٦

النظم على حسنه ، والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدي سليما من القادح» (١).

والزمخشري بحق خير من له في إدراك إعجاز القرآن باع طويل ، وخير من عبرت عن أسرار إعجاز القرآن الكريم بطريقة العرب الفصحاء البلغاء ، لا بطريقة أهل الفلسفة والكلام.

٦ ـ علم القراءات : علم يعرف به مخارج الحروف والأصوات وكيفية النطق بها والقراءات المتواترة في القرآن الكريم أو المشهورة أو الشاذة ، والوجوه التي يترجح بها بعض القراءات على بعض.

٧ ـ علم أصول الدين : وهو علم التوحيد ، ويعرف به ما يجب لله تعالى وما يستحيل عليه ، وما يجوز في حقه ، وبه يعرف الفرق بين العقائد والشرائع ، وما هو من أصول الدين ، وما هو من فروعه.

٨ ـ علم أصول الفقه : علم يعرف به وجوه الاستدلال وطريقة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة.

٩ ـ علم الفقه : علم تعرف به الأحكام الشرعية ومذاهب الفقهاء ، ومن احتج منهم بالآية ومن لم يحتج بها ، وطريقة كل منهم في فهم الآية والأخذ بها ، أو الإجابة عنها.

١٠ ـ علم أسباب النزول : وهو علم يعرفنا المعنى المراد من الآية ، كما أنه يزيل الإشكال عن بعضها ، ويبين بعض حكم الله في التشريع ، وبعلم القصص يعلم ما هو من الإسرائيليات التي دست في التفسير ، وما ليس منه ، وما هو حق ، وما هو باطل.

١١ ـ علم الناسخ والمنسوخ : وهو مهم للمفسر ، وإلا وقع في خطأ كبير.

١٢ ـ علم الحديث والسنن : والآثار المبينة لتفصيل المجمل ، وتوضيح المبهم ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وإلى غير ذلك من وجوه بيان السنة للقرآن.

فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها ، فمن فسر القرآن بدونها ، كان مفسرا بالرأي المنهي عنه ، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه.

والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع والاكتساب ، وكل ما استجد من العلوم بعد القرآن استفاد من القرآن وهو في نفس الوقت خادم لمفسر القرآن الكريم وذلك ماض إلى يوم الدين.

__________________

(١) انظر : الكشاف (١ / ٣٢) ، ونقله عن الزمخشري : الزركشي في البرهان في علوم القرآن (١ / ٣١١) ، والسيوطي في الإتقان (٢ / ٤٧٨).

٧

والناظر في كتب التفسير يرى أن واحدا منهم غلب عليه علم من هذه العلوم مع إحاطته بها كلها قبل التصدى لتفسير القرآن الكريم ، فمثلا القرطبي يهتم بالأحكام القرآنية ، مع إحاطته بكل ما سبق ، وأبو حيان يهتم باللغة والقراءات مع إحاطته ببقية العلوم.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا نرى من اسمه ظهر اهتمامه ، فهو إعراب للقرآن ومعانيه ، يهتم بالإعراب وعليه يورد المعنى كاتجاه لغوي باحث في القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين.

ولزاما علينا أن نعرّف لك التفسير والتأويل لأن الزجاج في هذا الكتاب سوف يقول لنا : «والمعنى : كذا» وربما قال : «يكون التأويل كذا» ، ونحن لا نريد أن ندخل في أراء كثيرة وفروق بين كل تعريف وترجيح هذا على ذاك فهذا ليس مقامه ، ومع اختصار أقول :

التفسير : في اللغة يعني الإيضاح والتبيين لقوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٣] أي : بيانا وتفصيلا (١).

أما في الاصطلاح : فقد اختلفت عبارات العلماء في البيان عن معنى التّفسير في الاصطلاح ، وجاءوا بعبارات كثيرة أقربها وأيسرها أنّ المراد بالتّفسير : بيان المعنى الّذي أراده الله بكلامه ، على قدر فهم المفسر وبيانه (٢).

ويهدف علم التفسير إلى فهم كتاب الله تعالى ، واستنباط الأحكام الشرعية بوجه صحيح ، ومعرفة المنهج الإلهي القويم ، والتذكير بحق الله تعالى على عباده ، وإنقاذهم من شرك الضلال ، وشباك الشياطين ، والاطلاع على حقيقة الكون والإنسان والحياة لقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩].

والتأويل : يقصد به ترجيح معنى من المعاني المحتملة للفظ ، أو لجمله. ومن ثم يختلف التأويل عن التفسير. فالتفسير : من الفسر : وهو كشف المغطّى وإبانته. والتأويل هو رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر (٣).

ويتحقق التأويل بشروط ثلاثة :

أولا : أن لا يمكن حمله على ظاهره.

ثانيا : جواز إرادة ما حمل عليه.

__________________

(١) انظر : مناهل العرفان (٢ / ٤).

(٢) انظر في تعريفات التفسير على كثرتها في : الإتقان (٢ / ٤٦٠) ، ومناهل العرفان (٢ / ٥).

(٣) في هذا المقام نعطيك الخلاصة وإن أردت الاستزادة فعليك بالإتقان (٢ / ٤٦٠ وما بعدها) ، ومناهل العرفان (٢ / ٥) ، والبرهان في علوم القرآن (٢ / ١٤٩).

٨

ثالثا : الدليل الدال على إرادته. ومثال التأويل والتفسير في قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الروم : ١٩] ، إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا ، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر ، أو العالم من الجاهل : كان تأويلا.

أقسام التفسير (١) :

١ ـ التفسير بالمأثور : يشمل بالمأثور ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن ، وما كان تفسيرا للقرآن بالسنة ، وما كان تفسيرا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروي عن التابعين.

وما روي عن التابعين يعتبر من المأثور بدون النظر إلى الخلاف حوله مؤداه : هل هو من قبيل المأثور؟ أو من قبيل الرأي؟

فإننا نجد كتب التفسير بالمأثور كتفسير ابن جرير وغيره لم تقتصر على ذكر ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما روي عن أصحابه ، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير.

وقد وجد من التابعين من تصدى للتفسير ، فروى ما تجمع لديهم من ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة ، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة.

ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين ، وروت عنهم ما قالوه ، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض سببه بعد الزمن أيضا ، وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة. وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها كما أشير إلى ذلك فيما سبق.

ثم ابتدأ دور التدوين فكان أول ما دون من التفسير هو التفسير بالمأثور ، على تدرج في التدوين كذلك ، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا ، وكان أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون ـ على عادتهم ـ وضع كل علم لشخص بعينه ، يعدون واضع التفسير بالمأثور بمعنى جامعه لا مدونه.

ولم يكن التفسير إلى هذا الوقت قد اتخذ شكلا منظما ، ولم يفرد بالتدوين ، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة ، يجمعون به ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة والتابعين.

ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث ، وأفرد بتأليف خاص ، فكان أول ما عرف لنا من ذلك ، تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

ثم وجد من ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة ، مثل ذلك الجزء المنسوب

__________________

(١) انظر : مناهل العرفان (٢ / ١٠ وما بعدها).

٩

لأبي روحة ، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.

ثم وجدت من ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير ، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وتابعيهم ، كتفسير ابن جرير الطبري.

ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته ـ وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد ـ توسعوا في النقل وأكثروا منه ، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقا به ، كما يلاحظ أنه كان رجال من المحدثين يبوبون للتفسير في مصنفات الحديث التي جمعوها ، وهؤلاء كانوا بعد عصر ابن جرير ، ومن على شاكلته ، ثم وجد أقوام بعدهم دونوا التفسير بالمأثور دون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك ، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم وبدون تفرقة بين الصحيح وغيره ، مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها ، لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق ، وهو كثير في التفسير.

بعد ذلك تغيرت الاتجاهات ، فبعد أن كان التدوين في التفسير لا يتعدى المأثور فيه ، تعدى إلى تدوين التفسير بالرأي على تدرج فيه.

وبهذا علمنا مما تقدم أن التفسير بالمأثور يشمل ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن ، وما كان تفسيرا للقرآن بالسنة ، وما كان تفسيرا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروي عن التابعين.

أما تفسير القرآن بالقرآن ، أو بما ثبت من السنة الصحيحة ، فذلك مما لا خلاف في قبوله ؛ لأنه لا يتطرق إليه الضعف ، ولا يجد الشك إليه سبيلا.

وأما تفسير القرآن بما يروى عن الصحابة أو التابعين ، فقد تسرب إليه الخلل وتطرق إليه الضعف ، ولو لا أن قيض الله لهذا التراث العظيم من أزاح عنه هذه الشكوك ، فسلم لنا قدر لا يستهان به وإن كان ضعيفها وسقيمها ما يزال خليطا في كثير من الكتب التي عني أصحابها بجمع شتات الأقوال.

وترجع أسباب الضعف في رواية التفسير بالمأثور إلى أمور ثلاثة :

أولها : كثرة الوضع في التفسير.

ثانيها : دخول الإسرائيليات فيه.

ثالثها : حذف الأسانيد.

٢ ـ التفسير بالرأي ، هو التفسير القائم على الاجتهاد ، وقد اختلف العلماء حوله (١)

__________________

(١) انظر حول مسألة التفسير بالرأي ـ باتساع بين مجيزين ومانعين وهو ما اختصرناه هنا ـ في مناهل العرفان (٢ / ٣٦).

١٠

منذ القدم بين مجيز لذلك ومانع له.

فالذين أجازوه استدلوا بالآيتين التاليتين : قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، وقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣].

ففي هاتين الآيتين ما يدل على أن معاني القرآن لا يصل إليها إلا أهل الاستنباط والاجتهاد ، بما يملكون من مواهب ؛ كما أن في الآية أمرا بالتدبر والاجتهاد في استنباط معانيه. كما كان اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في بعض أقوالهم في تفسير القرآن ، يدل على أنهم فسروه باجتهادهم القائم على معرفتهم الخاصة ، إذ لو لا ذلك لا تفقت أقوالهم.

كما كان أيضا دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١) دليل على جواز الاجتهاد في فهم القرآن.

أما الذين منعوا التفسير بالرأي فلهم أدلتهم التي اعتمدوا عليها وهي : ـ قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] فهذه الآية في رأيهم جعلت تفسير القرآن وبيانه للنبي رضي الله عنه وحده دون غيره.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣] ، فحرم الله على عباده القول على الله بدون علم ، والتفسير بالرأي ـ عند المانعين ـ قول على الله بدون علم.

وما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٢).

وأضف إلى ذلك إلى امتناع بعض السلف عن القول في القرآن برأيهم ، فالمانعون يرون أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم ، فلا يجوز لأحد الإقدام عليه ؛ لأنه محرم بهذا المفهوم.

والنتيجة تتمثل في رد المجيزين على المانعين بما يأتي : ـ هناك خلاف بين العلماء في المقدار الذي فسره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن ، فمنهم من يرى أنه عليه الصلاة والسّلام فسر

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٦٦ ، رقم : ١٤٣) عن ابن عباس دون قوله :((وعلمه التأويل)) ، ورواه بهذه الزيادة : أحمد (١ / ٣٣٥ ، رقم : ٣١٠٢) ، وابن حبان (١٥ / ٥٣١ ، رقم : ٧٠٥٥) ، والحاكم في المستدرك (٣ / ٦١٥ ، رقم : ٦٢٨٠) وصححه.

(٢) رواه الترمذي (٥ / ١٩٩ ، رقم : ٢٩٥١) ، ورواه أيضا : النسائي في السنن الكبرى (٥ / ٣١ ، رقم : ٨٠٨٥).

١١

القرآن كله ، ومنهم من يرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر القليل ؛ والأصوب أنه فسر ما أشكل على الصحابة واختلفوا فيه وسألوه عنه ، فلم يكن قليلا ، ولم يستوعب القرآن كله. فما لم يفسره صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي فيه مجال لأهل الفقه والعلم والاستنباط والنظر ، استنادا إلى قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤].

إن الاجتهاد في التفسير ليس قولا على الله بغير علم ، وإنما استعمال للعقل الذي أنعم الله به على الإنسان مع شروط يجب توافرها فيمن يقوم بهذا الاجتهاد.

إن المجتهد مأجور ، إن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر. فالاجتهاد البعيد عن الهوى والضلالة والجهالة أمر غير مذموم.

وقد ورد عن أبي بكر رضي الله عنه حين سئل عن الكلالة فقال : «أقول فيها برأي ؛ فإن كان صوابا فمن الله وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان» ، ثم فسر معنى الكلالة.

أما امتناع أبي بكر وغيره من الصحابة والتابعين عن تفسير القرآن برأيهم فيحمل على الورع والاحتياط وخشية الوقوع في الزلل.

قراءات القرآن (١) :

ومما لا بدّ لنا من معرفته ونحن نقدم لهذا الكتاب القيم أن نتعرض لتعريف القراءات لأن الزجاج يورد القراءة ويوجهها ، فأقول :

القراءا ت جمع قراءة ، والقراءة في اللغة تعني الجمع ، فقراءة الشيء جمعه وضمّه ، ومعنى قرأت القرآن لفظت به مجموعا ، وسمّي القرآن ، لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض.

أما القراءة في الاصطلاح فقد ذكر علماء القراءات عدة تعريفات لها ، نكتفي بتعريفين منها :

١ ـ علم يبحث فيه عن صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة حتى يصان كلام الله عن تطرّق التحريف والتغيير نحوه.

٢ ـ اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرها.

ولعلماء القراءات مصطلحات في هذا الشأن لا بدّ من توضيحها ، كالقراءة والرواية والطريق.

فالقراءة : للإمام كقراءة نافع وابن كثير وعاصم.

والرواية : للذي يأخذ عن الإمام كرواية ورش عن نافع ، ورواية قنبل عن ابن كثير ،

__________________

(١) انظر في هذا الموضوع بإسهاب : مناهل العرفان (١ / ٢٨٤).

١٢

ورواية حفص عن عاصم.

والطريق للذي يأخذ عن الراوي.

ولما رأى الإمام أبو بكر بن مجاهد (ت ٣٢٤ ه‍) تشعب القراءات وكثرة القراء دفعته الغيرة على كتاب الله إلى اختيار سبعة من أئمة القراءات خلفوا في القراءة التابعين ، وأجمع على إمامتهم في القراءة عامة القراء.

وقد اختارهم من خمسة أمصار إسلامية هي الأمصار التي حملت عنها القراءة في العالم الإسلامي ، وهي : المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام.

ولا يعني هذا الاختيار أن قراءة غيرهم لا تجوز ، لكن هؤلاء عرفت قراءتهم واشتهرت.

ولكن إمام من هؤلاء القراء راويان مشهوران حملا القراءات عنه وعرفا بذلك. أما قارئ أهل المدينة : فأبو عبد الرحمن نافع بن أبي نعيم المدني ، وراوياه : عيسى بن مينا المعروف بقالون ، وعثمان بن سعيد الملقب بورش. وقارئ أهل مكة : أبو سعيد عبد الله بن كثير المكي ، ومن رواته : أبو الحسن أحمد بن القاسم البزي ، وأبو عمر محمد المعروف بقنبل ، أما الكوفة ففيها ثلاثة قراء : أبو بكر ، عاصم بن أبي النجود ، وروى عنه أبو بكر ، شعبة بن عياش ، وحفص بن سليمان الكوفي ، وفي الكوفة أيضا : أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات ، وراوياه : خلف بن هشام البزار وأبو عيسى خلاد بن خالد الكوفي ؛ وفيها أيضا : أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي ، وراوياه : حفص بن عمر الدوري ، وأبو الحارث الليث بن خالد. وقارئ أهل البصرة : أبو عمرو بن العلاء البصري المازني ، وراوياه : أبو شعيب السوسي ، صالح بن زياد ، وحفص الدوري وهو أحد راويي الكسائي أيضا ، وآخرهم وأقدمهم مولدا : عبد الله بن عامر اليحصبي ، قارئ أهل الشام ، وراوياه : هشام بن عمار ، وعبد الله بن ذكوان.

وبما قدمناه أرى أننا ركزنا على القرآن الكريم وتفسيره وتأويله وقراءاته ، وهذا هو ما يصادف قارئ كتاب الزجاج الذي بين أيدينا.

القرآن الكريم وتأثيره في اللغة العربية :

كان نزول القرآن الكريم بالعربية الفصحى أهمّ حدث في مراحل تطوّرها ؛ فقد وحّد لهجاتها المختلفة في لغة فصيحة واحدة قائمة في الأساس على لهجة قريش بعد تصفيتها من شوائبها والاقتصار على الصحيح منها ، وأضاف إلى معجمها ألفاظا ، وأعطى لألفاظ أخرى دلالات جديدة. كما ارتقى ببلاغة التراكيب العربية. وكان سببا في نشأة علوم اللغة العربية كالنحو والصرف والأصوات وفقه اللغة والبلاغة ، فضلا عن العلوم الشرعية ، ثمّ إنه حقّق للعربية سعة الانتشار والعالمية.

١٣

وكفى بذلك تأثيرا على اللغة العربية ، وحسبنا أن البيئة العربية نفسها قد تأثرت بالقرآن الكريم ، فاهتم أهل العلم في عصر الازدهار بالقرآن الكريم وإعرابه ، وأحكامه ورأيت أن كل اللغويين والنحاة يصنفون في معاني القرآن تعبدا وتشرفا (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

وقد رأينا أن أهل الحديث منهم من يصنف المسانيد ، ومنهم من يصنف الصحاح ، ومنهم من يصنف السنن ، وكذا المفسرين كان منهم النحاة فألفوا في هذا الجانب متأثرين به فجميع الأئمة ألفوا وصنفوا في معاني القرآن وإعرابه كالزجاج ، وسيأتي في الكلام على الكتاب التعرض لأسماء كتب تحمل نفس عنوان هذا الكتاب.

تحقيق الكتاب :

لقد قمت في تحقيق الكتاب بالآتي :

١ ـ ضبط النص ضبطا جيدا.

٢ ـ تخريج الأحاديث على قلتها وندرتها في الكتاب.

٣ ـ وضعت في صدر كل سورة مقدمة ليفهم مقصودها عامة وبعض أهدافها.

٤ ـ ترجمة بعض الأعلام.

٥ ـ عقدت مقدمة في التفسير وبعض المعلومات التي ينبغي لقارئ التفسير معرفتها.

٦ ـ ترجمت للعلامة العز بن عبد السّلام.

وأخيرا : أدعو المولى ـ عزوجل ـ أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه إنه بر رحيم (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٨٦].

وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المحقق

١٤

سورة الفاتحة (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))

(بِسْمِ اللهِ) أبدأ بسم الله ، أو بدأت بسم الله ، الاسم صلة ، أو ليس بصلة عند الجمهور ، واشتق من السمة ، وهي العلامة ، أو من السمو.

(اللهِ) أخص أسماء الرب لم يتسم به غيره (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] تسمى باسمه ، أو شبيها. أبو حنيفة : «هو الاسم الأعظم» وهو علم إذ لا بد للذات من اسم علم يتبعه أسماء الصفات ، أو هو مشتق من الوله لأنه يأله إليه العباد : أي يفزعون إليه في أمورهم ، فالمألوه إليه إله ، كما أن المأموم به إمام أو اشتق من التأله وهو التعبد ، تأله فلان : تعبد ، واشتق من فعل العبادة فلا يتصف به في الأزل ، أو من استحقاقها على الأصح فيتصف به

__________________

(١) تسمى سورة الفاتحة بهذا الاسم لافتتاح الكتاب العزيز بها ، كما تسمى أم الكتاب لأنها جمعت مقاصده الأساسية ، وتسمى أيضا السبع المثاني ، والشافية ، والوافية ، والكافية ، والأساس ، والحمد ، وهي سورة مكية ، نزلت بعد سورة المدثر.

يدور محور السورة حول أصول الدين وفروعه ، والعقيدة ، والعبادة ، والتشريع ، والاعتقاد باليوم الآخر ، والإيمان بصفات الله الحسنى ، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء ، والتوجه إليه جل وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم ، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين ، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين ، والإخبار عن قصص الأمم السابقين ، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء ، والتعبد بأمر الله سبحانه ونهيه.

وسبب نزول السورة : عن أبي ميسرة أن رسول الله كان إذا برز سمع مناديا يناديه : يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال :

فلما برز سمع النداء يا محمد فقال : لبيك قال : قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) حتى فرغ من فاتحة الكتاب وهذا قول علي بن أبي طالب.

فضل السورة : روى الإمام أحمد في مسنده أن أبي بن كعب قرأ على الرسول أم القرآن الكريم فقال رسول الله : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" فهذا الحديث يشير إلى قول الله تعالى في سورة الحجر (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).

١٥

أزلا (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الرحمن والرحيم الراحم ، أو الرحمن أبلغ ، وكانت الجاهلية تصرفه للرب سبحانه وتعالى ، قال الشنفري :

إلا ضربت تلك الفتاة هجينها

ألا هدر الرحمن ربي يمينها

ولما سمي مسيلمة بالرحمن قرن لله تعالى الرحمن الرحيم ، لأن أحدا لم يتسم بهما ، واشتقا من رحمة واحدة ، أو الرحمن من رحمته لجميع الخلق ، والرحيم من رحمته لأهل طاعته ، أو الرحمن من رحمته لأهل الدنيا ، والرحيم من رحمته لأهل الآخرة ، أو الرحمن من الرحمن التي يختص بها ، والرحيم من الرحمن التي يوجد في العباد مثلها.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢))

(الْحَمْدُ) الثناء بجميل الصفات والأفعال والشكر والثناء بالإنعام ، فالحمد أعم ، الرب : المالك كرب الدار أو السيد ، أو المدبر كربة البيت ، الربانيون يدبرون الناس بعلمهم ، أو المربى ، ومنه الربيبة ابنة الزوجة.

(الْعالَمِينَ) جمع عالم لا واحد له من لفظه ، كرهط وقوم ، أخذ من العلم ، فيعبر به عمن يعقل من الجن والإنس والملائكة ، أو من العلامة ، فيكون لكل مخلوق ، أو هو الدنيا وما فيها ، أو كل ذي روح من عاقل وبهيم ، وأهل كل زمان عالم.

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

«ملك» (مالِكِ) أخذا من الشدة ، ملكت العجين عجنته بشدة ، أو من القدرة.

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

فالمالك من اختص ملكه ، والملك من عمّ ملكه ، وملك يختص بنفوذ الأمر ، والمالك يختص بملك الملوك ، والملك أبلغ لنفوذ أمره على المالك ، ولأن كل ملك مالك ولا عكس ، أو المالك أبلغ لأنه لا يكون إلا على ما يملكه ، والملك يكون على من لا يملكه كملك الروم والعرب ، ولأن الملك يكون على الناس وحدهم والمالك يكون مالكا للناس وغيرهم ، أو المالك أبلغ في حق الله تعالى من ملك ، إذ المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك بخلاف الرب سبحانه وتعالى.

(يَوْمِ) أوله الفجر ، وآخره غروب الشمس ، أو هو ضوء يدوم إلى انقضاء الحساب.

١٦

(الدِّينِ) الجزاء أو الحساب ، ويستعمل الدين في العادة والطاعة ، وخص الملك بذلك اليوم إذ لا ملك فيه سواه ، أو لأنه قصد ملكه للدنيا بقوله (رَبِّ الْعالَمِينَ) فذكر ملك الآخر ليجمع بينهما.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥))

(إِيَّاكَ) الخليل : إيا : اسم مضاف إلى الكاف ، الأخفش إياك : كلمة واحدة ، لأن الضمير لا يضاف.

(نَعْبُدُ) العبادة : أعلى مراتب الخضوع تقربا ، ولا يستحقها إلا الله تعالى ، لإنعامه بأعظم النعم ، كالحياة والعقل والسمع والبصر ، أو هي لزوم الطاعة ، أو التقرب بالطاعة ، أو المعنى : إياك نؤمل ونرجو. مأثور والأول أظهر.

(نَسْتَعِينُ) على عبادتك أو هدايتك أمروا بذلك كما أمروا بالحمد له ، أو أخبروا.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

(اهْدِنَا) دلنا ، أو وفقنا.

(الصِّراطَ) السبيل المستقيم أو الطريق الواضح ، مأخوذ من مسرط الطعام وهو ممره في الحلق ، طلبوا دوام الهداية ، أو زيادتها ، أو الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة ، أو طلبوها إخلاصا للرغبة ، ورجاء ثواب الدعاء ، فالصراط : القرآن ، أو الإسلام أو الطريق الهادي إلى دين الله ، أو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أو طريق الحج أو طريق الحق.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) الملائكة أو الأنبياء ، أو المؤمنون بالكتب السالفة أو المسلمون أو النبي ومن معه.

(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ :) اليهود ، والضالون ، النصارى. اتفاقا خصت اليهود بالغضب لشدة عداوتها ، والغضب هو المعروف من العباد ، أو إرادة الانتقام ، أو ذمه لهم ، أو نوع من العقاب سماه غضبا كما سمى نعمته رحمة.

١٧

سورة البقرة (١)

(الم (١))

(الم) اسم من أسماء القرآن ، كالذكر ، والفرقان ، أو اسم للسورة أو اسم الله الأعظم ، أو اسم من أسماء الله أقسم به ، وجوابه ذلك الكتاب ، أو افتتاح للسورة يفصل به ما قبلها ، لأنه يتقدمها ولا يدخل في أثنائها.

أو هي حروف قطعت من أسماء ، أفعال ، الألف من أنا ، اللام من الله ، الميم من أعلم ، معناه «أنا الله أعلم».

أو هي حروف لكل واحد منها معاني مختلفة ، الألف مفتاح الله ، أو آلاؤه ، واللام مفتاح لطيف ، والميم مجيد أو مجده ، والألف سنة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون سنة ، آجالا ذكرها.

أو هي حروف من حساب الجمّل ، لما روى جابر قال : مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) سميت السورة بسورة البقرة إحياء لذكرى تلك المعجزة الباهرة التي ظهرت في زمن موسى الكليم حيث قتل شخص من بني إسرائيل ولم يعرفوا قاتله فعرضوا الأمر على موسى لعله يعرف القاتل فأوحى الله إليه أن يأمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن القاتل وتكون برهانا على قدرة الله جل وعلا في إحياء الخلق بعد الموت.

وهي سورة مدنية من السور الطول ، وعدد آياتها ٢٨٦ آية ، وهي أول سورة نزلت بالمدينة ، بها أفضل آية في القرآن الكريم وهي آية الكرسى ، كما تشمل على أطول آية في القرآن وهي آية الدين.

تعني سورة البقرة بجانب التشريع شأنها كشأن سائر السور المدينة التي تعالج النظم والقوانين التشريعية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية.

فضل السورة : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " لا تجعلوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان"

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " إنّ لكل شيء سناما ، وإنّ سنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال"

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا ـ وهم ذوو عدد ـ فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال : ما معك يا فلان؟ فقال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال : أمعك سورة البقرة؟ قال : نعم ، قال : اذهب فأنت أميرهم.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : " اقرأوا القرآن فإنه شافع لأهل يوم القيامة ، اقرأوا الزهراوين (البقرة وآل عمران) فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما عمامتان أو غيايتان ، أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة ، ثم قال : اقرأوا البقرة ، فإن أخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة".

١٨

يقرأ (الم) ، فأتى أخاه حيي بن أخطب في نفر من اليهود ، فقال : سمعت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو فيما أنزل عليه (الم) ، قالوا : أنت سمعته قال : نعم ، فمشى حيي في أولئك النفر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك (الم) ، قال : «بلى» فقال : أجاءك بها جبريل عليه‌السلام من عند الله تعالى قال : «نعم» ، قالوا : لقد بعث قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي منهم مدة ملكه ، وأجل أمته غيرك. فقال حيي لمن كان معه : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، ثم قال : يا محمد هل كان مع هذا غيره قال : «نعم» ، قال : ماذا ، قال : (المص) قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، وهل مع هذا غيره قال : «نعم» فذكر (المر) فقال : هذه أثقل ، وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة ، ثم قال : لقد التبس علينا أمرك ، ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا : ثم قاموا عنه. فقال لهم أبو ياسر؟ ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، قالوا : قد التبس علينا أمره. فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) [آل عمران : ٧](١).

أو أعلم الله تعالى العرب لما تحدوا بالقرآن أنه مؤتلف من حروف كلامهم ، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أبلغ في الحجة عليهم ، أو الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أو افتتح به الكلام كما يفتتح بألا

أبجد : كلمات أبجد حروف أسماء من أسماء الله تعالى مأثور ، أو هي أسماء الأيام الستة التي خلق الله تعالى فيها الدنيا ، أو هي أسماء ملوك مدين قال :

ألا يا شعيب قد نطقت مقالة

سببت بها عمرا وحي بني عمرو

ملوك بني حطي وهواز منهم

وسعفص أصل في المكارم والفخر

هم صبحوا أهل الحجاز بغارة

كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر

أو أول من وضع الكتاب العربي ستة أنفس «أبجد ، هوز ، حطي ، كلمن ، سعفص ، قرشت» ، فوضعوا الكتاب على أسمائهم ، وبقي ستة أحرف لم تدخل في أسمائهم ، وهي الضاء ، والذال ، والشين ، والغين ، والثاء ، والخاء ، وهي الروادف التي تحسب بعد حساب الجمّل ، قاله عروة بن الزبير.

__________________

(١) تفسير الطبري (١ / ٩٣).

١٩

وعن ابن عباس «أبجد» أبى آدم الطاعة ، وجد في أكل الشجرة ، «هوز» فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض ، «حطي» ، فحطت عنه خطيئته ، «كلمن» فأكل من الشجرة ، ومنّ عليه بالتوبة «سعفص» فعصى آدم فأخرج من النعيم إلى النكد «قرشت» فأقر بالذنب ، وسلم من العقوبة.

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

(ذلِكَ الْكِتابُ) : إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة أو المدينة ، أو إلى قوله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].

أو ذلك بمعنى هذا إشارة إلى حاضر ، أو إشارة إلى التوراة والإنجيل ، خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي : الكتاب الذي ذكرته لك التوراة والإنجيل هو الذي أنزلته عليك.

أو خوطب به اليهود والنصارى : أي الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب الذي أنزلته على محمد.

أو إلى قوله ـ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ،) أو قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل هو هذا الذي أنزلته عليك أو المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : الريب التهمة أو الشك.

(لِلْمُتَّقِينَ) الذين أقاموا الفرائض واجتنبوا المحرمات ، أو الذين يخافون العقاب ويرجون الثواب ، أو الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

(يُؤْمِنُونَ) يصدقون أو يخشون الغيب ، أصل الإيمان التصديق (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [يوسف : ١٧] أو الأمان ، فالمؤمن يؤمن نفسه بإيمانه من العذاب ، والله تعالى مؤمّن لأوليائه من عذابه ، أو الطمأنينة ، فالمصدق بالخبر مطمئن إليه ، ويطلق الإيمان على اجتناب الكبائر ، وعلى كل خصلة من الفرائض ، وعلى كل طاعة.

(بِالْغَيْبِ) بالله ، أو ما جاء من عند الله ، أو القرآن ، أو البعث والجنة والنار ، أو الوحي.

(وَيُقِيمُونَ) يديمون ، كل شيء راتب قائم ، وفاعله يقيم ، ومنه فلان يقيم أرزاق الجند ، أو يعبدون الله بها ، إقامتها : أداؤها بفروضها ، أو إتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها ، سمي ذلك إقامة لها من تقويم الشيء ، قام بالأمر أحكمه ، وحافظ عليه ، أو سمى فعلها إقامة لها لاشتمالها على القيام.

(رَزَقْناهُمْ) أصل الرزق الحظ ، فكان ما جعله حظا من عطائه رزقا.

(يُنْفِقُونَ) وأصل الإنفاق الإخراج ، نفقت الدابة خرجت روحها ، والمراد الزكاة ، أو

٢٠