تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

وقيل : بل عنى بمن يريد الآخرة من أقام حافظا لما استحفظ (١) ، وقوله : (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ)(٢) قيل : صرفهم إنما [كان](٣) بمنع النّصرة وترك إنزال الملائكة عليهم والسكينة ، وبإخراج ما في قلوب الذين كفروا من الرعب ، فبيّن أن لم يكن صرفكم عنهم خذلانا لكم ، بل كان مؤاخذة لميلكم إلى الدنيا وابتلاء لكم (٤) ، كما بيّنه بقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ

__________________

ـ الموضع إلى موضع يتحرّزون فيه عن العدو». تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨١). وكلام أبي حيّان يخالف هذا ، حيث قال : «وكان الرماة خمسين ، ذهب منهم نيّف على أربعين للنهب وعصوا الأمر». وقال أيضا : «لا يقال : كيف يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع وعصى ، لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم». البحر المحيط (٣ / ٨٥).

(١) هذا قول عامة المفسرين. انظر : جامع البيان (٧ / ٢٩٣ ، ٢٩٤) ، وبحر العلوم (١ / ٣٠٨) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٧) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١١٩) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٤) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٣٧) ، والبحر المحيط (٣ / ٨٥) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٤) ، ونظم الدرر (٢ / ١٦٧). وروح المعاني (٤ / ٨٩).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٢.

(٣) ليست في الأصل ، والسياق يقتضيها.

(٤) انظر : جامع البيان (٧ / ٢٩٦ ، ٢٩٧) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨١) ، والبحر المحيط (٣ / ٨٥) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٨٩) ، ونظم الدرر (٢ / ١٦٧).

٨١

الصَّابِرِينَ)(١) ، وذكر أنه عفا عما كان منهم من مخالفتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإخلالهم بالمركز (٢) ، قال الحسن : عفا عنهم ، إذ لم يستأصلهم ، فقد قتل منهم من قتل ، وكسر رباعيّة (٣) الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، وقيل : (عَفا عَنْكُمْ) حيث عاقبكم في عاجل الدنيا ، وأفضل عليكم بذلك لكونه موعظة لكم في معاودة مثله (٥) ، ثم بيّن أن

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٢.

(٢) انظر : جامع البيان (٧ / ٢٩٨).

(٣) قال الفيروز آبادي : الرباعية : كثمانيّة : السنّ التي بين الثنية والناب. القاموس ص (٩٢٩).

(٤) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٢٩٨) عن الحسن قال بعد أن صفّق بيديه : وكيف عفا عنهم ، وقد قتل منهم سبعون ، وقتل عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكسرت رباعيته وشج في وجهه؟ قال : ثم يقول : قال الله عزوجل : «قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم». وانظر : تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٧٨٩) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١١٩) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٤) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٣٧) ، والبحر المحيط (٣ / ٨٥) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٨٩).

(٥) لم أجد هذا القول مفردا في شيء من كتب التفسير ، وهو يرجع إلى القول الأول ، لأنهم عوقبوا في الدنيا بما دون الاستئصال ، وفي نهاية قول الحسن موعظة وتحذير من معاودة مثل ذلك ، حيث قال : هؤلاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي سبيل الله ، غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فو الله ما تركوا حتى غموا بهذا الغم ، فأفسق الفاسقين اليوم يجترم كل كبيرة ويركب كل

٨٢

الله ذو فضل في عفوه عنكم في انهزامكم وفي صرفكم عنهم ، الذي صار / سببا لتهذيبكم وتمحيصكم ، وسببا لأن تصيروا مجاهدين في المستقبل ، فيعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ، فكل ما هو سبب خير وإن كره ففضل (١) ، واختلف في جواب إذا : فقال الفرّاء : تقديره تنازعتم ، والواو مقحمة (٢) ، قال : وذلك يكثر مع إذا نحو (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ)(٣) وقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ)(٤) أي : فتحت ، وقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنادَيْناهُ)(٥) أي ناديناه (٦) ، وقال ابن بحر : ثم صرفكم جواب ، وتقديره صرفكم (٧) ، وقال : ودخل «ثم» :

__________________

ـ داهية ، ويسحب عليه ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه ، فسوف يعلم.

انظر المصادر السابق ذكرها.

(١) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (٣ / ١٦٤ ، ١٦٥) ، وجامع البيان (٧ / ٢٩٩) ، والكشاف (١ / ٤٢٧) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٢).

(٢) عبارة الفراء : وهذه الواو معناها السقوط. انظر : معاني القرآن (١ / ٢٣٨).

(٣) سورة الأنبياء ، الآية : ٩٦.

(٤) سورة الزمر ، الآية : ٧٣.

(٥) سورة الصافات ، الآيتان : ١٠٣ ، ١٠٤.

(٦) معاني القرآن للفراء (١ / ٢٣٨).

(٧) قال الجمل : «وإذا على بابها من كونها شرطية ، وفي جوابها حينئذ ثلاثة أوجه : أحدها : أنه (تنازعتم) قاله الفراء ، وتكون الواو زائدة. والثاني : أنه (ثم صرفكم) وثم زائدة. وهذان القولان ضعيفان جدّا.

٨٣

في الكلام ، لأنه في المعنى مثل : إذا ، وكأنه رد لفظ إذا لما طال الكلام ، كقوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(١) ، ثم قال : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)(٢) فأعاد لمّا لمّا طال ، فكذلك القول في (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) وهذا القول أستطرفه ، فإني أراه تصور ثمّ بمعنى ثمّ على التقدير الذي ذكره ، وقال البصريون : جوابه في هذه الأمكنة كلها محذوف (٣).

قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(٤) إذ : متعلق بقوله : «عفا» وبقوله : (ذُو فَضْلٍ)(٥) ، والإصعاد : الإبعاد في الأرض ، سواء كان

__________________

ـ والثالث : وهو الصحيح أنه محذوف ، واختلفت عباراتهم في تقديره. فقدره ابن عطية (انهزمتم) ، وقدره الزمخشري (منعكم نصره) ، وقدره أبو البقاء :

(بان لكم أمركم) ...» «الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية» (١ / ٣٢٤).

(١) سورة البقرة ، الآية : ٨٩.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٨٩.

(٣) انظر : إملاء ما منّ به الرحمن (١ / ١٥٤) ، والتبيان في إعراب القرآن (١ / ٣٠١) ، والدر المصون (٣ / ٤٣٦) ، والفتوحات الإلهية (١ / ٣٢٤).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

(٥) قال أبو حيان : «والعامل في (إذ) اذكر. محذوفة ، أو عصيتم ، أو تنازعتم ،

٨٤

في صعود أو حدور ، وإن كان أصله من الصعود (١) كقولهم : تعال في أن صار في التعارف ، قد يقال لغير معنى العلو (٢) ، والصعود : الذهاب في صعود (٣). ولما روى قتادة والربيع : أن

__________________

ـ أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية ، والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل ، والأول جيد ، لأن ما قبل إذ جمل مستقلة ، يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلّق إعرابي بما بعدها ...» البحر المحيط (٣ / ٨٩). وانظر : الكشاف (١ / ٤٢٧) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٣٨).

(١) قال الراغب : والصعود والحدور لمكان الصعود والانحدار ، وهما بالذات واحد ، وإنما يختلفان بحسب الاعتبار بمن يمر فيهما ... وأما الإصعاد فقد قيل : هو الإبعاد في الأرض ، سواء كان ذلك في صعود أو حدور ، وأصله من الصعود وهو الذهاب إلى الأمكنة المرتفعة. المفردات ص (٤٨٤).

(٢) قال الراغب : «... ثم استعمل في الإبعاد وإن لم يكن فيه اعتبار الصعود ، كقولهم : تعال ، فإنه في الأصل دعاء إلى العلو ، صار أمرا بالمجيء ، سواء كان إلى أعلى أو إلى أسفل. المفردات ص (٤٨٤).

(٣) قال القرطبي : والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج. الجامع (٤ / ٢٣٩). وانظر : مجاز القرآن ص (١٠٥) ، ومعاني القرآن للفراء (١ / ٢٣٩) ، وجامع البيان (٧ / ٣٠٠ ، ٣٠١) ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٧٨ ، ٤٧٩) ، وتهذيب اللغة (٢ / ٦ ـ ١٠) ، والمفردات ص (٤٨٣ ، ٤٨٤) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١١٩ ، ١٢٠) ، واللسان (٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٣).

٨٥

من هرب من المؤمنين ذهبوا في الوادي (١). وروى الحسن أنهم صعدوا في الجبل (٢) ، وقرئ (تصعدون) اعتبارا بالرواية الأولى و (تصعدون) اعتبارا بالرواية الثانية (٣) ، وإنّما ذلك باعتبار علوّ الإنسان في أمر تحرّاه ، كقولك : أبعدت في كذا ، وارتقيت في كذا كل مرتقى ، فكأنه قيل : إذ تبعدون في استشعار الخوف ،

__________________

(١) روى أثر قتادة الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٠١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٤) عن قتادة. وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٣٩) عن قتادة والربيع.

(٢) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٠١) ، وتفسير السمرقندي (١ / ٣٠٨) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٥) ، والكشاف (١ / ٢٤٧) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٣٩) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٩١).

(٣) قال ابن جرير الطبري : واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قرأة الحجاز والعراق والشأم سوى الحسن البصري (إِذْ تُصْعِدُونَ) بضم التاء وكسر العين ، وبه القراءة عندنا ؛ لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به واستنكارهم ما خالفه. وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأه (إذ تصعدون) بفتح التاء والعين. جامع البيان (٧ / ٣٠٠). وانظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٢٣٩) ، والكشاف (١ / ٤٣١) ، والتفسير الكبير (٩ / ٣٣) ، وزاد بعض المفسرين على الحسن : أبا رجاء العطاردي ، وأبا عبد الرحمن السلمي وقتادة واليزيدي. انظر : الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٣٩) ، والبحر المحيط (٣ / ٨٩).

٨٦

الاستمرار على الهزيمة (١) ، وقوله ؛ (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ)(٢) تعريض بهم في الهزيمة (٣) ، ونحوه. تحرّاه حسان (٤) بقوله :

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرّة وثّاب (٥)

__________________

(١) هذا اختيار ابن قتيبة قال : (إِذْ تُصْعِدُونَ) أي تبعدون في الهزيمة. تفسير غريب القرآن ص (١١٤) ، ونسبه السمرقندي في بحر العلوم (١ / ٣٠٨) إلى القتيبي ، وهو ابن قتيبة. واقتصر عليه الواحدي في الوسيط (١ / ٥٠٥).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

(٣) قال ابن جرير : «وأما قوله : (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) فإنه يعني : ولا تعطفون على أحد منكم ، ولا يلتفت بعضكم إلى بعض ؛ هربا من عدوكم مصعدين في الوادي». جامع البيان (٧ / ٣٠٢). وقال الراغب : اللّي : فتل الحبل ، يقال : لويته ألويه ليّا ، ولوى يده ... ويقال : فلان لا يلوي على أحد ، إذا أمعن في الهزيمة. المفردات ص (٧٥٢).

(٤) حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي ، شاعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يكنى أبا الوليد ، وقيل : أبا الحسام ، وقيل : أبا عبد الرحمن ، كان ينافح بشعره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اهجهم وجبريل معك» عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام مثلها ، وتوفي وهو ابن عشرين ومائة سنة ، وكان ذلك سنة ٦٠ ه‍ وقيل توفي سنة ٥٤ ه‍. انظر : الإصابة (٢ / ٥٥) ، وتقريب التهذيب ص (١٥٧).

(٥) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص (٢١٥) يعيّر به الحارث بن هشام في

٨٧

وقرأ الحسن : ولا تلون (١) من ولي (٢) ، وقال بعضهم : هو خطأ (٣). ووجهه أن ذلك تبكيت لهم ، وأنهم لم يلو ما ولّو بل أخلّوا ، وقوله : (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) ، أي هو بين جماعة المتأخرين منكم (٤). وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يناديهم : «يا عباد الله ارجعوا» (٥). إن قيل : كيف قال (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ)

__________________

ـ فراره يوم بدر ، وفيه (ولجام) بدل (وثاب). والطمّرة : أنثى الفرس الجواد ، وقيل : هو الفرس المستعد للعدو والوثب ، وقيل : هو الطويل القوائم الخفيف. انظر : اللسان (٤ / ٥٠٣).

(١) قال السمين : وقرأ الحسن : (تلون) بواو واحدة ، وخرجوها على أنه أبدل الواو همزة ، ثم نقل حركة الهمزة على اللام ، ثم حذف الهمزة على القاعدة ، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء وهي اللام. الدر المصون (٣ / ٤٤٠).

وانظر توجيه ابن عطية لهذه القراءة في : المحرر الوجيز (٣ / ٢٦٦) وردّ أبي حيان عليه في البحر المحيط (٣ / ٨٩) ، والفتوحات الإلهية (١ / ٣٢٥).

(٢) ذكر السمين الحلبي هذا الوجه فقال : والثاني أن يكون (تلون) مضارع «ولي كذا» من الولاية ، وإنما عدّى ب «على» لأنه ضمّن معنى العطف. الدر المصون (٣ / ٤٤١).

(٣) قال ابن عطية : «والقراءة الشهيرة أقوى». المحرر الوجيز (٣ / ٢٦٦).

(٤) قال أبو عبيدة : (أخراكم) : آخركم. مجاز القرآن ص (١٠٥). وانظر : جامع البيان (٧ / ٣٠٢) ، والوسيط (١ / ٥٠٦) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٢) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٠) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٥).

(٥) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٠٣) عن ابن عباس وقتادة

٨٨

والإثابة تقال في المحبوب دون المكروه؟! قيل : قد قال بعضهم : إن ذلك يستعمل في المكروه على أحد وجهين : إمّا لأن الثواب في الأصل ما يرجع إلى الإنسان من ثمرة فعله خيرا كان أو شرّا ، ولكن تعورف في الخير ، فإذا استعمل في المكروه فعلى اعتبار الأصل (١). والثاني : أن ذلك على الاستعارة ، وضرب من التهكّم في كلامهم (٢) ، كقوله :

 ...

تحية بينهم ضرب وجيع (٣)

__________________

ـ والسدي. وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٧٩٠) عن الحسن ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٣ ، ١٥٤) إلى من تقدم وزاد نسبته إلى عبد بن حميد. وانظر : النكت والعيون (١ / ٤٢٩) حيث زاد نسبته للربيع ، وزاد المسير (١ / ٤٧٧).

(١) قال الفراء : الإثابة ههنا في معنى عقاب ... وقد يقول الرجل الذي قد اجترم إليك : لئن أتيتني لأثيبنك ثوابك. معناه : لأعاقبنك. معاني القرآن (١ / ٢٣٩). وانظر : جامع البيان (٧ / ٣٠٤). وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٨) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٠).

(٢) قال الرازي : «.. فإن حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم ، كما يقال : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف ...» التفسير الكبير (٩ / ٣٤) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢٠) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٦ ، ٢٦٧) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٢) ، والدر المصون (٣ / ٤٤٢) ، وروح المعاني (٤ / ٩٢).

(٣) هذا عجز بيت لعمرو بن معدي كرب ، وتمامه : ـ

٨٩

وقال بعض المحققين : إنما ذكر لفظ الإثابة هاهنا في الغمّ ، لأن غمّهم وإن كان مكروها بالطبع فهو ثواب من الله من وجه ، لأنه كان سبب تهذيب نفوسهم ، الذي بيّنه تعالى بقوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ)(١) ، وكل أمر يؤدي بالإنسان إلى أن يجعله بحيث لا يقلقه فوت مطلوب وفقد محبوب فيا له من ثواب (٢) ، ولهذا قال حكيم : جماع الزهادة في قوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٣) فقوله : (غَمًّا) من المفسرين

__________________

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

والبيت من بحر الوافر ، ودلفت : زحفت. ويستشهد بهذا البيت على التنويع ، «وهو ادعاء أن مسمى اللفظ نوعان : متعارف وغير متعارف على طريقة التخييل بأن ينزل ما يقع في موقع شيء بدلا عنه منزلته بدون تشبيه ولا استعارة» خزانة الأدب (٩ / ٢٥٨) ، والبيت في ديوان الشاعر (١٣٧) ، الكتاب (٢ / ٣٢٢) ، والمقتضب (٢ / ٢٠) ، والخصائص (١ / ٣٦٨) ، شرح أبيات سيبويه للنحاس ص (١٦٣) ، وللسيرافي (٢ / ١٤٢) ، والخزانة الشاهد رقم (٧٣٧).

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢٣.

(٢) ذكر البقاعي نحوا من هذا القول ، فقال : «وسماه وإن كان في صورة العقاب باسم الثواب ، لأنه سببا للسرور ، حين تبين أنه ـ أي خبر قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خبر كاذب ، وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سالم ، حتى كأنهم ـ كما قال بعضهم : لم تصبهم مصيبة ، فهو من الدواء بالداء». نظم الدرر (٢ / ١٦٨).

(٣) سورة الحديد ، الآية : ٢٣.

٩٠

من اعتبر الغمّين بالمسلمين وقال : / أحدهما : ما وصل إلى قلوبهم من الفشل. والثاني : الخوف (١). وقيل : أحدهما : مخالفتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثاني : فوت الغنيمة (٢). وقيل : ما سمعوا من قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ، وقيل : إشراف أبي سفيان عليهم (٤) ، والوجه : أن كل

__________________

(١) وكان الخوف نتيجة إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم ، ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل. قال ابن عباس رضي الله عنه : فكان غم الهزيمة ؛ وغمهم حين أتوهم. رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٣١٣) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٧٩١) ، وانظر : الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٠) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٣) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٠) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٢٩٤).

(٢) قال البغوي : وقيل : إنهم غموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمخالفة أمره ، فجازاهم الله بذلك الغمّ غمّ القتل والهزيمة. معالم التنزيل (٢ / ١٢٠) ، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. انظر : جامع البيان (٧ / ٣١٣). وانظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٩٤).

(٣) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٠٥ ، ٣٠٦) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٧٩١) ، والنكت والعيون (١ / ٤٣٠) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٨) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢٠) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٧) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٠) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٣) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٠) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٩٤).

(٤) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٠٦ ـ ٣١٢) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٧٩١) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢٠) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٧) ،

٩١

ذلك مراد ، لأنه ليس يعني بذلك غمّين ، بل غموما كثيرة متتابعة متوالية (١) كقولهم : لبّيك (٢) وقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)(٣) أي نعمه متوالية (٤) ، ومنهم من اعتبر أحد الغمين بالمسلمين

__________________

ـ والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٠) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٠ ، ٩١).

(١) ذكر ذلك الفخر الرازي في التفسير الكبير (٩ / ٣٤) ، والنيسابوري في تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٣).

(٢) قال ابن السكيت : «أي : إلبابا بعد إلباب ، أي لزوما لطاعتك بعد لزوم ، يقال : ألب بالمكان ولبّ به إذا أقام به ولزمه» إصلاح المنطق ص (١٥٨).

وقال ابن الأثير : لبيك : هو من التلبية ، وهي إجابة المنادي ، أي إجابتي لك يا رب ... ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير ، أي إجابة بعد إجابة. النهاية (٤ / ٢٢٢). وانظر : الزاهر (١ / ١٠٣).

(٣) سورة المائدة ، الآية : ٦٤.

(٤) خالف الراغب بذلك مذهب أهل السنة والجماعة بتأويله صفة اليدين لله تعالى إلى معنى النعمة ، موافقا بذلك الأشاعرة في تأويل الصفات. أما أهل السنة والجماعة فيثبتون لله تعالى يدين حقيقيتين لائقتين بذاته سبحانه وتعالى ، لا تشبهان ما للمخلوق من جارحة ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كثيرا.

قال الطبري (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) يقول : بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه ، غير مغلولتين ولا مقبوضتين» جامع البيان (١٠ / ٤٥٣). وقال شارح الطحاوية : وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات ، فيتسلّط بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية كاليد والوجه. ثم نقل عن أبي حنيفة أنه قال : له يد ووجه ونفس كما ذكر

٩٢

والآخر بالكافرين. فقال : أنالوكم مثل ما أنلتموهم (١) ، تنبيها على معنى قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)(٢) وقوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(٣) أي عالم به يخبركم به (٤) ، تنبيها على ما قال : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥).

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى

__________________

ـ تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس ، فهو له صفة بلا كيف ، ولا يقال : إن يده قدرته ونعمته ، لأن فيه إبطال الصفة. شرح العقيدة الطحاوية ص (٢٦٤) ، وانظر : الفقه الأكبر لأبي حنيفة بشرح القاري ص (٣٦ ، ٣٧).

(١) هذا القول محكي عن الحسن رضي الله عنه ، ذكره : الماوردي في النكت (١ / ٤٣٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٧٩) ، والقرطبي في الجامع (٤ / ٢٤٠) ، والنيسابوري في تفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٨٢) ، وأبو حيان في البحر (٣ / ٩١).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

(٤) قال أبو علي الفارسي : أخذ هذه الكلمة أبو إسحاق ـ الزجاج ـ من قولهم : خبرت الأرض ، إذا شققتها ، وفلان خبير بالشيء إذا كان عالما به ... قال أبو علي : وهو عندنا من الخبر الذي يسمع ، لأن معنى الخبير : العالم. تفسير أسماء الله الحسنى ، لأبي إسحاق الزجاج ص (٤٥).

(٥) سورة الجمعة ، الآية : ٨.

٩٣

طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ ...)(١) الآية.

قرئ تغشى ردّا على لفظ أمنة ، ويغشى إلى لفظ نعاسا (٢) ، وقرئ كلّه على الابتداء ، وكلّه على التأكيد (٣) ، وقيل : السبب في نزولها أن يوم أحد تواعد المشركون بالرجوع ، وكان المسلمون

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤. ونصّها : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُور).

(٢) قال ابن زنجلة : «قرأ حمزة والكسائي : (تغشى) بالتاء والإمالة ردّا على ال (أمنة) ... وقرأ الباقون (يغشى) بالياء إخبارا عن النعاس. حجة القراءات ص (١٧٦). وقال الأزهري : «من قرأ بالتاء فللأمنة ، ومن قرأ بالياء فللنعاس وكل ذلك جائز» معاني القراءات ص (١١١). وانظر : جامع البيان (٧ / ٣١٥ ، ٣١٦) ، والمبسوط ص (١٤٨) ، والغاية ص (٢١٨) ، وغاية الاختصار ص (٤٥٤) ، والنشر (٢ / ٢٤٢). وزادوا جميعا خلفا على حمزة والكسائي.

(٣) أي في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ). قال ابن زنجلة : «قرأ أبو عمرو : (قل إن الأمر كلّه لله) برفع اللام وقرأ الباقون بالنصب ، فمن نصب فعلى توكيد «الأمر» ، ومن رفع فعلى الابتداء ، ولله الخبر ...» حجة القراءات (١٧٧). والرفع أيضا قراءة يعقوب من العشرة. وانظر : المبسوط (١٤٨) ، والتلخيص (٢٣٦) ، والنشر (٢ / ٢٤٢) ، والحجة (٢ / ٣٩١ ـ ٣٩٢).

٩٤

متهيئين للقتال ، فأنزل الله تعالى على المؤمنين أمنة (١) فنام بعضهم ، ونفى عن المنافقين الأمنة ، فسهروا منزعجين (٢) ، فمن حمل النوم على الحقيقة (٣) قال : جعل ذلك رأفة بهم (٤) ،

__________________

(١) قال ابن جرير : أمنة وهي الأمان على أهل الإخلاص منكم واليقين ، دون أهل النفاق والشك. ثم بين جلّ ثناؤه عن (الأمنة) التي أنزلها عليهم ما هي؟ فقال : (نعاسا) بنصب النعاس على الإبدال من الأمنة. جامع البيان (٧ / ٣١٥).

(٢) قال ابن إسحاق : أنزل الله النعاس أمنة على أهل اليقين به ، فهم نيام لا يخافون ، وأهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية تخوف القتل ، وذلك أنهم لا يرجون عاقبة. السيرة النبوية لابن هشام (٣ / ١٦٦). وانظر : جامع البيان (٧ / ٣١٦ ـ ٣١٩) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٧٩٣ ، ٧٩٤) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢١).

(٣) وهذا هو الصواب الذي عليه المفسرون كافة ، انظر ما سبق ، وبحر العلوم (١ / ٣٠٨) ، والنكت والعيون (١ / ٤٣٠) ، والوسيط (١ / ٥٠٦) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٩) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٦٩) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٢) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٢ ، ٩٣) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٩٥) ، ونظم الدرر (٢ / ١٦٩).

(٤) في الأصل : (لهم) والصواب ما أثبته. وقال النيسابوري : وكان في ذلك النعاس فوائد : ... ومنها : أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال ، والنعاس يجدد القوة والنشاط ... ومنها أن الأعداء كانوا حراصا متهالكين في قتلهم ، فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدلّ

٩٥

وتخصيص النعاس تنبيه على صيانتهم من الحالة المذمومة من الامتلاء من النوم (١) ، ومنهم من جعله استعارة لطمأنينة جأشهم ، وزوال خوفهم ، وذلك لما ترى من حال المطمئن ، ويوصف المغموم بالسهر (٢) ، ومنهم من تجاوز ذلك ، وقال : إنّه لمّا ذكر في الأول قوله : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ)(٣) بيّن هاهنا أنه تعالى هذّب طائفة من المؤمنين ، حتى صارت نفوسهم آمنة مطمئنة تحت قضاء الله ، وهذه حالة الرضى ، فقد قيل : الرضى أن يكون العبد ساكنا تحت قضاء الله ، مطمئنا عند كل وارد سرّ أم ساء (٤) ، وهذه الحال ادّعاها الشاعر صادقا أو كاذبا في قوله :

__________________

ـ الدلائل على حفظ الله وكلاءته معهم. تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٤).

(١) لأن النعاس هو الوسن وأول النوم. انظر : النهاية (٥ / ٨١).

(٢) تقدم أن قول كافة المفسرين هو حمل النوم على الحقيقة ، ولم أقف على صاحب هذا القول الآخر ، إلا أن النيسابوري قال : «ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس ههنا كناية عن غاية الأمن ، وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة ، مع أن منه إبطال الفوائد والحكم المذكورة» تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٤).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٣.

(٤) وهذا أيضا يرجع إلى القول السابق ، وفيه مخالفة للكافة من أهل التأويل ، وصرف للألفاظ عن مدلولها بلا حاجة.

٩٦

فسرّ ولم ابتهج

وساء ولم أشتكي (١)

وقوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)(٢) تنبيه على خبث أنفسهم ، وأنها أمّارة بالسوء ، وذاك أن المنافق شرير (٣) ، والشرير لم تتهذب نفسه وأحواله من الغضب والشهوة والحرص وسائر الرذائل ، وكأن ما معه عدو يؤذيه ، ولهذا لا يمكنه أن يخلو بنفسه ، لأنه لا يجد شاغلا له ، وكأنه خلّي مع أسود وأساود (٤) ، وقوله : (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) تنبيه على جهلهم وعدم معرفتهم بحكمة الله ونعمته في قهر الكفار للمسلمين في بعض الأحوال ، وأنها نعمة. وظنّهم غير الحق : ظنّهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصدقهم ، ويأسهم من نصرة الله تعالى (٥) ، وقوله : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) أي ظن

__________________

(١) لم أقف على قائل هذا البيت.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٣) ذكر المفسرون أن هذه الطائفة هم المنافقون الذين لا يهمهم إلا أنفسهم ، انظر : جامع البيان (٧ / ٣٢٠) ، وبحر العلوم (١ / ٣٠٩) ، والنكت والعيون (١ / ٤٣٠) ، والوسيط (١ / ٥٠٧) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٩) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢٢) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٢).

(٤) أسود : جمع أسد ، وأساود : جمع أسود والأسود : حيّة عظيمة من أخبث الحيات وأعظمها ، انظر : النهاية (٢ / ٤١٩) ، والقاموس ص (٣٧١).

(٥) قال ابن جرير : يظنون بالله الظنون الكاذبة ، ظن الجاهلية من أهل الشرك بالله ، شكّا في أمر الله ، وتكذيبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحسبة منهم أن الله خاذل

٩٧

الكفار (١) ، تنبيها أن هؤلاء المنافقين بعد في حيّز الكفار ، وفي قلّة معرفتهم الله بحكمة الله تعالى ، وأنهم لا يعرفون الخير والنعمة إلا المال والجاه والغلبة الدنيوية ، فإذا فاتهم ذلك ساء ظنّهم ، وقوله : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ،) أي : هل لنا طمع في الغلبة ، تنبيها أنهم استشعروا اليأس الذي يستشعره القوم الكافرون (٢) ، فأكذبهم الله تعالى ، فقال : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي الغلبة في الحقيقة له ولأوليائه ، فإن حزب الله هم الغالبون ، وقيل : عنى بالأمر الاستئمار ، أي لو شوورنا لأشرنا بترك هذا المورد (٣) ، فقال الله تعالى : (الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي هو أعرف

__________________

ـ نبيه ، ومعل عليه أهل الكفر به. جامع البيان (٧ / ٣٢٠) ، وانظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٧٠) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٥) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٤).

(١) قال ابن جرير : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) يعني أهل الشرك (٧ / ٣٢١). وانظر : بحر العلوم (١ / ٣٠٩) ، والوسيط (١ / ٥٠٧) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢٢) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٧٠) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٥).

(٢) قال الواحدي : هذا استفهام معناه الجحد ، أي ليس لنا من النصر والظفر شيء كما وعدنا ، بل هو للمشركين ، يقولون ذلك على جهة التكذيب. الوسيط (١ / ٥٠٧). وانظر : تفسير السمرقندي (بحر العلوم) (١ / ٣٠٩).

(٣) قال النيسابوري : يعنون رأي عبد الله بن أبي ، وأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقبل قوله

٩٨

بالتدبير (١) ، وقوله : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) معناه لو لا أنا أكرهنا لما خرجنا (٢) ، وفصل بين الحكايتين / عنهم ، أعني (هَلْ لَنا) وقوله : (يَقُولُونَ) بجملتين : إحداهما : جواب لهم ، وهي قوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ.) والثانية : تنبيه على ما في ضمائرهم ، وهي قوله : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ،) ولمّا فصل بينهما أعيد في الحكاية عنهم لفظ (يَقُولُونَ) لئلا تشتبه الحكاية عنهم بما هو إخبار منه تعالى (٣) ، ...

__________________

ـ حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ، ونظيره ما حكي عنه (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) [آل عمران : ١٦٨]. تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٥).

وانظر : التفسير الكبير (٩ / ٣٩) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٥).

(١) قال البيضاوي : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) أي الغلبة الحقيقية لله تعالى ولأوليائه ، فإن حزب الله هم الغالبون ، أو القضاء له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو اعتراض. أنوار التنزيل (١ / ١٨٥). وانظر : زاد المسير (١ / ٤٨١) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٦) ، والبحر المحيط (٣ / ٥٠٧).

(٢) ذكر ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ أنهم قالوا ذلك سرّا. تفسير القرآن العظيم (١ / ٣٩٥). وانظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٧١) ، وزاد المسير (١ / ٤٨١) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٧) ، والبحر المحيط (٣ / ٥٠٨) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٥).

(٣) قال البيضاوي : (يَقُولُونَ) أي في أنفسهم ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض ، وهو بدل من (يخفون) ، أو استئناف على وجه البيان له. أنوار التنزيل (١ / ١٨٥).

٩٩

وقال بعض المعتزلة (١) : عنى بقوله : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أنه كقوله : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا)(٢) وهذا إن كان كما قاله هذا القائل ، فقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) تصديق لهم ، وقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)(٣) تكذيب لهم ، وأنه محال أن لا يقتلوا مع أن قتلهم بذلك المكان جار في قضائه وتقديره (٤) ، وقد حمل ذلك على وجهين : إما أنّ من قدّر له القتل لو لم يخرج لأتاه القتل ، وهو في مضجعه في داره (٥) ،

__________________

(١) المعتزلة : فرقة كلامية سميت بذلك لاعتزالهم قول الأئمة ، وادعائهم أن الفاسق من أمة الإسلام لا مؤمن ولا كافر ، وكان هذا الرأي قد صدر عن واصل بن عطاء في مجلس الحسن البصري ، فطرده الحسن ، فاعتزل إلى سارية من سواري مسجد البصرة ، فقيل له ولأتباعه «معتزلة». انظر : الفرق بين الفرق للبغدادي ص (٢٠ ، ٢١ ، ١١٤ ، ١١٥). والتبصير في الدين للإسفراييني ص (٦٣ ـ ٦٥). واعتقادات فرق المشركين والمسلمين للرازي ص (٢٧ ـ ٢٩). والبرهان للسكسكي ص (٤٩ ـ ٥١).

(٢) سورة الأنعام ، الآية : ١٤٨.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٤) قال ابن عطية : الآية ردّ على الأقوال ، وإعلام بأن أجل كلّ امرئ إنما هو واحد ، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدّر الله تعالى. المحرر الوجيز (٣ / ٢٧٢).

(٥) انظر : الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٣) ، النكت والعيون (١ / ٤٣١) ، والوسيط (١ / ٥٠٨) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٩) ، وتفسير

١٠٠