تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

وقيل : بل أولياؤه هم المخوّفون (١) ، وذاك أن الناس ضربان : ضرب لا سبيل للشيطان عليه ، وهم المعنيون بقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)(٢) ، وضرب بخلافهم ، وهم الذين قال فيهم : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)(٣) ، وقد صرّح تعالى بذلك في قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)(٤) إلى قوله : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(٥) ، وحقيقة خوف الله امتثال أمره ، وعلى هذا

__________________

ـ وجامع البيان (٧ / ٤١٧) ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٩٠) ، والوسيط (١ / ٥٢٣) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٥).

(١) انظر : معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٩٠) ، ومعاني القرآن للأخفش (١ / ٢٢١) ، وللفراء (١ / ٢٤٨) ، وقد ذكر أبو حيان هذا القول ، فقال : «ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) شر الكفار ، ويكون (أولياءه) في هذا الوجه هم المنافقون ، ومن في قلبه مرض ، المتخلفون عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ..» البحر المحيط (٣ / ١٢٥) ، وذكر الطبري هذا القول عن السدي في جامع البيان (٧ / ٤١٧) ، ونسبه الماوردي في النكت والعيون (١ / ٤٣٨) للحسن والسدي. وانظر : دقائق التفسير (١ / ٣٠٦) ، والدر المصون (٣ / ٤٩٣).

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٦٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٥٧.

(٤) سورة النحل ، الآية : ٩٨.

(٥) سورة النحل ، الآية : ١٠٠.

١٦١

قال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ)(١) ثم قال : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢) ، تنبيها أن من شرط الإيمان التحقّق أن ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا ، ومن علم ذلك علم أوامر الله ، فاتّبعها في ترك ما يأمر به الشيطان (٣).

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ..)(٤). الآية.

كما نهى تعالى عن الخوف مما يتوقع من حزب الشيطان ، نهى عن الحزن على ما يفوته منهم ، ووصف الكفار بالمسارعة في الكفر ، كما وصف المؤمنين بالمسارعة في الإيمان ، فقال : (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ)(٥) ، وحقيقة المسارعة في ذلك أن يترقى الإنسان فيما يتحرّاه منزلة فمنزلة ، خيرا كان أو شرّا ، فيتعوّده فيتقوّى به

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٢٨. وانظر : جامع البيان (٧ / ٤١٨).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٥.

(٣) انظر : جامع البيان (٧ / ٤١٨) ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٩٠) ، وبحر العلوم (١ / ٣١٧) ، والوسيط (١ / ٥٢٤) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٣٩).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٦. ونصّها : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٩٠.

١٦٢

على المنزلة الثانية ، لأن الشر حاصل بعضه عن بعض ، وحامل بعضه بعضا ، وكذا الخير (١) ، وعلى هذا قال أمير المؤمنين : تبدو نكتة بيضاء في القلب ، كلما ازداد الإيمان ازداد البياض ، فإذا استكمل الإيمان ابيضّ القلب كلّه ، وإن النفاق يبدو نكتة سوداء ، كلما ازداد النفاق ازداد السواد ، فإذا استكمل النفاق اسودّ القلب كلّه (٢) ، وبيّن أن لا يعود إلى الله من مسارعتهم في الكفر

__________________

(١) المسارعة كما ذكر اللغويون هي المبادرة إلى الشيء. انظر : الصحاح (٣ / ١٢٢٨) ، والقاموس ص (٩٤٠) ، وتاج العروس (٢١ / ١٩٢). وكأن الراغب نظر في كلامه عن معنى المسارعة إلى نتائجها وهي الارتقاء في منازل الخير أو الشر ، والتدرج من منزلة إلى أخرى ، واستدعاء كل منزلة للتي تليها.

(٢) رواه ابن المبارك في الزهد ص (٥٠٤ ، ٥٠٥) رقم (١٤٤٠) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (٧ / ٣٠٤) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعزاه لابن المبارك. وهذا المعنى ورد مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سواء ، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير القلوب على قلبين ، قلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، وقلب أسود مربادّا كالكوز مجخّيا ، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه» أخرجه مسلم كتاب الإيمان ، باب رقم (١٤٤).

١٦٣

مضرة ، كقوله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١). إن قيل : كيف جعل العلّة في قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) أنهم لن يضروا الله شيئا ، ولم يكن المسلمون يحزنون ، لأجل أن خطر لهم أن هؤلاء يضرّون الله ، إنما كان حزنهم أن يضروهم؟ قيل : معنى ذلك لن يضروا أولياءه (٢) ، ألا ترى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى يقول : من آذي لي وليّا قد آذاني» (٣) ، وعلى التنبيه على هذا المعنى قال / : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٤) ، وقوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٥) ، وقوله : (يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٥٧.

(٢) ذكر هذا القول الواحدي في الوسيط (١ / ٥٢٤) وحكاه عن عطاء. وكذلك ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٥٠٨) ، وذكره القرطبي في الجامع (٤ / ٢٨٦) ، واعتمده أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٣ / ١٢٦) وانظر : أنوار التنزيل (١ / ١٩١).

(٣) ورد هذا الحديث بغير هذا اللفظ ، فقد أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب «التواضع» رقم (٦٥٠٢) بلفظ : «إن الله قال : «من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب ...» الحديث. ورواه أبو يعلى (١٢ / ٥٢٠) رقم (٧٠٨٧) ، وأبو نعيم في الحلية (١ / ٥) بلفظ : «من آذى لي وليّا فقد استحلّ محاربتي» ورواه البزار كما في كشف الأستار (٤ / ٢٤١) ، وأحمد (٦ / ٢٥٦) بنحوه.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٥٧.

(٥) سورة المائدة ، الآية : ٣٣.

١٦٤

لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)(١) ، يريد إحباط عملهم بما استحقوه من الذنوب (٢) ، وقيل : يريد الحكم بحرمان ثوابهم ، وأن لا يجعل لهم ما يستحقه المطيعون (٣) ، والفرق بين السرعة والعجلة إذا اعتبرنا بنفس الفعل ، هو أن السرعة أن لا يترك الأمر يتأخر عن وقته ، والعجلة فيه أن يقدمه على وقته ، وإذا اعتبرنا بقوى النفس فالعجلة ما يفعل على مقتضى الشهوة ، والسرعة تقال فيها وفيما يفعل على مقتضى الرأي والفكرة ، ولذلك ذم العجلة على الإطلاق ، وقد حمد السرعة في مواضع (٤).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ ...)(٥) الآية.

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٦.

(٢) هذا قول ابن إسحاق ، رواه عنه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٤١٩) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٢٢) ، وانظر : النكت والعيون (١ / ٤٣٩) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٧).

(٣) ذكره الماوردي في النكت والعيون (١ / ٤٣٩) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٣ / ١٢٧).

(٤) قال العسكري : الفرق بين «السرعة» و «العجلة» أن السرعة التقدم في ما ينبغي أن يتقدّم فيه ، وهي محمودة ، ونقيضها مذموم وهو الإبطاء. والعجلة : التقدم في ما لا ينبغي أن يتقدّم فيه وهي مذمومة ، ونقيضها محمود وهو الأناة ...» الفروق ص (٢٢٥) وانظر : المفردات ص (٤٠٧ ، ٥٤٨).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٧. ونصها : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ

١٦٥

قد تقدّم حقيقة الشرى والبيع إذا استعملا في الكفر والإيمان (١) ، وقال كثير من المفسرين : هذه الآية في معنى الأولى ، وقد أعيدت تأكيدا (٢) ، والصحيح أن الأول ذمّ للذين تحرّوا الكفر وتزايدوا فيه متسارعين ، وهذا ذمّ لمن حصّل الإيمان فأفرج عنه ، واستبدل به كفرا ، وهم الذين وصفهم بالارتداد على أعقابهم ، وذمّ لمن مكّن من الإيمان فرغب عنه ، وآثر الكفر عليه ، فصار كالبائع إيمانه بكفره (٣) ، وقوله : (شَيْئاً) في موضع المصدر ، أو تقديره

__________________

ـ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(١) انظر : تفسير الراغب لقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة : ١٦] (ق ٢٢ ـ مخطوط).

(٢) ظاهر كلام ابن جرير يدل على ذلك ، انظر : جامع البيان (٧ / ٤١٩).

وانظر : الكشاف (١ / ٤٤٤) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٨٦) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١٥) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٧) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٨) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٩١) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١١٦).

(٣) قال أبو حيان : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : هذا عام في الكفار كلهم. وقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إن كان عامّا فكرر هذا على سبيل التوكيد ، وإن كان خاصّا بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريرا على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا الله شيئا ، ويندرج في ذلك الخاص أيضا ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون

١٦٦

بشيء ، فحذف الجارّ ونصبه (١) ، وجعل لمن بدّل الكفر بالإيمان عذابا أليما ، وهو أبلغ مما جعله للفرقة الأولى ، حيث وصفه بالعظم ، إذ يقال العظيم اعتبارا بغيره مما هو من جنسه ، وقد لا يكون شديد الألم ، وأليم يقال لما تناهى في الألم ، إذ هو بناء المبالغة ، ويقال : هو أليم ، سواء اعتبر بغيره أو لم يعتبر (٢).

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)(٣) الآية.

__________________

ـ قد جمع للخاص العذاب بنوعيه من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب ، وجعل ذلك اشتراء من حديث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان. البحر المحيط (٣ / ١٢٧). وانظر : إرشاد العقل السليم (٢ / ١١٧).

(١) ذكر الوجه الأول الزمخشري في الكشاف (١ / ٤٤٤) ، والعكبري في إملاء ما منّ به الرحمن (١ / ١٥٨) ورجّحه ، وذكر الوجهين أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ١٢٦).

(٢) انظر : غريب القرآن للسجستاني ص (٥٢) ، والكامل (١ / ٢٦٠) ، وقال أبو السعود : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم ، بذكر غاية إيلامه ، بعد ذكر نهاية عظمه. قيل : لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة ، وصف عذابهم بالإيلام ومراعاة لذلك». إرشاد العقل السليم (٢ / ١١٧).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٨. ونصّها : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

١٦٧

الإملاء إطالة المدة (١) ، ومنه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(٢) ، وتملّيت حبيبا (٣) ، وإملاء الكتاب على أحد القولين (٤) ، والملوان (٥) وإذا قرئ بالياء فسهل ، وإذا قرئ بالتاء فصعب (٦) ، فالذين كفروا هو المفعول الأول ، ولا يصح أن يجعل (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) المفعول الثاني ، لأن هذه الأفعال تدخل على مبتدأ وخبر ، ويجب أن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى ، و (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) ليس في المعنى (الَّذِينَ كَفَرُوا ،) ولا يصح أن يجعل بدلا كما جعل في

__________________

(١) قال الطبري : «ويعني ب (الإملاء) : الإطالة في العمر ، والإنساء في الأجل». جامع البيان (٧ / ٤٢١).

(٢) سورة مريم ، الآية : ٤٦. قال الجوهري : أي طويلا. الصحاح (٢٤٩٧).

(٣) أي تمتعت به زمانا طويلا. انظر : مجاز القرآن (١ / ٨) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٩٩٤). وتهذيب اللغة (١٥ / ٤٠٥).

(٤) وقيل : أصل إملاء الكتاب من الإملال فقلبت اللام الثانية تخفيفا كما قال في المفردات ص (٧٧٧).

(٥) الملوان : طرفا الليل والنهار. انظر : معجم مقاييس اللغة ص (٩٩٤) ، والقاموس ص (١٧٢١). وانظر : المفردات ص (٧٧٦ ، ٧٧٧) ، ولسان العرب (١٥ / ٢٩٠ ـ ٢٩٢) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٧).

(٦) قرأ حمزة : (ولا تحسبنّ الذين كفروا) بالتاء خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الباقون (ولا تحسبن الذين كفروا) بالياء إخبار عن الذين كفروا. انظر : حجة القراءات ص (١٨٢) ، ومعاني القراءات ص (١١٣ ، ١١٤) ، وغاية الاختصار (٢ / ٤٥٦) ، والنشر (٢ / ٢٤٤).

١٦٨

قوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)(١) ، وفي قوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ)(٢) فإنه حينئذ يلزم أن ننصب «خيرا» حتى يصير المفعول الثاني (٣) ، فيجب أن يكون بالياء أجود (٤) ، وقد اختلف في تأويل الآية من حيث إن ظاهرها يقتضي

__________________

(١) سورة الكهف ، الآية : ٦٣.

(٢) سورة الأنفال ، الآية : ٧.

(٣) وهذا ما فعله الزجاج انظر : معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٩١) قال : «قد قرأ بها ـ أي بنصب خير ـ خلق كثير». قال أبو حيان : «وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد. وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه» البحر المحيط (٣ / ١٢٨).

(٤) تبع الراغب في ذلك أبا علي الفارسي في الحجة (٢ / ٤٠٣) ، ولكن القراءة بالتاء صحيحة متواترة ، ولذلك فقد حكى العلماء تخريجات لهذه القراءة ، منها تقدير مضاف محذوف ، فيكون المعنى : ولا تحسبن شأن الذين كفروا ، أو ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم وذلك حتى يصح كون المفعول الثاني هو الأول. انظر : جامع البيان (٧ / ٤٢٢) ، ومشكل إعراب القرآن ص (١٧٩) ، والجنى الداني ص (٩٤).

وخرجه الزمخشري وأبو الحسن ابن الباذش على أن يكون (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) بدل من (الذين). حكى ذلك كله أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ١٢٧). وانظر : معالم التنزيل (٢ / ١٣٩ ، ١٤٠) ، والكشاف (١ / ٤٤٤). وهناك تخريج آخر لقراءة حمزة ، وهو ما قاله الكسائي والفراء : إنها جائزة على التكرير ، أي ولا تحسبن الذين كفروا ، لا تحسبن أنما نملي

١٦٩

أن الله تعالى يريد بإملائهم أن يكفروا. قالوا : والله يتعالى عن هذا القصد (١) ، مع كون هذه الآية منافية لمقتضى قوله : (وَما خَلَقْتُ

__________________

ـ لهم. انظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٢٤٨) ، وإعراب القرآن للنحاس (١ / ٤٢١). قال أبو حيان : وقد ردّ بعضهم قول الكسائي والفراء ، فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما. انتهى. البحر المحيط (٣ / ١٢٧).

(١) الصواب في تفسير هذه الآية أن تفسر بظاهرها أو بنظائرها من آيات الكتاب العزيز ، وذلك ما فعله ابن جرير الطبري في جامع البيان ، قال : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) : «إنما نؤخر آجالهم فنطيلها (لِيَزْدادُوا إِثْماً ،) يقول : ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم وتكثر». جامع البيان (٧ / ٤٢٣). أما الحافظ ابن كثير رحمه‌الله فقد فسرها بالآيات الأخرى كقوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)[المؤمنون : ٥٥ ، ٥٦] ، وكقوله : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)[القلم : ٤٤] ، وكقوله : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)[التوبة : ٥٥]. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٨). قال القرطبي : «والآية نصّ في بطلان مذهب القدرية ؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي ...» الجامع (٤ / ٢٨٨) قلت : والشبهة التي أوردها الراغب عن بعض المفسرين ناتجة عن عدم تفريقهم بين الإرادة والمشيئة الكونية والإرادة والمشيئة الشرعية ، وقد سبق تقرير مذهب أهل السنة في ذلك ، وبيان أن الإرادة والمشيئة الكونية القدرية لا تستلزم المحبة والرضا ، كما قال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا

١٧٠

الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١) ، فمنهم من قال : الآية على التقديم والتأخير ، وتقديرها : لا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما ، بل إملاؤنا خير لهم ، ويكون مفعول (وَلا يَحْسَبَنَ) هو (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ،) وعلق أن ، وجعل (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ) كالعلّة لتأخيرهم ، تنبيها أن ذلك أولاهم ليصير معونة لاكتسابهم الخير لأنفسهم ، وهذا فاسد ، لأن إنما يصح أن يعلق حيث ما يدخل لام الابتداء في خبره (٢) ، ومنهم من قال :

__________________

) ـ (مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) وهذا الأمر القدري الكوني غير الأمر الشرعي ، فإن الله لا يأمر بالفسق شرعا ، ولا يحب الفاسقين. انظر : معارج القبول (١ / ١٦٢) والقضاء والقدر للدكتور عبد الرحمن المحمود ص (٢٩١ ـ ٢٩٨).

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦. وليس هناك تناف بين مدلول الآيتين ، لأنه تعالى أرادهم للعبادة شرعا لا كونا ، ولذلك قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] ، فالإرادة الشرعية يستطيع العبد أن يخالفها ، أما الإرادة الكونية القدرية فلا يستطيع دفعها عن نفسه بأي وجه كان.

(٢) التعليق : هو تعدي الفعل إلى مفعوله معنى لا لفظا ، وذلك إذا كان المعمول ذا استفهام أو مضافا إليه أو مسبوقا بلام ابتداء أو قسم أو منفيّا بلا أو ما.

انظر : المساعد (١ / ٣٦٨) ، وذكر النيسابوري أن هذا الوجه من تأويلات المعتزلة ، بناء على قراءة شاذة ليحيي بن وثّاب بكسر (إن) الأولى وفتح الثانية ، ثم قال : «وردّ بأن التقديم والتأخير خلاف الأصل ، والقراءة الشاذة لا اعتداد بها مع أن الواحديّ أنكرها». تفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١٦)

١٧١

الكلام على الترتيب ، والمفعول هو (أَنَّما) وجعل اللام لام العاقبة ، وتحقيق لام العاقبة هو أن اللام تارة تجيء تبيينا لقصد الفاعل بفعله / نحو (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١) ، وتارة تبيينا لما أدى إليه الفعل ، لا لقصد الفاعل (٢) ، نحو (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)(٣). إن قيل : لم قال ها هنا : (عَذابٌ مُهِينٌ؟) قيل : لما ذكر ها هنا إملاء الإنسان في الأعراض (٤) الدنيوية ، وذلك قد يكون في الدنيا هوانا وعذابا

__________________

ـ وانظر : الكشاف (١ / ٤٤٤) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٨ ، ١٢٩) ، والدر المصون (٣ / ٥٠٤ ، ٥٠٥). (١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

(٢) والقول بأن اللام هنا لام العاقبة هو قول المعتزلة أيضا ، والصواب أنها لام الإرادة. انظر : إرشاد العقل السليم (٢ / ١١٨). ونقل أبو حيان عن الماتريدي أنه قال : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير ، أي ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. الثاني : أن هذا إخبار منه سبحانه وتعالى على حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، .. وفي التأويل الأول إفساد للنظم. وفي الثاني تنبيه على من لا يجوز تنبيهه ، فإن الإخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفلة ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه. انتهى كلامه». البحر المحيط (٣ / ١٢٩) وقد رد ابن المنير على الزمخشري في هذا الموضع. انظر الكشاف (١ / ٤٤٤) هامش رقم (١).

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩.

(٤) في الأصل (ولأعراض) ، والصواب ما أثبته.

١٧٢

لصاحبه ، وهو لفقدان بصيرته يقدر أن الهوان في فقدانه فلا يفرج عنه ؛ ذكر الهوان الذي هو أعمّ الألفاظ الثلاثة من (الْعَظِيمِ) و (الْأَلِيمَ) و (الْمُهِينِ) ليعم الدارين (١) ، وعلى هذا قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(٢).

قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ...)(٣) الآية.

الخبيث : مستعار للعمل السيىء ، والطيّب : للعمل الصالح (٤)

__________________

(١) قال النيسابوري : «وفي وصف العذاب أولا بالعظم ، ثم بالألم ، ثم بالإهانة تدرج من الأهون إلى الأشق ، وفيه من الوعيد والسخط ما لا يخفى». تفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١٦) وانظر في سبب ختم الآية بذلك : البحر المحيط (٣ / ١٢٩ ، ١٣٠) ، والدر المصون (٣ / ٥٠٧) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١١٨).

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٥٥.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٩. ونصّها : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

(٤) قال الراغب : «الخبث والخبيث : ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أو معقولا ... وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد ، والكذب في المقال ، والقبيح في الفعال» ، ثم ذكر هذه الآية وقال : «أي الأعمال الخبيثة من الأعمال الصالحة ، والنفوس الخبيثة من النفوس الزكيّة ...» المفردات ص (٢٧٢). وقال السمين الحلبي : «والخبث يكون في المعقولات كما يكون في المحسوسات ،

١٧٣

تشبيها للذكر المسموع بالنشر المشموم ، وعلى هذا قال الشاعر :

تبحثت عن أخباره فكأنما

نبشت صدأه بعد ثالثة الدفن (١)

وقال آخر :

 ...

ثناء مثل ريح الجورب (٢)

وعلى هذا حمل (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ)(٣) ، (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ)(٤) أي الأعمال في الخبث والطيب جارية مجرى فاعليها ، وقيل : المؤمن أطيب من عمله ، والكافر أخبث (٥) ، والاجتباء : كالاصطفاء ،

__________________

ـ وبذلك يتناول الباطل في الاعتقاد ، والكذب في المقال ، والقبيح في الفعال» ، عمدة الحفاظ (١ / ٥٥٧) ، واانظر : بصائر ذوي التمييز (٢ / ٥٢٢).

(١) البيت ذكره الراغب في مجمع البلاغة ص (٢٠٠) ونسبه لابن الرومي.

وانظر : كل ما قاله ابن الرومي في الهجاء ص (٥٥١).

(٢) ذكره الراغب في مجمع البلاغة ص (٢٠٠) بلفظ :

 ...

وثناؤه في الناس ريح الجورب

وهو مثل أصله :

أثن عليّ بما علمت فإنني

مثن عليك بمثل ريح الجورب

انظر : مجمع الأمثال (٢ / ٣٥٤).

(٣) سورة النور ، الآية : ٢٦.

(٤) سورة النور ، الآية : ٢٦.

(٥) أخرج البيهقي في الشّعب عن أنس مرفوعا «نيّة المؤمن أبلغ من عمله» ، قال ابن دحية : لا يصح ، وقال البيهقي : إسناده ضعيف ، والحديث في كشف

١٧٤

وأصله الجمع ، فكأن من اجتباه الله ضمّه إلى نفسه حتى يكون له بأجمعه (١) ، بخلاف من قال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ)(٢) وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)(٣) وتحقيق التمييز من الله لا على سبيل التعرف ، بل ليحصّل الخبيث خبيثا والطيب طيبا ، وذلك حقيقة التكليف (٤) ، وقد كرّر الله تعالى هذا المعنى مع كل فصل ، فقال :

__________________

ـ الخفاء (٢ / ٣٢٤) ، والمقاصد (٧٠١) ، وضعيف الجامع (٥٩٨٨) ، وأسنى المطالب (١٦١٨) ، والحلية (٣ / ٢٥٥).

(١) قال الأزهري : «الجبا : بكسر الجيم : ما جمعت في الحوض من الماء ... وقال الله : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)[يوسف : ٦] قال الزجاج : معناه ، وكذلك يختارك ويصطفيك ، وهو مشتق من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وفيه جبيت الماء في الحوض ...» تهذيب اللغة (١١ / ٢١٤ ، ٢١٥). وانظر : العين (٤ / ١٩٢) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٢٣٣) ، والصحاح (٦ / ٢٢٩٨) ، والمفردات ص (١٨٦) ، واللسان (١٤ / ١٢٨ ـ ١٣١).

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٢٩.

(٣) سورة طه ، الآية : ٤١.

(٤) انظر : جامع البيان (٧ / ٤٢٤) ، وفيه أن التمييز يكون بالمحن والاختبار. وقال ابن كثير : «أي لا بد أن يعقد شيء من المحنة حتى يظهر فيه وليّه ، ويفضح به عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر ، والمنافق الفاجر ، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين ...» تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٨). وانظر : البحر المحيط (٣ / ١٣٠).

١٧٥

(وَلِيَعْلَمَ)(١) ، (وَلِيَبْتَلِيَ)(٢) ، (وَلِيُمَحِّصَ)(٣) و (لِيَمِيزَ)(٤) ، وقال من بعد : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ)(٥) ، كل ذلك تنبيها على أن التكليف في الحقيقة هذه الأشياء ، وأما الغيب فكل ما لا تدركه الحواس وبداهة (٦) العقول (٧) ، وهذا على القول المجمل ثلاثة أضرب : ضرب استبد تعالى به (٨) ولم يطلع عليه أحدا لا الملائكة المقربين ، ولا من دونهم ، لاستغنائهم عنه ، أحدا لا الملائكة المقربين ، ولا من دونهم ، لاستغنائهم عنه ، وضرب قد يطلع عليه أصفياء عباده ، وهو حقائق العلوم ، وذلك بحسب ما عرف من حاجتهم إليه ومصلحتهم فيه ، وإياه عنى بقوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ)(٩) ، وبيّن في الآية أن اطلاع العامة على غيبه وأقضيته

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٧.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٤١.

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٣٧.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٦.

(٦) في الأصل : (وبداية) ، والصواب ما أثبته.

(٧) انظر : تهذيب اللغة (٨ / ٢١٤) ، والصحاح (١ / ١٩٦) ، والمفردات ص (٦١٦ ، ٦١٧) ، واللسان (١ / ٦٥٤ ـ ٦٥٦) ، والكليات ص (٦٦٣).

(٨) استبدّ تعالى به : أي تفرد. القاموس (٣٤١).

(٩) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٦.

١٧٦

مناف للحكمة ، وذلك أن جماعة من الكفار سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : هل نحن ممن يؤمن (١)؟ ثم قال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) تنبيها على التوكل على الله وحسن الظنّ بنبيّه ، والتحقق أنه يفعل بعباده ما هو أصلح لهم ، وأنّ بالإيمان والتقوى يستحق الأجر العظيم.

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ)(٢) الآية.

قرئ بالياء (٣) على تقدير : لا يحسبن الباخلون البخل هو خير

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٤٢٥ ، ٤٢٦) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٢٤) عن السدي ، وعزاه السيوطي إليهما في الدر المنثور (٢ / ١٨٣).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٠. ونصها : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(٣) قرأ حمزة وحده (ولا تحسبن الذين يبخلون) بالتاء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ١٧٨] (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) [آل عمران : ١٨٠] (ولا يحسبن الذين يفرحون ... فلا يحسبنهم) أربعتها بالياء وضم الباء من (يحسبنهم) وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر بالياء فيها إلا قوله (فلا تحسبنهم) فإنه بالتاء. وقرأ حمزة كلها بالتاء. وقرأ عاصم والكسائي وخلف : (ولا يحسبن الذين كفروا) (ولا يحسبن الذين يبخلون) بالياء والباقي بالتاء. انظر : حجة القراءات ص (١٨٣) ، ومعاني القراءات ص (١١٣ ، ١١٤) ، والمبسوط ص (١٤٩) ، والتلخيص ص (٢٣٥) ، والغاية ص (٢٢٠) ، وغاية الاختصار (٢ / ٤٥٦) ، والنشر (٢ / ٢٤٤).

١٧٧

لهم ، فحذف البخل الذي هو المفعول الأول ، لدلالة (يَبْخَلُونَ) عليه ، كقولك : من كذب كان شرّا له ، وإذا قرئ بالتاء فتقديره لا تحسبّن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، فحذف المضاف لظهور المعنى (١) ، وبيّن بالآيتين أنهم جعلوا أعمارهم وأموالهم مصروفة إلى ما أورثهم إثما أو عقوبة يوم القيامة ، وتطويقهم ما بخلوا به على طريق التشبيه والتقريب (٢) ، نحو ما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يأتي كنز أحدهم يوم القيامة شجاعا أقرع (٣) ، له زبيبتان ، فيطوق في حلقه (٤) ،

__________________

(١) هذا تقدير الزجاج في معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٩٣) ، وانظر علة القراءتين في : حجة القراءات ص (١٨٣ ، ١٨٤) ، والبحر المحيط (٣ / ١٣٣) ، والدر المصون (٣ / ٥١٠ ، ٥١١).

(٢) القول بأن التطويق في الآية على التشبيه والتقريب غير صحيح ، والصواب كون ذلك حقيقة. قال الطبري : يعني بقوله جلّ ثناؤه (سَيُطَوَّقُونَ) ما بخل به المانعون الزكاة طوقا في أعناقهم كهيئة الأطواق المعروفة. جامع البيان (٧ / ٤٣٣) وقال الواحدي : «يجعل ما بخل من المال حية يطوقها يوم القيامة في عنقه ، تنهشه من قرنه إلى قدمه» الوسيط (١ / ٥٢٧).

(٣) الشجاع بالضم والكسر الحية الذكر وقيل : الحية مطلقا. والأقرع الذي لا شعر على رأسه ، يريد حيّة قد تمعط جلد رأسه لكثرة سمه وطول عمره. والزبيبتان : النكتتان السوداوان فوق عيني الشجاع. انظر : غريب الحديث للهروي (١ / ٨٠). والنهاية (٢ / ٤٤٧) ، (٤ / ٤٤ ، ٤٥).

(٤) وهذا التطويق أيضا حقيقة. قال ابن حجر : يطوقه : بضم أوله وفتح

١٧٨

فيقول : أنا الزكاة التى منعتني» (١) ، وعلى هذا قوله تعالى / : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)(٢) إلى قوله : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)(٣) ، ونبّه بقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٤) على انتقال ما في أيديهم إليه ، كما قال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٥) ، ونبّه أن ما خوّلهم لو أنفقوا على ما يجب وكما يجب لاستحقوا ثوابا ، فلمّا لم يفعلوا ذلك انتقل عنهم ، وصار عقوبة لهم ، وكأنّه إلى مقتضى معناه أشار من أوصى ، فقال : اكتبوا هذا ما خلّف فلان يسوءه وبنوه

__________________

ـ الواو الثقيلة ، أي يصير له ذلك الثعبان طوقا. فتح الباري (٣ / ٢٧٠).

(١) ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما ، أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٤٣٣ ـ ٤٣٧) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٢٧) ، والبخاري في صحيحه ، كتاب الزكاة ، باب «إثم مانع الزكاة» رقم (١٤٠٣) ، والنسائي كتاب الزكاة ، باب «التغليظ في حبس الزكاة» (٥ / ١١) ، والترمذي كتاب التفسير ، باب «من تفسير سورة آل عمران» رقم (٣٠١٢) وقال : حسن صحيح. وابن ماجه كتاب الزكاة ، باب «ما جاء في منع الزكاة» رقم (١٧٨٤) ، وأحمد (٢ / ٢٧٦).

(٢) سورة التوبة ، الآية : ٣٤.

(٣) سورة التوبة ، الآية : ٣٥.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٠.

(٥) سورة الأنعام ، الآية : ٩٤.

١٧٩

انتقل عنه نفعه ، وخفي عليه وزره ، وبيّن أنه عالم ببخلهم ، وما يؤول إليه حالهم ، وما يخبرهم به.

قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ)(١) الآية.

لمّا أنزل الله (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً)(٢) قال قوم من اليهود تهكما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله فقير ونحن أغنياء ، يستقرض منّا ، فأنزل الله تعالى ذلك (٣) ، ولم يعيرّهم أنهم اعتقدوا فقر الله ، وإنما عيّرهم تجاهلهم وتكذيبهم (٤) وصرفهم الكلام إلى غير الوجه المقصود به (٥) ، وعلى هذا قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨١. ونصها : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٤٥.

(٣) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٤٤٣ ، ٤٤٤) عن الحسن وقتادة. وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٢٨) عن ابن عباس ، وانظر : الوسيط (١ / ٥٢٨) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤١٠) ، والعجاب (٢ / ٨٠٤).

(٤) في الأصل (ونكدهم) ، ولعله تصحيف وقع من الناسخ.

(٥) حمل الآية على الوجهين أحسن وأليق بعقول اليهود ، لأن بعضهم ربما اعتقد حقيقة أن الله فقير ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. قال أبو حيان :

١٨٠