تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

والثاني : أنه لو كنتم أيها المؤمنون قعدتم في بيوتكم ، ولم تخرجوا للمحاربة لخرج من قدّر له القتل بسبب خفي إلى مضاجعهم في الحرب أي مصارعهم فيقتلون (١) ، تنبيها أن قضاء الله وتقديره وعلمه لا يتغير ، وأنه لا ينفع حذر من قدر ، وإلى هذا أشار الشاعر بقوله :

إذا ما حمام المرء كان ببلدة

دعته إليها حاجة أو تطرب (٢)

وقال الأصمّ معناه : لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم ، ولم تخرجوا البرز المسلمون الذين كتب عليهم أي أوجب أن يقاتلوا محتسبين (٣) ، ويكون هذا ثناء من الله تعالى على من (٤) استشهد. إن قيل : ما حقيقة الابتلاء والفصل بينه وبين المحص؟ قيل : الابتلاء

__________________

ـ غرائب القرآن (٢ / ٢٨٦) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٦) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٦) ، ونظم الدرر (٢ / ١٧٠) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٠٢) ، والفتوحات الإلهية (١ / ٣٢٧).

(١) وجه كافة المفسرين الخطاب في الآية إلى المنافقين ، ولم أجد من ذكر أن الخطاب موجه إلى المؤمنين ، كما ذكر الراغب في هذا الوجه.

(٢) البيت لأبي الشيص الخزاعي ، انظر ديوانه ص (٣١).

(٣) انظر هذا الوجه في : النكت والعيون (١ / ٤٣١) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٧٢) ، والتفسير الكبير (٩ / ٤١) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٦) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٧).

(٤) في الأصل (ما) والصواب ما أثبته.

١٠١

في الأصل هو الاختبار ، الذي يفصل به بين الخير والشر (١) فهو اسم الفعل مبدأ ونهاية ، فمبدؤه الاختبار ، ونهايته الفصل بين الخير والشر إذا استعمل في الله تعالى ، فإنّه يراد به النهاية دون المبدأ ، الذي هو التوصل إلى الفصل (٢). وأما التمحيص فإزالة ما قد انفصل من الخير عن الشرّ (٣). وكان المقصود به ما ذكره الله تعالى في قوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٤). إن قيل : على

__________________

(١) قال ابن منظور : «ابتلاه الله : امتحنه ... والبلاء يكون في الخير والشر ، يقال : ابتليته بلاء حسنا ، وبلاء سيئا» لسان العرب (١٤ / ٨٤). وانظر : تهذيب اللغة (١٥ / ٣٩٠ ، ٣٩١) ، والصحاح (٦ / ٢٢٨٤ ، ٢٢٨٥) ، والمفردات ص (١٤٦).

(٢) قال الراغب : «وإذا قيل ابتلى فلان كذا وأبلاه ، فذلك يتضمن أمرين : أحدهما تعرف حاله ، والوقوف على ما يجهل من أمره ، والثاني ظهور جودته ورداءته ... فإذا قيل في الله تعالى : بلا كذا وأبلاه ، فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته دون التعرف لحاله ، والوقوف على ما يجهل من أمره ، إذ كان الله علّام الغيوب ...» المفردات ص (١٤٦).

(٣) قال الأزهري : قال الليث : المحص : خلوص الشيء تقول : محصته محصا ، إذا خلّصته من كل عيب ... والتمحيص : التطهير من الذنوب ... والمحص في اللغة : التلخيص والتنقية. تهذيب اللغة (٤ / ٢٧١) ، والصحاح (٣ / ١٠٥٦) ، والمفردات ص (٧٦١) ، (٧ / ٨٩ ، ٩٠).

(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٣٧.

١٠٢

ما ذا عطف قوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ)؟ ولم كرّر الابتلاء بعد أن ذكره في قوله : (لِيَبْتَلِيَكُمْ)؟ ولم علّق الأول بالذات كلها ، والثاني بما في الصدور؟ وما الفرق بين قوله : ما في الصدور ، وبين قوله : ما في القلوب ، وخصّ ما في القلوب بالتمحيص؟ قيل : أما ما عطف الابتلاء فعلى قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) ، وفصل بينهما بما هو تسديد الكلام وإشباع للمعنى ، وهذا جائز ، وقد تقدم الكلام في نحوه ، ويجوز أن يتعلق بمضمر دلّ عليه ما تقدم من قوله : (الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)(١) ، وأما تكريره وتعليق الأول بالذات ، والثاني بما في الصدور ، فإن لله تعالى تكليفين : الأحكام والمكارم كما تقدم ، والأحكام قبل المكارم ، وجلّها متعلّق بالضمائر ، وعمل الجوارح فيها قليل ، فحيث

__________________

(١) ذكر السمين الحلبي خمسة أوجه في قوله تعالى : وَلِيَبْتَلِيَ «أحدها : أنه متعلق بفعل قبله تقديره : فرض الله عليكم القتال ، ولم ينصركم يوم أحد ليبتلي ما في صدوركم. وقيل : بفعل بعده أي ليبتلي فعل هذه الأشياء.

وقيل : الواو زائدة ، واللام متعلقة بما قبلها. وقيل : (وليبتلي) عطف على (ليبتلي) الأولى ، وإنما كررت لطول الكلام ، فعطف عليه (وليمحص) قاله ابن بحر. وقيل : هو عطف على علة محذوفة تقديره : ليقضي الله أمره وليبتلي ...» الدر المصون (٣ / ٤٥٠ ، ٤٥١). وانظر : مشكل إعراب القرآن (١ / ١٧٨) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٧).

١٠٣

ما أراد منهم الحكم وهو الثبات في الحرب والجد بالجوارح ، علّق الابتلاء بالجملة ، وحيث ما قصد المكارم من إصلاح الضمير ، من نقض الحزن ورفض الذعر ذكر الصدر ، وحينما ذكر الإيمان المحض ذكر القلب ، وكل موضع يذكر الله في القرآن العقل ، والإيمان ، فإنه يخصّ ذكر القلب ، وإذا أراد (١) ذلك وسائر الفضائل والرذائل ذكر الصدور ، وهذا إذا اعتبر بالاستقراء انكشف ، نحو ، قوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(٢) ، وقوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(٣) ، وقوله : (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(٤) ، وقوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(٥) ، وقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)(٦) ، وقوله : (فِي / صُدُورِ النَّاسِ)(٧) ، ولما كان التمحيص أخصّ من الابتلاء كما تقدم خصّه بالقلب ، وهذه الأحوال الثلاث يترتب بعضها على بعض ، فبإصلاح العمل يتوصل إلى إصلاح ما في الصدور

__________________

(١) في الأصل : (ارا) بدون دال ، والصواب ما أثبته.

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٤.

(٣) سورة الحج ، الآية : ٣٢.

(٤) سورة الصف ، الآية : ٥.

(٥) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٩.

(٦) سورة الزمر ، الآية : ٢٢.

(٧) سورة الناس ، الآية : ٥.

١٠٤

من الشهوة والغضب ، وبهما وبإصلاح ذلك يتوصل إلى إصلاح ما في القلوب من الاعتبارات التي لا يعتريها شكّ وريب ، وذلك ما يبلغه العبد ، وبه يستحق اسم الخلافة لله المذكور في قوله : (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ، ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي عالم بجميع ما ينطوي عليه من الضمائر الطيبة والخبيثة (١) ، وخصّ الصدور دون القلب إذ هي أعم (٢).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ.)(٣). الآية.

__________________

(١) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٢٥) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٧٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٧).

(٢) قال الألوسي : «... إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالّة فيها ، بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب ، لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها ، لأن كلّا من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتباره حالّا فيها دون الثانية ، لأنها لا تصدق إلا على الأسرار ، لأنها الحالة فيها دون الصدور ، فحينئذ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ، ويكون التعبير بها لذلك» روح المعاني (٤ / ٩٨).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٥. ونصّ الآية : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

١٠٥

قال السدّي : هو خاصّ في الذين انهزموا إلى المدينة (١). وقال عمر وبه قال الربيع وقتادة : بل في الذين ولّوا المشركين أدبارهم (٢) ، فيكون عامّا فيمن أبعد ومن لم يبعد ، وبيّن أن الشيطان استزلهم بخطيئة كانت منهم ، قال الزجاج : إنما أذكرهم خطايا سلفت لهم ، فكرهوا أن يقتلوا قبل أن يتوبوا (٣) ، وقيل : بل كان منهم خطيئة صارت مسهلة لسبيل الشيطان إليهم (٤) ، فإن الإنسان إذا حصّن ثغره بالعمل الصالح والعلم فقد سدّ طريق الشيطان على

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسير جامع البيان (٧ / ٣٢٨ ، ٣٢٩) ، وذكره الماوردي في النكت والعيون (١ / ٤٣١).

(٢) قول عمر بن الخطاب رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٢٧) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٧) وعزاه لابن جرير. وقول الربيع رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٢٨) ، وقول قتادة رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٢٨) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٧) وعزاه لابن جرير وعبد بن حميد. وانظر : النكت والعيون (١ / ٤٣١).

(٣) معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٨١) وعبارة الزجاج : «وإنما أذكرهم الشيطان خطايا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها».

(٤) قال النيسابوري : المعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات ، قدر الشيطان على استزلالهم في التولي. تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٨) ، وانظر : الكشاف (١ / ٤٣٠) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٨) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٠٣) ، وروح المعاني (٤ / ٩٨).

١٠٦

نفسه ، ومتى اهمل ثغره سهل سبيل عدوّه إليه ، وجعل له ثلمة (١) يدخل منها عليه ، وذلك بأن يفسد إرادته ، وبيّن أنه تعالى عفا عنهم ، وقيل : ذلك بحلمه (٢) عن تعجيل عقوبتهم (٣) ، وقيل : بل بالغفران عنهم عاجلا وآجلا ، وهو الصحيح ، لأنه جعل علة عفوه الأمرين ، فقال : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)(٤).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...)(٥) الآية.

__________________

(١) ثلمة : الثّلمة بالضم : فرجة المكسور والمهدوم. القاموس ص (١٤٠٢).

(٢) تصحفت في الأصل إلى (بحمله) والصواب ما أثبته.

(٣) ذكره ابن عطية عن ابن جريج. انظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٧٤) ، واختاره السمرقندي في بحر العلوم (١ / ٣١٠).

(٤) قال أبو حيان : «الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حطّ التبعات في الدنيا والآخرة ... (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)* أي غفور الذنوب ، حليم لا يعاجل بالعقوبة ، وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ...» البحر المحيط (٣ / ٩٩) وانظر : جامع البيان (٧ / ٣٢٧) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٧٤) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٩٥).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٦. ونصّها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

١٠٧

الذين كفروا عام (١) ، وإن كان قد قال السدّي : عني به عبد الله بن أبيّ وأصحابه (٢) ، والضرب في الأرض : الإبعاد في السفر (٣) ، وغزّى : جمع غاز ، نحو شهّد وقوّل في شاهد وقائل (٤) ، وإخوانهم : من سلك طريقهم في الكفر والنفاق (٥) ، والحسرة :

__________________

(١) وبذلك فسرها الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٣٠) ، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم (١ / ٣٩٦) ، وانظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٧٥) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٩) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٩).

(٢) رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٣١) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٧٩٨) ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٨) وعزاه إليهما. وانظر : البحر المحيط (٣ / ٩٩) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٩).

(٣) انظر : العين (٧ / ٣٠) ، ومجاز القرآن (١ / ١٠٦) ، وتفسير غريب القرآن (١١٤) ، والمنتخب (١ / ٢٨).

(٤) انظر : العين (٤ / ٤٣٤) ، ومعاني القرآن للأخفش (١ / ٤٢٦) ، ومجاز القرآن (١ / ١٠٦) ، وتفسير غريب القرآن (١١٤) ، وغريب القرآن للسجستاني (٣٥٤).

(٥) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٣٠) ، وبحر العلوم (١ / ٣١٠) ، والوسيط (١ / ٥١١) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٤٦). «وذكر ابن عطية وأبو حيان أن المراد بالأخوة هنا هي أخوة النسب ، ذلك لأن قتلى أحد كانوا من الأنصار وأكثرهم من الخزرج ، ولم يكن فيهم من المهاجرين إلا أربعة ...» انظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٧٥) ، والبحر المحيط (٣ / ٩٩).

١٠٨

الغمّ على ما فات ، وأصلها الإعياء عن إدراك المطلوب ، وسمّي الغمّ بذلك : إذ لا يفيد الإعياء (١) ، وعلى هذا قيل :

 ...

إن ليتا وإن لوّا عناء (٢)

إن قيل : إذا كان الإخوان هم المقول لهم ، فالوجه أن يقال : لو كنتم ، لأنه يقال : قلت لزيد : لو فعلت كذا ، ولا تقول فعل وأنت تعنيه ، قيل معناه : قال بعضهم لبعض لأجل إخوانهم (٣) ، أو يعني قالوا لبعض إخوانهم إذا ضرب بعضهم في الأرض لو كان الضاربون في الأرض عندنا. وتقدير الكلام : إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزّى فقتلوا : لو ظلّوا (٤) عندنا لما حدث

__________________

(١) انظر : العين (٣ / ١٣٣ ـ ١٣٤) ، ومجاز القرآن (١ / ١٠٧) ، وغريب القرآن للسجستاني (١٨٦ ، ١٩٧ ، ٢١٢ ، ٤١٩).

(٢) هذا عجز بيت لأبي زيد الطائي ، وتمامه :

ليت شعري وأين مني ليت

إن ليتا وإن لوّا عناء

والبيت من بحر الخفيف. هو في ديوان الشاعر (٢٤ ، ٥٧٨) ، والجمهرة (١ / ١٢٢) ، والمفردات (٧٥٠) ، ومجمع البلاغة (٢ / ٦٧٦) ، وأمالي ابن الشجري (٢ / ٥٣٨).

(٣) وتكون اللام على هذا الوجه هي التي تبين المفعول لأجله الفعل. انظر : اللامات (١٥٠ ـ ١٥٣) ، وشرح التسهيل لابن مالك (٣ / ١٤٤).

(٤) تصحفت في الأصل إلى (حصلوا) ، والصواب ما أثبته.

١٠٩

ذلك بهم (١) ، وبيّن الله تعالى أن ذلك لا يثمر لهم إلا حسرة في قلوبهم مع العلم بأن الله هو المحي والمميت ، وعلى نحوه قال أبو ذؤيب :

قولون لي لو كان بالرمل لم يمت

نشيبة والطرّ أو يكذب قيلها

ولو أنني استودعته الشمس لارتقت

إليه المنايا عينها أو رسولها (٢)

إن قيل : لم قال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ولو علّق ذلك بالسماع لكان أليق ، لأن ما كان منهم قول مسموع لا فعل مرئي؟ قيل : لما كان قول الكافرين ذلك قصدا منهم إلى عمل يجادلونهم خصّ البصر ، كقولك لمن يقول شيئا وهو يقصد به فعلا يحاوله : أنا أرى ما يفعله (٣) ، إن قيل : إذا للمستقبل ، وقد جعل ظرفا لقوله قالوا ، ولا يجوز أن يقول : جئتك إذا زرتني ، فما وجه ذلك؟ قيل : إذا متى لم يقصد به وقت معين ، كان متضمّنا للشرط ، فيكون الفعل الذي هو في تقدير جوابه بمعنى /

__________________

(١) ذكر ذلك أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٩٩). وانظر : الكشاف (١ / ٤٣٠) ، والدر المصون (٣ / ٤٥١ ، ٤٥٢).

(٢) هذان بيتان من بحر الطويل من قصيدة لأبي ذؤيب يرثي بها ابنه (نشيبة).

انظر : ديوان الهذليين (١ / ٣٣).

(٣) قال الألوسي : «وما يعلمون عام متناول لقولهم المذكور ، ولمنشئه الذي هو اعتقادهم ، ولما ترتب على ذلك من الأعمال ، ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع ...» روح المعاني (٤ / ١٠٤).

١١٠

الاستقبال ، وكأنه قيل : إن ضربتم في الأرض ، أو كلما ضربتم (١) قالوا ، واللام : (لِيَجْعَلَ اللهُ) لام العاقبة (٢).

قوله تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ...)(٣) الآية.

يقال : مت ومت ، والضم أقيس ، والكسر كثير (٤) ، والآيتان

__________________

(١) انظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤) ، والأضداد ص (١٢١) ، والمسائل البصريات (٢ / ٨٩٠) ، الجنى الداني ص (٣٧٠) ، وجامع البيان (٧ / ٣٣٣ ـ ٣٣٥) ، وقد ذهب الفراء والطبري إلى ما ذهب إليه المؤلف. ومعاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٨٥) ، وفيه توجيه آخر وهو أن (إذا) «ينوي عما مضى من الزمان وما يستقبل جميعا ... ولم يقل هنا : إذ ضربوا في الأرض ؛ لأنه يريد : شأنهم هذا أبدا ...» والتبيان (١ / ٣٠٤) وفيه توجيهان آخران : أحدهما أن (إذا) تراد بها الحكاية ، والثاني : أن يكون (كفروا) و (قالوا) فعلين ماضيين أريد بهما الاستقبال.

(٢) وتسمى لام الصيرورة ولام المآل ، ويؤتي بها لبيان ما يؤول إليه الأمر. انظر : اللامات (١٢٥) ، والجنى الداني (٩٨ ، ١٢١) ، وشرحه التسهيل لابن مالك (٣ / ١٣٦) ، والبحر المحيط (٣ / ١٠٠ ، ١٠١) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٨٩) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٦) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٠٣ ، ١٠٤).

(٣) سورة آل عمران ، الآيتان : ١٥٧ ، ١٥٨ ونصهّما : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ* وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ).

(٤) قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية شعبة ويعقوب (متّم) بضم الميم في كل القرآن. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وخلف (متّم)

١١١

تضمنتا إلزاما (١) هو جار مجرى قياسين شرطيين (٢) اقتضيا الحرص

__________________

ـ بكسرها في القرآن كذلك. وقرأ حفص عن عاصم في هذين الموضعين من هذه السورة (أو متم) ، (ولئن متّم) بضم الميم ، وباقي المواضع بالكسر ، وقال أبو منصور الأزهري : «القراءة العالية ، واللغة الفصيحة : (متّ) و (متنا) ومن العرب من يقول : مات يمات. ومثله : دمت أدوم ، ودمت أدام ، والقراءة بكسر الميم من (متّ) فاشية وإن كان الضم أفشى» معاني القراءات ص (١١٢) ، وحجة من ضم الميم أنه من مات يموت على مثال فعل يفعل ، مثل قال يقول ودام يدوم ، فكما يقال : قلت ودمت بضم الحرف الأول ولا يكسر كذلك ينبغي ضم الميم من (متّم) ، ولهم حجة أخرى وهي أن القرّاء اتفقوا على ضم الفعل في المضارع فقرؤوا : (وَفِيها تَمُوتُونَ) وَيَوْمَ أَمُوتُ «ولو كان على اللغة الأخرى يقال : (تماتون) ، و (يوم أمات)» وحجة من كسر الميم أنه يقال : متّ تموت ودمت تدوم (فعل يفعل) مثل فضل يفضل. وأيضا يجوز أن يقال : إنها من متّ تمات مثل سمع يسمع ، إلا أنه لم يجئ يمات في المستقبل. على عادة العرب في استعمال بعض الكلمات بلفظ وعدم قياس ما تصرف منها عليه. مثل : (رأى) همزوه في الماضي وتركوا همزه في المضارع. انظر :

المبسوط (١٤٨) ، والحجة (٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤) ، وحجة القراءات لابن زنجلة (١٧٨ ـ ١٧٩) ، والتلخيص (٢٣٦) ، والنشر (٢ / ٢٤٤ ـ ٢٢٥).

(١) لعله يقصد التلازم عند المنطقيين الذي هو امتناع الانفكاك عن الشيء.

انظر : كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ١٣٠٤).

(٢) القياس عند المناطقة قسمان : استثنائي واقتراني ، والاقتراني قسمان :

١١٢

على القتل في سبيل الله ، وبيانه ما أقول : إن قتلتم في سبيل الله أو متم فيه حصلت لكم المغفرة والرحمة تنبيها أنه أو جبهما للثواب ، ولمّا عنى في الثانية الموت المطلق والقتل العارض قدم أبينهما عندهم إذ لا بد منه ، فكأنه قيل : إن حصل ما لا بد منه بوجه وهو الموت حتف الأنف ، أو ما هو عارض ، وعندكم أنه قد يكون منه خلاص ، وهو القتل ، فالحشر لا محالة حاصل (١).

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ...)(٢) الآية.

__________________

ـ حملي وشرطي ، والقياس الاقتراني الشرطي : هو المركب من القضايا الحملية البسيطة ، والقضية الحملية هي التي لا يكون فيها المحمول والمحمول عليه قضيتين عند التحليل. أي عند حذف ما يدل على العلاقة بينهما. انظر : كشاف اصطلاحات الفنون (٣ / ١١٩٢ ، ١٢٣٦).

(١) انظر البحر المحيط (٣ / ١٠٣). وقد نقل أبو حيّان هذه الفقرة بكاملها ، ونسبها إلى الراغب مع زيادة مهمّة توضح المعنى ، فقال : «إن قتلتم في سبيل الله أو متمّ فيه حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون ، فإذن الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون ، ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل ، وإذا كان الموت والقتل لا بد منه والحشر ، فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغفرة والرحمة خير من القتل والموت الذين لا يوجبانهما».

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩. ونصها : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

١١٣

قال النحويون (ما) زائدة (١) ، وعلى هذا (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ)(٢) ، وقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ)(٣) ، وأفاد التأكيد (٤) ، ووجه تأكيده أنه نكرة تدل على إبهام ما علّق به ، وإبهامه يقتضي التعجب ، فكأنه بعظيم من رحمته (لِنْتَ لَهُمْ) واللّين عبارة عن حسن الخلق ، وحسن الكلام بالصفو والزلال (٥) ، حتى قال الشاعر :

__________________

(١) قال الزجاج : «ما بإجماع النحويين ههنا صلة لا تمنع الباء من عملها فيما عملت. المعنى : فبرحمة من الله لنت لهم. معاني القرآن (١ / ٤٨٢). وانظر : كتاب سيبويه (٣ / ٧٦) ، ومعاني القرآن للأخفش (١ / ٢٢٠) ، ومعاني القرآن للفراء (١ / ٢٤٤ ، ٢٤٥) ، وجامع البيان (٧ / ٣٤٠ ، ٣٤١) ، وإعراب القرآن للنحاس (١ / ٤١٥) ، ومشكل إعراب القرآن (١ / ١٧٨) ، والتبيان (١ / ٣٠٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٦١).

(٢) سورة المؤمنون ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة النساء ، الآية : ١٥٥.

(٤) ذكر إفادة (ما) التأكيد الزجاج في معاني القرآن (١ / ٤٨٢) ، وقال الجمل : قوله : «ما زائدة» أي فاصلة غير كافة للتأكيد ، أي فبرحمة عظيمة ، ونظيره : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ... والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد ما يستغنى عنه ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) [يوسف : ٩٦] فزاد أن للتأكيد». الفتوحات الإلهية (١ / ٣٢٩). وانظر البحر المحيط (٣ / ١٠٣ ، ١٠٤) ، والدر المصون (٣ / ٤٦١).

(٥) قال الجوهري : اللين ضدّ الخشونة ، وقوم لينون وأليناء ... واللّيان

١١٤

 ...

فتى مثل صفو الماء ليس بباخل (١)

استعمل في ضدّه الفظاظة (٢). وغلظ القلب : عبارة عن قلة الرحمة. وبإزائه رقّة القلب (٣) ، والانفضاض : التفرق (٤) ، وانفضّ وارفضّ يتقاربان إلا أن انفضّ اعتبارا بانكسار بعضهم عن بعض ، وارفضّ اعتبارا (٥) برفض بعضهم بعضا ، والمشاورة : استخراج صائب الرأي عن الغير ، واشتقاقه من شور العسل (٦) ، وشرت الدابة وشورتها (٧) ، ...

__________________

ـ بالفتح : المصدر من اللين ... واللّيان بالكسر : الملاينة والملاطفة ... وتليّن : تملّق. الصحاح (٦ / ٢١٩٨) ، وانظر : المفردات ص (٧٥٢) ، واللسان (١٣ / ٣٩٤ ، ٣٩٥). (١) لم أجده.

(٢) الفظاطة : سواء الخلق. انظر : معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٨٢) ، وقال السمين الحلبي : والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا ، الدر المصون (٣ / ٤٦٢).

(٣) قال الراغب : الغلظة ضد الرقة. المفردات ص (٦١٢) وقال السمين : والغلظ : تكثير الأجزاء ، ثم تجوّز به في عدم الشفقة وكثرة القسوة في القلب. الدر المصون (٣ / ٤٦٢) ، وانظر الفتوحات الإلهية (١ / ٣٣٠).

(٤) قال أبو عبيدة : «.. أي تفرقوا على كل وجه». انظر : مجاز القرآن (١ / ١٠٧).

(٥) انظر : تهذيب اللغة (٢ / ١٥ ، ٤٤).

(٦) وهو استخراجه من موضعه. انظر : الأفعال لابن القوطية ص (٧٦) ، والمفردات ص (٤٧).

(٧) أي جعلتها تركض. انظر : العين (٦ / ٢٨١) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٥٤١).

١١٥

والعزم : ثبات الرأي على الأمر (١) ، نحو إجماع الرأي (٢) ، والتوكل على الله الثقة به والوقوف حيثما وقف (٣) ، وبين أدنى منزلة له نحو ما قاله للأعرابي «اعقله وتوكل» (٤) وبين غايته التي هي كحال إبراهيم عليه‌السلام بون بعيد ، ونبّه بقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) على نعمته على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا وعلى أمّته ثانيا ، كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)(٥) الآية ، وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٦) وأمره بالعفو عن تقصيرهم فيما يلزمهم له ، وأن يستغفر لهم من ذلك ، كقوله :

__________________

(١) انظر : تهذيب اللغة (٢ / ١٥٢).

(٢) أي العزيمة على الأمر. انظر : تهذيب اللغة (١ / ٣٩٦).

(٣) قال الأزهري : «المتوكل على الله الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره ، فاطمأن قلبه على ذلك ، ولم يتوكل على غيره». انظر : تهذيب اللغة (١٠ / ٣٧١).

(٤) رواه ابن حبان في صحيحه ، كتاب الرقاق ، باب ذكر الأخبار بأن المرء يجب عليه مع توكل القلب والاحتراز بالأعضاء. (٢ / ١٥٠) رقم (٧٣١). ورواه القضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٦٣٣) ، والحاكم في المستدرك (٣ / ٦٢٣). وقال الذهبي : سنده جيد. وقال العراقي : سنده جيد. انظر : هامش إحياء علوم الدين للغزالي بتخريج الحافظ العراقي (٤ / ٢٧٩).

(٥) سورة التوبة ، الآية : ١٢٨.

(٦) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٧.

١١٦

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)(١) ثم أمره بإجراء نفسه مجرى أحدهم في الرأي الذي هو خاصّ بالإنسان ، ثم قال : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٢) أي وإن قاربتم هذه المقاربة فليكن اعتمادك على الله ، وتقويتك به ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله» (٣) ، واختلف في مشاورة النبي لأصحابه على أي وجه ، فقال سفيان بن عيينة : ليقتدي به غيره (٤) ، وقال قتادة : تطييبا لقلوبهم (٥) ، ويجب أن نقدّم مقدمة تبيّن في أي أمر أولا تدخل الاستشارة؟ ثم من استشار غيره فلأي

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ١٠٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٩.

(٣) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب «التوكل» رقم (١٠) ، وعزاه السيوطي إليه في الجامع الصغير رقم (٨٧٤٢) ورمز بتحسينه. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم (٥٦٣٩).

(٤) رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٤٥). وذكره الماوردي في النكت والعيون (١ / ٤٣٣) ، والأحكام السلطانية ص (٦٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٨٨).

(٥) رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٤٣) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٠٢) ، وذكره الماوردي في النكت والعيون (١ / ٤٣٣) ، والأحكام السلطانية (٩٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٤٨٨) ونسبه لقتادة والربيع. والسيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٥٩) ، وعزاه للطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر ، وانظر : مجمع البلاغة (١ / ٧٤).

١١٧

قصد يستشير؟ فيقال : أمّا ما يستشار فيه فهو الأمور الممكنات المتعلقة باختيار الفاعل ، وأما القصد بالاستشارة فتارة لاستضاءة المستشير برأي المستشار ، أو لئلا يلام إذا استبدّ بالأمر ، فيتفق وقوعه بخلاف المراد ، ولهذا قيل : الاستشارة حصن من الندامة ، وأمن من الملامة ، وتارة طلبا لهداية المستشار ، إمّا لأن يتبين له خطأ رأيه إن كان له رأي خطأ في ذلك الأمر ، وإمّا أن لا يعتقد هو أو غيره أن الاستبداد فضيلة فيستبد برأيه فيما ربما يؤدّي إلى / فساد : إما لإكرامه أو (١) تعظيمه ، فإذا تقرر هذا فأمور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنفكّ : إما أن تكون شيئا دينيّا أو دنيويّا ، فإن كان دينيّا فمعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير محتاج إلى الاستضاءة برأي غيره من البشر ، لما أمدّه الله تعالى به من النور الإلهي ، وما كان يستشيرهم في أصول الشريعة ، لكن ربما كان يستشيرهم في شيء من فروعها ، التي هي من مسائل الاجتهاد (٢) لنا ، نحو ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشار

__________________

(١) في الأصل (و) ، والسياق يقتضي ما أثبته.

(٢) قال الجصّاص : «ولا بد أن تكون مشاورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أياهم فيما لا نصّ فيه ، إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات ، ولا يقول لهم : في الظهر والعصر والزكاة ، وصيام رمضان ، ولمّا لم يخصّ الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمشاورة ، وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا ...» أحكام القرآن (٢ / ٤١).

١١٨

اصحابه في شعار يرفع للصلاة (١) ، ومثل ذلك تشريف لهم أولا ، وتنبيه أن ما سبيله الاجتهاد فحقّه الاستعانة فيه بالآراء الكثيرة الصحيحة ، لينقدح منها الصواب (٢) ، وأمّا ما كان من الأمور الدنيوية كالمساحة والكتابة والحساب ، فمعلوم أنه كان مستغنيا بغيره في كثير منها ، بل قد صرّح في ذلك بقصوره (٣) فيما روي أنه

__________________

(١) يشير إلى حديث ابن عمر في بدء الأذان ، أخرجه البخاري في كتاب ـ الأذان ـ باب «بدء الأذان» رقم (٦٠٤). ورواه مسلم في كتاب ـ الصلاة ـ باب «بدء الأذان» رقم (٣٧٧). ورواه الترمذي في كتاب ـ الصلاة ـ باب «ما جاء في بدء الأذان» رقم (١٩٠) وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر. ورواه النسائي في كتاب ـ الأذان ـ باب «بدء الأذان» (٢ / ٢) ، وفي الكبرى رقم (١٥٠٧) وابن ماجه رقم (٧٠٧) كتاب الأذان ، ورواه أحمد في المسند (٢ / ١٤٨) ، وأبو عوانه (١ / ٣٢٦) ، وابن خزيمة رقم (٣٦١).

(٢) انظر ما ذكره الجصّاص في فوائد الاستشارة : أحكام القرآن (٢ / ٤١).

وانظر : البحر المحيط (٣ / ١٠٤).

(٣) الأولى عدم استخدام هذه اللفظة في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنها تحتمل عدة معان ذكرها الراغب نفسه في المفردات ص (٦٧٣) قال : «وقصّر في كذا أي توانى ، وقصّر عنه : لم ينله ، وأقصر عنه : كف مع القدرة عليه ...» وأحسن من ذلك ما قاله الجصاص : «لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدبير في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره ؛ لاقتصاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدنيا على القوت والكفاف الذي لا فضل فيه». أحكام القرآن (٢ / ٤١ ، ٤٢).

١١٩

عليه‌السلام لما ورد المدينة ووجد أهلها يؤبّرون (١) نخلهم ، فقال : «ما أرى أن ذلك ينفع» فتركوه ، فتبين ذلك في نقص أثمارهم فشاوروه فقال : «أنتم أعلم بأمور دنياكم ، وأنا أعلم بأمور آخرتكم» (٢) ، وعلى هذا ما كان يتعلّق بأمور الحرب المتعلقة بتهييجها تارة وتسكينها تارة ، وبالمنّ فيها تارة وبالافتداء تارة ، ولذلك لما همّ بمصالحة عيينة بن حصن (٣) على ثلث ثمار المدينة ، قال بعضهم : أبوحي هذا أم برأي رأيته؟ قال : «برأي رأيته» فراجعوه وبينوا له موضع الصواب ، وترك رأيه لرأيهم (٤) ،

__________________

(١) يؤبّرون : يلقّحون : المصباح المنير ص (٧).

(٢) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب ـ الفضائل ـ باب «وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معايش الدنيا» رقم (٢٣٦٣) دون قوله : «وأنا أعلم بأمر آخرتكم» من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما. وروى ابن ماجه حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ مقارب ، كتاب ـ الرهون ـ باب «تلقيح النخل» رقم (٢٤٧١).

(٣) عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن ثعلبة بن فزارة الفزاري أبو مالك ، أسلم قبل الفتح ، وشهد الفتح وحنينا والطائف ، كان من المؤلفة قلوبهم ، ارتد بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاد إلى الإسلام ، كان فيه جفاء أهل البادية وغلظتهم ، توفي في خلافة عثمان بن عفان.

انظر : أسد الغابة (٤١٦٦) ، والإصابة (٤ / ٦٣٨).

(٤) خبر عيينة بن حصن رواه ابن إسحاق معلقا كما في السيرة النبوية لابن هشام (٣ / ٣١٠ ، ٣١١) ، وابن سعد في الطبقات (٢ / ٧٣) مرسلا ،

١٢٠