تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)(١) ، ونبّه بقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) أنهم ارتكبوا من المعاصي ما هو مثل هذا القول ، أو أكثر منه ، ولم يقل (بِغَيْرِ حَقٍّ :) أن في قتل بعض الأنبياء حقّا ، ولكن جعل ذلك حالهم على العموم ، أي هو في كل حال على غير حق (٢) ، وكتب ذلك قيل : هو على الحقيقة ، وقيل : هو على طريق المثل ، عبارة عن حفظه ، وأنه لا ينسى (٣) ، واعلم أن الكتابة جعلها الله لنا عونا

__________________

ـ «ومقالتهم هذه إما على سبيل الاستهزاء بما نزل عن طلب الإقراض ، وإما على سبيل الجدل والإلزام ، لأن من طلب الإقراض كان فقيرا ، وإما على الاعتقاد ، ولا يستبعد ذلك من عقولهم ...» البحر المحيط (٣ / ١٣٥). (١) سورة المائدة ، الآية : ٦٤.

(٢) وأكثر من ذلك أنهم كانوا يعتقدون عدم جواز قتل الأنبياء. قال الجمل : «قوله : (بِغَيْرِ حَقٍّ) : أي حتى في اعتقادهم ، فكانوا يعتقدون أن قتلهم لا يجوز ولا يحل ، وحينئذ فيناسب شن الغارة عليهم» الفتوحات الإلهية (١ / ٣٤١).

(٣) مرتبة الكتابة من مراتب القدر التي أجمع أهل السنة على إثباتها. قال الإمام ابن القيم : «أجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب» ، شفاء العليل ص (٨٥).

وانظر : الإبانة لابن بطة (٢ / ٩) ، العقيدة الواسطية لابن تيمية شرح الفوزان ص (١٦٤) ، وقال أبو حيان : «الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة ، قال بذلك كثير من العلماء ، وأنها تكتب الأعمال في صحف ، وأن تلك الصحف هي التي توزن ، ويحدث الله سبحانه وتعالى فيها الخفة

١٨١

لحفظنا ، وذاك أن اللفظ لا يفهم إلا القريب دون البعيد ، وإلا الشيء بعد الشيء ، ويسرع إليه مع ذلك الاضمحلال ، فربما لا يعيه السمع ، وإذا وعاه فربما لم يتصوّره ، وإذا تصوّره فربما أخلّ به الحفظ فأعانه الله بالكتابة ، لتكون تكملة لقوة النطق ، وواعية لما يضيع من الفهم ، ومدركة جملة في حالة واحدة ، فعلم من ذلك أن الكتابة وإن كانت شريفة فإنما احتجنا إليها لنقصنا وتكميل أفهامنا ، فمن حمل الكتابة على الحقيقة قال : كتب الملأ الأعلى أعمالنا ، لا لجبران نقصهم وضعف فهمهم وخوف نسيانهم ؛ ولكن لجبران نقيصة البشر ، وليتذكّر به ما لعله نسي ، وليرى صورة أعماله المتفرّقة دفعة ، ومن حمله على التشبيه فإنه ذكر أن نقص القريحة والسهو والنسيان الموجودة فينا في الدنيا معدومة عنّا في الآخرة ؛ فلا حاجة بنا إلى الكتابة ، وحينئذ قال : وعلى ذلك وصف الكتابة بالنطق في قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ)(١) وقوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) وعلى هذا سمّى

__________________

ـ والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر». البحر المحيط (٣ / ١٣٦).

وانظر : الوسيط (١ / ٥٢٨) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٤٤) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٠٨) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٩٤) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٢٠).

(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٥.

١٨٢

الوحي كتابا ، فقال : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ)(١) ، ومعلوم أن المنزل لم يكن وقت الإنزال مكتوبا ، قال : وعلى هذا معنى قوله : تعالى (كِراماً كاتِبِينَ)(٢) أي حافظين ، وقال : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ)(٣) ، قال : وعلى هذا قول الشاعر :

صحائف عندي للعتاب طويتها

ستنشر يوما والعتاب يطول (٤)

وهذا القول وإن كان له مساغ في مجاز اللغة ، فأهل الأثر (٥) على الوجه الأول (٦) ، والله أعلم بحقائق أحوال القيامة ، ومعنى

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية : ١٥٥.

(٢) سورة الانفطار ، الآية : ١١.

(٣) سورة عبس ، الآية : ١٥.

(٤) البيت للعباس بن الأحنف. انظر : ديوانه ص (٢٥٠) ، وينسب ليزيد بن الطثرية برواية (طويل) بدل (يطول). انظر : ديوانه ص (٩٨).

(٥) أهل الأثر : هم أهل الحديث ، قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية : ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته ، بل نعني بهم : كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا ، واتباعه باطنا وظاهرا. مجموع الفتاوى (٤ / ٩١).

(٦) وهو الصواب الذي لا شك فيه ، فالكتابة من مراتب القدر التي يجب الإيمان بها ، قال الطحاوي : «ونؤمن باللوح والقلم ، وبجميع ما فيه قد رقم». وقد قسّم شارح الطحاوية الأقلام إلى أربعة أقلام ، فذكر القلم الرابع وهو الموضوع على العبد عند بلوغه ، الذي بأيدي الكرام

١٨٣

(وَنَقُولُ ذُوقُوا)(١) أي نذوّقهم ذلك ، ونوجب لهم (٢).

قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ...)(٣) الآية.

أي نكتب ما قالوا ونعاقبهم (٤) عليه جزاء لما ارتكبوه. إن قيل : / لم خصّ اليد ، وفيما ذكره عنهم أفعال بغيرها من الجوارح؟

__________________

ـ الكاتبين ، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم كما ورد في الكتاب والسنة.

انظر : شرح العقيدة الطحاوية ص (٣٤٤ ، ٣٤٨). وانظر : تفصيل مرتبة الكتابة في : شفاء العليل ص (٣٩ ـ ٤٣).

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨١.

(٢) يرى الراغب أن الأمر في هذه الآية لم يرد به طلب الفعل ، بل أريدت به الإهانة ، كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].

انظر : الإيضاح في علوم البلاغة ص (١٤٨) ، وشرح التلخيص (٢ / ٣١٧) ، والصواب أن الله تعالى يقول لهم ذلك حقيقة ، وليس هناك داع لصرف اللفظ عن مدلوله ، كما فعل الراغب. قال أبو حيان : «وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام ، ويقال للمنتقم منه : أحس وذق ... والظاهر أن هذا القول يكون عند دخولهم جهنم ، وقيل : قد يكون عند الحساب أو عند الموت ...» البحر المحيط (٣ / ١٣٦) ، وانظر : جامع البيان (٧ / ٤٤٦) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤١٠).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٢. ونصّها : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

(٤) في الأصل (ونعاقبه) ، والسياق يقتضي ما أثبته.

١٨٤

قيل : لمّا كانت اليد هي (١) الآلة الصانعة المختصة بالإنسان ، فإنه لما كفى كل واحد من الحيوانات بما احتاج إليه من الأسلحة والملابس ، وسخّره لاستعمالها في الدفع عن نفسه ، وخلق الإنسان عاريا من كل ذلك ، جعل له الرؤية واليد الصانعة ، ليعلم برؤيته ، وليعمل بيده فوق ما أعطى الحيوانات ، فلما كان لليد هذه الخصوصية صارت تخص بإضافة عمل الجملة إليها (٢) ، إن قيل : لم خص لفظ ظلّام الذي هو للتكثير في نفي الظلم في هذا المكان ، ولم يقل على ما قال في قوله : (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ)(٣) ، الذي هو يقتضي نفي الظلم قليله وكثيره؟ قيل : إنما خص ذلك لأنه لما كان في الدنيا قد يظن بمن يعذب غيره عذابا

__________________

(١) في الأصل : (كان اليد هو) ، ولعله خطأ من الناسخ.

(٢) قال أبو حيان : «... ونسب ما قدّموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب ، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال ، فكان كل عمل واقع بها ...» البحر المحيط (٣ / ١٣٦) ، وانظر : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين للراغب ، حيث فصّل القول في هذه المسألة ، وعقد لها بابا عنوانه [هداية الأشياء إلى مصالحها] ص (١٢٤) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٠٨) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٩٥) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٢٠) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٩٣) ، وروح المعاني (٤ / ١٤٢).

(٣) سورة النساء ، الآية : ٤٠.

١٨٥

شديدا أنه ظلّام قبل أن يفحص عن حال جرمه ، بيّن تعالى ذنبهم ، وأنه إذا عاقبهم عقوبة شديدة فليس بظلّام لهم ، وإن كان قد يظن في الدنيا بمن يفعل ذلك أنه ظلّام. تعالى الله عن الظلم (١).

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا)(٢) الآية.

القربان : أصله مصدر كالشّكران والكفران ، وفي التعارف

__________________

(١) للمفسرين في ذلك تعليلات شتى ، منها أنه أتى بصيغة المبالغة للتأكيد على نفي الظلم ، ومنها أنه أتى بها لنفي أصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم ، فالمبالغة في (ظلّام) باعتبار الكمية لا الكيفية ومنها أنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل ، لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم ، فإذا ترك كثيره مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا. ومنها أن (ظلام) للنسب (كعطار) أي لا ينسب إليه الظلم أصلا. قالوا : فظلام من صيغ النسب على حدّ قول ابن مالك :

ومع فاعل وفعال فعل

في نسب أغنى عن اليا فقل

ومنها أنها لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده ، وظلام لعبيده. انظر : تفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٢٠ ، ٣٢١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٣٧) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٢٢) والفتوحات الإلهية (١ / ٣٤٢) ، وروح المعاني (٤ / ١٤٤) ،.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٣. ونصّها : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

١٨٦

اسم لما يتقرّب به إلى الله تعالى (١) ، وكثر استعماله في النسيكة (٢) ، والعهد كالعقد ، ولمّا تعورف في الوصية والأمر ، كثر استعماله مع : إلى ، فقيل : عهد إليه (٣) ، ولمّا ادعى اليهود على ما أوقع شبهة للجهلة ، وكان حلّها يصعب عليهم على التحقيق ، وربّما كان اليهود مع ذلك يشغبون فيه (٤) ، سلّم دعواهم كتسليم جدل وناقضهم فيها ، وكأنّه قيل : هب

__________________

(١) قال ابن جرير : يقول : حتى يجيئنا بقربان ، وهو ما تقرب به العبد إلى ربه من صدقة ، وهو مصدر مثل «العدوان» و «الخسران». جامع البيان (٧ / ٤٤٨). وقال السجستاني : «ما تقرّب به إلى الله جل وعز من ذبح أو غيره ، وهو فعلان من القربة». غريب القرآن ص (٣٨٣). وانظر : تهذيب اللغة (٩ / ١٢٤) ، والصحاح (١ / ١٠٩٨). والفروق ص (٢١٧) ، وأصل القربان : نار لها حفيف وصوت شديد ، انظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٢٤٩).

(٢) انظر : المفردات ص (٦٦٤) ، والنهاية (٤ / ٣٢) ، ولسان العرب (١ / ٦٦٤ ، ٦٦٥). والنسيكة : الذبيحة. انظر : بصائر ذوي التمييز ص (٢٥٣).

(٣) قال الجوهري : «العهد : الأمان ، واليمين ، والموثق ، والذمة ، والحفاظ ، والوصية. وقد عهدت إليه أي : أوصيته ، ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة». الصحاح (١ / ٥١٥). وانظر : غريب الحديث (١ / ٤٣٩) ، وتهذيب اللغة (١ / ١٣٥ ـ ١٣٨) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٧١٣) ، والفروق ص (٦١) ، والمفردات ص (٥٩١ ، ٥٩٢) ، ولسان العرب (٣ / ٣١١) ، والقاموس ص (٣٨٧).

(٤) يشغبون فيه : من الشغب وهو تهييج الشر. انظر : القاموس ص (١٣١).

١٨٧

الأمر كما قلتم أليس من الحق أن لا تقتلوا من الأنبياء من جاءكم بالبيّنات وبالذي قلتم ، وإذا قتلتموهم ولم تقبلوا قولهم ، دلّ ذلك أنكم كاذبون في دعواكم ؛ أنّه عهد إلينا بذلك ، فهذا معنى قوله : (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) ، وهذا أوضح دلالة وأقربها مأخذا وأخزاها لهم (٢).

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ ...)(٣) الآية.

إن قيل : لم قال : (وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ) والزبور هو الكتاب ، لقول الشاعر :

 ...

كخطّ زبور في عسيب يمان (٤)

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٣.

(٢) انظر : جامع البيان (٧ / ٤٤٩) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣١٠) ، والبحر المحيط (٣ / ١٣٨) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٢٢) ، وروح المعاني (٤ / ١٤٤).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٤. ونصها : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ).

(٤) هذا عجز بيت لامرئ القيس وصدره :

لمن طلل أبصرته فشجاني

 ...

انظر : ديوان امرئ القيس بتحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ص (٨٥) ، وجامع البيان (٧ / ٤٥١) ، والزاهر (١ / ٧٤) ، ولسان العرب مادة : «صرع» ، والدر المصون (٣ / ٥١٩). وانظر في معنى : الزبور : العين (٧ / ٣٦٢) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ١٩٦).

١٨٨

قيل : قد قال بعضهم : الزبور هو الكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعيّة (١) ، والكتاب في تعارف القرآن ما يتضمن الأحكام (٢) ، ولهذا جاء في عامة القرآن كتاب وحكمة ، ففصل بينهما لهذا ، واستعمل الكتابة في معنى الإيجاب (٣) ، فعلى هذا اشتقاقه من زبرت الشيء أي حكمته (٤) ، وقيل : الزبور اسم لما أجمل ولم يفصّل ، والكتاب يقال لما قد فصّل ، قيل : واشتقاقه من الزّبرة أي القطعة من الحديد التي تركت بحالها (٥) ، وعلى هذا قال الشاعر :

__________________

(١) قال الزجاج : «(الزبر) جمع زبور ، والزبور : كل كتاب ذو حكمة. يقال : زبرت إذا كتبت ، وزبرت إذا قرأت». معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٩٥) وانظر : البحر المحيط (٣ / ١٣٨) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٢٢).

(٢) انظر : الصحاح (١ / ٢٠٨) ، والمفردات ص (٧٠١).

(٣) انظر : غريب القرآن للسجستاني ص (٣٩٤) ، والأفعال ص (٦٥).

(٤) في الأصل (حسنته) والصواب ما أثبته. قال الأزهري : «وأصل الزبر : طي البئر ، إذا طويت تماسكت واستحكمت. والزبر الزجر : لأن من زبرته عن الغي فقد أحكمته». تهذيب اللغة (١٣ / ١٩٦). قال ابن فارس : «الزبر يدل على أصلين : أحدهما : إحكام الشيء وتوثيقه». انظر : معجم مقاييس اللغة ص (٤٦٨).

(٥) قال الجوهري : الزّبرة : القطعة من الحديد والجمع زبر. قال الله تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ). وزبر أيضا ، قال تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً). أي : قطعا. الصحاح (٢ / ٦٦٦) وقال الأزهري : «وزبرة الحديد : قطعة ضخمة منه» تهذيب اللغة (١٣ / ١٩٧) وانظر : العين (٧ / ٣٦٢) ، والمفردات ص (٣٧٧).

١٨٩

وما السيف إلا زبرة لو تركتها

على الحالة الأولى لما كان يقطع (١)

وقيل : الزبور ها هنا اسم للزاجر من قولهم : زبرته أي زجرته (٢) ، قال : وبيّن أنه تعالى أتاهم بالآيات الدالة على الوحدانيّة والنبوّة ، وبالمزاجر المعنيّة بقوله : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)(٣) وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعتاب له ، فقد روي أنه قال : «ما لقي أحد في الله ما لقيت» (٤) ، فنبّه أن حال الأنبياء قبله كحاله ، وحال قومهم كحال قومه ، وليس / الشرط في نحو هذا الموضع للشك ، كما تصوره بعض المفسرين ، فأخذ يتخبط في جوابه ، وإنما ذلك

__________________

(١) البيت لأبي تمام ، وهو في ديوانه (٢ / ٣٣٤).

(٢) قال ابن منظور : «وزبره يزبره ـ بالضم ـ عن الأمر زبرا : نهاه وانتهره».

لسان العرب (٤ / ٣١٥). وانظر : الأفعال لابن القوطية ص (٢٨٧) ، والفروق ص (٣٢١). وقال أبو حيان : «والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب ، سمي بذلك ، قيل : لأنه مكتوب ، إذ يقال : زبره : كتبه ، أو لكونه زاجرا من زبره : زجره». البحر المحيط (٣ / ١٣٨). وانظر : تفسير السمعاني (١ / ٣٨٦) ، والفتوحات الإلهية (١ / ٣٤٣).

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ٤٢.

(٤) ورد نحو ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال : «لقد لقيت من قومك ما لقيت ...» الحديث أخرجه البخاري رقم (٣٢٣١) كتاب بدء الخلق. ومسلم رقم (١٧٩٥) كتاب الجهاد والسير.

١٩٠

للتحقيق (١) ، ومورده كقياس شرطي موجب للحكم (٢) ، وبيانه إن كذّبوك فقد كذّبوا من صدّقك ، وقد صدّقك الرّسل قبلك ، فإذا كذّبوك فقد كذّبوا رسلا من قبلك.

قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...)(٣) الآية.

[الفوز](٤) : إدراك الأمنيّة. والمفازة في قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ)(٥) مصدر ، ويقال للمهلكة : مفازة تفاؤلا ، والصحيح أنّهم لمّا رأوها تارة سببا للفوز ، وتارة سببا للهلاك سمّوها بالاسمين ، وذلك بنظرين مختلفين (٦) ، وكذا قولهم : هلك ، وفاز ، إذا مات ،

__________________

(١) ذكر ابن قتيبة أنّ : (إن) تأتي بمعنى (إذ) و (لقد) ، وكذلك قال الفيروزآبادي.

انظر : تأويل مشكل القرآن ص (٣٥٢) ، وبصائر ذوي التمييز (٢ / ١١٨).

(٢) القياس الشرطي هو قياس مركب من قضايا شرطية ، وهو المشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل نحو : «لو كان النهار موجودا لكانت الشمس طالعة ، ولو لم يكن النهار موجودا ما كانت الشمس طالعة ، فالنتيجة في الأخيرة ونقيضها في الأولى مذكوران بالفعل». الكليات ص (٧١٥) وانظر : التعريفات ص (١٩٥).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٥. ونصها : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

(٤) ليست في الأصل والسياق يقتضيها. وقال في المفردات : «الفوز : الظفر بالخير مع حصول السلامة». المفردات ص (٦٤٧).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٨.

(٦) قال ابن فارس : واختلف في المفازة ، فقال قوم : سميت تفاؤلا بالسلامة

١٩١

كأنه رئي الموت في بعض الناس هلاكا له ، وفي بعضهم فوزا له ، إما لكونه متبلغا بذلك إلى فوز الآخرة ونعيم الأبد ، وإما لخلاصهم من شدّة يرى الموت في جنبها فوزا (١) ، وكذا المنيّة أراها والأمنيّة من أصل واحد بنحو هذين النظرين (٢) ، وتخصيص الذوق ها هنا من حيث إنه ذكر الباخلين بالمال ، وهو قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ ...)(٣) الآية ، وأعظم البخل بالمال يكون خشية من فقدان الطعام الذي به قوام الأبدان ، ولهذا ذكر

__________________

ـ والفوز ، وقال آخرون : هو من فوّز إذا هلك ، وفوّز الرجل إذا ركب المفازة ...» مجمل اللغة ص (٥٥٦). وانظر : الأضداد لابن الأنباري ص (١٠٤) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ٢٦٤) ، والمفردات ص (٦٤٧) ، والنهاية (٣ / ٤٧٨).

(١) قال الراغب : «فإن يكن (فوّز) بمعنى (هلك صحيحا ، فذلك راجع إلى الفوز تصوّرا لمن مات بأنه نجا من حبالة الدنيا ، فالموت ـ وإن كان من وجه هلكا ـ فمن وجه فوز ... هذا إذا اعتبر بحال الدنيا ، فأما إذا اعتبر بحال الآخرة فيما يصل إليه من النعيم فهو الفوز الكبير ...» المفردات ص (٦٤٧).

(٢) وأصل المادة (منى) و (المنى) التقدير ، يقال : منى لك الماني : أي قدّر لك المقدّر. والتمني : التكذّب تفعّل من منى يمني إذا قدّر ، لأن الكاذب يقدّر الحديث في نفسه ثم يقوله. والمنية : هو الأجل المقدّر للحيوان. انظر : مجمل اللغة ص (٦٥٢ ، ٦٥٣) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٩٦٦) ، والمفردات ص (٧٧٩ ، ٧٨٠) ، والنهاية (٤ / ٣٦٧).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٠.

١٩٢

الأكل في عامة المواضع التي ذكر فيها احتجاز المال ، نحو (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ)(١) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى)(٢) فبيّن بالذوق أن الذي يخافونه (٣) طعام لا بد منه (٤) ، والغرور : مصدر أو جمع غارّ ، كرقود ، وقعود ، في جمع راقد وقاعد (٥) ، والمتاع : التمتع (٦) ، ...

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٢.

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٠.

(٣) يعني الموت.

(٤) قال القرطبي : ذائِقَةُ الْمَوْتِ من الذوق ، وهذا مما لا محيص عنه للإنسان ، ولا محيد عند لحيوان ، وقد قال أمية بن أبي الصلت :

من لم يمت عبطة يمت هرما

للموت كأس والمرء ذائقها

الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٩٧).

(٥) قال أبو حيان : «إن جعل الغرور جمعا فهو كقولك نفع الغافلين. وإن جعل مصدرا فهو كقولك : نفع إغفال ، أي : إهمال ، فيورث الغفلة عن التأهّب للآخرة». البحر المحيط (٣ / ١٤٠). وانظر معاني الكلمة في : تهذيب اللغة (١٦ / ٦٧ ـ ٨٨) ، والصحاح (٢ / ٧٦٧ ـ ٧٧٥) ، والمفردات ص (٦٠٣ ، ٦٠٤).

(٦) قال ابن منظور : والمتاع : السلعة ، والمنفعة ، وما تمتعت به ، وكل ما ينتفع به من عروض الدنيا قليلها وكثيرها. لسان العرب (٨ / ٣٣٣) وانظر : تهذيب اللغة (٢ / ٢٩٠ ـ ٢٩٦) ، والصحاح (٣ / ١٢٨٢) ، والمفردات

١٩٣

فنبّه أن السكون إلى الدنيا والتمتّع بها غرور ، وأن الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت (١) ، واقتصر على زاد يتبلّغ به.

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) الآية.

قيل : سبب نزولها أن كعب بن الأشرف (٣) كان يهجو النبي

__________________

ـ ص (٧٥٧ ، ٧٥٨).

(١) إشارة إلى حديث شدّاد بن أوس مرفوعا «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» أخرجه الترمذي في سننه (٤ / ٥٥٠) رقم (٢٤٥٩) ، وقال : حسن ، وابن ماجه (٢ / ١٤٢٣) رقم (٤٢٦٠). وأحمد في مسنده (٤ / ١٢٤) ، والحاكم في المستدرك (١ / ١٢٥) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٤ / ٦٣٨) ، وابن المبارك في الزهد ص (٥٦) ، والطبراني في المعجم الكبير (٧ / ٢٨١ ، ٢٨٤) رقم (٧١٤١ ، ٧١٤٣) ، وأبو نعيم في الحلية (١ / ٢٦٧ ، ٢٦٨) ، والبغوي رقم (٤١١٦ ، ٤١١٧).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٦. ونصّها : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

(٣) كعب بن الأشرف : يهودي من أعداء الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان شاعرا واستخدم شعره في هجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيذائه حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لي بابن الأشرف فقد آذاني». وبالإضافة إلى ذلك فقد رثى قتلى قريش في بدر ، وحضهم على محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعانهم على ذلك وأخبرهم أن دينهم خير من دينه. انظر : جامع البيان (٧ / ٤٥٦) ، والصارم المسلول

١٩٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحرّض المشركين عليه حتى قتله محمد بن مسلمة (١)(٢) ، وقيل : بل هو أن سمع أبو بكر يهوديّا يقول : ترى إله محمد فقيرا حتى يستقرض منّا ، فلطمه أبو بكر (٣) ، وجملة الأمر أنّ جميع ما يبتلى به الإنسان ويتعبّد به ثلاثة أشياء : إمّا متعلّق بالمال ، وإمّا بالنفس ، وإمّا بمجاهدة العدو ، وأعظم المجاهدة الصبر

__________________

ـ على شاتم الرسول لابن تيمية ص (٧٩ ، ٨٠).

(١) محمد بن مسلمة بن سلمة بن خالد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن مالك الأوسي الأنصاري أبو عبد الرحمن المدني ، حليف بني عبد الأشهل ، صحابي مشهور ، ولد قبل البعثة باثنين وعشرين سنة ، وأسلم بالمدينة قبل الهجرة على يد مصعب بن عمير ، شهد بدرا وما بعدها ، كان من فضلاء الصحابة ، شارك في قتل كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واعتزل الفتنة بين علي ومعاوية ، توفى سنة ٤٣ ه‍ ، وقيل سنة ٤٦ ه‍ وله سبع وسبعون سنة. الإصابة (٦ / ٢٨) ، وتقريب التهذيب ص (٥٠٧).

(٢) روى عبد الرزاق في تفسيره (١ / ١٤٢) بسنده عن الزهري أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف بسبب هجائه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشبيبه بنساء المسلمين. ورواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٤٥٦) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٣٤) بسنده عن الزهري ، والواحدي في أسباب النزول ص (١٣٤ ، ١٣٥) ، والوسيط (١ / ٥٣٠). وانظر : العجاب (٢ / ٨١٠).

(٣) رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٤٤١ ، ٤٤٢ ، ٤٥٥ ، ٤٥٦) عن ابن عباس وعكرمة ، ورواه ابن أبي حاتم (٣ / ٨٢٩ ، ٨٣٤) وانظر : النكت والعيون (١ / ٤٤١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٤١) ، والعجاب (٢ / ٨٠٥).

١٩٥

على الأذى المسموع من الأعداء ، إذ هو سبب الشرور ، ولهذا قال الشاعر :

 ...

وإن الحرب أولها كلام (١)

فبيّن تعالى أنكم إن صبرتم واتقيتم في هذه الأمور التي تبلون بها ، فإن ذلك من عزم الأمور (٢). إن قيل : ما معنى : من عزم الأمور ، وما الأمور التي جعل تعالى هذه الأشياء من عزمها؟ قيل : العزم : ثبات الشيء على الشيء ، وإمضاؤه (٣) ، والحزم يقاربه (٤) ، إلا أن العزم بالإمضاء أشبه ، إذ هو من العزم ، أي

__________________

(١) هذا عجز بيت من بحر الوافر لنصر بن سيّار ، وتمامه :

فإن النار بالعودين تزكى

وإن الحرب أولها الكلام

انظر : ديوانه ص (٤٠) ، وعيون الأخبار (١ / ٢١٠) ، والحماسة البصرية (١ / ١٠٧) ، والأغاني (٦ / ١٢٤) ، وبهجة المجالس (١ / ٤٦٨).

(٢) انظر : جامع البيان (٧ / ٤٥٥).

(٣) قال ابن فارس : العزم : عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله ، وكذلك العزيمة ...» مجمل اللغة ص (٥١٨). وانظر : الفروق ص (١٣٥) ، والمفردات ص (٥٦٥).

(٤) قال ابن الأثير : الحزم : ضبط الرجل أمره والحذر من فواته ، من قولهم : حزمت الشيء : أي شددته. النهاية (١ / ٣٧٩) ، وانظر : العين (٣ / ١٦٦) ، وتهذيب اللغة (٤ / ٣٧٦) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٢٦٠) ، والقاموس ص (١٤١٢).

١٩٦

القطع (١) ، والحزم بجمع الرأي أشبه ، إذ هو من حزمت الحطب والقصب ، أي جمعت (٢) ، ولذلك [قيل](٣) : أحزم لو أعزم (٤) ، وأمّا الأمور التي عناها فيجوز أنها الثواب الذي جعل للصابرين والصالحين والمتقين ، وما أشبه ذلك ، ويجوز أن تكون الأمور إشارة إلى ما تقدم (٥) ، ونبّه أنّ بالصبر والتقوى يتوصّل إليه.

__________________

(١) ومنه : «ليعزم المسألة» أي يجد فيها ويقطعها. انظر : النهاية (٣ / ٢٣٢).

(٢) قال النقاش : «العزم والحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية : وهذا خطأ ، والحزم جودة النظر في الأمر ، وتنقيحه. والحذر من الخطأ فيه ، والعزم : قصد الإمضاء ...». انظر : المحرر الوجيز (٣ / ٣١٣) ، والبحر المحيط (٣ / ١٤٢).

(٣) ليست في الأصل والسياق يقتضيها.

(٤) هذا الكلام مثل ومعناه : «إن عزمت الرأي وأمضيته فأنا حازم ، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمي». انظر : مجمع الأمثال (٢ / ١٠٤) ، المستقصى (٢ / ١٨٩) ، ومجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي ص (١٠١).

(٥) لم أجد أحدا من المفسرين ذكر أن الأمور في الآية هي الثواب ، بل قالوا : (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل أحد ، لما فيه من كمال المزية والشرف والعز ، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده. فعزم الأمور هو صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه ، فكل أمر كان حميد العاقبة ، معروفا بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور.

انظر : جامع البيان (٧ / ٤٥٥) ، والتفسير الكبير (٩ / ١٠٥) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٢٣ ، ٣٢٤) ، وروح المعاني (٤ / ١٤٨).

١٩٧

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)(١) الآية.

النبذ : طرح الشيء لقلّة الاعتداد به (٢) ، وقولهم : جعلت كذا خلف ظهري أي أهملته (٣) ، وقيل : تقدير الآية على ما يقرب من فهم العامة ، وإذ نبذ أهل الكتاب وراء ظهورهم ما أخذ الله عليهم من الميثاق من تبيين ما / أوتوه من الكتاب للناس ، واشتروا به ثمنا قليلا (٤) ، وقد تقدّم الكلام في أخذ الميثاق عليهم ، وكيفية ذلك (٥)

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٧. ونصها : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ).

(٢) قال ابن فارس : «نبذت الشيء أنبذه ، إذا ألقيته من يدك ...» مجمل اللغة ص (٦٨٤) ، وانظر : معاني القرآن للزجاج (١ / ٤٩٧) ، والفروق ص (٣٢٩) ، والمفردات ص (٧٨٨).

(٣) ومنه المثل : «لم أجعلها بظهر» قال الميداني : «الهاء كناية عن الحاجة يضربه المعني بحاجتك. ويقول : لم أجعل حاجتك وراء ظهري ، ولم أعقل عنها بل جعلتها نصب عيني». انظر : مجمع الأمثال (٢ / ١٨٩) ، والمستقصى (٢ / ٢٥٣). وقال ابن عطية : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) استعارة لما يبالغ في اطّراحه ، ومنه : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [هود : ٩٢]» المحرر الوجيز (٣ / ٣١٤). وانظر : الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣٠٥) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٢٥).

(٤) انظر : الجامع لأحكام القرآن (٧ / ٤٥٨ ، ٤٥٩).

(٥) انظر : تفسير الراغب للآية (٩٣) من سورة البقرة (ق ٧٧ ـ مخطوط).

١٩٨

وفي معاني الثمن القليل (١).

قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ...)(٢) الآية.

المفازة من العذاب : هي المنجاة في قول الشاعر :

تحل بمنجاة من اللوم بيتها (٣)

 ....................

والكلام في تكرير (لا تَحْسَبَنَّ) ، ودخول الفاء في الأخير

__________________

(١) انظر : تفسير الراغب للآية (٧٩) من سورة البقرة (ق ٦٩ ـ مخطوط).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٨. ونصّها : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). وتطلق أيضا على المهلكة تفاؤلا. انظر : معاني القرآن للنحاس (١ / ٥٢٣) ، والأضداد ص (١٠٤). وانظر في معنى الآية : جامع البيان (٧ / ٤٧٢) ، وبحر العلوم (١ / ٣٢٣) ، والوسيط (١ / ٥٣٢) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣١٧) ، والبحر المحيط (٣ / ١٤٤). وقال الفراء والزجاج : (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) أي ببعيد. قال أبو حيان : لأن الفوز معناه التباعد من المكروه. انظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٢٥٠) ، والزجاج (١ / ٤٩٧) ، والبحر المحيط (٣ / ١٤٤).

(٣) هذا صدر بيت من بحر الطويل للشنفري في وصف امرأة يريد أنها لا تذم لإيثارها الناس على نفسها. والمنجاة من النجو أي الارتفاع. وتمامه :

تحل بمنجاة من اللوم بيتها

إذا ما بيوت بالمذمة حلّت

انظر : شرح اختيارات المفضل (١ / ٥١٧) ، والإيضاح في علوم البلاغة ص (٣٣٨) ، ودلائل الإعجاز ص (٣١٠) ، والمفضليات ص (١٠٨).

١٩٩

منه صعب ، وقد قال الزجاج : لا تحسبن ، مكرر لطول القصة ، قال : والعرب تعيد إذا طالت القصة حسبت وما أشبهها ، إعلاما أنّ الذي جرى متصل بالأول ، تقول : لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا فلا تظننّه صادقا (١) ، وقيل : الفاء زائدة (٢) ، والوجه في ذلك عندي أن قوله : لا تحسبنّ على الخبر وتقدير الكلام فيه ، وذلك إشارة إلى يوم القيامة بعد أن يدخل الكفار النار ، ويقال لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(٣) والمعنى : والله إنك لا تحسبهم حينئذ أنّهم بمفازة من العذاب ، أي لهم سبيل إلى الخلاص فلا تحسبنهم الآن ، وهذا نهي والأوّل خبر (٤) ، وحذف

__________________

(١) انظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٩٨) ، ومعاني القرآن للأخفش (١ / ١٣٦).

(٢) قال أبو حيان : «فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء ...» البحر المحيط (٣ / ١٤٤) وانظر : الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣٠٧) ، والدر المصون (٣ / ٥٢٩). ولا يجيز سيبويه زيادة الفاء ، وأجاز الأخفش زيادتها مطلقا ، وقيّدها الفرّاء وجماعة بكون الخبر أمرا أو نهيا. انظر : مغني اللبيب ص (٢٩١) ، وهذا الذي ذكره الراغب من كون الفاء زائدة هو قول أبي علي الفارسي في الحجة (٢ / ٤٠١).

(٣) سورة المؤمنون ، الآية : ١٠٨.

(٤) ذكر هذا الوجه ابن زنجلة في حجة القراءات ص (١٨٧). وفيه ضعف ، لأن (لا) إذا كانت نافية فتوكيد الفعل الداخلة عليه بالنون قليل. انظر :

٢٠٠