تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

وقيل : أراد في الحال فإنهم الاعلون بالحجة ورجاء المغفرة ، إشارة إلى نحو قوله : (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ)(١) ومثله : (لا تَخَفْ / إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى)(٢) ، وسبب نزول ذلك ، قيل : هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بطلب القوم بعد يوم أحد ، وقال : «لا يخرج معنا إلا من شهدنا بالأمس» ، فاشتد على المسلمين ، وقالوا : فينا جرحى ، فأنزل الله تعالى ذلك (٣) ، ونبّه بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أن من شرط

__________________

(١ / ٣٦٠) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١١٠) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٣٨) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢١٧) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٨٦).

(١) انظر : الكشاف (١ / ٤١٨) ، والتفسير الكبير (٩ / ١٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٤) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨١) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ٨٩).

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٠٤.

(٣) سورة طه ، الآية : ٦٨.

(٤) لم يذكر أحد من أهل التفسير والسير أن ذلك كان سببا لنزول هذه الآية ، والذي ذكره ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين وابن حجر في العجاب في سبب نزول هذه الآية عن الزهري ، قال : كثر في أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتل والجراح ، حتى خلص إلى كل امرئ منهم البأس ، فأنزل الله القرآن ، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما كانوا قبلهم من الأمم الماضية ، فقال : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا). انظر : جامع البيان (٧ / ٢٣٤) ، والعجاب (٢ / ٧٥٨). وهناك أقوال أخرى في سبب نزول هذه الآية ، لكنها أيضا

٤١

الإيمان رفض الوهن والحزن وأنتم مؤمنون ، فواجب أن لا تهنوا ولا تحزنوا سيما والعلو لكم (١).

قوله تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٢) الفرق بين المسّ واللمس : أن اللمس أخص ، فإنه بالحاسة ، والمس به وبغيره (٣) ، وهو ههنا

__________________

ـ غير ما ذكر الراغب. وأما ما ذكره الراغب من طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمشركين بعد أحد ، فهي ما يعرف بغزوة «حمراء الأسد» ، وفيها نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ ...) [آل عمران : ١٧٢]. انظر : جامع البيان (٧ / ٤٠٠ ـ ٤٠٢) ، وطبقات ابن سعد (٢ / ٤٩) ، ودلائل النبوة للبيهقي (٣ / ٣١٤) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٢) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٤ ـ ٤٠٦).

(١) قال البقاعي : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان ـ وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله ـ لكم صفة راسخة ، فإنكم لا تهنون ، لأنكم بين إحدى الحسنيين ، كما لم يهن من سيقصّ عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم ، لعلوكم عدوكم ...». وانظر : تفسير السمعاني (١ / ٣٦١) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٤) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٧) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨١) ، ونظم الدرر (٢ / ١٥٩).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠.

(٣) هذا الفرق في أصل دلالة اللفظتين ، وإلا فقد يستعملان بمعنى واحد.

انظر : الجمهرة (٣ / ٥٠) ، والصحاح (٣ / ٩٧٥ ، ٩٨٧) ، والمقاييس

٤٢

عبارة عن الإصابة (١) والقرح أعم من الجرح ، فإن الجرح إصابة الجارحة في الأصل (٢) ، والقرح يقال له ولما يحدث من ذاته ، نحو قرح البعير إذا خرج به قرحة ، وهي شبه جرب (٣). والقرح مصدر ثم يسمى المقروح قرحا (٤). والقرح الاسم (٥) ، وقال بعض أهل اللغة : القرح : الجراحة. والقرح : ألمها (٦) ، والدول والدور يتقاربان ، لكن الدور أعم ، فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي (٧) ،

__________________

ـ (٥ / ٢١٠ ، ٢٧١) ، والفروق للعسكري ص (٣٣٦).

(١) انظر : الوجوه والنظائر (٢ / ٢٢١).

(٢) قال العسكري في الفروق ص (١٤٩): «الجرح يفيد من جهة اللفظ أنه فعل بجارحة ، كما أن قولك : عنته يفيد أنه من جهة اللفظ للإصابة بالعين ...». وانظر : المساعد (٢ / ٥٩١).

(٣) انظر : الأفعال لابن القوطية ص (٥٩).

(٤) قال الراغب : يقال : قرحته نحو : جرحته ، وقرح : خرج به قرح. المفردات ص (٦٦٥).

(٥) انظر : التاج (٧ / ٤٤).

(٦) نسبه ابن خالويه للكسائي. انظر : معاني القرآن للكسائي ص (١٠٧) ، وإعراب القراءات السبع وعللها وحججها (١ / ١١٩) ، وهو رأي الفراء أيضا ، كما في معاني القرآن له (١ / ٢٣٤) ، وانظر : المفردات ص (٦٦٥).

(٧) نقل أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٦١) عبارة الراغب هذه في الفرق بين الدور والدول ولم ينسبها. وكذلك فعل السمين الحلبي في الدر المصون (٣ / ٤٠٥). ولم أجد من فرق هذا التفريق قبل المؤلف ، بل إن أبا عبيدة

٤٣

وكذلك الجد ، ولهذا قيل : «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» (١) أي الحظوظ الدنيوية غير نافعة في القيامة (٢) ، نحو : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ)(٣) ، وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) قيل ليعرف ، ولهذا تعدى إلى مفعول واحد ، وقيل : إن مفعوله الثاني محذوف (٤) ومتى قيل في الله : إنه علم كذا أو لم يعلمه ، فليس القصد إلى إثبات علمه أو نفيه ، وإنما القصد إلى إثبات ذلك الشيء أو نفيه ، وإذا استعمل في غيره

__________________

ـ فسرّ الدائرة بالدولة ، وقال : «والدوائر قد تدور ، وهي الدولة ، والدوائل تدول ...» مجاز القرآن (١ / ١٦٩).

(١) جزء من حديث طويل رواه البخاري ـ كتاب الأذان ـ باب «الذكر بعد الصلاة» رقم (٨٤٤). ورواه أيضا في ـ كتاب القدر ـ باب «لا مانع لما أعطى» رقم (٦٦١٥). ورواه مسلم ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة ـ باب «استحباب الذكر بعد الصلاة» رقم (٥٩٣). ورواه أبو داود ـ كتاب الصلاة ـ باب «ما يقوله إذا سلّم» رقم (١٥٠٥). والترمذي في كتاب ـ الصلاة ـ باب «ما يقول إذا سلّم من الصلاة» رقم (٢٩٩) وقال : حسن صحيح. والنسائي في الصلاة ، باب «نوع آخر من القول عند انقضاء الصلاة» (٣ / ٧٠) ، وأبو يعلى في المسند رقم (٨٨٢ ، ١١٣٧).

(٢) انظر : العين (٦ / ٧) ، والزاهر (١ / ١٨ ـ ٢٤) ، والمفردات ص (٨٨) ، والنهاية (١ / ٢٤٤).

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ٨٨.

(٤) تقديره كما في البحر المحيط (٣ / ٦٨): «مميزين بالإيمان عن غيرهم».

وانظر : التبيان في إعراب القرآن (١ / ٢٩٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٠٦).

٤٤

فإنه يقال على الوجهين (١) ، وأما الشهداء فقد قيل : هم المذكورون في قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)(٢) ، وقال الحسن وقتادة : عنى بها المقتولين في الحرب (٣) ، وسمّوا بذلك لقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(٤) الآية ،

__________________

(١) لم أجد أحدا من المفسرين وافق الراغب على ذلك ، وكلام العلامة نظام الدين النيسابوري أضبط من كلام الراغب ، فقد قال : فكلّ آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم ، لأن التغير في علم الله محال. غرائب القرآن (٢ / ٢٦٦). والصحيح أن ما فيه علم الله كذا دالّ على إثبات العلم لله تعالى. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤] ، ثم قال : «فقد دلّت هذه الآية على وجوب علمه بالأشياء ...» مجموع فتاوى شيخ الإسلام (٢ / ٢١١). وقال ابن الجوزي : «ومعنى (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) أي ليعلم واقعا منهم ، لأنه عالم قبل ذلك. وإنما يجازي على ما وقع» زاد المسير (١ / ٤٦٧).

(٢) ذكر ذلك الزمخشري في الكشاف (١ / ٤٢٠) ، والنيسابوري في تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٦) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٦٩) ، والبيضاوي في أنوار التنزيل (١ / ١٨٢).

(٣) روى قول قتادة ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٢٤٣) ، وابن أبي حاتم (٣ / ٧٧٤). ولم أجد للحسن كلاما في ذلك. وهذا القول ذكره أغلب المفسرين ، واقتصر عليه مفسر وأهل السنة ؛ الطبري وابن أبي حاتم والسمعاني والبغوي وابن كثير. ورجّحه أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٦٩).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩.

٤٥

لما جعلهم أحياء عند ربهم سمّوا شهداء ، وأصل ذلك أن غاية ما يستحقه الإنسان في الآخرة القرب من الله ، وكونه عنده ، ولما وعد الله القتيل في سبيله بذلك سمي شهيدا ، ونبّه تعالى بالآية أنه غير إنصاف لمن ساوى العدو في المغالبة الدنيوية أن يحزن ، فكيف بمن كان غالبا ، وبين بقوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها)(١) أن من حق العاقل أن لا يبالي بما يفوته مالا كان أو جاها أو قهرا ، فإن الله جعل بنية الدنيا على أن تكون أعراضها دولا بين أخيارهم وأشرارهم ، وليصبر الأخيار فيما يصيبهم من المحن ، ويشكروا ما ينيلهم من المنح ، فيصلوا بذلك إلى ثوابه (٢) ، وعلى ذلك (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ)(٣) إن قيل : هل يصح أن تكون الدولة (٤) للكافرين على المؤمنين؟ قيل : يجوز ذلك إذا كانت الدولة من الحظوظ الدنيوية ، التي قد يعطى الكافر منها أكثر مما يعطى المؤمنون (٥) ، قال قتادة : ولو لا الدولة ما أو ذي المؤمنون ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠.

(٢) انظر : تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦١) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٤٣) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٥) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٨) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٨٦).

(٣) سورة محمد ، الآية : ٣١.

(٤) قال القرطبي : والدولة : الكرّة. الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢١٨).

(٥) قال الزجاج : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي نجعل الدولة في

٤٦

لكن قد يدال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليتميّز المطيع من العاصي (١) ، وقد حكم تعالى في كل ذلك أن الغلبة للمؤمنين في الحقيقة بقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٢) ، وفي قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(٣) ، تنبيه أنه لا ينصر الكافرين في الحقيقة ، وإن تصور بعض الناس ما يعطيهم في بعض الأحوال نصرة منه ، تنبيه أنه لا يظلم ، فمحال أنه مع حكمه بأنه لا يحب الظالمين يفعل فعلهم (٤).

قوله تعالى : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ)(٥) المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز / الشيء من

__________________

ـ وقت من الأوقات للكافرين على المؤمنين ، إذا عصوا فيما يؤمرون به من محاربة الكفار ، فأما إذا أطاعوا فهم منصورون أبدا ، كما قال الله ـ عزوجل ـ (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢]. ثم قال : «...

جعل الله الأيام مداولة بين الناس ، ليمحّص المؤمنين بما يقع عليهم من قتل في حربهم أو ألم أو ذهاب مال ...». معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٧٠ ، ٤٧١).

(١) أثر قتادة رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٢٣٩) ، وانظر : النكت والعيون (١ / ٤٢٦) ، والوسيط (١ / ٤٩٤).

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٥٦. وانظر : كلام الزجاج السابق.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠.

(٤) انظر : تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٦) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٩) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٨٢) ، ونظم الدرر (٢ / ١٦٠).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٤١.

٤٧

خلال أشياء منفصلة عنه ، والمحص في إبرازه عن أشياء متصلة به (١). قال الخليل : التمحيص : التخليص عن العبث ، يقال : محّص عنا ذنوبنا (٢) ، والمحق هو إبطال الشيء حالا فحالا (٣) ،

__________________

(١) يؤيد تفريق المؤلف هذا أنهم قالوا : المطر يفحص الحصا ، إذا نحّى بعضها عن بعض ، وهذا لأن الحصا ينفصل بعضها عن بعض. وقالوا : محصته محصا إذا خلّصته من كل عيب. والتمحص : التطهير من الذنوب ، والذنوب والعيوب تتصل بصاحبها اتصال الصفات بموصوفها. انظر : تهذيب اللغة (٤ / ٢٥٩ ، ٢٧١) ، والمقاييس (٥ / ٣٠٠) ، والمفردات ص (٧٦١).

(٢) الذي في العين (٣ / ١٢٧): «التمحيص : التطهير من الذنوب». وقال الزجاج في معاني القرآن (١ / ٤٧٢): «وقرأت عليه ـ يعني المبرد ـ أيضا عن الخليل : المحص : التخليص. يقال : «محصت الشيء ، أمحصه محصا إذا خلصته». ولعل المؤلف تصرّف في هذه العبارة. وانظر : معاني القرآن للنحاس (١ / ٤٨٣) ، وغريب القرآن للسجستاني ص (٥٣٠) ، وتهذيب اللغة (٤ / ٢٧١).

(٣) قال ابن الأثير : «المحق : النقص والمحو والإبطال». النهاية (٤ / ٣٠٣) ، والمفردات ص (٧٦١) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٩) ، والقاموس ص (١١٩١) ، ولم أجد من ذكر قبل المؤلف أن المحق : إبطال الشيء حالا فحالا ، بل المعنى الذي ذكروه يدور على النقصان والذهاب والهلاك والحرق ، بدون التقييد بالتدرج. ولعل المؤلف أخذ معنى التدرج من الليالي المحاق في آخر الشهر على قول من قال إنها «ليلة خمس وست وسبع وعشرين ؛ لأن القمر يطلع في آخرها ، ثم يأتي الصبح فيمحق ضوء القمر» تهذيب اللغة (٤ / ٨٣) ، ولا يخفى أن ذهاب ضوء القمر حينئذ مندرج. هذا وقد تبع أبو حيان في البحر (٣ / ٦٩) المؤلف في تفسيره للمحق.

٤٨

والقصد بتمحيص المؤمن ما ذكره في قوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١). وقوله : (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ)(٢) وعلى معنى المحص ما ورد من لفظ الفتنة والابتلاء ، والقصد بمعنى الآية أن المؤمن والفاسق كسبيكتي ذهب : إبريز كلف (٣) ، وبهرج (٤) من خزف إذا فتنا خلص الإبريز ، وانمحق البهرج ، فكما أن السبك سبب لاختيار الإبريز وإعداده في خاصّ الخزانة ، وسبب لاجتواء (٥) البهرج وطرحه بالمبعد ، كذا التكليف سبب لاصطفاء المؤمن لكريم جواره ، وطرد الكافر إلى حرق ناره (٦) ، كما قال في المؤمنين : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)(٧) ، وقال في الكافرين : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ

__________________

(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٣) الإبريز : الذهب الخالص ، والكلف : السواد في الصّفرة. انظر : تهذيب اللغة (١٣ / ٢٠٢) ، والقاموس المحيط مادّة (كلف).

(٤) البهرج من الدراهم وغيرها : الرديء. انظر : تهذيب اللغة (٦ / ٥١٤).

(٥) الاجتواء : كره الشيء لعدم ملاءمته. انظر : القاموس (١٦٤١).

(٦) أشار القشيري إلى هذا المعنى في اللطائف ، فقال في تفسير هذه الآية : «اختبارات الغيب سبك للعبد ، فباختلاف الأطوار يخلصه من المشائب ، فيصير كالذهب الخالص لا خبث فيه ، كذلك يصفو عن العلل ، فيتخلّص لله ، ويمحق الكافرين في أودية التفرقة» لطائف الإشارات (١ / ٢٩٣).

(٧) سورة القمر ، الآية : ٥٥.

٤٩

يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(١).

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(٢) معنى أم حسبتم : لا تحسبوا (٣) ، واستعارة الاستفهام للنهي (٤) ، مبالغة في المعنى (٥) ، و (أَمْ :) على

__________________

(١) سورة المطففين ، الآية : ١٥.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٢.

(٣) قال النيسابوري في تفسيره : «فحاصل الكلام : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم تجاهدوا بعد. وإنما أنكر هذا الحسبان ، لأنه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح المنوطة بها في الدين والدنيا ، وإذا كان كذلك فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال مثل هذه الطاعة» غرائب القرآن (٢ / ٢٦٨ ، ٢٦٩).

(٤) لم أجد في كتب البلاغة التي رجعت إليها : أن النهي من المعاني التي يفيدها الاستفهام. ولكنهم ذكروا الإنكار ، وأوردوا له معنيين : أحدهما : التوبيخ ومعناه : ما كان ينبغي أن يكون ذلك. وثانيها : التكذيب أي : لم يكن ذلك. والأمثلة التي ذكروها للقسم الأول قريبة من معنى الآية. فمعنى الآية : لا ينبغي أن تظنوا أنكم ستدخلون الجنة دون أن تجاهدوا ... والله أعلم. انظر : الإيضاح ص (١٤٢ ـ ١٤٣) وشروح التلخيص (٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١) وشرح التلخيص لمحمد هاشم ٨٧.

(٥) نقل أبو حيان عن ابن بحر ـ أبي مسلم الأصفهاني أنه قال : «أم حسبتم : نهي وقع بلفظ الاستفهام ، الذي يأتي للتبكيت ، وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد». البحر المحيط (٣ / ٧٢).

٥٠

وجهين : معادلة للألف ، ولاستئناف استفهام ، ويفسر ببل (١) ، ومن النحويين (٢) من قال : لا تنفك (أَمْ) من أن تكون تابعا للألف ، إما ملفوظا به أو مقدرا ، وقال : وتقدير الكلام ههنا لما ذكر قوله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا)(٣) أعلمتم ذلك (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ،) وقد تقدم أن كل موضع نفي فيه علم الله فإنما هو نفي لما يتعلق به (٤) ، ويدل على صحة ذلك قولهم : ما علمت أحدا

__________________

(١) قال السمين الحلبي : (في «أم» هذه أوجه أظهرها : أنها منقطعة مقدره ب «بل» وهمزة الاستفهام ، ويكون معناه الإنكار. وقيل : «أم» بمعنى الهمزة وحدها ، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار). الدر المصون (٣ / ٤٠٩). وانظر : البحر المحيط (٣ / ٧٢). وانظر : الكتاب (٣ / ١٦٩) ، والمقتضب (٣ / ٢٨٦) ، وحروف المعاني للزجاجي ص (٤٨) ، وأمالي ابن الشجري (٣ / ١٠٦ ـ ١١٠) ، والمخصص (١٤ / ٥٤) ، ورصف المباني (٩٣) ، والجنى الداني (٢٠٤) ، والمغني (٦١).

(٢) هذا القول بهذا التعميم لم أجده فيما رجعت إليه من مراجع. وقد حكي عن محمد بن بحر الأصفهاني ت ٣٢٢ في تفسير هذه الآية أن (أم) عديلة همزة تتقدر من معنى ما تقدم ، والتقدير : أتعلمون أن التكليف يوجب الابتلاء المذكور قبل أم حسبتم ...؟ فلعل المؤلف أراد (أم) في هذه الآية ، والله أعلم. انظر : البحر المحيط (٣ / ٧٢) ، الدر المصون (٣ / ٤٠٩).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٩.

(٤) قال أبو حيان : «والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] ، المعنى :

٥١

يخرج إلا زيد ، فجاز الرفع في زيد لما كان معناه ما يخرج أحد فيما علمت إلا زيد ، وأما قوله : (وَيَعْلَمَ) فمنصوب على الصرف (١) ،

__________________

ـ لم يكن فيهم خير ، لأن ما لم يتعلق به علم الله تعالى بموجود ألا يكون موجودا أبدا». البحر المحيط (٣ / ٧١). وانظر : الكشاف (١ / ٤٢٠).

وقال أحمد بن المنيّر السكندري في تعليقه على الكشاف : «التعبير عن نفي المعلوم بنفي العلم خاص بعلم الله تعالى ، لأنه يلزم من عدم تعلق علمه بوجود شيء ما عدم ذلك الشيء ضرورة أنه لا يعزب عن علمه شيء لعموم تعلقه ، فاستقام التعبير عن نفي الشيء بنفي تعلق العلم القديم بوجوده المصحح للملازمة ، ولا كذلك علم آحاد المخلوقين ، فإنه لا يعبر عن نفي شيء بنفي تعلق علم الخلق به ، لجواز وجود ذلك الشيء غير معلوم للخلق ...» انظر : الكشاف (١ / ٤٢٠) هامش رقم ٢. وانظر ما سبق (٣٥٥ ـ ٣٥٦).

(١) قال ابن جرير الطبري : «ونصب (ويعلم الصابرين) على الصرف.

والصرف أن يجتمع فعلان ببعض حروف النسق ، وفي أوله ما لا يحسن إعادته مع حرف النسق ، فينصب الذي بعد حرف العطف على الصرف ، لأنه مصروف عن معنى الأول ، ولكن يكون مع جحد أو استفهام أو نهي في أول الكلام. جامع البيان (٧ / ٢٤٧) ، ويسمي الكوفيون الواو في مثل هذا الموضع واو الصرف ، ويسميها البصريون واو المعية والفعل بعدها منصوب ـ عندهم ـ بأن مقدرة. انظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٣٣ ـ ٣٤) ، والكتاب لسيبويه (٣ / ٤١) ، وإعراب القرآن (١ / ٤١٩) ، والإنصاف في مسائل الخلاف المسألة (٧٥) ، والنصب على الصرف هو على مذهب الكوفيين ، أما على مذهب البصريين فهي منصوبة بإضمار أن بعد واو

٥٢

وقد قرئ ويعلم الصّبرين بالجزم (١) ، والفرق بين العطف والنصب على الصرف هو أنه إذا كان عطفا يراد حصول الفعلين مجتمعين كانا أو مفترقين ، وإذا نصب فالمراد حصول الفعلين معا ، ونفيهما معا ، على ذلك قول الشاعر (٢) :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله (٣)

 ...

معناه لا تجمع بين الأمرين معا ، ويحتمل أن يكون (وَيَعْلَمَ)

__________________

ـ الجمع. انظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٧٢) ، والوسيط (١ / ٤٩٨) ، والتبيان في إعراب القرآن (١ / ٢٩٥) ، والبحر المحيط (٣ / ٧٢) ، والدر المصون (٣ / ٤١١).

(١) قال ابن جرير : «وقد روي عن الحسن أنه كان يقرأ (ويعلم الصابرين) فيكسر الميم من «يعلم» لأنه كان ينوي جزمها على العطف به بعد قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ). جامع البيان (٧ / ٢٤٧). وانظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٧٢) ، وإعراب القراءات الشواذ (١ / ٣٤٧) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٤٥) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٢٠).

(٢) البيت مختلف في نسبته ، فقد نسبه إلى الأخطل ، ونسبه الأعلم إلى أبي الأسود الدؤلي ، ويروى للمتوكل الليثي ، ويروى لسابق البربري ولحسان. انظر : ديوان أبي الأسود ، تحقيق الدجيلي (٢٣٢ ـ ٢٣٣) وتحقيق آل ياسين (١٥٦) وقال البغدادي : «والصحيح أنه لأبي الأسود» الخزانة (٣ / ٦١٧).

(٣) انظر : الكتاب (٣ / ٤٢) ، والمقتضب (٢ / ١٦) ، والأصول لابن السراج (٢ / ١٦٠) ، وجمل الزجاجي (١٩٩) ، وحروف المعاني للزجاجي (٣٨) ، والصاحبي ص (١٥٦).

٥٣

معطوفا على قوله : (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ،) وذاك أنه لما ضمن للصابرين دخول الجنة في غير موضع ، بين ههنا أن لا يدخلوها محكوما لهم بالصبر ، ولما يجاهدوا ، إذ كان الصبر لا يثبت إلا بمجاهدة النفس (١) ، ولم يعن بالمجاهدة الجهاد في حرب الكفار فقط ، بل أراد ذلك ومجاهدة الشيطان والنفس المدلول عليها بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم» (٢) ، ونحو هذه الآية قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ)(٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(٤) سبب نزولها أن قوما لم يحضروا بدرا كانوا يقولون : ليت لنا يوما مثله ، حتى نجاهد (٥). وقيل : سببه

__________________

(١) انظر : التفسير الكبير (٩ / ١٧) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٩) ، ونظم الدرر (٢ / ١٦١).

(٢) لم أجده مرفوعا ونسبه الزمخشري في «ربيع الأبرار» لمالك بن دينار.

انظر : «ربيع الأبرار» (٢ / ٤٧٠).

(٣) سورة محمد ، الآية : ٣١.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٣.

(٥) روي ذلك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والحسن ، والسدي. انظر : جامع البيان (٧ / ٢٤٨ ـ ٢٥٠) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٧٧٦) ، والنكت والعيون (١ / ٤٢٧) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٢٠ ، ٢٢١) ، والبحر المحيط (٣ / ٧٣).

٥٤

أن قوما سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأذن لهم أن يأتوا المشركين في رحالهم ويقاتلوهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم (١) أؤمر بذلك» (٢). والموت عبارة عن الحرب (٣) ، كقول الشاعر :

إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا

إلى الموت إرقال الجمال المصاعب (٤)

وأراد أنكم تمنيتم الحرب فلم (٥) تحيّرتم؟ والنظر يكنى به عن التحيّر (٦) ، نحو :

__________________

(١) في الأصل : لو. والتصويب من جامع البيان.

(٢) هذا الأثر ورد في سبب نزول قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ...) الآية. [النساء : ٧٧].

رواه الطبري في جامع البيان (٨ / ٥٤٩ ، ٥٥٠). وانظر : أسباب النزول للنيسابوري ص (١٦٦ ، ١٦٧) ، والعجاب (٢ / ٩١٧ ، ٩١٨).

(٣) قال أبو السعود : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) أي تتمنون الحرب ، فإنها من مبادي الموت. إرشاد العقل السليم (٢ / ٩٢).

(٤) البيت للنابغة الذبياني. انظر : ديوان النابغة الذبياني ص (٤٤) ، والأغاني (١١ / ١٨) ، ومجمع البلاغة ص (٤٣٦).

(٥) في الأصل : (فلما) ، والصواب ما أثبته.

(٦) قال الراغب : ويستعمل النظر في التحير في الأمور ، نحو قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٥]. وقال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ

٥٥

 ...

 ... والموت خزيان ينظر (١)

وقيل : وأنتم تنظرون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه بين أظهركم ، وذلك تبكيت لهم (٢) ، وقول النحويين : أراد بالموت سببه ، فحذف المضاف ؛ فقريب (٣) ، وقول / أبي علي الجبائي : إنه لا يجوز أن

__________________

ـ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] ... فكلّ ذلك نظر عن تحيّر دالّ على قلة الغناء. المفردات ص (٨١٣). ولكني لم أجد أحدا من المفسرين أشار إلى هذا المعنى عند تفسير الآية ، وذهب المحققون من أهل التفسير واللغة إلى أن معنى (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أي وأنتم بصراء ، ليس بكم عمى ، أو رأيتموه بمرأى منكم ، ومنظر أي بقرب منكم. انظر : جامع البيان (٧ / ٢٤٨) ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٧٣) ، والوسيط (١ / ٤٩٩) ، والبحر المحيط (٣ / ٧٤).

(١) جزء من بيت لتأبط شرّا وتمامه :

فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا

به كدحة والموت خزيان ينظر

انظر : الأغاني (٢١ / ١٤١) ، ومجمع البلاغة (٢ / ٧٠٠).

(٢) قال ابن عطية : وحكى مكي وغيره عن قوم أنهم قالوا : المعنى : وأنتم تنظرون إلى محمد ، وهذا قول ضعيف ، إلا أن ينحى به إلى هذا القول ، الذي ذكرته أنه النظر في أمره هل قتل؟ والاضطراب بحسب ذلك. المحرر الوجيز (٣ / ٢٤٦). وانظر : معاني القرآن وإعرابه للزجاج (١ / ٤٧٣) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٣) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٢١) ، والبحر المحيط (٣ / ٧٤).

(٣) قال الطبري : (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) يعني أسباب الموت ، وذلك القتال. جامع

٥٦

يتمنّوا قتل المشركين لهم ، فإن قتل المشركين لهم كفر بالله ، ولا يجوز للمؤمن أن يتمنّى الكفر بالله (١) ، وإنما تمنّوا الموت الذي هو فعل الله في الحال ، التي يكون فيها أبعد من المعاصي ، فهذا تحيّل لمراد القوم إنما تمنوا حربا ليبلوا فيها بلاء حسنا.

قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(٢) روي أنه لما كان يوم أحد (٣) نادى مناد : قتل محمّد ، فقال قوم : علام نقاتل وقد قتل رسول الله؟! فأنزل الله ذلك (٤) ، والإشارة بالمعنى إلى ما قال أبو بكر لما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان يعبد محمدا فإنه قد مات ، ومن كان

__________________

ـ البيان (٧ / ٢٤٨). وانظر : تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٢).

(١) قال القرطبي : «وتمني الموت يرجع من المسلمين إلى تمني الشهادة ، المبنية على الثبات والصبر على الجهاد ، لا إلى قتل الكفار لهم ، لأنه معصية وكفر ولا يجوز إرادة المعصية. الجامع (٤ / ٢٢١).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٤.

(٣) أحد : اسم الجبل الذي كانت عنده غزوة أحد ، وهو جبل أحمر بينه وبين المدينة قرابة ميل في شماليها. معجم البلدان (١ / ١٠٩).

(٤) رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٢٥٣ ـ ٢٥٨) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٧٧٧ ، ٧٧٨) ، وانظر : الدر المنثور للسيوطي (٢ / ١٤٣).

٥٧

يعبد الله فإن الله حي لا يموت (١) ، أيها القوم إن الله قد نعى إليكم نبيكم» ثم تلا الآية (٢) ، ولفظ الاستخبار يتناول : (انْقَلَبْتُمْ ،) وقوله : (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) تعريض بهم بأنهم يضرون أنفسهم (٣). إن قيل : كيف تعلق قوله : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) بما قبله؟ قيل : إن ذلك قضية حذف بعضها ، تقديرها : ومن أحسن يجزه الله ، فإنه سيجزي الشاكرين (٤).

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(٥). اللام في قوله : (وَما كانَ

__________________

(١) أشار إلى هذا المعنى القشيري. وانظر : لطائف الإشارات (١ / ٢٩٤).

(٢) أخرجه البخاري ـ كتاب المغازي ـ باب «مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووفاته» رقم (٤٤٥٤). والبيهقي في السنن الكبرى (٨ / ١٤٢) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (٣ / ٧٢٨) ، وليس في هذه المصادر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا الآية.

(٣) انظر : جامع البيان (٧ / ٢٥٢) ، تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٦٣) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٢٦) ، والبحر المحيط (٣ / ٧٥).

(٤) قال البقاعي : فالآية من الاحتباك : أثبت الانقلاب وعدم الضر أولا دليلا على حذف ضده ثانيا. والجزاء ثانيا دليلا على حذف مثله أولا. نظم الدرر (٢ / ١٦٢).

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٥.

٥٨

لِنَفْسٍ) على سبيل نسبة الانفعال إلى المنفعل ، كقولك : الموت للنفس والنسج للثوب (١) ، ولما توهّم المنافقون أن القتل غير الموت ، وأن الإنسان سيجد سبيلا إلى الخلاص منه ، ولم يتصوروا تقدير الله وأن ذلك مقضي لا انفكاك منه ، حتى قالوا : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا)(٢) ، بين تعالى أن الموت شيء مقضي محكوم به ، وهذا معنى (كِتاباً مُؤَجَّلاً)(٣) ، فلا تأخير له ، ودلّ على ذلك بآيات الله ، نحو قوله تعالى : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)(٤) وقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٥) ، وقوله : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ)(٦)

__________________

(١) يبدو أن المؤلف أراد أن اللام في هذه الآية للتبيين. وإن لم يصرح بذلك. لأن مثاله يقرب من بعض الأمثلة التي أوردها النحويون للتبيين ، ومنها : جدعا له وسحقا له. وكون اللام للتبيين صرّح به النحاس ومكي وأبو حيان. انظر : اللامات ص (١٢٩ ـ ١٣٥) ، وإعراب القرآن للنحاس (١ / ٤١٠) ، ومشكل إعراب القرآن (١٧٥) ، والبحر المحيط (٣ / ٧٦) ، ومغني اللبيب (٢٩١ ـ ٢٩٣).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٨.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٥.

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ١٦.

(٥) سورة النحل ، الآية : ٦١.

(٦) سورة النساء ، الآية : ٧٨.

٥٩

وقوله في هذه السورة : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا)(١) وعلى ذلك قول الشاعر :

 ...

أن الفرار لا يزيد في الأجل (٢)

ولما كان أكثر الأعمال مشتبه الصور ، وإنما يتميز الخبيث من الطيب بالنيات ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأعمال بالنيّات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» (٣) الخبر. والمجاهد في سبيل الله ثلاثة : إما قاصد به الآخرة غير ملتفت إلى الدنيا ؛

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٥٤.

(٢) قبله :

قد علم المتأخرون في الوهل

إذا السيوف عرّيت من الخلل

وهو في حماسة أبي تمام (١ / ٣٤١) بدون نسبة. وفي هامشها : «ونسبت» في لباب الآداب (٢٠٧) لشبل الفزاري. وفي مجموعة المعاني (٣٦) بدون عزو.

(٣) رواه البخاري في كتاب ـ بدء الوحي ـ باب «كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رقم (١). ورواه مسلم في كتاب ـ الإمارة ـ باب «قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال بالنية» وأنه يدخل في الغزو وغيره من الأعمال ، رقم (١٩٠٧). ورواه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب : «فيما عنى به الطلاق والنيات» رقم (٢٢٠١). والترمذي في كتاب ـ فضائل الجهاد ـ باب «ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا» رقم (٤٦٤٦). وابن ماجه في كتاب ـ الزهد ـ باب «النية» رقم (٤٢٢٧). وأحمد في المسند (١ / ٢٥) ، والبيهقي في سننه (١ / ٤١ ، ٢١٥ ، ٢٩٨) ، والحميدي رقم (٢٨).

٦٠