تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

ارتكاب المحارم ، وزمّوها (١) عن احتقاب المآثم (٢) إن لم تقدروا على الأول ، ثم عيّرهم بقولهم : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ)(٣) ، أي لو صادفنا من أنفسنا منكرا لارتسمنا ما رسمتم ، تنبيها أنه خفي عليهم عيوب أنفسهم (٤) ، وقوله : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) تنبيه على نفاقهم ؛ وذاك أن المنافق كأنّه بين الكافر والمؤمن ، فإنه من حيث ما يظهر الشهادتين ، ويلتزم ظواهر الشريعة بالقول ، وظواهر الأعمال محكوم له بالإيمان ، ومن حيث يتحرى في اعتقاده تحري الكفار كافر ، وبين أحوال المنافقين تفاوت ، بيّن تعالى بهذا القول أنهم في هذا القول بالكفار أشبه منهم بالمسلمين (٥) ،

__________________

(١) زموها : أي شدوها. انظر القاموس ص (١٤٤٤). والمعنى هنا : امنعوها.

(٢) قال ابن فارس : «... ومنه : احتقب فلان الإثم ، كأنه جمعه». مجمل اللغة ص (١٧٩).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٧.

(٤) مرادهم : أننا لو نعلم أن ما أنتم مقدمون عليه يصح أن يسمى قتالا لوافقناكم عليه ولخرجنا معكم ، ولكنكم تلقون بأيديكم إلى التهلكة. انظر : الوسيط (١ / ٥١٨) ، والكشاف (١ / ٤٣٧) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٠٥).

(٥) قال السمعاني : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) يعني بعد رجوعهم ومقالتهم تلك ؛ لأنهم كانوا من قبل من المؤمنين في الظاهر وإن كانوا منافقين في الباطن ، فلما فارقوا المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان» تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٧٧) ، وانظر : جامع البيان (٧ / ٣٧٩) ، والوسيط (١ / ٥١٨) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٠٥) ،

١٤١

وأقرب : قيل : هو من القرب (١) وقيل : من القرب من الماء (٢) ، ثم بيّن تعالى علّة قربهم من الكفر ، فقال : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ،) تنبيها أن الاعتبار في الإيمان المستحق به الثواب بالنيات والضمائر ، لا بالأقوال المجردة عن الاعتقاد ، ولهذا شهد للمنافقين في قولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)(٣) بالكذب ، فقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ)(٤) ، وحكم لمن تلفظ بالكفر من غير مطابقة الاعتقاد (٥) له بالإيمان ، فقال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٦) ، ثم حذّرهم عن اعتقاد غير الحق بقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ)(٧) ، كقوله : (أَنَّ اللهَ

__________________

ـ والبحر المحيط (٣ / ١١٥).

(١) قال ابن عطية : وذهب جمهور المفسرين إلى أن قوله (أقرب) مأخوذ من القرب ضد البعد. المحرر الوجيز (٣ / ٢٩١). وانظر : البحر المحيط (٣ / ١١٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٧٧).

(٢) القرب في الماء : أي الطلب في الماء. ومنه القارب : طالب الماء. وهذا القول حكاه النقاش عن بعض المفسرين. انظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٩١) ، والبحر المحيط (٣ / ١١٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٧٨).

(٣) سورة المنافقون ، الآية : ١.

(٤) سورة المنافقون ، الآية : ١.

(٥) في الأصل (الاعتماد) والصواب ما أثبته.

(٦) سورة النحل ، الآية : ١٠٦.

(٧) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٧.

١٤٢

يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)(١) ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)(٢) وقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ)(٣) ، وهذه الآية كالشرح لما أجمله في الأولى ، حيث قال : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(٤).

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا)(٥) الآية.

هذه الآية من تمام صفة المنافقين عبد الله بن أبّي وأصحابه ، قالوا : إن قتلى أحد لو أطاعونا في التأخّر عن القتال ولزموا بيوتهم ما قتلوا ، وإعراب (الَّذِينَ :) إما نصب على البدل من الذين نافقوا ، أو (٦) رفع على خبر الابتداء المضمر ، أو (٧) بدل من الضمير في «يكتمون» (٨). إن قيل : لم أخّر ذكر القعود عن القول

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٥.

(٢) سورة طه ، الآية : ٧.

(٣) سورة غافر ، الآية : ١٩.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٥.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٨. ونصها : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

(٦) تصحفت : (أو) في الأصل إلى (و) ، والصواب ما أثبته.

(٧) في الأصل : (لو) ، والصواب ما أثبته.

(٨) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٨١ ، ٣٨٢) ، وإعراب القرآن للنحاس (١ /

١٤٣

مع كونه مقدّما في المعنى؟ قيل : إن قوله : (وَقَعَدُوا) في تقدير الحال ، أي قالوا وهم قاعدون (١) ، كقولك : خرج زيد وقد ركب ، ويكون ركوبه قبل الخروج ، وقد أكذبهم الله في ذلك بقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ)(٢) وكأنه قال : القتل ضرب من الموت ، فإن كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت ، وإذ لم يمكنكم ذلك دلّ أنكم مبطلون في دعواكم (٣).

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ

__________________

ـ ٤١٨) ، ومشكل إعراب القرآن (١ / ١٧٨) ، وإملاء ما منّ به الرحمن ص (١٥٧) ، والبحر المحيط (٣ / ١١٦) ، والدر المصون (٣ / ٤٧٩).

(١) أجاز أبو البقاء كون الواو حالية وأن تكون عاطفة لقعدوا على : قالوا.

انظر : إملاء ما منّ به الرحمن ص (١٥٧) ، وقال السمين الحلبي : قوله : (وقعدوا) يجوز في هذه الجملة وجهان أحدهما : أن تكون حالية من فاعل (قالوا) و (قد) مرادة أي : وقد قعدوا ... والثاني : أنها معطوفة على الصلة ، فتكون معترضة بين (قالوا) ومعمولها وهو : (لو أطاعونا) الدر المصون (٣ / ٤٧٩). وانظر : البحر المحيط (٣ / ١١٦) ، وروح المعاني (٤ / ١٣٠).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٦.

(٣) انظر : جامع البيان (٤ / ٢٦٧) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٧٨) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٩٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٠٦) ، والبحر المحيط (٣ / ١١٧) ، وروح المعاني (٤ / ١٣٠ ، ١٣١).

١٤٤

عِنْدَ رَبِّهِمْ)(١) الآية.

روي عن ابن عباس والحسن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في / أجواف طير خضر ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من أثمارها ، وتأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلّغ إخواننا عنّا : أنّا أحياء في الجنّة ، نرزق ، كي لا ينكلوا (٢) عن الحرب؟ فقال تعالى : أنا أبلّغهم عنكم ، فأنزل هذه الآية» (٣) ، فدل ذلك أن الأرواح أحياء تثاب وتعاقب قبل أن تعاد إلى الأجسام يوم القيامة ، وعلى هذا قال في صفة آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا)(٤) ، ودلّ عطف قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٩. ونصّها : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

(٢) ينكلوا : يجبنوا ويتأخروا. انظر : المصباح المنير ص (٢٣٩).

(٣) حديث ابن عباس رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٣٨٥) ، وابن المنذر في تفسيره (ق ٨٧ / ٢) ، وأبو داود في كتاب الجهاد ، باب «فضل الشهادة» رقم (٢٥٢٠). والإمام أحمد في المسند (١ / ٢٦٦) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٨٨) وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي ، والبيهقي في الدلائل (٣ / ٣٠٤). وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٢ / ٣٢٣) وذكر تصحيح الحاكم لإسناده. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٦٨) وعزاه إلى ما تقدم وزاد : هنادا وعبد بن حميد ، وأما حديث الحسن فلم أجده في شيء من الكتب الستة بهذا اللفظ.

(٤) سورة غافر ، الآية : ٤٦.

١٤٥

فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(١) أن عرضهم على النار قبل يوم القيامة ، وروي : «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بكرة وعشية ، فيقال : هذا مقعدك حتى تبعث إليه» (٢) ، وهذا قول السلف (٣) وأصحاب الحقائق (٤) ، الذين عرفوا حقيقة الروح المعنيّة ها هنا ، وكونه جوهرا (٥) ...

__________________

(١) سورة غافر ، الآية : ٤٦.

(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز ، باب «الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي» رقم (١٣٧٩). ورواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب «عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه» رقم (٢٨٦٦). ورواه النسائي في كتاب الجنائز ، باب «وضع الجريد على القبر» (٤ / ١٠٧).

(٣) السلف : مصطلح يطلق على الأئمة المتقدمين من أصحاب القرون الثلاثة الأولى المباركة والتابعين وتابعيهم ، وكل من التزم بعقائد وفقه وأصول أولئك الأئمة ، كان منسوبا إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأزمان والأمكنة.

انظر : موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود (١ / ٤٠ ـ ٤١) ، ومعالم الانطلاقة الكبرى لمحمد بن عبد الهادي المصري ص (٥٧).

(٤) أهل الحقائق المقصود بهم الصوفية. انظر : المعجم الصوفي د. الحفني ص (٧٨).

(٥) الجوهر عند المتكلمين : ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضع ، وهو منحصر في خمسة : هيولي وصورة وجسم ونفس وعقل ، وهو ينقسم إلى بسيط روحاني كالعقول والنفوس المجردة ، وإلى بسيط جسماني كالعناصر ، وإلى مركب في العقل دون الخارج كالماهيات الجوهرية المركبة

١٤٦

له بذاته قوام (١) ، وأما متأخرو المعتزلة الذين لم يتجاوزوا منزلي الحسّ والوهم ، ولم يروا الروح إلا ريحا أو عرضا (٢) ، فبعضهم

__________________

ـ من الجنس والفصل وإلى مركب منهما كالمولدات الثلاث. انظر : التعريفات للجرجاني ص (٩٢ ، ٩٣).

(١) قال الإمام ابن القيم بعد أن حكى بعض الأقوال الباطلة : «فإذا عرفت هذه الأقوال الباطلة ، فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه ، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعّمة أو معذّبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ، ويحصل له معها النعيم أو العذاب ، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد ، وقاموا من قبورهم لربّ العالمين ...» الروح ص (١٥٥) وكان قد قال قبل ذلك : «والصواب أن يقال : موت النفوس هي مفارقتها لأجسادها ، وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل ، وتصير عدما محضا فهي لا تموت بهذا الاعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب» الروح ص (١١٧). وانظر : نظم الدرر (٤ / ٤٢٠) عند تفسير قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). [الإسراء : ٨٥].

(٢) العرض : عبارة عن معنى زائد على الذات أي ذات الجوهر يجمع على أعراض. الكليات ص (٦٢٤) ، وقد ردّ ابن القيم رحمه‌الله على من قال : إن الروح عرض من الأعراض ، وبين مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك ، وأنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل ، وتخرج وتذهب وتجيء وتتحرك وتسكن ، وعلى هذا أكثر من مائة دليل. ثم قال رحمه‌الله : «وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الملك يقبضها ، فتأخذها الملائكة من يده ، فيوجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، أو

١٤٧

قال : يعني أحياء يوم القيامة ، ووصفهم بذلك في الحال لقرب القيامة عند الله ، كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ)(١) ، ومعنى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في علم الله ، وبعضهم قال : أحياء بالذكر ، وبعضهم قال : أحياء بالإيمان (٢) ، وإرادة هذه المعاني بالآية غير ممتنعة ، فإن المؤمنين أحياء بكل ذلك ، كما قالوا ، ولكنهم مع ذلك أحياء بالأرواح على ما ورد به الخبر ، وزعمهم أن ما ورد من الأخبار في أرواح الشهداء ليس بصحيح ، فإن العقل لا يقتضي ذلك ، فهم إن عنوا العقول الصدئة التي عناها من قال : فلان لم

__________________

ـ كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ؛ والأعراض لا ريح لها ، ولا تمسك ، ولا تؤخذ من يد إلى يد» الروح ص (١٢٤ ـ ١٢٦).

(١) سورة النحل ، الآية : ١.

(٢) وحاول بعض المعتزلة تخصيص ذلك ، فقال القاضي عبد الجبار : «وربما قيل في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) : كيف يصح ذلك وقد قتلوا وماتوا؟ وجوابنا أن المراد شهداء أحد ، بين تعالى أنه قد أحياهم ، فلا ينبغي أن يظن فيهم أنهم أموات ...» تنزيه القرآن عن المطاعن ص (٨٣) ، ويبدو أن المعتزلة مضطربون في هذا الموضع ، فما حكاه الراغب عن بعض متأخري المعتزلة يخالف ما قاله القاضي عبد الجبار ، وكلاهما مخالف لما قاله الزمخشري الذي قرر أن جميع الشهداء أحياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي مقربون عنده ذوو زلفى ، (يُرْزَقُونَ) مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون ، وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله. انظر : الكشاف (١ / ٤٣٩).

١٤٨

يؤت من العقل إلا مقدار ما يلزم به حجة الله فقد صدقوا ، وإن عنوا العقول المجلوة السليمة من درن الهوى المعنيّة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(١) ، وبقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٢) فليس كما ظنّوا. ومن زعم أن القول بحياة الأرواح يؤدّي إلى القول بالرجعة (٣) فوهم فاسد ، ولئن كان ذلك يؤدي إلى ما قالوه فإحياء الله من وصفهم بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)(٤)

__________________

(١) سورة ق ، الآية : ٣٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٢١.

(٣) قال ابن الأثير : «والرجعة : مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم ، ومذهب طائفة من فرق المسلمين من أولي البدع والأهواء يقولون : إن الميت يرجع إلى الدنيا ويكون فيها حيّا كما كان ، ومن جملتهم طائفة من الرافضة يقولون : إن عليّ بن أبي طالب مستتر في السحاب ... ويشهد لهذا المذهب السوء قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] يريد الكفار نحمد الله على الهداية والإيمان» النهاية (٢ / ٢٠٢). ويرى بعض المتخصصين أن كثيرا من فرق الشيعة يقولون بالرجعة ويتواصون بكتمانها وعدم التصريح باعتقادها. انظر : أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية عرض ونقد. رسالة دكتوراه. للدكتور ناصر القفاري (٢ / ٩٤١ ، ٩٤٦).

(٤) سورة البقرة جزء من الآية ٢٤٣. ونصّها : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

١٤٩

الآية ، وإحياء عيسى الأموات أكثر تأدية إليه ، وأما على طريقة المتصوفة المذكورة في قوله : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا)(١) فإنهم قالوا : لما كان الإنسان مركبا من بدن وروح ، والعقل تابع للروح ، والهوى تابع للبدن ، وبتوهين أحدهما تقوية الآخر ، نبّه تعالى أن [من](٢) جاهد نفسه ، وقتل هواه في سبيل الله فلا تحسبنّه ميتا ، وعلى هذا قيل : قتل النفس في الدنيا حياة الآخرة (٣) ، إن قيل : لم وصفهم بالفرح (٤) ، وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)(٥)؟ قيل : الفرح تجاوز الحد في السرور بالملاذّ (٦) ، ولما كانت

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٦٧.

(٢) ساقطة من الأصل ، والسياق يقتضيها.

(٣) قال القشيري : الحياة بذكر الحق بعد ما تتلف النفوس في رضاء الحقّ أتم من البقاء بنعمة الخلق مع الحجبة عن الحق. ويقال : إن الذي وارثه الحيّ الذي لم يزل فليس بميت وإن قتل :

إذا كان العبدان للموت أنشئت

فقتل امرئ في الله لا شك أفضل

لطائف الإشارات (١ / ٣٠٨).

(٤) في قوله تعالى : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) آل عمران : ١٧٠.

(٥) سورة القصص ، الآية : ٧٦.

(٦) قال في المفردات : الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة ، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية ... ولم يرخص في الفرح إلا في قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) [الروم : ٤]. المفردات ص (٦٢٨).

١٥٠

الملاذّ الدنيوية غير متنافس فيها ذمّ الفرحين بها ، ولما كانت الملاذّ الأخروية متنافسا فيها ، كما قال : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(١) أباح لهم الفرح بها ، حتى قال : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)(٢).

وأما استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم ، فتنبيه أنهم يعرفون نعمة الله بالموت والقتل في سبيله ، ويسرون إذا أخبروا بقتل أو موت إخوانهم بخلاف أبناء الدنيا (٣) ، وقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) متضمن لذكر كل شيء يكدر الحياة ، فإن ما يعرض في الدنيا : إما خوف لوقوع محذور ، أو حزن لفوت محبوب ، والضمير في : (عَلَيْهِمْ) يجوز أن يكون ضميرا للذين لم يلحقوا بهم ، وأن يكون للمستبشرين ، وأن يكون لهما ، إن قيل : / لم رفع (أَحْياءٌ) ونصب (فَرِحِينَ؟) قيل : لأن (فَرِحِينَ) حال للذين قتلوا ، والنصب به أولى ، و (أَحْياءٌ) استئناف ، ولو نصب لكان معناه : بل احسبهم أحياء ، ولم يرد ذلك ، وإنما أرادبتّ الحكم بكونهم أحياء (٤).

__________________

(١) سورة المطففين ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة يونس ، الآية : ٥٨. وانظر : البحر المحيط (٣ / ١١٩).

(٣) انظر : جامع البيان (٧ / ٣٩٥) ، والوسيط (١ / ٥٢١) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٧٩) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٣٥) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٩٥) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٧٥) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٤).

(٤) قال الزجاج : «القراءة بالرفع (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ). ولو قرئت : بل

١٥١

قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ ..)(١). الآية.

إن قيل : ما الفرق بين النعمة والفضل هاهنا؟ قيل : الإشارة بهما إلى المذكورين في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)(٢) ، فالنعمة هي الحسنى والفضل هاهنا الزيادة (٣) ، إن قيل : لم نكّرهما؟ قيل : التنكير في مثله على وجهين : أحدهما : ليدل على بعض غير معين ، والثاني : قصد إلى إبهام المراد تعظيما لأمره ، وتنبيها أنه

__________________

ـ أحياء عند ربهم لجاز المعنى : أحسبهم أحياء ...» معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٨٨). وقد ردّ أبو علي الفارسي على الزجاج في هذا التجويز ، وقال :

لا يجوز ذلك ، لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة. انظر : البحر المحيط (٣ / ١١٨) ، والدر المصون (٣ / ٤٨٢). وممن أجاز النصب في قوله : «أحياء» العكبري ، وذكر أنها قراءة. انظر : إملاء ما منّ به الرحمن ص (١٥٧).

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٧١. ونصّها : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).

(٢) سورة يونس ، الآية : ٢٦.

(٣) قال أبو هلال : «الفضل : الزيادة» وقال في معنى الإفضال : «وهو كالإنعام في وجوب الشكر عليه ، وأصله الزيادة في الإحسان». انظر : الفروق ص (٢١٤) ، وتهذيب اللغة (١٢ / ٤٠). وقد ذكر هذا المعنى : أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ١٢١) ، ويبدو أنه أخذه من الراغب لتشابه عباراته مع عبارات الراغب. والبيضاوي في أنوار التنزيل (١ / ١٩٠).

١٥٢

يصعب إدراك شرحه (١) ، وكأن التنكير في هذا إشارة إلى نحو ما قال : «فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت» (٢) إن قيل : ما حقيقة (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣)؟ قيل : لما كان من الأعمال التي صورتها في الدنيا صورة العبادات التي يستحق بها الثواب ما هو في الحقيقة غير عبادة يستحق بها الأجر ، وإياها قصد بقوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)(٤) بيّن هاهنا أن عمل المؤمنين لا يجري مجرى أعمال هؤلاء. إن قيل : ما الفرق بين الإفضال والإحسان؟ قيل : كلاهما اسم الزيادة على فعل العدالة ، وتجاوز ما يجب إلى ما يستحب ، لكن الإحسان يقال باعتبار جمال الفعل في نفسه وتحرّي تحسينه ، والإفضال يقال باعتبار فعل بفعل أو فاعل ، فيقال للزائد على الإجزاء فاضل (٥).

__________________

(١) ذكر أبو حيان هذا الكلام بتمامه في البحر المحيط (٣ / ١٢١) ، ولم يشر إلى الراغب. وانظر معاني التنكير في : الإيضاح ص (٥٠ ـ ٥٣) ، وشرح التلخيص لمحمد هاشم ص (٦٢).

(٢) تقدم تخريجه ص (٨٥٦).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٧١.

(٤) سورة الفرقان ، الآية : ٢٣.

(٥) فرق العسكري بين الإفضال والإحسان بنحو هذا التفريق ، فقال : «الفرق بين «الإحسان» و «الإفضال» أن الإحسان : النفع الحسن ، والإفضال : النفع الزائد على أقل المقدار ، وقد خصّ الإحسان بالفضل ، ولم يجب مثل

١٥٣

[...](١) ، فالاستجابة لله وللرسول ، وإن جمع بينهما في الإيجاب فالواجب بالقصد الأول استجابة الله ، لكن لمّا لم تتم استجابته إلا باستجابة رسوله صار ذلك واجبا ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، والاستجابتان مختلفتان ، فإن استجابة الله بتوحيده وعبادته ، واستجابة رسوله بتلقي الرسالة عنه وقبول النصح منه (٢).

قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)(٣) الآية.

__________________

ـ ذلك في الزيادة ، لأنه جرى مجرى الصفة الغالبة ، كما اختصّ النجم بالسّماك ولا يجب مثل ذلك في كل مرتفع» الفروق ص (٢١٧) ، وكان العسكري قد ذكر قبل ذلك أن أصل الإفضال : الزيادة في الإحسان.

الفروق ص (٢١٤). وانظر : المفردات ص (٢٣٦ ، ٢٣٧ ، ٦٣٩).

(١) سقط قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) سورة آل عمران الآية ١٧٢ ، وكذلك بداية تفسير الراغب لها.

(٢) قال أبو حيان : «قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى الله بالتوحيد والعبادة ، وللرسول بتلقي الرسالة منه والنصيحة له. والظاهر أنها استجابة واحدة وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول ...» البحر المحيط (٣ / ١٢٢).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٣. ونصّها : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

١٥٤

قيل : سبب نزول ذلك أن أبا سفيان وأصحابه تقدموا إلى نعيم ابن مسعود (١) ورضخوا (٢) له شيئا ، وقالوا : إذا مررت بمحمد وأصحابه ، فقل : إنا قد أجمعنا على قصدهم بخيل لا قبل لهم بها ، فلما أتاهم ، وقال لهم ذلك ، قالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل (٣). إن قيل : لم : (قالَ لَهُمُ النَّاسُ) وإنما قال ذلك رجل واحد؟ قيل : لمّا كان القائل لنعيم أبا سفيان وأصحابه المعبّر عنهم بقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) سمي المنبّىء عنهم بذلك (النَّاسُ ،) تنبيها أن المخوّفين في الحقيقة هم المخوّف منهم ، والآية وإن نزلت فيهم

__________________

(١) نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف الأشجعي صحابي مشهور ، أسلم في غزوة الأحزاب ، وفيها خذّل المشركين ، وأوقع بينهم وبين بني قريظة حتى صرفهم الله عن المدينة ، توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه ، وقيل في أول خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر : الإصابة (٣ / ٥٦٨) وتقريب التهذيب ص (٥٦٥).

(٢) رضخوا : الرضخ : العطاء ليس بالكثير. انظر مجمع اللغة ص (٢٨٦).

(٣) رواه ابن سعد في الطبقات (٢ / ٥٩ ، ٦٠). والواقدي في مغازيه (٢ / ٤٨٠ ـ ٤٨٣) ، والذهبي في تاريخ الإسلام ، قسم المغازي ص (٢٢٦ ، ٢٢٧) ، وعبد الرزاق في المصنف (٥ / ٣٦٨ ، ٣٦٩) ، والبيهقي في الدلائل (٣ / ٤٤٥ ، ٤٤٦) ، وانظر الخبر في : جامع البيان (٧ / ٤٠٩ ـ ٤١١) ، وأسباب النزول ص (١٣٢) ، والوسيط (١ / ٥٢٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١٠).

١٥٥

فالمعنيّ بها هم ومن جرى مجراهم (١) ، ونبّه بما حكى من جوابهم وفعلهم على نهاية ما يطلب من إيمان العبد وتوكله لما أظهروا قولا وفعلا ، وبيّن أنهم عادوا بنعمة وفضل في دنياهم وأخراهم في أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، لا أنهم لا يعرض لهم في الدنيا ما يحزن ويخوّف من سوء ، ولكن لا يؤثر فيهم ، والمقصود بهذه النعمة والفضل أعظم مما قال بعض المفسرين من أن المسلمين لما حضروا بدرا الصغرى (٢) ، ولم يحضروا للموعد صادفوا بها سوقا ،

__________________

(١) قال النيسابوري : «... وإنما عبّر عن الإنسان الواحد بالناس ، لأنه من جنس الناس ... ولأن الواحد إذا قال قولا وله أتباع يقولون مثل قوله ويرضون به ، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل كقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) [البقرة : ٧٢] ، وحين قال نعيم ذلك القول لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه» تفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١١) ، وانظر : الوسيط (١ / ٥٢٢) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٣٨). ومن العلماء من جعل (الناس) الأولى : ركب عبد القيس ، والثاني : عسكر قريش على ما جاء في بعض روايات ابن إسحاق. انظر : السيرة النبوية لابن هشام (٣ / ١٥١) وسبل الهدى والرشاد للصالحي (٤ / ٣١١) والمحرر الوجيز (٣ / ٢٩٧) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٧٩) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٩٠).

(٢) قول الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، وذهب مجاهد إلى أنها في غزوة بدر الصغرى. قال ابن عطية : «وشذ مجاهد رحمه‌الله فقال : إن هذه الآية من قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى قوله : (فَضْلٍ عَظِيمٍ) إنما نزلت في خروج النبي عليه‌السلام إلى بدر الصغرى ... والصواب

١٥٦

فاشتروا ما ربحوا فيه ، فكان ذلك هو الفضل والنعمة (١) ، فإن أرباح التجارة الدنيوية أدون من أن يكون مقتصرا عليها في مقابلة المتوكلين على الله ، الراضين عن الله تعالى ، المرضي عنهم (٢) ، وقوله (رِضْوانَ اللهِ) يجوز من حيث تقدير الكلام : أن يكون على معنى ،

__________________

ـ ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد». المحرر الوجيز (٣ / ٢٩٨ ، ٢٩٩) ، وقال ابن كثير : «... وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد أن هذا السياق نزل في شأن غزوة حمراء الأسد ، وقيل : نزلت في بدر الموعد ، والصحيح الأول». تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٦) وانظر : معالم التنزيل (٢ / ١٣٦) ، والتفسير الكبير (٩ / ٧٩) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٤) ، وانظر آراء المفسرين حول سبب نزول هذه الآية في : النكت والعيون (١ / ٤٣٨) ، والوسيط (١ / ٥٢٢) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٨١) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٢٧) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٩١) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١١٤).

(١) التي في قوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران : ١٧٤]. وهذا الذي ذكره هو ما قاله ابن جرير ، وهو ما رواه عن مجاهد والسدي ، وهو قول عامة المفسرين.

انظر : جامع البيان (٧ / ٤١٤ ، ٤١٥) ، وبحر العلوم (١ / ٣١٧) ، والوسيط (١ / ٥٢٣) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٨١) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٣٨) والكشاف (١ / ٤٤٢) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٩٩) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٤) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٠٧).

(٢) ذكر بعض المفسرين أن (الفضل) في الآية هو الثواب. انظر : زاد المسير (١ / ٥٠٦) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٥).

١٥٧

أن رضي الله عنهم ، وأن يكون على أن رضوا عن الله ، / فإن من رضي عن الله فقد رضي الله عنه (١) ، ولهذا قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(٢) وذكر تعالى في الآيات الثلاث ثلاث فرق ، بعضهم أخصّ من بعض ، وذاك أن المؤمنين المستجيبين لله عام ، والذين أحسنوا واتقوا [أخصّ](٣) ، فجعل تعالى للمستجيب لله أجرا غير معيّن ، وللمحسن المتقي في ذلك أجرا عظيما ، وهذا شبيه بما تقدم في قوله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(٤) ، (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٥).

قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ)(٦) الآية.

إن قيل : إلى ما ذا أشار بقوله : (ذلِكُمُ)؟ قيل : فيه أقوال : الأول : أنّه إشارة إلى من قال : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)(٧)

__________________

(١) قال ابن جرير : (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) يعني بذلك أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك ، واتباعهم رسوله إلى ما دعاهم إليه من اتباع أثر العدو وطاعتهم» جامع البيان (٧ / ٤١٤). وقال غيره : (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى واحد. انظر : الوسيط (١ / ٥٢٣) ، والتفسير الكبير (٩ / ٨٢).

(٢) سورة المائدة ، الآية : ١١٩.

(٣) غير موجود بالأصل ، والسياق يقتضيه.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٦.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٨.

(٦) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٥. ونصّها : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(٧) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٣.

١٥٨

فسمّاه شيطانا لمشابهته في فعله (١) ، والثاني : أنه إشارة إلى الشيطان المتعارف بين الناس ، أي الشيطان الذي عرفتموه هو الذي يخوّف (٢) ، والثالث : إشارة إلى ما دلّ عليه قوله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا)(٣) ، أي ذلك العارض الذي هو الوهن والحزن شيطان (٤) : كقول الشاعر :

ما ليلة الفقير إلا شيطان (٥)

 ...

__________________

(١) ذكر ذلك ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٤١٦) ، ورواه عن ابن إسحاق ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٢٠) عن ابن عباس قال : فجاء الشيطان يخوف أولياؤه فقال : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ). وانظر بحر العلوم (١ / ٣١٧) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٨١) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٣٩) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٨٣) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٥) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٩١).

(٢) قال الزجاج : «وذلك التخويف الذي كان فعل الشيطان ...» معاني القرآن وإعرابه (١ / ٤٩٠) ، وانظر : جامع البيان (٧ / ٤١٧) ، وبحر العلوم (١ / ٣١٧) ، والنكت والعيون (١ / ٤٣٨) ، والوسيط (١ / ٥٢٣) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٨١ ، ٣٨٢) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣١١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٢٥) ، وأنوار التنزيل (١ / ١٩١).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٩.

(٤) هذا القول بعيد ، لطول الفاصل بين قوله تعالى : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] ، وبين قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) [آل عمران : ١٣٩] ، وكذلك فإني لم أجد لهذا القول ذكرا في شيء من كتب التفسير التي بين يديّ.

(٥) الرجز للشمّاخ بن ضرار وهو في ديوانه ص (٤١٣) ، وانظر : اللسان

١٥٩

وأمّا (أَوْلِياءَهُ) فقد قال ابن عباس : معناه : يخوفكم أولياءه (١) ، فعلى هذا حذف المفعول الأول ، كقوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً)(٢) وقولهم : فلان يعطي الدراهم (٣) ، فالأولياء على هذا هم المخوّف بهم (٤) ، ...

__________________

ـ مادة : (شطن) والملاحن ص (٥٢) ، والدر المصون (٢ / ٦١٧) ، والمفردات ص (٤٥٥) ، وقد نسبه ابن دريد للجليخ بن شميذ. انظر : جمهرة اللغة مادة : (رفق). والفقير : مفازة بين الحجاز والشام ، وقيل غير ذلك. (١) رواه الطبري في جامع البيان (٧ / ٤١٦) بلفظ : «الشيطان يخوف المؤمنين بأوليائه». وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (١ / ٥٠٦) وقال : هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وإبراهيم وابن قتيبة. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ١٨٢) وعزاه لابن جرير الطبري. وقال ابن تيمية : «هذا هو الصواب الذي عليه جمهور المفسرين كابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والنخعي ، وأهل اللغة كالفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ، وابن الأنباري». دقائق التفسير (١ / ٣٠٥).

(٢) سورة الكهف ، الآية : ٢. قال ابن قتيبة : أي لينذركم ببأس شديد. وقال الطبري : بمعنى : لينذركم بأسه الشديد. انظر : غريب القرآن لابن قتيبة ص (١١٦) ، وجامع البيان (٧ / ٤١٧).

(٣) قال الطبري : «هو يعطي الدراهم ويكسو الثياب» بمعنى : هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب. فحذف ذلك للاستغناء عنه». جامع البيان (٧ / ٤١٧).

(٤) انظر : معاني القرآن للفراء (١ / ٢٤٨) ، وغريب القرآن ص (١١٦) ،

١٦٠