تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

صقل العقل ، وقمع الشهوة ، وكلّ أمر ونهي فذريعة إليهما ، صار اتباع الشهوة سبب كل مذمة ، فلذلك عبر بمتبع الشهوات عن الفاسق والكافر ، وعلى هذا قوله : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ)(١) ، فإن قيل : فليس اتباع الشهوات مذموما في كل حال ، بل منها ما هو محمود ، قيل : قد قال بعض المتكلمين (٢) وبعض المفسرين : عنى بذلك بعض الشهوات (٣) ، وقال بعضهم : عنى من يتبع الشهوات كلها (٤) ، والصحيح أن اتباع الشهوة في

__________________

ـ ومعاني القرآن للنحاس (٢ / ٦٩) ، وأحكام القرآن للجصاص (٢ / ١٧١) ، ومدارك التنزيل (١ / ٣٥١).

(١) سورة مريم ، الآية : ٥٩.

(٢) المتكلمون : هم كلّ من انتسب إلى الكلام المذموم باعتقاده والمجادلة عنه ، وتكلم في الله وصفاته وأسمائه بما يخالف الكتاب والسنة. انظر : درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (١ / ١٧٨).

(٣) كالزنا على تفسير مجاهد والضحاك رحمهما‌الله. انظر : جامع البيان (٨ / ٢١٣) ، والنكت والعيون (١ / ٤٧٤) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٩٩) ، والمحرر الوجيز (٤ / ٨٩) ، وزاد المسير (٢ / ٦٠) ، والجامع لأحكام القرآن (٥ / ١٤٩).

(٤) وهو قول ابن زيد واختاره ابن جرير الطبري والقرطبي. انظر : جامع البيان (٨ / ٢١٤) ، والنكت والعيون (١ / ٤٧٤) ، والمحرر الوجيز (٤ / ٨٩ ، ٩٠) ، والجامع لأحكام القرآن (٥ / ١٤٩) ، والبحر المحيط (٣ / ٢٣٦).

٣٦١

كل حال مذموم ، لأن ذلك هو الائتمار لها من حيث ما دعت ، وما سوّغ من تعاطي ذلك ، فليس جواز تعاطيه من حيث دعت الشهوة إليه ، بل من حيث سوغ العقل أو الشرع ، فذلك هو اتباع لهما ، ويؤكد ذلك قوله : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(١) وقوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)(٢) وقيل : عبد الشهوة أذل من عبد الرق.

إن قيل : كيف أدخل اللام في قوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)(٣) ولم يدخله في قوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ؟)(٤) وكيف أعاد ذكر إرادته التوبة؟ ولم قال : (وَاللهُ يُرِيدُ) فقدم ذكر المخبر عنه ، ثم قال : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) فأخر المخبر عنه؟ قيل : أما إدخال اللام في الأول فلأنه عنى أنه يريد ما يريد لأجل التوبة عليهم (٥) ، وأراد بقوله أن يتوب أنه كما أراد ما هو سبب التوبة عليهم ، فقد أراد التوبة عليهم ، إذ قد يصح إرادة سبب الفعل دون الفعل نفسه ، ففي هذا ظهور فائدة اللام وحسن

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٦.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٢٦.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٢٧.

(٥) وهذا على قول البصريين كما سبق.

٣٦٢

إعادته ، واقتضى إعادته أيضا ذكر قوله : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) ليبين أن إرادة الله لكم مضادة لما يريدونه ، وأما تأخير المخبر عنه في قوله : (وَيُرِيدُ الَّذِينَ) فيجوز أنه جعل الواو للحال لا العطف ، تنبيها أنه يريد التوبة عليكم في حال ما يريدون أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين ليبين أن الثاني ليس على العطف (١) ، وتخصيص الميل العظيم هو أن الإنسان قد يترك تحري الخيرات من الإيمان والأعمال الصالحة ، إما لعارض شغل وإما لكسل ، وإما لضلالة ، وهو أن يسبق إلى اعتقاد باطل فينشأ عليه ، وإما لفسق وهو / أن يكون مع الاعتقاد يستلذ تعاطي الشر ، ومن تركه للشغل فهو أسهل معالجة ممن يتركه لكسل ، ومن تركه للكسل

__________________

(١) نقل أبو حيّان عن الراغب هذا الوجه وجعله مرجوحا فقال : «وأجاز الراغب أن تكون الواو للحال لا للعطف ، قال : تنبيها على أنه يريد التوبة عليكم في حال أن تميلوا ، فخالف بين الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى ، وتأخيره في الجملة الثانية ، ليبين أن الثاني ليس على العطف. انتهى. وهذا ليس بجيد ، لأن إرادته تعالى التوبة علينا ليست مقيدة بإرادة غيره الميل ، ولأن المضارع باشرته الواو وذلك لا يجوز ، وقد جاء منه شيء نادر ، يؤوّل على إضمار مبتدأ قبله ، لا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، لا سيما إذا كان للكلام محمل صحيح فصيح ، فحمله على النادر تعسّف لا يجوز». البحر المحيط (٣ / ٢٣٦ ، ٢٣٧) ، وانظر : الدر المصون (٣ / ٦٦١ ، ٦٦٢) حيث نقل السمين الحلبي اختيار الراغب والردّ عليه بشيء من التفصيل.

٣٦٣

فهو أسهل ممن تركه للضلال ، وكذا ما بعده (١) ، وكأنه قال : إنهم أرادوا أن يجوروا جورا عظيما ، ليكونوا أبعد من الرشاد ، والإشارة بالمعنى إلى نحو قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً)(٢) ، وعلى ذلك قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)(٣)

فإن قيل : فهلا خصّ الميل ليزيل الإشكال ، إذ الميل تارة إلى الحق وتارة إلى الباطل؟ قيل : لما كانت العدالة وسطا وكان أطرافها كلها جورا ، ولذلك سميت وسطا ، وسواء ، وعدلا ، وصراطا مستقيما ، نبّه بإطلاق لفظ الميل : أن الكفار يريدون منكم الميل عن العدالة على أي وجه كان ، إفراطا كان أو تفريطا ، وكل ذلك ضلال ، ولهذا وصّى الله تعالى بقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)(٤).

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)(٥) الآية. قوله : (يُرِيدُ

__________________

(١) ذكر أبو حيان نحوا من هذا الكلام في البحر المحيط (٣ / ٢٣٦) ، ولم ينسبه للراغب.

(٢) سورة النساء ، الآية : ٨٩.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٤٤.

(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣.

(٥) سورة النساء ، الآية : ٢٨ ، ونصّها : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً).

٣٦٤

اللهُ) في موضع الحال (١) ، كأنه قال : والله يريد أن يتوب عليكم ، مريدا أن يخفف عنكم ، وفي الآية أقوال : الأول : قول من خصّصها وحملها على ما تقدّم ، وقال : عنى أنه أباح نكاح الأمة تخفيفا عنكم ، فالإنسان ضعيف في تحيّره عن إمساك نفسه عن مشتهاه (٢) ، الثاني : أنه خفف عنكم تكلّف النظر ، وأزال الحيرة فيما بين لكم مما يجوز من النكاح (٣) ، الثالث : أنه قصد به ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جئتكم بالحنيفية السمحة» (٤) ، وما ذكره في قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ)(٥) ، والرابع : أنه تبين لكم مقصودكم وما دعيتم

__________________

(١) وهناك احتمال آخر ، وهو أن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، قال السمين الحلبي : وهو الأصح. انظر : الدر المصون (٣ / ٦٦٢). وانظر : البحر المحيط (٣ / ٢٣٧).

(٢) وهو قول مجاهد وطاوس وابن زيد. انظر : جامع البيان (٨ / ٢١٥ ، ٢١٦) ، والنكت والعيون (١ / ٤٧٤) ، والمحرر الوجيز (٤ / ٩٠) ، والبحر المحيط (٣ / ٢٣٧).

(٣) ذكره أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٢٣٧) ولم ينسبه.

(٤) رواه أحمد في المسند (٥ / ٢٦٦) وضعف العراقي إسناده كما في إتحاف السادة المتقين (٩ / ١٨٤) .. ورواه الطبراني في الكبير (٥ / ٢٥٧) ، والخطيب البغدادي في التاريخ (٧ / ٢٠٩) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٥ / ٢٧٩) ، وقال : رواه أحمد والطبراني وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف. ورواه ابن سعد في الطبقات (١ / ١٥١).

(٥) سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧. وهذا القول ذكره السمعاني في تفسير

٣٦٥

إليه من الثواب العظيم لتعرفوه ، فيخف عليكم الصبر في تحريه ، فالإنسان لا يمكنه الصبر فيما لا يعرف ثمرة الصبر فيه ، ولهذا قال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)(١) ، الخامس : يريد الله أن يخفف عنكم بما يحمّلكم من التعب ، فإن كل تعب يفضي إلى راحة عظيمة ، فذلك في الحقيقة راحة ، ولهذا قيل للرجل يتحمل تعبا عظيما في عبادة : ألا تريح نفسك؟ فقال : راحتها أريد. السادس : إنه لم يعن بالتخفيف ما يستخفه الطبع وتميل إليه النفس ، وإنما عنى ما يخف به تحمل ما يبلغنا إلى ثوابه (٢) ، وعلى نحو هذه الآية قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٣) وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٤) ، ووصف الإنسان بأنه خلق (٥) ضعيفا إنما (٦) هو باعتباره بالملأ الأعلى نحو :

__________________

ـ القرآن (١ / ٤١٨) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٢٣٧) ، ولم ينسباه.

(١) سورة الكهف ، الآية : ٦٨.

(٢) هذه الأقوال الثلاثة السابقة تتقارب وقد ذكر أبو حيان نحوا منها في البحر المحيط (٣ / ٢٣٧).

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٥.

(٤) سورة الحج ، الآية : ٦٨.

(٥) في الأصل (مخلوق) والصواب ما أثبته ، وهكذا نقله أبو حيان عن الراغب في البحر المحيط (٣ / ٢٣٧).

(٦) في الأصل (أنه) والصواب ما أثبته ، وهكذا نقله أبو حيان عن الراغب

٣٦٦

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ)(١) أو باعتباره بنفسه دون ما يقويه من فيض الله ومعونته ، أو اعتبارا بكثرة حاجاته ، وافتقار بعضهم إلى بعض ، أو اعتبارا بمبدئه ومنتهاه ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً)(٢) فأما إذا اعتبر بعقله ، وما أعطاه الله من القوة التي يتمكّن بها من خلافة الله في أرضه ، ويتبلّغ بها في الآخرة إلى جواره تعالى ـ فهو أقوى ما في هذا العالم ، ولهذا قال تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٣).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(٤) الآية. روي أنه لما نزلت هذه الآية امتنع بعضهم من أن يأكل عند غيره ، حتى نزل قوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ

__________________

ـ في البحر المحيط (٣ / ٢٣٧).

(١) سورة النازعات ، الآية : ٢٧.

(٢) سورة الروم ، الآية : ٥٤.

(٣) سورة الإسراء ، الآية : ٧٠. وقد نقل أبو حيان كلام الراغب هذا كاملا في البحر المحيط (٣ / ٢٣٧) ونسبه إليه. وعبارة (خلافة الله في الأرض) التي أطلقها الراغب فيها نظر والأسلم اجتنابها.

(٤) سورة النساء ، الآية : ٢٩ ، ونصّها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

٣٦٧

أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)(١) إلى آخر الآية (٢) ، ولم يكن نسخا / لكن تبيينا (٣) ، وقوله : (بِالْباطِلِ) إشارة إلى الوجوه التي حظر تناول المال منها ووضعه فيها ، واستثنى التجارة تنبيها على إباحة الكسب إذا كان من وجهه ، فمن نظر نظرا فقهيّا قال : ظاهرها يقتضي أن لا يجوز تناول الغير منها ، كالصّلاة والزكاة والميراث وغير ذلك ، وقال بعضهم : لم يعن بالتجارة المبايعة فقط (٤) ، بل عنى كل معاملة مباحة من قرض وفرض (٥) ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» (٦) ، ومنهم من

__________________

(١) سورة النور ، الآية : ٦١.

(٢) انظر : جامع البيان (٨ / ٢١٨) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٩٢٧) ، والنكت والعيون (١ / ٤٧٤).

(٣) قال أبو حيان : «وهو قول ابن مسعود والجمهور». البحر المحيط (٣ / ٢٤٠ ، ٢٤١) ، وانظر : الرواية عن ابن مسعود في : تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٩٢٦). وروي عن ابن عباس والحسن القول بالنسخ.

انظر : جامع البيان (٨ / ٢١٨) ، والنكت والعيون (١ / ٤٧٤) ، والبحر المحيط (٣ / ٢٤٠).

(٤) قال القرطبي : «والتجارة هي البيع والشراء». الجامع لأحكام القرآن (٥ / ١٥١).

(٥) انظر : أحكام القرآن للجصاص (٢ / ١٧٢ ، ١٧٣) ، وأحكام القرآن لابن العربي (١ / ٤٠٨) ، والبحر المحيط (٣ / ٢٤١).

(٦) رواه أحمد في المسند (٥ / ٧٢) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٦ / ١٠٠) ،

٣٦٨

عنى بذلك المنع من وضع المال وإنفاقه في غير الوجه المباح ، وقال : عنى بالتجارة الوجهة المباحة التي يحلّ صرف المال إليها (١) ، وأما من نظر نظرا أدق من ذلك ، فإنه جعل أكل المال بالباطل تناوله من حيث لا يسوّغه العقل ، ولا يجوّزه الشرع ، من استنزال الناس عما في أيديهم بالخدع ، ومساعدتهم على الباطل طمعا في نفع ، وجعل من ذلك أيضا وضعه حيث لا يجوز ، وإنفاقه رياء كما قال تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ)(٢) ، وجعل هذه التجارة هي التجارة المذكورة بقوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)(٣) الآية ، وفي قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(٤)

__________________

ـ (٨ / ١٨٢) ، والدارقطني في سننه (٣ / ٢٥) ، وابن عبد البر في التمهيد (١ / ٢٠٢). وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٤ / ١٧٥) من طريق أبي حرّة الرقاشي عن عمه يرفعه. وقال : رواه أبو يعلى وفيه أبو حرّة وثقه أبو داود وضعفه ابن معين. وانظر : مسند أبي يعلى (٣ / ١٤٠) رقم (١٥٧٠). وهذا الطريق ضعيف ولكن الحديث صحيح لوروده من طرق أخرى عن جماعة من الصحابة. انظر : إرواء الغليل (٥ / ٢٧٩).

(١) ذكر هذا الوجه البيضاوي في أنوار التنزيل (١ / ٢١١) ولم يذكر قائله.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٦٤.

(٣) سورة الصف ، الآية : ١٠.

(٤) سورة التوبة ، الآية : ١١١.

٣٦٩

الآية. وشرط فيها التراضي ، تنبيها أنه يحمد ذلك متى أنفق الإنسان في سبيل الله عن طيب نفس على الوجه الذي ينبغي وبمقدار ما ينبغي ، حسب ما بيّنه الله تعالى ، ودل على رضاه في صرفه إليه (١) ، وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) نظر إليه نظرات مختلفة ، ففسر بحسبها ، الأول : لا يقتل بعضكم بعضا (٢) ، قال : والنهي لا يصحّ إلا على هذا ، فإن الإنسان مضطر إلى أن لا يقتل نفسه ما لم تعرض له شبهة كشبهة أهل الهند (٣) في قتلهم أنفسهم ، قال : واستعار لفظ الخطاب في قوله (أَنْفُسَكُمْ) تنبيها أنه يجب أن تكون نفس كل واحد منكم عند صاحبه كنفسه (٤) ، قال : وعلى

__________________

(١) انظر : أحكام القرآن للجصاص (٢ / ١٧٣) فقد ذكر نحوا من هذا الكلام.

(٢) وهو قول السدي وعطاء بن أبي رباح. انظر : جامع البيان (٨ / ٢٢٩) ، ورواه ابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٩٢٨) عن أبي صالح وعكرمة. وقال : وروي عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعطاء وأبي سنان ومقاتل بن حيان ومطر الوراق نحو ذلك. وانظر : أحكام القرآن للجصاص (٢ / ١٨٢) ، وزاد المسير (٢ / ٦١).

(٣) أهل الهند يتوزعون على ملل شتى أشهرها : «البراهمة» وقد اشتهروا بإنكار النبوات ، كما أن أهم ما يجتمع عليه أهل الهند القول بالتناسخ حتى قال البيروني : «التناسخ علم الملة الهندية ، فمن لم ينتحله لم يك منها ، ولم يعد من جملتها». انظر : تحقيق ما للهند ص (٣٨).

(٤) انظر : جامع البيان (٨ / ٢٢٩) ، وأحكام القرآن للجصاص (٢ / ١٨٢) ،

٣٧٠

ذلك نبّه بقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ)(١) ، قال : وعلى هذا قال : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ)(٢) ، الثاني : من حمل الخطاب على ذلك لكن خصّص ، وقال : لا يأكل بعضكم مال بعض ، الذي به قوامه ، فيكون فيه قتله (٣) ، الثالث : لا يقتل بعضكم بعضا فيقتص منه فيكون كمن قتل نفسه ، الرابع : لا تقتلوا أنفسكم بضجر وغضب (٤) ، الخامس : لا تركبوا ما يؤدي بكم إلى القتل ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم (٥) ، وهذا كالرابع إلا أن مأخذه أعم منه ، السادس : قول من نظر نظرا أشرف فقال : لا تفعلوا ما يؤدي بكم إلى هلاك الأبد ، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم ، وذلك بتصريف النفس في غير ما خلقت له ، وبيّن للناس من

__________________

ـ وأحكام القرآن لابن العربي (١ / ٤١١) ، والبحر المحيط (٣ / ٢٤٢).

(١) سورة لقمان ، الآية : ٢٨.

(٢) سورة النور ، الآية : ٦١. ولم أهتد إلى صاحب هذا القول ويبدو أن الراغب يتعمد عدم ذكر اسمه.

(٣) قال أبو حيان : «ويحتمل أن يراد مجاز القتل أي : يأكل المال بالباطل ..» البحر المحيط (٣ / ٢٤٢).

(٤) ذكره الجصاص في أحكام القرآن (٢ / ١٨٢).

(٥) ذكر الجصاص نحوا من هذا القول فقال : «ويحتمل : ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال ، وذلك بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف» أحكام القرآن (٢ / ١٨٢).

٣٧١

العلم والعمل الصالح المدلول عليه بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(١) ولذلك سمى من صرف نفسه في غير ذلك خاسرا ، حيث قال : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)(٢) الآية. قال : وقتل النفس في الحقيقة ترفيهها في الدنيا ، وباعتبار الدنيا والآخرة أمر الإنسان تارة بقتل نفسه أي قمعها وتذليلها ، ونهي تارة عن قتلها ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ)(٣) ويجري مجراها في احتمال / النظرين قوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٤).

قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(٥) العدوان تجاوز العدالة بإفراط (٦) ، وذلك أن العدل هو الوسط الذي تجاوزه الإفراط والقصور عنه جميعا ، فمن حاد عنه قيل : جار ، ومن بالغ في

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦.

(٢) سورة الشورى ، الآية : ٤٥.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٨٤.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ١٩٥.

(٥) سورة النساء ، الآية : ٣٠.

(٦) انظر : جامع البيان (٨ / ٢٣١) ، وغريب القرآن ص (٣٤١) ، والمحرر الوجيز (٤ / ٩٤).

٣٧٢

الجور قيل : طغى ، ومن تخطاه بإفراط قيل : تعدّى ، وقيل لجميع ذلك : الظلم ، فالظلم أعم الأسماء (١) ، إن قيل : كيف جمع بين الظلم والعدوان ، وقدم العدوان مع كونه أخصّ من الظلم ، وحكم العام والخاص إذا اجتمعا أن يقدم العام على الخاص ، نحو قوله : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)(٢) قيل : في ذلك جوابان : الأول : أن يكون العدوان إشارة إلى الظلم الذي يتجاوزه الإنسان إلى غيره ، وعنى بالظلم ظلم النفس المعني في قوله : (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)(٣) وهو الإثم المذكور في قوله تعالى : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٤) فبيّن أن من جمع بين الأمرين فقد ظلم نفسه ، وظلم غيره ، فهو مستوجب للنار ، على هذا يكون المعني بالظلم غير المعني بالعدوان (٥) ، الثاني : أنه قدّم العدوان الذي هو أخصّ من الظلم تنبيها أن من ارتكب صغيرة ولم يقمع نفسه عنها جرّته إلى ما هو أعظم منها ، فنبه أن حق

__________________

(١) انظر : معاني القرآن وإعرابه (٢ / ٤٤) ، والزاهر (١ / ١١٦) ، وتهذيب اللغة (٨ / ١٦٧) ، والمحكم (٢ / ٢٢٧) ، و (٧ / ٣٧٦).

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٩٨.

(٣) سورة هود ، الآية : ١٠١.

(٤) سورة المائدة ، الآية : ٢.

(٥) ذكر هذا الوجه البيضاوي في أنوار التنزيل (١ / ٢١١) ، وأبو السعود في «إرشاد العقل السليم» (٢ / ١٧٠).

٣٧٣

الإنسان أن يحفظ نفسه عن الصغيرة خشية أن يقع فيما هو أعظم منها ، ومعنى الآية أن من يفعل ما نهي عنه من قتل النفس وأكل المال بالباطل وسائر ما تقدم النهي عنه فسوف يجعله صلا (١) كما قال : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)(٢).

ونبّه بقوله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أنه لا يتعذر عليه عقابهم.

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(٣) من المفسرين ـ وهو أكثرهم ـ من حمل السيئات على الصغائر ، وقال : معنى الآية : إن تجتنبوا كبائر الذنوب نكفّر عنكم صغائرها (٤) ، ثم اختلفوا على أي وجه اعتبار الصغيرة والكبيرة ، وذاك أن الصغير والكبير من الأسماء المتضايفة التي لا يعرف أحدهما إلا باعتبار الآخر ،

__________________

(١) الصّلا : اسم للوقود. لسان العرب (١٤ / ٤٦٨) ، وانظر : جامع البيان (٨ / ٢٣٠) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٤١٩) ، ومعالم التنزيل (٢ / ٢٠٠) ، والمحرر الوجيز (٤ / ٩٤).

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٤.

(٣) سورة النساء ، الآية : ٣١.

(٤) انظر : جامع البيان (٨ / ٢٥٤) ، وبحر العلوم (١ / ٣٥٠) ، والنكت والعيون (١ / ٤٧٦) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٤٢٠) ، والجامع لأحكام القرآن (٥ / ١٥٨) ، والبحر المحيط (٣ / ٢٤٣).

٣٧٤

وقال بعضهم : في الذنوب كبيرة لا أكبر منها كالشرك ، وصغيرة لا أصغر منها كحديث النفس أو همّه بسيئة ونحو ذلك ، وبينهما وسائط كل واحد بالإضافة إلى ما فوقه صغير ، وبالإضافة إلى ما دونه كبير (١) ، وقال : ومعنى الآية أن من عنّ له أمران فيهما مأثم ، واضطر إلى ارتكاب أحدهما فارتكب أصغرهما وترك أكبرهما : كمن أكره على أن يقتل مسلما ، أو يشرب قدح خمر فارتكب أصغرهما كفّر عنه ما ارتكبه ، وقال بعضهم : الذنوب كلها ضربان : ضرب : كبيرة كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، والزنا ، وضرب : صغيرة (٢) ، وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال : الصغيرة غير معلومة ، ... (٣) ، وهي كل ما علّق به وعيد في

__________________

(١) قال أبو حيان : «وذهب جماعة من الأصوليين ، منهم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وأبو المعالي ـ عبد الملك الجويني ـ وأبو نصر عبد الرحيم القشيري إلى أن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالنسبة للكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا ...» البحر المحيط (٣ / ٢٤٣). وللاستزادة في مسألة الكبيرة والصغيرة والفرق بينهما انظر : مدارج السالكين (١ / ٣٤٢ ـ ٣٥٤) ، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي (١ / ٥ ـ ١٢). والتعريفات للجرجاني ص (١٩٧).

(٢) وهذا مذهب جمهور العلماء كما ذكر أبو حيان في البحر المحيط (٣ / ٢٤٣).

(٣) هنا سقط في المخطوط لأن ما بعد النقاط هو تعريف الكبيرة وليس الصغيرة.

٣٧٥

الآخرة ، أو جعل له عقوبة في الدنيا (١) ، وبعضها غير معلوم ، قالوا : والصغائر كلها يجب أن تكون غير معلومة ، وإلا كان إغراء بالمعصية ، وذلك أن الله تعالى وعد أن يغفر بتجنّب الكبائر الصغائر ، فلو بيّنا جميعا لكان المكلّف لا يبالي بارتكاب الصغائر مع تجنب الكبائر ، فكان يؤدي ذلك إلى مفسدة (٢) ، ومنهم من قال : يجب أن يكونا معلومين ، وإلا لم يصح أن تكون الكبيرة معلومة من حيث ما هي كبيرة لما تقدم أن ذلك / من الأسماء المتضايفة ، التي لا يعرف أحدهما إلا بالآخر ، قال : فالكبائر هي

__________________

(١) وهذا قول الضحاك رواه عنه الطبري في جامع البيان (٨ / ٢٤٧) ، وذكره عن الضحاك البغوي في معالم التنزيل (٢ / ٢٠٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٢ / ٦٦) ، وقال : روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك. وذكره ابن القيم عن الضحاك في مدارج السالكين (١ / ٣٤٩). ورجح البيضاوي هذا القول في أنوار التنزيل (١ / ٢١٢).

(٢) قال النيسابوري : «والحق في هذه المسألة وعليه الأكثرون ـ بعد ما مرّ من إثبات قسمة الذنب إلى الكبير والصغير ـ أنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لما بيّن في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط ، واجترأ على الإقدام على الصغائر ، أما إذا عرف أنه لا ذنب إلا ويجوز كونه كبيرا صار هذا المعنى زاجرا له عن الذنوب كلها .. هذا ولا مانع من أن يبين الشارع في بعض الذنوب أنه كبيرة ..» تفسير غرائب القرآن (٢ / ٤٠٤).

٣٧٦

محارم الله التي علم كونها محجورة ، والصغائر ما هو متشكك فيه المعني بقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) ، وعليها دلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، وسأضرب لكم مثلا : إن الله حمى حمى ، وإن حمى الله محارمه ، ومن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه» (٢) ، فمرتكب الكبائر

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب «صفة القيامة» باب : «٦٠» رقم (٢٥١٨) وقال : حديث صحيح. ورواه النسائي (٨ / ٣٢٧) والإمام أحمد في المسند (١ / ٢٠٠) ، (٣ / ١١٢ ، ١٥٣) ، والبيهقي في الكبرى (٥ / ٣٣٥) والحاكم في المستدرك (٢ / ١٣) (٤ / ٩٩) وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه ابن خزيمة رقم (٢٣٤٨). وابن حبان رقم (٧٢٢) ، وأبو يعلى رقم (٦٧٦٢) ، والبغوي في شرح السنة رقم (٢٠٣٢) ، والطيالسي (١١٧٨) ، وعبد الرزاق (٤٩٨٤) ، وأبو نعيم في الحلية (٨ / ٢٦٤).

وأشار المنذري في الترغيب والترهيب (٢ / ٥٥٨) (٣ / ١٨٨) إلى صحته.

(٢) رواه بنحوه : البخاري ـ كتاب البيوع ، باب «الحلال بيّن والحرام بيّن» رقم (٢٠٥١) ، ورواه مسلم ـ كتاب المساقاة ، باب «أخذ الحلال وترك الشبهات» رقم (١٥٩٩). وأبو داود في كتاب البيوع ، باب «ما جاء في اجتناب الشبهات» رقم (٣٣٢٩). والترمذي في كتاب البيوع ، باب «ما جاء في ترك الشبهات» رقم (١٢٠٥) ، وقال : حسن صحيح. والنسائي ـ كتاب البيوع ، باب «اجتناب الشبهات في الكسب» (٧ / ٢٤١) ، وابن ماجه ـ كتاب الفتن ، باب «الوقوف عند الشبهات» رقم (٣٩٨٤) ، ورواه الحميدي (٩١٨) ، وابن حبان (٧٢١) ، والطبراني في الأوسط

٣٧٧

جار مجرى داخل الحمى ، ومرتكب الصغائر جار مجرى حوله ، والإنسان منهيّ عن الدنو منه ، ومن لا يعرف ذلك فهو معرّض الوقوع فيه ، ثم كما قد بين تعالى في كتابه أن يغتفر الصغائر بشرط اجتناب الكبائر ، فقد بين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الصغيرة إنما تكون صغيرة ما لم يكن عليها إصرار. فقال : «لا صغيرة مع إصرار» (١) ، وقال : «إن المحرمات تجتمع على الرجل فتهلكه» (٢) ، وإذا كانت الصغيرة منهيّا عنها محذرا منها فلا ضير بتعريفها ، بل يجب تعريفها ، فالإنسان بتجنّب الكبيرة يصير مطيعا غير فاسق ، وبتجنّب الصغيرة وهي المتشكك فيها يصير ورعا ، ولذلك قيل لبعض الصحابة : ما أشد الورع؟ فقال : ما أيسر الورع ، إذا شككت في شيء فدعه (٣) ،

__________________

ـ والبيهقي (٥ / ٦٤) ، والبغوي (٢٠٣١).

(١) رواه الديلمي في مسند الفردوس (٥ / ٢٨٧) رقم (٧٩١٤) والقضاعي في مسند الشهاب رقم (٨٥٣) عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في الجامع الصغير (٤ / ١٩٧٨) للديلمي وأشار إلى ضعفه وانظر : فيض القدير (٦ / ٤٣٦) وضعفه الذهبي في ميزان الاعتدال (٤ / ٥٣٧) وقال : خبر منكر. وضعفه كذلك الألباني في ضعيف الجامع رقم (٦٣٠٨). وهذا الأثر ثبت موقوفا عن ابن عباس رضي الله عنه أخرجه الطبري في جامع البيان (٨ / ٢٤٥) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٩٣٤).

(٢) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، ولكن ورد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» أخرجه أحمد (١ / ٤٠٢) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين رقم (٥٠٨١) ، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (٢٨٥). وله شاهد صحيح من حديث سهل بن سعد. انظر السلسلة الصحيحة رقم (٣٨٩).

(٣) نقل البيهقي عن حسان بن أبي سنان أنه قال : ما شيء أهون عندي من

٣٧٨

وقال بعض الصوفية : اعتبار الصغيرة والكبيرة بمرتكب الذنب ، فقد يكون الذنب من زيد صغيرا ومن عمرو كبيرا ، وذلك بحسب مراتبهم في المعارف والأحوال ، فالأولياء (١) الذين بلغوا المنازل قد يستعظم منهم ما لا يستعظم ممن لم يترشح لمنزلتهم ، وذلك معروف في السياسة الدنيوية ، قال : ولهذا عاتب الله تعالى نبيه في كثير من خطراته التي قد تجاوز بها عن غيره (٢) ، وقال بعض المفسرين : معنى الآية : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيتم عنها في الآيات المتقدمة كفّرنا عنكم ما قد أسأتم فيه من

__________________

ـ الورع ، إذا رابني شيء تركته. انظر : الزهد الكبير (٣١٥).

(١) الأولياء : عند الصوفية العارفون بالله وصفاته الفانون عن أحوالهم ، الباقون في مشاهدة الحق ، وهم عندهم لا يعصون أبدا ، ولا يخفى ما في هذا التعريف من غلو وإفراط. انظر : المعجم الصوفي د. الحفني ص (٢٦٣).

(٢) فصّل الإمام ابن القيم رحمه‌الله القول في هذه المسألة فبين أن العبد «إذا كملت عليه نعمة الله ، واختصه منها بما لم يختص به غيره ، فحبي بالإنعام ، وخصّ بالإكرام ومزيد التقريب ، وجعل في منزلة الولي الحبيب ، اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع ، فلشدة الاعتناء به ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره ، تكون حقوق وليّه وسيده عليه أتم ، ونعمه عليه أكمل ، والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره ، فهو إذا غفل وأخلّ بمقتضى مرتبته نبّه بما لم ينبّه عليه البعيد البراني مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضا ، فيجتمع في حقه الأمران». مدارج السالكين (١ / ٣٦٢).

٣٧٩

قبل (١) ، والمدخل الكريم : ما وعد به من الثواب العظيم ، وأشار به إلى جميع منازله على اختلاف مراتبها ، ونبه أن كل مدخل لا يخرج عن كونه كريما أي مكرما (٢).

قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ)(٣) الآية. التمني : تشهّي الإنسان أن يمنى له شيء ، أي يقدر (٤) ، وذلك مذموم ، فإن تمنيّه إن كان لشيء قدره أن لا يبلغ إلا بالطلب فيجب أن يطلبه لا أن يتشهّاه ، وإن كان لشيء يأتيه بغير طلب فتشهيه محال ، وإن كان الشيء لم يقدّر ففي تشهيه معارضة حكمة

__________________

(١) انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٥٥) ، وفتح القدير (١ / ٥١٣).

(٢) قال الطبري : «وأما المدخل الكريم فهو الطيب الحسن المكرّم بنفي الآفات والعاهات عنه ، وبارتفاع الهموم والأحزان ودخول الكدر في عيش من دخله» جامع البيان (٨ / ٢٥٩).

(٣) سورة النساء ، الآية : ٣٢ ، ونصّها : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

(٤) قال الأزهري : «المنى بالياء : القدر ، وقد منى الله لك ما يسرّك أي : قدر الله لك ما يسرّك» وقال : «تمنيت الشيء أي : قدرته وأحببت أن يصير إليّ. من المني وهو القدر» انظر : تهذيب اللغة (١٥ / ٥٣٠ ، ٥٣٣) ، وانظر : جامع البيان (٨ / ٢٦٠) ، وغريب القرآن ص (٤٨) ، والنهاية (٤ / ٣٦٧) ، ولسان العرب (١٥ / ٢٩٤).

٣٨٠