تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

و «من» للتبيين ، أو لاستغراق الجنس لتقدّم النفي (١). إن قيل : ما معنى قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في هذا الموضع؟ قيل : تنبيها أن الأنوثية والذكورية لا تقتضي اختلاف الحكم في هذا الباب ، وإنما الاعتبار بالأعمال والنيات ، فمن قصد فيما يتحراه وجه الله فله بقدره ثواب ، ثم بيّن أنّ للذين هاجروا فضل رتبة ، كما قال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً)(٢) ولم يعن بالمهاجرة والإخراج من الديار ما كان من الكفّار فقط ، بل عناه ومن هاجر الأفعال القبيحة

__________________

ـ النساء» رقم (٣٠٢٣) ، والحميدي في مسنده (١ / ٤٤) رقم (٣٠١) ، وعبد الرزاق في تفسيره (١ / ١٤٤) ، وأبو يعلى (١٢ / ٣٩١ ، ٣٩٢) رقم (٦٩٥٨) ، والطبراني في الكبير (٢٣ / ٢٩٤) رقم (٦٥١) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣٠٠) وقال : صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وانظر : الدر المنثور للسيوطي (٢ / ١٩٧).

(١) قال الزجاج في معاني (من): «وتكون ... دالّة على أن ما بعدها واحد في معنى جنس كقولك : ما جاءني من رجل. فقد نفيت قليل الجنس وكثيره ، والواحد وما فوقه ... وتكون دالة على ضرب من النعت». انظر : حروف المعاني ص (٥٠) ، ومعاني الحروف للرماني ص (٩٧) ، ومغني اللبيب ص (٤٢٠) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥١) ، والدر المصون (٣ / ٥٣٩) ، والفتوحات الإلهية (١ / ٣٤٨).

(٢) سورة النساء ، الآيتان : ٩٥ ، ٩٦.

٢٢١

والأخلاق الكريهة ، وقاتل نفسه حتى قهرها (١) ، والظاهر من قوله : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ)(٢) أن ذلك حكم الآخرة ، وعليه أهل الأثر (٣) ، وقال بعض الصوفية : عنى بتكفير سيئاتهم إزالة درنهم عنهم في الدنيا ، قال : وهذا المعنى هو المراد بقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٤) ، وإدخالهم الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار التمكين من زهرات العلوم والاطلاع على كثير من الغيوب ، التي وصفها حارثة (٥) في حقيقة الإيمان ، حيث قال : وكأنّي بعرش ربي بارزا (٦) ، وقال : والأنهار هي أنهار الماء

__________________

(١) هذا من إشارات الصوفية. انظر : لطائف الإشارات (١ / ٣١٩).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٥.

(٣) انظر : جامع البيان (٧ / ٤٩٠) ، وبحر العلوم (١ / ٣٢٥) ، والجامع لأحكام القرآن (٣ / ٣١٩) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥٢).

(٤) سورة الأحزاب ، الآية : ٣٣.

(٥) حارثة بن النعمان بن نفع بن زيد بن عبيد بن مالك بن النجار الخزرجي الأنصاري أبو عبد الله ، شهد بدرا والمشاهد كلها ، اشتهر بديانته وبرّه بأمه ، توفي في خلافة معاوية. انظر : سير أعلام النبلاء (٢ / ٣٧٨) ، والإصابة (١ / ٧٠٧).

(٦) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان ص (٤٣) رقم (١١٥) وهو معضل ، فإنه من رواية زبيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزبيد من الطبقة السادسة

٢٢٢

المذكور في قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)(١). قال ابن عباس : قرآنا (٢) ، ثم قال : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ)(٣) تنبيها أن هذا ثوابه عاجلا في الدنيا ، ثم قال : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)(٤) إشارة إلى ما له في الآخرة من الثواب ، والله أعلم بما ادعاه هذا القائل (٥). إن قيل : ما وجه قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)

__________________

ـ التي لم تلق أحدا من الصحابة. انظر : كلام الألباني على هذا الحديث في الهامش رقم (١٠٥). والحديث رواه الطبراني في الكبير موصولا (٣ / ٢٦٦) رقم (٣٣٦٧). وعبد بن حميد كما في المنتخب رقم (٤٤٥) ، وذكره البوصيري في إتحاف الخيرة (٧ / ٤٥٤) رقم (٧٣٢٣) ، وقال : رواه عبد بن حميد بسند ضعيف. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (١ / ٥٧) وقال : فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج الكشف عنه.

(١) سورة الرعد ، الآية : ١٧.

(٢) ذكر ابن الجوزي هذا القول في زاد المسير (٤ / ٣٢٢) ولم ينسبه لأحد.

والمروي عن ابن عباس أنه فسرّ الماء في الآية باليقين والهدى والحق ، وهو يشمل القرآن بغير شك. رواه ابن جرير الطبري في جامع البيان (١٦ / ٤١٠).

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٥.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٥.

(٥) هذا القول في التفسير من النوع الإشاري المخالف لظاهر اللفظ القرآني بتحريف الكلم عن مواضعه وتأويله على غير مقصده ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة في التفسير الإشاري فقال : «فإن إشارات

٢٢٣

بعد قوله : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) على القول الأول؟ قيل : يحتمل ذلك وجهين : أحدهما : أنّه بيّن بقوله : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أنّ ما ذكره ثواب لهم ، ثم أخبر أنّ هذا الثواب لا يوجد إلا عنده ، فيكون قوله ([حُسْنُ])(١)(الثَّوابِ) إشارة إلى المذكور قبله (٢) ، والثاني : أن يكون حسن الثواب غير المذكور أولا ، فنبّه أنّ ما ذكرت أولا هو الذي عرفتكم ، وعند الله حسن الثواب ، الذي لم يعرّفكموه لعجزكم عن الوقوف عليه إشارة إلى المذكور في قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٣) وفي قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)(٤).

__________________

ـ المشايخ الصوفية التي يشيرون بها تنقسم إلى : إشارة حالية ، وهي إشارتهم بالقلوب ... وتنقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال ، مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس ، وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص ، مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام ... فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح كانت حسنة مقبولة ، وإن كانت كالقياس الضعيف كان لها حكمه ، وإن كان تحريفا للكلام عن مواضعه ، وتأويلا للكلام على غير تأويله ، كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية». مجموع فتاوى شيخ الإسلام (٦ / ٣٧٦ ، ٣٧٧).

(١) ما بين المعكوفين ساقط من الأصل والسياق يقتضيه.

(٢) ذكر هذا الوجه أبو السعود : في «إرشاد العقل السليم» (٢ / ١٣٤). وانظر : روح المعاني (٤ / ١٧٠ ، ١٧١).

(٣) سورة السجدة ، الآية : ١٧.

(٤) سورة يونس ، الآية : ٢٦. وانظر : جامع البيان (٧ / ٤٩٠ ، ٤٩١) ففيه

٢٢٤

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)(١) الآية.

أصل الغرّ : الطيّ الذي ينكسر عليه المطوي (٢) ، فجعل عبارة عمن انطوى على اعتقاد يمنع عن رفع بصيرته ، ولذلك سمي الاعتقاد طويّة (٣) ، ونحو الغرّ الاستدراج تشبيها بالمدرج ، ومن هذا قال : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ؛)(٤) والتقلّب في البلاد ليس يعني المشي فيها ، وإنما يعني التوسع في أعراض الدنيا (٥) ، والمتاع : ما

__________________

ـ ما يشير إلى هذا المعنى.

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٦. ونصّها : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ).

(٢) قال الأزهري : الغرّ : الكسر في الجلد من السّمن. تهذيب اللغة (١٦ / ٦٧) وانظر : معجم مقاييس اللغة ص (٨٠٩) ، والمفردات ص (٦٠٣).

(٣) قال ابن منظور : والطوية : الضمير. اللسان (١٥ / ٢٠).

(٤) سورة هود ، الآية : ٥.

(٥) انظر : تفسير غريب القرآن ص (١١٧) وقد جعل ابن عزيز المعنيين مرادين فقال : تقلبهم في البلاد : تصرفهم فيها للتجارة ، أي فلا يغررك تصرفهم وأمنهم وخروجهم من بلد إلى بلد. انظر : غريب القرآن ص (١٥٤) ، وجامع البيان (٧ / ٤٩٣) ، والنكت والعيون (١ / ٤٤٤) ، والوسيط (١ / ٥٣٦) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٥٤) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٢٦) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣١٩) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤١٨).

٢٢٥

فيه تمتع ما (١) ، والآية تحتمل وجهين : أحدهما : أن جعل ما يتمتع به في الدنيا وإن كثر ، قليلا في جنب ثواب الله تعالى ، فلا يجب أن يغتر به ، إذا اعتبر بما يحصل لأربابها في المآل من العذاب ، والثاني : أنه أراد بالقليل قلة الفناء (٢) ، وأراد بجهنّم : جهنّم الدنيا وجهنّم الآخرة (٣) ، تنبيها أن من / حصل له مال لا ينفك من شغل لا ينقضى عناؤه ، وفقر لا يدرك غناؤه ، وحزن على فوت محبوب ، وخوف على فقد مطلوب ، كأنّهم في جهنم من سلب ما لهم ، وفي جهنم عند مآلهم ، كما قال : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(٤) وذكر «المهاد» على سبيل المثل (٥) ،

__________________

(١) تقدم الكلام على المتاع انظر ص (١٠٢٧) من هذه الرسالة. وانظر : تهذيب اللغة (٢ / ٢٩٠) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (٩٧٣).

(٢) ذكر الوجهين النيسابوري في تفسير غرائب التفسير (٢ / ٣٣٥) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٣ / ١٥٤).

(٣) الصحيح أن جهنم هي جهنم الآخرة. قال ابن جرير : (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) : بعد مماتهم. الجامع لأحكام القرآن (٧ / ٤٩٤) وانظر : تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٩٠) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥٤) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٣٥).

(٤) سورة التوبة ، الآية : ٥٥.

(٥) قال ابن جرير : «ويعني بقوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) : وبئس الفراش والمضجع جهنم». جامع البيان (٧ / ٤٩٤).

٢٢٦

كقوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ)(١).

قوله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ...)(٢) الآية.

ذكره تعالى ل (لكِنِ) لكون حكم ما بعده منافيا لما قبله (٣) ، وقد ذكر في قوله : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الوجهان اللذان ذكرا في قوله : (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)(٤). وقيل : عنى به أنهم من طيب عيشهم في القناعة ، ورفضهم فضولات الدنيا في جنّات صفتها كذلك ، وذلك على التشبيه (٥) ، وإياه قصد بقوله : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٤١.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٨. ونصّها : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ).

(٣) انظر : الدر المصون (٣ / ٥٤٥).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٥. وانظر : الوجهين المذكورين ص (٤٨١ ، ٤٨٢).

(٥) يريد أن الآية في المعيشة الدنيوية ، شبهها في طيبها وصفائها بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار. وهذا التفسير لم أجد أحدا قال به ، والمفسرون على أن ما ذكر في الآية من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار إنما هو في الآخرة ، لأنه قال : خالدين فيها ، ولا خلود في الدنيا. انظر : جامع البيان (٧ / ٤٩٤) ، وبحر العلوم (١ / ٣٢٥) ،

٢٢٧

حَياةً طَيِّبَةً)(١) قال : والذي يدلّ على هذا قوله : (نزلا) ، والنّزل ما يجعل للإنسان في طريقه ، ليستعين به على سفره (٢) ، وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أو تفسير (٣) ، كقولك :

هذا لك هبة ، وفي قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)(٤) ،

__________________

ـ وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٩٠ ، ٣٩١) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥٥) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٣٥).

(١) سورة النحل ، الآية : ٩٧.

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (١١٧) ، وتهذيب اللغة (١٣ / ٢١١) ، ومعجم مقاييس اللغة ص (١٠٢٣) ، ففيه تفسير النزل بالرزق ، والمعروف أن النزل ما يعدّ للضيف عند نزوله ، وهذا لا يمنع أن يسمّي الله تعالى ما أعده للمؤمنين في الجنة نزلا كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧]. وقال السمعاني : «النزل : ما يعدّ للضيف من النعمة ، فسمى الله تعالى ما أعده للمؤمنين من نعيم الجنة نزلا من عند الله». تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٩٠ ، ٣٩١) ، ولذلك فسّر ابن عباس النزل في الآية بالثواب. انظر : البحر المحيط (٣ / ١٥٥).

(٣) قال الزجاج : «نزلا : مؤكد لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها». انظر : معاني القرآن وإعرابه (١ / ٥٠١). وانظر الوجهين في : معاني القرآن للفرّاء (١ / ٢٥١) ، وإعراب القرآن للنحاس (١ / ٤٢٨) ، وإملاء ما منّ به الرحمن ص (١٦٤) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥٥) ، والدر المصون (٣ / ٥٤٧).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٨.

٢٢٨

الوجهان المذكوران في قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)(١) ، وقيل : عنى بذلك ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا جنّة الكافر وسجن المؤمن» (٢) ، تنبيها أن المؤمن يتبرم بها شوقا إلى ما أعدّ له ، والكافر يطمئن إليها ، ويشتاق إليها عند فراقها مع ما (٣) فيها من الشوائب لما أعدّ له من العذاب ، وقال عبد الله (٤) : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، ثم تلا هذه الآية في الأبرار. وتلا قوله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً)(٥) في الفجار (٦).

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٥. وانظر : الوجهين المذكورين ص (٤٨٢ ، ٤٨٣) من هذه الرسالة.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق رقم (٢٩٥٦). والترمذي في الزهد ، باب «ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» رقم (٢٣٢٤) ، وابن ماجه في ـ الزهد ـ باب «مثل الدنيا ...» رقم (٤١١٣). وأحمد في المسند (٢ / ٣٢٣ ، ٣٨٥ ، ٣٨٩) ، وفي الزهد (١٥١) ، والحاكم في المستدرك (٤ / ٣١٥) ، وأبو نعيم في الحلية (٦ / ٣٥٠) ، وأبو يعلى في مسنده (١١ / ٣٥٢) رقم (٦٤٦٥) ، وابن حبان (٢ / ٤٦٣) رقم (٦٨٧) ، والبغوي في شرح السنة رقم (٤١٠٤ ، ٤١٠٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(٣) رسمت في الأصل هكذا (معما) والصواب المثبت.

(٤) أي ابن مسعود رضي الله عنه.

(٥) سورة آل عمران ، الآية : ١٧٨.

(٦) الأثر رواه عبد الرزاق في تفسيره (١ / ١٤٢) ، والطبري في جامع البيان

٢٢٩

قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ)(١) الآية.

الخشوع : كالخضوع ، لكن أكثر ما يقال في الخشوع ما اعتبر فيه حال القلب ، والخضوع فيما اعتبر فيه حال الجوارح ، وإن كان يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر (٢) ، فقول الحسن : الخشوع ثبات الخوف في القلب (٣) ، وقول غيره : هو ما يظهر من الخضوع الدال على الخوف من عقاب الله (٤) ، واحد في الحقيقة ،

__________________

ـ (٧ / ٤٢٣ ، ٤٢٤ ، ٤٩٥) ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٤٦) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٢٩٨) ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه الذهبي. وذكره ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (١ / ٤١٩). وعزاه لابن أبي حاتم وعبد الرزاق. وذكر العلامة أحمد شاكر في حاشيته على الطبري أن هذا الأثر له حكم الرفع ، لأنه مما لا يدرك بالرأي ، وهو قول وجيه ، والله تعالى أعلم.

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٩. ونصّها : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

(٢) انظر : بحر العلوم (١ / ٣٢٦) ، والفروق ص (٢٧٣ ، ٢٧٤) ، والمفردات ص (٢٨٣ ، ٢٨٦).

(٣) ذكره الألوسي في روح المعاني (٤ / ١٧٤) ، ونسبه للحسن.

(٤) انظر مدارج السالكين (١ / ٥٥٨).

٢٣٠

ولمّا ذمّ فيما تقدم كفار أهل الكتاب بيّن ها هنا : أن من خالفهم في سوء اعتقادهم وأفعالهم فحكمهم بخلاف حكمهم ، وذكر ما فيه تنبيه على الإيمان والأعمال الصالحة ، وترك تتبّع دقاق المطامع ، وذلك أحكام الشرع. إن قيل : ما فائدة قوله : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(١) ها هنا؟ قيل : الحساب إشارة إلى الثواب المجعول لهم في مقابلة فعلهم (٢) ، وسمّاه حسابا لقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(٣) وبيّن بقوله : سريع الحساب أنّ ذلك لا يتأخر عنهم ، لما كانت النفس مولعة بحبّ العاجل (٤) ، ونبّه على أمرين : أحدهما : ما يجعل لهم في الدنيا المدلول عليه بقوله : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٩.

(٢) قال أبو حيان : «... والمعنى أجرهم قريب إتيانه سريع حسابه ، لنفوذ علمه ، فهو عالم بما لكل عامل من الأجر» البحر المحيط (٣ / ١٥٦) ، وانظر : جامع البيان (٧ / ٥٠١) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٢٨) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ١٣٦).

(٣) سورة الأنعام ، الآية : ١٦٠.

(٤) هذا اقتباس من بيت لجرير من بحر الكامل وتمامه :

وإني لآمل منك خيرا عاجلا

والنفس مولعة بحب العاجل

انظر : ديوان جرير ص (٤١٥) ، والبيان والتبيين (٣ / ٢٦١) ، ومجمع البلاغة (١ / ٣٨٧) ، ومجمع الأمثال (٢ / ٣٣٣).

٢٣١

وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ)(١) ، الثاني : أن المدعوّ به في الآخرة سريع وقوعه (٢) وإن كان في ظنّ الكافرين بطيئا حصوله (٣).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٤) الصبر أعمّ من المصابرة ، إذ كان يقال فيما يتصوّر فيه فاعل واحد ، والمصابرة ، يقال فيما يتصوّر فيه فاعلان متقابلان (٥) ، والصبر : حبس النفس على ما يحمد ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٨.

(٢) في الأصل : (ووقوعه) بتكرار الواو.

(٣) قال ابن الجوزي : وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال : أحدها : أنه قلّته ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه قرب مجيئه ؛ قاله مقاتل. والثالث : أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه ، كان سريع الحساب لذلك. والرابع : والله سريع المجازاة ، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج. والخامس : أنه لا يحتاج إلى فكر ورويّة كالعاجزين ؛ قاله أبو سليمان الدمشقي ـ عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون الدمشقي ، ت ١٩٥ ه‍ ـ. انظر : زاد المسير (١ / ٢١٦).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ٢٠٠.

(٥) قال الطبري : «(وصابروا) يعني وصابروا أعداءكم من المشركين ، لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدا ، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة ...» جامع البيان (٧ / ٥٠٨) وانظر : مدارج السالكين (٢ / ١٦٦).

٢٣٢

وعمّا يذمّ (١) ، ولهذا قيل : هو اسم لأعم الفضائل ، وله ثلاث منازل : إمساك الجوارح الظاهرة عن الإقدام على ما يكره ، وإمساك / اللسان عن إظهار التألّم منه ، وإمساك القوى عن تحرّكها بالتألّم منه ، وهذه منزلة الصدّيقين (٢). والمصابرة ضربان :

مصابرة العدى ، وإليه ذهب الحسن ومجاهد في الآية (٣) ، ومصابرة قوى النفس في مدافعة الحرص والبخل والجبن وسائر الرذائل ، وهي عظماهما (٤) ، والمرابطة كذلك على ضربين : مرابطة في

__________________

(١) انظر : تهذيب اللغة (١٢ / ١٧٠) ، ومجمل اللغة ص (٤٢٢) ، والفروق ص (٢٢١) ، والمفردات ص (٤٧٤).

(٢) قال ابن القيم : «والصبر : حبس النفس عن الجزع والسخط ، وحبس اللسان عن الشكوى ، وحبس الجوارح عن التشويش» مدارج السالكين (٢ / ١٦٢) وهو بنحو ما ذكر الراغب. وانظر : عدة الصابرين ص (٢٧) وما بعدها ، في معنى الصبر لغة واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها.

(٣) أخرجه ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٥٠٢) عن الحسن وقتادة.

وابن أبي حاتم (٣ / ٨٤٨) عن الحسن وقال : وروي عن مقاتل بن حيان وقتادة نحو ذلك.

(٤) قال القرطبي في معنى المصابرة : «وقيل : إدامة مخالفة النفس عن شهواتها ، فهي تدعو وهو ينزع» الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣٢٣) ، وورد أن أبا هريرة رضي الله عنه فسرّ (وَصابِرُوا) بمصابرة النفس والهوى. انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٢٠).

٢٣٣

ثغور المسلمين (١) ، ومرابطة النفس البدن ، فإنها كمن أقيم في ثغر ، وفوّض إليه مراعاته ، فيحتاج أن يراعيه غير مخلّ به إلى أن يعزل عنه أو يستردّ منه (٢) ، وقد دخل في عموم ما قلناه قول من قال : اصبروا في أنفسكم ، وصابروا عدوكم ، ورابطوا الثغور (٣) ، وقول من قال : اصبروا بجوارحكم على الطاعة ، وصابروا بقلوبكم مع الله ، ورابطوا بأسراركم في سبيل المحبة (٤) ، وقد نبّه

__________________

(١) وبذلك فسرّ المرابطة جمهور المفسرين قال ابن عطية : قوله : (وَرابِطُوا) فقال جمهور الأمة : معناه : رابطوا أعداءكم بالخيل ... والقول الصحيح : «أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله ، وأصلها من ربط الخيل ، ثم سمّي كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا ...» المحرر الوجيز (٣ / ٣٢٨ ، ٣٢٩). وانظر : جامع البيان (٧ / ٥٠٨ ، ٥٠٩) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٥٦) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣٢٣) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥٦).

(٢) هذا على التفسير اللغوي للمرابطة قال القرطبي : «فإن المرابطة عند العرب : العقد على الشيء حتى لا ينحلّ ، فيعود إلى ما كان صبر عنه ، فيحبس القلب على النية الحسنة ، والجسم على فعل الطاعة ...» الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٣٢٤).

(٣) وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج ولفظ كلامهم : (اصبروا على دينكم) بدل : (اصبروا في أنفسكم) والباقي بمثله. انظر : جامع البيان (٧ / ٥٠٢) ، والنكت والعيون (١ / ٤٤٥) ، والبحر المحيط (٣ / ١٥٦).

(٤) ذكره القشيري في اللطائف (١ / ٣٢١).

٢٣٤

على عموم ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال : «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة» (١) ، إن قيل : كيف أخّر ذكر التقوى؟ قيل : يحتمل وجهين : أن يكون ذلك إشارة إلى غاية التقوى ، وهي التبرؤ من كل شيء سوى الله ، وذلك لا يكون إلا بعد هذه الأشياء ، وكأنه قال : إذا فعلتم ذلك فاتقوا الله راجين أن تدركوا الفلاح ، إشارة إلى ما ذكر من الصبر والمصابرة والمرابطة (٢) ، فلمّا أمر تعالى بهذه الثلاثة ، قال : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي اتركوا القبائح له ، فبتركها تدرك هذه الثلاث ، ويكون الفلاح عبارة

__________________

(١) وبهذا الحديث احتج أبو سلمة بن عبد الرحمن على أن المرابطة في الآية هي انتظار الصلاة بعد الصلاة. والحديث رواه مسلم في كتاب الطهارة ، باب «فضل إسباغ الوضوء على المكاره» رقم (٢٥١) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات؟» قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : «إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط». وأخرجه أيضا : مالك في الموطأ (١ / ١٦١) رقم (٥٥) ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٣٥ ، ٢٧٧ ، ٣٠١ ، ٣٠٣ ، ٤٣٨) ، والترمذي رقم (٥١ ، ٥٢) كتاب الطهارة ، باب ما جاء في إسباغ الوضوء ، والنسائي (١ / ٨٩) كتاب الطهارة ، وابن خزيمة (١ / ٦) رقم (٥) ، والبغوي في شرح السنة رقم (١٤٩) ، والبيهقي في السنن (١ / ٨٢) ، وابن حبان رقم (١٠٣٨).

(٢) انظر : أنوار التنزيل (١ / ١٩٨).

٢٣٥

عن هذه الثلاث (١) ، فعلى هذا التقوى في المعنى متقدّم ، وعلى الأول متأخّر (٢). والله أعلم.

__________________

(١) قال البيضاوي : «فاتقوه بالتبري عما سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح ، أو واتقوا القبائح لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المرتّبة ، التي هي الصبر على مضض الطاعات ، ومصابرة النفس في رفض العادات ، ومرابطة السر على جناب الحق ...» أنوار التنزيل (١ / ١٩٨).

(٢) الصواب أن الأمر بالتقوى يشمل جميع الأمور ، والأحوال ، فهو مأمور به عند الصبر والمصابرة والمرابطة ، وليس مقصورا على ما بعد حصول هذه الثلاث ، كما أشار الراغب في القول الأول. قال ابن كثير : وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أموركم وأحوالكم ... (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي في الدنيا والآخرة. تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٢٣).

٢٣٦

سورة النساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)(١) الآية.

قد تقدّم الكلام في الفرق بين (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وأنه ذكر مع النّاس الربّ ومع الذين آمنوا «الله» (٢) ، فيا أيها النّاس خطاب عام ، ويا أيها الذين آمنوا أخصّ منه ، ويا عبادي أخصّ منهما ، وحيث يقصد خاصّ الخاصّ قال :

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ١. ونصّ الآية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

(٢) قال الراغب : إن قيل : ما الفرق بين قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) ، * وبين قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)؟ * قيل : في قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إيجاب العبادة بواسطة رؤية نعمه التي بها تربيتهم وقوامهم. وفي قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) إيجاب عبادته بمراعاته عزوجل من غير واسطة ، وعلى ذلك قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)[النساء : ١] ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)[البقرة : ٢٧٨] فحيث ذكر الناس ذكر معه الرب ، وحيث ذكر الإيمان ذكر الله لما تقدم. انظر : تفسير الراغب لسورة البقرة (ق ٢٥ ، وق ١٠٧ مخطوط).

٢٣٧

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ)(١) و (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ)(٢) وإن كان الخطاب له ولغيره نحو (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)(٣).

وقد تقدّم الكلام في أن أدنى منازل التقوى اجتناب الكفر ، وأعلاها أن لا تراعي من الدنيا والآخرة سوى الله (٤) ، وقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ذكر عامة المفسرين أنه عنى بالنفس آدم ، وزوجها : حواء (٥) ، وذكر بعضهم أنه عنى بالنفس الروح المذكورة في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا سنة» (٦) ، وعنى بزوجها البدن ، وقيل : عنى به التركيب ، وإلى

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٦٤.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٤١.

(٣) سورة الطلاق ، الآية : ١.

(٤) انظر : تفسير الراغب (ق ١٢ مخطوط) ، سورة البقرة ، الآية : ٢١.

(٥) وهذا قول مجاهد والسّدّي وقتادة ومقاتل والضّحّاك واختاره ابن جرير.

انظر : جامع البيان (٧ / ٥١٣ ـ ٥١٥) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٢) ، والنكت والعيون (١ / ٤٤٦) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٩٣) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٥٩) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٢٤).

(٦) أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ٤٠١) ، وابن عراق في «تنزيه الشريعة» (١ / ٣٦٨) ، والسيوطي في «اللالىء المصنوعة» (١ / ٣٨٣) ، والشوكاني في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (٣٨٢) ،

٢٣٨

نحوه أشار بقوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ)(١) ، وقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(٢) ، ولا يصحّ معنى ذلك في النبات إلّا على معنى التركيب ، ونبّه بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من ترتيب ما ، وأن الواحد في الحقيقة ليس إلا هو تعالى (٣) ، قال : وعلى هذا نبّه بقوله : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ،) وقال معنى الشفع : الخلق ، والوتر : الخالق (٤). وهذا القول في الآية

__________________

ـ وقال : «رواه الأزدي عن علي مرفوعا ، وفي إسناده عبد الله بن أيوب بن أبي علاج عن أبيه ، وهما كذّابان». (١) سورة الذاريات ، الآية : ٤٩.

(٢) سورة يس ، الآية : ٣٦.

(٣) ذكر أبو حيان هذين القولين بنفس كلام الراغب ، ولم يشر إلى الراغب أو إلى أصحابهما ، بل قال : «ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح ... إلخ» ، ثم قال بعد أن ذكرهما : وهذا مخالف لكلام المتقدمين. انظر : البحر المحيط (٣ / ١٦٣ ، ١٦٤).

(٤) اختلف المفسرون في معنى الشفع والوتر في هذه الآية ، فمنهم من قال : الشفع : المخلوقون. والوتر : الله سبحانه وتعالى ، وقيل : الشفع : يوم الأضحى لأن له نظيرا وهو أيّام النحر. والوتر : يوم عرفة. وقيل : الشفع : ولد آدم ، والوتر : آدم. وقيل : الشفع : الزوج ، والوتر : الفرد. وقيل غير ذلك. انظر : تفسير غريب القرآن ص (٥٢٦) ، وغريب القرآن للسجستاني ص (٢٩٠) ، وبصائر ذوي التمييز (٣ / ٣٢٨).

٢٣٩

وإن كان متجها ، فأهل الأثر على ما تقدّم. إن قيل : على أي وجه خلق زوجها منها أخذ جزءا فجعل زوجها؟ / قيل : قال بعضهم : الشيئان قد يقال لأحدهما : هو من الآخر. إذا كان من عنصره وأصله ، كقولك : هذا القميص من قميصك. وقد يقال ذلك إذا كانا مشتركين في صفة (١) ، نحو (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)(٢) ، وقال بعضهم : أخذ جزءا من آدم ، وجعل منه حواء (٣) ، وعلى ذلك روي : «خلقت حواء من ضلع من أضلاع» (٤) ، وقال

__________________

(١) هذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني كما ذكر الرازي والنيسابوري في تفسيريهما. وقد ردّ المفسرون هذا القول بقولهم : إذا كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة كما ذكر تعالى.

انظر : تفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٩٣) ، والمحرر الوجيز (٥ / ٧) ، والتفسير الكبير (٩ / ١٣١) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٤٠) ، والبحر المحيط (٣ / ١٦٣) ، وزاد نسبته لابن بحر.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٩٥.

(٣) وهذا قول ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك والحسن ، وهو قول جماهير المفسرين. انظر : جامع البيان (٧ / ٥١٥ ، ٥١٦) ، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (٣ / ٨٥٢ ، ٨٥٣) ، والنكت والعيون (١ / ٤٤٦) ، وتفسير القرآن للسمعاني (١ / ٣٩٣) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٤٢٤).

(٤) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (٧ / ٥١٥ ، ٥١٦) عن قتادة وابن إسحاق ، وابن أبي حاتم في تفسير القرآن العظيم (٣ / ٨٥٢) عن الضحاك.

٢٤٠