تفسير الشهيد زيد بن علي (ع)

تفسير الشهيد زيد بن علي (ع)

المؤلف:


المحقق: الدكتور حسن محمّد تقي الحكيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الدار العالميّة للكتب والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

١
٢

٣

الإهداء ...

إلى سيدي الوالد ...

أيا والدي هذا جنى بعض غرسكم

ولا بدّ أن تهدى إليك بواكره

فإن حالت الأسفار عن عذب ورده

ولم ينتش نصحا وعلما يعاقره

فإنّ الذي أودعت فيه يمده

بكلّ رحيق للنماء يؤازره

وإن كنت لم تشهد مسار نموه

وكيف ارتقت أفكاره وبصائره

فغرسك يعلو باستقامة طبعه

وينمو وإن كانت بعيدا مصادره

فقر سيدي عينا وقلبا ومهجة

فإنّ الذي ترجوه طلّت بشائره

* * *

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم المرسلين وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.

تتصف المفردات اللغوية بالحركة الدائمة والتغير المستمر وتتضح هذه الخاصية بشكل جلي لوقارنّا المفردات اللغوية في فترات زمنية متباعدة. وقد أدت هذه الصفة ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ إلى حدوث ظواهر لغوية عديدة في غاية الأهمية وتعد من أعمدة الدراسات اللغوية الحديثة. من ذلك ما يكون فيه التغيير قد حدث في ركن من أركان الكلمة كصوت الكلمة ، أو بنيتها ، أو دلالتها ، وهذا ما يعرف بظواهر التطور اللغوي.

وقد يطرأ التغيير لا على ركن من أركان الكلمة وإنما على مدى استعمال الكلمة بين الناس ؛ فتكثر في التداول تارة ، وتقل أخرى وهذا ما يحول المفردة من الشيوع إلى الغرابة.

وقلة استعمال المفردة في مجتمع معين تنعكس بشكل مباشر على دلالتها عند كثير من أفراد ذلك المجتمع. وهذه القلة في الاستعمال في مجتمع لا يلزم وجودها في مجتمعات أخرى تتكلم باللغة ذاتها. فقد تشيع المفردات عند قوم ، وتنزوي عند آخرين. ومن هنا كانت الحاجة ماسة إلى بيان معاني المفردات الغريبة كلما ظهرت في نص لغوي ، أو وردت في التخاطب ، حتى يفهم على حقيقته ، ويؤدي الغرض منه. وتتأكد هذه الحاجة إذا كان النص محتويا على مفردات يختلف استعمالها في المجتمعات المتكلمة بلغة واحدة ، فيفهم أفراد كل مجتمع الكلمات التي يشيع استعمالها عندهم ، وتبهم تلك التي يقل استعمالها.

وبعد أن نزل القرآن الكريم وفقا لسنن العرب في كلامها ، وباللغة المشتركة التي تكونت قبيل نزوله ، وضمت مفردات من أغلب القبائل العربية آنذاك على اختلاف نسبة كل منها

٥

فيها ، عانى كثير من العرب من فهم المفردات الغريبة عن استعمالهم فذهبوا إلى النبي (ص) ، وإلى الخاصة من صحابته الكرام ، ليستجلوا غموض ما أبهم عليهم من دلالات ، وما استغلق من معان. وتأكدت حاجة المسلمين بعد دخول الأعاجم في الإسلام ، وذلك لقلّة اطلاع الغالبية العظمى منهم على كثير من معاني المفردات العربية.

وكلما مضى بنا الزمان حدثت مفردات غريبة أخرى في القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، والنصوص العربية القديمة من شعر ونثر ، وذلك لانشغال الخاصة من المسلمين بالفتوحات الاسلامية وعدم التفرغ لتعلم اللغة وتعليمها يضاف إلى ذلك ظهور طبقة كبيرة من المسلمين أهملت العناية باللغة العربية ، واقتصرت في حفظ المفردات على ما يتطلبه النطق والكلام ، وتركوا ما عداه لفقدان الدافع إليه ، وانعدام الرغبة فيه. كل ذلك جعل الحاجة ماسة إلى معرفة الغريب.

ومن هنا أحس الأفذاذ من اللغويين جسامة ما يتوجب عليهم ، وضخامة العبء الذي يجثم على عاتقهم. فبذلوا كل الجهد في تفسير المعاني الغريبة. واستمر هذا الحال حتى مضى العقد الأول من القرن الثاني الهجري. وعندها وجد زيد بن علي أن الحاجة تدعو إلى تأليف كتاب في الغريب فصنع مصنفه الجليل (تفسير غريب القرآن) ـ وكان من عظيم فخري وسعادتي أن أحقق هذا السفر العظيم وأظهره إلى النور بعد أن بذلت فيه جهودا كبيرة ومحاولات جادة من أجل أن أتمكن من إظهار نص الكتاب بالشكل الذي وضعه به المؤلف أو أقرب ما يكون إليه واتبعت في ذلك الطرق العلمية في تحقيق النصوص وإخراجها. ولا يخفى على كل من له دراية يسيرة بالدراسات اللغوية ، أن يعرف مدى أهمية هذا الكتاب ، ويكفي في ذلك أن يعلم أن مؤلفه توفي سنة مائة وعشرين للهجرة المباركة. فيكون هذا السفر من أقدم الكتب اللغوية التي وصلت إلينا. وقدم تأليف هذا الكتاب يفرز فوائد في غاية الأهمية في الدراسات اللغوية وبخاصة إذا عرف أنه مؤلف في عصر الاحتجاج اللغوي. كما أن الباحث الجاد يستطيع أن يستخلص منه علامات تساعد في تكوين صورة لطبيعة اللغة العربية الفصحى المكتوبة في بداية القرن الثاني ، وهذا ما تفتقده الدراسات المعنية بتطور اللغة حاليا ، لعدم وجود آثار هامة عن هذه اللغة. كما أنه مهم جدا في دراسة تطور قسم من المصطلحات اللغوية. يضاف إلى كل ذلك أن هذا الكتاب يعد من أول المصادر للمعاجم العربية ، وهو أول كتاب كامل وصل إلينا فسّر مؤلفه فيه معاني كلمات القرآن الكريم إلى غير ذلك من الفوائد العلمية التي يضمها هذا السفر النفيس.

وهذا الكتاب هو باكورة جهودي في نشر مكتبة زيد بن علي عليه‌السلام وأتضرع إلى الله تعالى أن يوفقني في إخراج كتبه الأخرى في القريب العاجل إن شاء الله.

والكتاب الذي بين أيدينا هو القسم الثاني من البحث الذي حصلت به على درجة

٦

الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى من كلية الآداب جامعة عين شمس لعام ١٩٨٧ وكان بإشراف الأستاذ الدكتور رمضان عبد التواب رئيس قسم اللغة العربية وآدابها الذي تفضّل بالإشراف على بحثي في الماجستير أيضا. ولا بد لي وأنا أخرج هذا الكتاب من تقديم الشكر والتقدير له على رعايته العلمية لي طوال مدة إشرافه عليّ وعلى ما شملني برحابة صدره وطوقني بعظيم خلقه. وأكرر الثناء عليه للجهود الكبيرة المثمرة التي أزال بها كل العقبات التي كانت تسد طريق إكمال دراستي العليا. فادعو الله عزوجل أن يأخذ بيده ويسدد خطواته ويلبسه ثوب الصحة والعافية إنه سميع مجيب.

والحمد لله على حسن توفيقه

الدكتور

حسن محمد تقي الحكيم

القاهرة في ٣٠ / ٧ / ١٩٧٨

٧

ظاهرة الغرابة

من الموضوعات التي نالت اهتمام العلماء قدماء ومحدثين موضوع الغريب. ولا أدل على ذلك من قدم التأليف فيه من جهة ، ومن كثرة الكتب التي تناولته من جهة أخرى. لكن الغالبية العظمى من هذه المؤلفات اكتفت بجمع واستقصاء المفردات الغربية دون أن تهتم بتحديد معنى الغرابة. أما الأقلية التي بينت هذا المعنى فإنها لم توفق في الوصول إلى تعريف دقيق يشمل هذه الظاهرة ويمنع من دخول ظواهر أخرى فيه.

وقبل أن أذكر هذه التعريفات أجد من المستحسن أن ألجأ إلى المعاجم لمعرفة المعنى اللغوي للغريب. لأن أغلب المصطلحات تؤخذ من أصلها اللغوي ، وتبقى في ذلك المعنى أو تبتعد قليلا عنه أو كثيرا تبعا للتطور الذي يلحق ذلك المصطلح.

معنى الغريب في اللغة :

تجمع المعاجم اللغوية التي بين أيدينا على أن للغرابة معنى واحدا وهو الغموض والخفاء.

فقد قال الخليل (ت ١٧٥ ه‍) إن «الغريب : الغامض من الكلام» (١).

وقال الأزهري (ت ٣٧٠ ه‍) إن «الغريب من الكلام : العقميّ الغامض» (٢).

ولعله أضاف كلمة العقميّ التي تعني «الغريب الغامض من الكلام» (٣) إمعانا منه في إعطاء صورة أكثر إبهاما له ، لأن الغموض درجات تتفاوت شدة وضعفا. فجعل الغريب ما اشتد غموضه.

وهذا المعنى للغريب نجده بنصه أو بفحواه في المعاجم العربية الأخرى (٤).

__________________

(١) العين (غرب) ٤ / ٤١١.

(٢) تهذيب اللغة (غرب) ٨ / ١١٥.

(٣) القاموس المحيط للفيروز ابادي (عقم) ٤ / ١٥٤.

(٤) انظر مادة غرب في أساس البلاغة ٢ / ١٥٩ والمحكم ٥ / ٢٩٩ ولسان العرب ٢ / ١٣٢ وتاج العروس ١ / ٤١١ والمعجم الوسيط ٢ / ٦٥٣ وغيرها.

٨

تعريف الغريب :

إذا كان المعنى اللغوي للغريب الغموض. فإن معناه الاصطلاحي يختلف عن ذلك قليلا أو كثيرا تبعا لاختلاف آراء اللغويين في ذلك. وتكاد تنحصر آراؤهم في ثلاثة معان كما يأتي :

١ ـ قلة الاستعمال : عرّف قسم من اللغويين الغريب بأنه ما قل استعماله. ولعل أول من ذهب إلى ذلك الزجاجي (ت ٣٣٧ ه‍) حين عرّفه بأنه «ما قلّ استماعه من اللغة ولم يدر في أفواه العامة ، كما دار في أفواه الخاصة» (١). ودوران الكلام في الأفواه هو الاستعمال.

وذهب إلى هذا المعنى أيضا الآمدي (ت ٣٧١ ه‍) بقوله إن الحوشي أو اللفظ الغريب «لا يتكرر في كلام العرب كثيرا» (٢).

وقال بذلك أيضا ابن السيد البطليوسي (ت ٥٢١ ه‍) إذ فسر الغريب بما «لم تجر العادة باستعماله أو كان قليل الاستعمال» (٣).

ويرى ابن الأثير (ت ٦٣٧ ه‍) أن الوحشي من الكلام «إنما هو الغريب الذي يقل استعماله» (٤) بعد أن عدّ الغريب والوحشي مترادفين تماما.

ومن الذين ذهبوا إلى هذا الرأي من المحدثين الدكتور تمام حسان في أحد تعريفيه للغريب (٥). وكذلك حفني ناصف (٦).

ويبدو أن أغلب أصحاب هذه التعريفات قد وقعوا ببعض الالتباس. فلم يفرقوا في تعريفهم بين السبب والمسبّب. لأن الاستعمال هو السبب في حدوث الغريب. والغريب يكون نتيجة له. وهناك فارق بين السبب والنتيجة.

يضاف إلى ذلك أن ظواهر لغوية أخرى تشترك في قلة الاستعمال أمثال الكلمات الشاذة وقسم من الكلمات المتضادة أو المشتركة. فلا يكون الاقتصار على قلة الاستعمال في تعريف الغريب دقيقا.

٢ ـ مخالفة القياس : عرف الدكتور تمام حسان الغريب ـ في تعريفه الثاني له ـ بأنه «المفردات العربية الأصل التي لا تخضع لقواعد الصياغة العربية المشهورة» (٧). والخطأ في هذا التعريف واضح وبين ، وتكفي قراءة سريعة لأي كتاب في الغريب للقطع بأن الغالبية العظمى من المفردات فيه تسير وفق القياس ، وتخضع لقواعد الصياغة العربية.

__________________

(١) الإيضاح في علل النحو ٩٢.

(٢) الموازنة ٢ / ٢٥٩.

(٣) الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ١ / ١٢٤.

(٤) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ١ / ٢٣٤.

(٥) انظر الأصول ٢٨٩.

(٦) الأسماء العربية لمحدثات الحضارة والمدنية ١٠.

(٧) انظر الأصول ٢٨٩.

٩

٣ ـ غموض المعنى : ذهب فريق آخر من اللغويين إلى أن الغريب ما غمض معناه ولعلهم تأثروا بما ورد عنه في المعاجم اللغوية.

منهم الخطابي (ت ٣٨٨ ه‍) في تعريفيه للغريب بقوله : «إنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر ، والآخر يراد به كلام من بعدت به الدار ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب ، فإذا وقعت إلينا الكلمة في لغاتهم استغربناها ، وإنما هي كلام القوم وبيانهم» (١) وهو يشير في تعريفه الثاني إلى موضوع نسبية الغرابة. ولا أظنه يربط بين الغريب والشواذ. وأن الكلمة الغريبة هي الشاذة. وإنما يقصد بكلمة (شواذ) الواردة في تعريفه معنى البعد والتفرق ، وهذا معناها اللغوي. وجاء في لسان العرب : «وشذاذ الناس متفرقوهم» (٢) والذي يدل على ذلك أيضا أنه وصف القبائل بالشذوذ وليس ألفاظها. ولعل الدكتور تمام حسان قد فهم من هذه الكلمة معناها الاصطلاحي وعلى ذلك كان تعريفه آنف الذكر.

وذهب إلى ذلك أيضا الزمخشري (ت ٥٢٨ ه‍) فقد جعل من أغراض المصنفين في الغريب «كشف ما غرب من ألفاظه واستبهم» (٣).

وذهب إلى ذلك عدد آخر من اللغويين أمثال ابن الصلاح (ت ٦٤٣ ه‍) (٤). والشريف الجرجاني (ت ٨١٦ ه‍) (٥). والقلقشندي (ت ٨٢١ ه‍) (٦). وابن الهائم (٧). والتهانوي (٨). والشيخ فكري يمين (٩) وغيرهم (١٠).

وعلى الرغم من أن اللغويين العرب قد فطنوا إلى أن الغرابة في اللفظة تعني الغموض والاستبهام نتيجة لقلة استعمالها في اللغة ، فإن تعريفاتهم لم تشر إلى نقطة مهمة ، وهي أن لغرابة نسبية ، عدا ما ذكرناه في التعريف الثاني للخطابي. أي أن اللفظة الغريبة ربما لا تكون كذلك عند قوم آخرين. كما أن هذه التعريفات لم تذكر أن الغرابة في اللفظ وصف عرضي على الكلمة ، وليس من ذاتياتها. أي أنها تكون غريبة في زمن ، وقد تتحول إلى مشهورة أو مبتذلة في زمن آخر. لذا كان من الضروري أن تلاحظ هاتان النقطتان في التعريف من أجل أن يكون جامعا مانعا كما يقول المناطقة. وعلى ما تقدم أجد أن التعريف المناسب للألفاظ الغريبة أنها الكلمات الغامضة لقلة استعمالها عند قوم معينين في فترة زمنية محددة.

__________________

(١) غريب الحديث ١٥.

(٢) لسان العرب لابن منظور (شذ) ٥ / ٢٨.

(٣) الفائق في غريب الحديث ١ / ٢.

(٤) انظر مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصلاح ٣٩٧.

(٥) انظر التعريفات ٨٦.

(٦) انظر صبح الأعشى ٢ / ٢١٣.

(٧) انظر التبيان في تفسير غريب القرآن ٧٦.

(٨) انظر كشاف اصطلاحات الفنون ٢ / ١٠٨٦.

(٩) انظر غريب القرآن ٦٩٤.

(١٠) انظر علم الفصاحة العربية للدكتور محمد علي الخفاجي ٨٩.

١٠

ويجب أن أنبّه هنا إلى أن معنى الكلمة الغريبة يبقى ثابتا ـ في الغالب ـ من دون تغيير ، وأنّ التفاوت يحدث في فهم الناس له في مرحلة زمنية واحدة أو متعاقبة. وقد وهم الدكتور الخفاجي عند ما تصور أن الكلمة الغريبة «يختلف مدلولها من جيل إلى جيل ، ومن بيئة إلى أخرى» (١).

علاقة الغريب بمصطلحي الحوشي والنوادر :

يتكرر كثيرا في الكتب اللغوية ورود مصطلح الغريب وبجانبه مصطلح الحوشي أو الوحشي. وكذلك نرى مصطلحي الغريب والنوادر وغالبا ما يعطف أحدهما على الآخر.

وبالنظر إلى عدم وضوح معاني هذه المصطلحات لدى كثير من القرّاء لذا يستحسن هنا بيان ماهيتها ومدى قربها من الغريب أو بعدها عنه.

وقد توصلت عند دراستي لهذه المصطلحات إلى أن الحوشي أو الوحشي يرادف تماما مصطلح الغريب لدى الغالبية العظمى من اللغويين (٢). على حين أن هناك اختلافا بين الغريب والنوادر. لأن النوادر هي الكلمات التي يقل وجود مثيلها في اللغة لتركيب خاص في بنيتها. سواء أكانت تخالف القياس ـ وهو الأكثر ـ أم جاءت على وفقه. وسواء أقلّ استعمالها عند المتكلمين ـ وهو الغالب ـ أم كثر. وسواء أكانت تحمل دلالة غامضة أم واضحة.

وبعد مقارنة هذا بما توصلت إليه من تعريف للغريب يتضح أن بين المصطلحين عموم وخصوص من وجه فقد يتفقان في بعض المفردات يختلفان في بعضها الآخر (٣).

أسبقية التأليف في الغريب :

لو فطنّا إلى بواكير الجهود المبذولة في العربية لوجدناها تتركز على القرآن الكريم. فقد شعر خاصة القوم أن المسلمين بحاجة ماسة إلى دراسات تساعد على بيان دلالات ألفاظ القرآن الكريم وفهم معانيه ، أو منع اللسان من الخطأ في تلاوة آياته ، أو تذوق معانيه البليغة بالدرجة المطلوبة (٤).

ومن الطبيعي أن أول ما تتوجه إليه الجهود الدراسات المتعلقة بالدلالات ، وبخاصة الغريبة منها ، لأن فهم الآية الكريمة متوقف عليها ، فالحاجة إليها أمسّ.

وكان النبى صلوات الله عليه يفسر المعاني الغريبة في القرآن الكريم. وحفظ عنه صحابته الكرام وساروا على نهجه. وكان من أبرزهم في ذلك ـ كما نقلت لنا المصادر ـ الإمام

__________________

(١) علم الفصاحة العربية ٨٩ وانظر أيضا ٢٣٠.

(٢) انظر بحثي ظاهرة الغريب في اللغة العربية حتى نهاية القرن الثالث الهجري ١٦ ـ ١٩.

(٣) انظر المصدر السابق ١٩ ـ ٢٥.

(٤) انظر هذا الموضوع بشكل مفصل في فصول في فقه العربية للدكتور رمضان عبد التواب ١٠٨.

١١

علي عليه‌السلام. وكانت طريقتهم في شرح المعاني الغريبة لا تعدو في الغالب عن نقل الروايات التي سمعوها من النبي عليه أفضل الصلاة والسلام. عدا بعض التفسيرات القليلة جدا.

وقد اتخذت جهود الرادة الأوائل في تفسير الكلمات الغريبة منحى آخر على يد الصحابي الجليل ابن عباس بعد أن أكثر من تفسير المعاني الغريبة بما ورد من معنى لها في الشعر العربي من جهة. وكثرة ما ورد عنه من تفسيرات للمعاني الغريبة في القرآن المجيد من جهة أخرى. ولعل ذلك كان وراء ما نقلته بعض المصادر من أنه أسبق من ألّف كتابا كاملا في غريب القرآن.

وقبل أن نحدد موقفنا من هذا الرأي ينبغي استعراض ما نقلته المصادر عن جهوده. فقد ذكر بعضها أدلة أكثر من كتاب كما يأتي :

١ ـ غريب القرآن الذي يوجد في مكتبة برلين برقم ٦٨٣ فقد توصل بروكلمان إلى أنه ليس كذلك ، وإنما هو مختصر من كتاب الاتقان للسيوطي (١).

٢ ـ كتاب غريب القرآن الذي أضاف إليه وشرح بعض مفرداته عطاء بن أبي رباح (٢). وتوجد منه نسخة في مكتبة عاطف أفندي في استنبول بتركيا برقم ٢٨١٥ / ٨ والكتاب صغير الحجم لا يتجاوز ست ورقات ، وهو موجود ضمن كرّاس فيه عدة مخطوطات يبدأ الكتاب بصفحة ١٠٢ أو ينتهي في صفحة ١٠٧ أو يبدو أنه مستنسخ في القرن الثامن الهجري (٣).

وصغر هذا الكتاب يبعث الشك في كونه ضم كل الغريب الذي وجده ابن عباس في القرآن الكريم وبخاصة إذا ما عرفنا أن لابن عباس شروحا للمفردات الغريبة في القرآن تزيد عن ذلك بكثير.

٣ ـ كتاب سؤالات نافع بن الأزرق لابن عباس. وقد جمع فيه ما نقل عن ابن عباس من أجوبة لأسئلة نافع بن الأزرق في بعض الكلمات الغريبة في القرآن الكريم ، مع ذكر

__________________

(١) انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ٤ / ٨ ـ ٩ وبناء على هذا الكتاب ذهب الدكتور محمد حسين آل ياسين إلى أن ابن عباس أول من ألف في غريب القرآن. أنظر ما وضع في اللغة عند العرب إلى نهاية القرن الثالث الهجري ٢٥٤.

(٢) هو أبو محمد عطاء بن ابي رباح ولد باليمن سنة ٢٧ هجرية وروي عن كثير من الصحابة وكان عالما بالتفسير والفقه والحديث توفي سنة ١١٥ ه‍ وقيل ١١٤ ه‍ ، انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ / ٣٤٤ ـ ٣٤٦ وطبقات الفقهاء للشيرازي ٤٤ ووفيات الأعيان لابن خلكان ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣ والتهذيب لابن حجر ٧ / ١٩٩ ـ ٢٠٣ وغيرها.

(٣) انظر تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين ١ / ١٨٩.

١٢

شاهد عليها من أشعار العرب (١). والكتاب يحوي ٢٧٧ سؤالا من نافع وزميله وإجابة ابن عباس عنها. وكثرة هذا العدد من الأسئلة والإجابة عنها بالطريقة المذكوره في مقدمة الكتاب تثير بعض الشك في صحة نسبة كل ما ورد فيه لابن عباس.

لأنه على يقيننا بثقافة ابن عباس اللغوية وسعة اطلاعه وحفظه للشعر العربي ، فإن هذا العدد من الأسئلة يجلب الشك في صحة ورودها كلها من نافع وزميله. كما أن الكيفية التي ألقيت فيها الأسئلة تلقي ظلالا من الشك أيضا. فقد ورد في مقدمة الكتاب «بينما عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد أسدل رجله في حوض زمزم ، إذ الناس قد اكتنفوه من كل ناحية يسألونه عن تفسير القرآن وعن الحلال والحرام. وإذا هو لا يتعايى بشيء يسألونه عنه ، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عريم. قم بنا إلى هذا الذي يجترىء على تفسير القرآن والفتيا بما لا علم له به فقاما إليه» (٢).

ألا تجد معي أن هذه الكيفية في إلقاء الأسئلة الكثيرة كان من المفروض أن تغري الآخرين ممن اكتنفوا ابن عباس وأن يدلوا بدلوهم ويسألونه عمّا بدا لهم من غريب. أم أن هذا الوقت قد احتكره ابن الأزرق وزميله؟!.

٤ ـ كتاب جمع فيه الفيروزآبادي ما عثر عليه من تفسيرات لمفردات القرآن وأسماه تنوير المقياس في تفسير ابن عباس (٣). وبذلك يكون الفيروزآبادي هو صاحب الكتاب وليس ابن عباس. وما يدرينا لو عرض هذا الكتاب عليه لحذف منه الكثير لأن ما يعده الفيروزآبادي غريبا ليس بالضرورة يوافقه في ذلك ابن عباس ، لما قلناه في الفصل الأول من أن الغرابة شيء نسبي. والذي يعنينا ما يجعله ابن عباس غريبا لا ما يجعله الفيروزآبادي مما جاء في تفسير ابن عباس لبعض الآيات غريبا.

وبناء على ما تقدم لا أستطيع أن أجعل ابن عباس رحمه‌الله في أول قائمة من صنف في غريب القرآن كتابا مستقلا كاملا. على الرغم من يقيني التام بأن له تفسيرات كثيرة للألفاظ الغريبة في القرآن الكريم وقد اعتمد عليها من جاء بعده.

__________________

(١) انظر ذلك مفصلا في كتاب سؤالات نافع بن الأزرق ٨ وما بعدها.

(٢) سؤالات نافع بن الأزرق ٨.

(٣) طبع الكتاب عدة طبعات انظر ذلك في تاريخ التراث العربي ١ / ١٨٢.

١٣

وقد نقلت مصادر أخرى أن أبان بن تغلب (١) (ت ١٤١ ه‍) هو أول من ألّف في غريب القرآن (٢).

وهذا الرأي كان سائدا بين العلماء والباحثين في علوم القرآن حتى عثرت على كتاب زيد بن علي (تفسير غريب القرآن) ومن ذلك الوقت أصبحت هذه المقولة مجانبة للحقيقة لأن زيد بن علي (ت ١٢٠ ه‍) متقدم على أبان بن تغلب (ت ١٤١ ه‍) فقد توفي قبله بأكثر من عشرين سنة.

وبناء على ما تقدم يكون زيد بن علي على رأس قائمة المؤلفين في الغريب بعامة وغريب القرآن بخاصة. وهو أول من نعلم ألف كتابا كاملا في الغريب.

* * *

__________________

(١) هو أبان بن رباح الجريري روى عن أئمة آل البيت علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر الصادق عليهم‌السلام وسمع عنه شعبة وابن عيينة وغيرهما. وكان قارئا فقيها لغويا إماميا ثقة له عدة مؤلفات منها كتاب غريب القرآن ، وكتاب الفضائل ، ومعاني القرآن ، والقراءات وغيرها توفي سنة (١٤١ ه‍) ولما أتى نعيه للإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : أو الله لقد أوجع قلبي موت أبان. انظر ترجمته في الفهرست لابن النديم ٢٢٠ ومعجم الأدباء ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨ وبغية الوعاة للسيوطي ١ / ٤٠٤ وأعيان الشيعة ٥ / ٤٣ ـ ٥٣.

(٢) انظر كشف الظنون ٢ / ١٢٠٧ وأعيان الشيعة ٥ / ٤٣ وفصول في فقه العربية ١١٠ والمعجم العربي ١ / ٣٩.

١٤

زيد بن علي (ع)

ولادته ونشأته :

هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

وقد اختلفت المصادر في سنة ولادته بين خمس وسبعين (١) أو ثمان وسبعين (٢) ، وتوصل السيد المقرم إلى أنه ولد سنة ست وستين أو سبع وستين للهجرة المباركة (٣).

كما اختلفت هذه المصادر في بيان الدافع وراء تسميته بزيد فقد ذكر قسم منها أن والده سمّاه بذلك بعد أن رأى في أثناء النوم أن النبي (ص) قد أدخله إلى الجنة ، وزوّجه بحورية ، وأولدت له ولدا ، وسمع هاتفا يبشّره به ويناديه ليهنك زيد (٤). على حين ذكرت مصادر أخرى أن علي بن الحسين عليه‌السلام عند ولادة ابنه زيد أخذ القرآن وفتحه ونظر إلى أول كلمة في أول ورقة فكانت هذه الآية الكريمة : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٥). ثم فتحه مرة أخرى فخرجت له هذه الآية : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (٦). فقال هو والله زيد (٧) ؛ لأنه قد سمع روايات كثيرة منقولة عن النبي (ص) أن المصلوب من ذريته اسمه زيد (٨).

__________________

(١) انظر الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية ١ / ٣٠٢ ، وأعيان الشيعة ٣٣ / ٣٧.

(٢) انظر تهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ١٥.

(٣) بنى رأيه هذا على رواية اهداء المختار الجارية التي اشتراها لعلي بن الحسين انظر زيد الشهيد ص ٥.

(٤) انظر أمالي الصدوق ٢٩٩ وتفسير فرات الكوفي ٧١ والحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية ١ / ٣٠٢.

(٥) سورة النساء ٤ / ٩٥.

(٦) سورة التوبة ٩ / ١١١.

(٧) انظر أمالي الصدوق ٢٩٩ والحدائق الوردية ١ / ٣٠٢.

(٨) انظر أمالي الصدوق ٢٩٨ وفوات الوفيات ٢ / ٣٦ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ١٥.

١٥

وقد أجمعت المصادر على أن والدته أمة. وقال ابن حبيب إنها من السّند (١). ونقلت مصادر كثيرة أن المختار بن عبيد الثقفي قد أهداها إلى والده فأنجبت له في العام القابل زيدا (٢). لكني لا أرجح صواب هذه الرواية لأن المختار كما هو معروف قد قتل سنة ٦٧ ه‍ (٣) ومعنى هذا أن عمر زيد كان قد جاوز الخمسين سنة عند استشهاده وهذا ما يتعارض مع كل الروايات التي ذكرت تاريخ ولادته ووفاته ومقدار عمره ، وكذا مع مسيرة حياته والأحداث التي وقعت فيها كما سيأتي إن شاء الله.

وكانت ولادته بالمدينة المنورة ونشأ بين ربوعها ، وفي آل بيت النبي (ص) ، وفي كنف والده الإمام زين العابدين عليه‌السلام. ثم بعد ذلك برعاية أخيه الأكبر الإمام محمد الباقر عليه‌السلام. ومن الطبيعي أن يؤثر المحيط الذي نشأ فيه في بناء شخصيته كثيرا ، مما جعله يتربى تربية صالحة ، ويتصف بمؤهلات متميزة نادرة المثال.

والروايات القليلة التي وصلت إلينا عن طفولته تشير إلى فرح والده كثيرا بولادته واهتمامه الشديد بتربيته. فقد نقل زيد طرفا من هذه الرعاية بقوله : «كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد اللقمة الحارة شفقة عليّ» (٤).

ولعل ما يجعل أهله أكثر اهتماما به ما ورد في حقه من روايات عن النبي (ص) بأنه مصلوب آل بيته. وأن له شأنا عظيما في يوم القيامة ، ويدخل الجنة (٥).

وقد انعكست هذه الرعاية وحسن التربية الدينية والعلمية على مسيرة حياته. وكذا أثرت الظروف المحيطة به في المدينة وباقي بلدان الدولة الإسلامية آنذاك فيها زهدا ، وورعا ، وعلما ، وثقافة ، واطلاعا ، وتضلعا بالكثير من علوم الإسلام ، وصلابة في الحق ، وجهادا في سبيله. وسوف تظهر هذه الصفات جليّة عند الحديث عن جوانب حياته المختلفة.

وقد وصفت لنا المصادر زيدا بأنه : «أبيض اللون ، أعين ، مقرون الحاجبين ، تام الخلق ، طويل المقامة ، كث اللحية ، عريض الصدر ، أقنى الأنف ، أسود الرأس واللحية ، إلّا أن الشيب خالطه في عارضه» (٦).

__________________

(١) انظر المنمق ٥١٠.

(٢) انظر أمالي الصدوق ٢٩٩ وتفسير فرات الكوفي ٧١ والحدائق الوردية ١ / ٣٠٢ وأعيان الشيعة ٣٣ / ٣٧.

(٣) انظر تاريخ الطبري ٦ / ١٠٧ والبداية والنهاية ٨ / ٢٨٣.

(٤) أعيان الشيعة ٣٣ / ٦٢.

(٥) انظر أمالي الصدوق ٣٦ و ٢٩٨ وفوات الوفيات ٢ / ٣٦ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ١٥ والحدائق الوردية ١ / ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

(٦) الحدائق الوردية ١ / ٣٠٣.

١٦

وكان على خلق عال. ويحسن استماع الحديث فكان «إذا كلّمه الرجل أو ناظره لم يعجل في كلامه حتى يأتي على آخره. ثم يرجع إليه فيجيبه عن كل كلمة كلمة حتى يستوفي الحجة» (١).

وتزوّج في بدايات شبابه من ريطة (٢) ابنة أبي هاشم بن محمد بن علي بن أبي طالب ثم تزوج بامرأتين في أثناء وجوده بالكوفة (٣). وله من الأولاد أربعة هم يحيى (٤) وعيسى (٥) والحسين (٦) الملقب بذي الدمعة ومحمد (٧).

ثورته :

يبدو أن جذور التفكير في الثورة عند زيد قديمة. ولعل البذرة الأولى في ذلك وجدت لديه بعد سماعه الروايات الكثيرة عن النبي (ص) منها عند ما «نظر إلى زيد بن حارثة وبكى وقال : إن المظلوم من أهل بيتي سمى هذا ، والمقتول في الله والمصلوب من أمتي سمى هذا» (٨).

وقد سمع هذه الروايات من والده ، وعمه محمد بن الحنفية ، وأخيه محمد الباقر وابن أخيه جعفر الصادق (٩) عليه‌السلام.

__________________

(١) الحدائق الوردية ١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢) انظر مقاتل الطالبين ١٥٢ وطبقات ابن سعد ٥ / ٢٣٩.

(٣) انظر قصة زواجه في تاريخ الطبري ٧ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٤) كان مع والده في ثورته وبعد أن استشهد والده خرج متخفيا إلى خراسان ثم جوزجان وأعلن ثورته هناك واستشهد وصلب وأرسل برأسه إلى الشام في خلافة يزيد بن عبد الملك سنة مائة وستة وعشرين وقيل خمسة وعشرين وكان شاعرا. انظر ترجمته في طبقات ابن سعد ٥ / ٢٣٩ وتاريخ الطبري ٨ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ومقاتل الطالبيين ١٥٢ ـ ١٥٨ وتاريخ الاسلام ٥ / ١٨١ ـ ١٨٢ والحدائق الوردية ١ / ٣٣٧ ـ ٣٤٣.

(٥) يكنى بأبى يحيى وكان قائدا على ميمنة جيش ابراهيم بن عبد الله ومحمد بن عبد الله وعند فشل الثورتين اختفى عن الأنظار وكان عالما راوية للحديث ولم تذكر المصادر شيئا عن تاريخ وفاته وذلك لأنه كان مستخفيا انظر ترجمته في مقاتل الطالبيين ٤٠٥ ـ ٤٢٠.

(٦) كان يلقب بذي الدمعة وسئل عن ذلك فقال وهل أبقى لي السهمان مضحكا أي السهمان اللذان أصابا والده زيد وأخاه يحيى وكان شجاعا اشترك في ثورتي محمد بن عبد الله وأخيه ابراهيم ، رباه عمه الامام جعفر بن محمد بعد استشهاد زيد وأخذ عنه الكثير لم تذكر المصادر تاريخ وفاته لأنه كان مختفيا لاشتراكه بالثورتين وكف بصره بعد ذلك انظر ترجمته في مقاتل الطالبيين ٣٧٨ ـ ٣٨٩ وطبقات ابن سعد ٥ / ٣٢١ والوافي بالوفيات ١٢ / ٣٦٧.

(٧) تعهده الامام جعفر الصادق بعد استشهاد ابيه ونشأ في بيته وأخذ عنه لم يشترك في أية ثورة مثل اخوته وكان مقيما في المدينة إلى أن توفي ولم تذكر المصادر سنة وفاته. انظر ترجمته في مقاتل الطالبيين ٥١٣.

(٨) فوات الوفيات ٢ / ٣٦ وانظر تهذيب تاريخ ابن عساكر ٦ / ١٨ والحدائق الوردية ١ / ٣٠٥.

(٩) انظرها في أمالي الصدوق ٣٦ و ٢٩٨ ورسائل العدل والتوحيد ٨٠ وعيون أخبار الرضا ١٩٥ والمواعظ والاعتبار ٢ / ٤٤٠ والحدائق الوردية ١ / ٣٠٦.

١٧

وأخذ هذا الموضوع يلح عليه في صحوته ويراوده في منامه فقد نقل عن زيد قوله رأيت في المنام «جماعة عليهم لباس لم أر أحسن منه فجلسوا حولي وأنا ساجد فقال رئيسهم هل هو هذا فقالوا نعم. فقال : أبشر يا زيد فإنك مقتول في الله ومصلوب محروق بالنار ولا تمسك النار بعدها أبدا فانتبهت وأنا فزع» (١).

ثم ما لبث أن أتته في ضمن ما أتت رسائل أهل العراق تدعوه إلى الثورة وتنبئه بأن له أعوانا يقفون خلفه. فأخذها زيد وذهب بها إلى أخيه الإمام محمد الباقر ليستشيره فيها «فقال له أبو جعفر هذه الكتب ابتداء منهم أو جواب ما كتبت به إليهم ودعوتهم إليه فقال : بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقنا وبقرابتنا من رسول الله (ص) ... ولما نحن فيه من الضيق والضنك والبلاء» (٢) فترك أخوه له الخيار وإن رجح له عدم الخروج لكون الظروف غير ملائمة. وإذا ما علمنا أن وفاة أخيه سنة (١١٤ ه‍) نقدر أن هذه الحادثة وقعت قبل ما يزيد عن ست سنوات من إعلان ثورته.

وقد دفعه إلى التفكير في الثورة أيضا ما غرس في نفسه من حب للاصلاح في أمة محمد (ص) ولو كان ثمن ذلك حياته ؛ فقد نقل عنه أنه قال لبعض رفاقه إني وددت لو أرفع إلى الثريا «وأقع إلى الأرض أو حيث أقع فاتقطع قطعة قطعة» (٣) في مقابل إصلاح حال المسلمين.

وقال في ذلك أيضا «لوددت أني أحرق بالنار ثم أحرق بالنار وأن الله أصلح لهذه الأمة أمرها» (٤).

ثم شرع بالتمهيد لثورته عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس إلى التصدي للظلم ومحاربة الجور ، وفضح الأعمال التي يقوم بها الولاة أو الخليفة المخالفة لما جاء به الإسلام الحنيف. وباشر دعوة من يثق بهم إلى الثورة فدخل المسجد النبوي الشريف مرة ورأى جماعة منهم سعد بن إبراهيم فقال لهم زيد : «يا قوم أأنتم أضعف من أهل الحرة؟ قالوا لا. قال : وأنا أشهد أن يزيد ليس شرا من هشام فما لكم؟ فقال سعد لأصحابه : مدة هذا قصيرة فلم يلبث أن خرج» (٥).

وكان يقول للناس إنه لا يمكن له أن يتغاضى أكثر من ذلك عما يشاهده من ظلم يقترف وأعمال بعيدة عن الإسلام يجاهر بها فقال : «لا يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله وتحوكم إلى الجبت والطاغوت» (٦).

__________________

(١) أعيان الشيعة ٣٣ / ٦٧.

(٢) أعيان الشيعة ٣٣ / ٦٧.

(٣) مقاتل الطالبين ١٢٩.

(٤) تفسير فرات الكوفي ١٦٧.

(٥) فوات الوفيات للكتبي ٢ / ٣٧.

(٦) أعيان الشيعة ١٣ / ٨٩.

١٨

وقد وصلت أخبار زيد ودعوته للناس لإنكار الظلم والخروج على الخليفة إلى هشام بن عبد الملك. فقرر أن يستدعيه إلى دمشق ويمارس ضده كل الوسائل من إهانة وتهديد ، أو وعود وترغيب علّ واحدة منهما تثني الرجل عن عزمه ، وتثبطه عما قرر القيام به.

وكان لا بد لهشام من أن يعلن سببا أمام الرأي العام لاستدعاء زيد من المدينة المنورة إلى الشام فادّعى أن خالدا القسري الوالي السابق على العراق قد أودع عند زيد وجماعة مالا. ولعل هذا الأمر قد تمّ بالاتفاق مع واليه الجديد على العراق يوسف بن عمر (١).

ولو افترضنا أن خالدا القسري قد ادعى فعلا أن له مالا عند زيد أو أنه أودع عنده. وأن هذا السبب هو الوحيد الذي دعا هشاما لاستدعاء زيد ؛ فكان عليه أن يأمر جنده بأن يرسل من المدينة إلى العراق مباشرة ـ وبخاصة إذا ما عرفنا أن الطريق أيسر وأقصر ـ دون الحاجة إلى المرور بدمشق. لكن هشاما أمر جنده بإحضاره إلى الشام أولا فلا بد أن يكون هناك سبب آخر لم يعلنه دفعه لإحضاره إليه (٢).

فاستقدم زيد إلى الشام وعند وصوله إليها أمر هشام حجّابه بأن لا يدخوله عليه. وأخذ يرجئه يوما بعد آخر. كل ذلك من أجل إهانته وإبقائه بعيدا عن أنصاره. وهذا سبب آخر يجعلنا نرجح كون دعوى وجود الأموال عنده صورية. وإلّا لقابله فور وصوله ، وأكرمه ، وأحسن وفادته. وبخاصة أن هشاما يعرف منزلة زيد ومكانته بين قومه وقريش.

ولم تذكر لنا المصادر مدة بقائه في الشام بالضبط لكن صاحب كتاب الحدائق الوردية نقل رواية تقول بأن زيدا انتهز فرصة وجوده في الشام لإلقاء محاضرات في تفسير سورة الفاتحة وسورة البقرة دامت خمسة أشهر (٣).

وأخيرا وافق هشام على إدخال زيد عليه وإمعانا منه في إهانته ، أمر أن يكون مجلسه ذلك اليوم حاشدا بالشاميين ومن وفد إليها من غيرها من الأمصار من أجل أن لا يجد زيد مكانا يناسبه يجلس فيه ؛ فاضطر زيد إلى الجلوس حيث انتهى به المجلس (٤).

ولعل هشاما كان يقصد بذلك إضافة إلى المهانة إرهاب زيد بأن يريه ما لديه من قوة

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٧ / ١٦٠ وما بعدها والكامل لابن الأثير ٥ / ٢٢٩ وما بعدها وقد فطن ابن الطقطقي في أن دعوى هشام كانت تهمة وليس بواقع أنظر الفخري ١١٨.

(٢) ذكرت المصادر روايات أخرى لقدوم زيد منها خلافه مع أولاد عمه على وصية ومنها ذهب ليطلب أموالا من هشام وهذه الأقوال مخالفة لمن يعلم طبيعة زيد وسلوكياته ثم لماذا أرسل إلى العراق إذا كان مجيئه لعمل خاص به مع الخليفة أنظر هذه الأقوال في تاريخ الطبري ٧ / ١٦١ وما بعدها والكامل لابن الأثير ٥ / ٢٢٩ وما بعدها والحدائق الوردية ١ / ٣١٦ وما بعدها.

(٣) انظر الحدائق الوردية ١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٤) انظر مروج الذهب للمسعودي ٢ / ١٤٣.

١٩

وسلطان من جهة. وأن يشاهد كل هذا الحشد من الناس زيدا وهو يهان ؛ فيقل احترامه في نفوسهم من جهة أخرى.

وسأل هشام زيدا عن الأموال التي ادعى أن خالدا القسري قد أودعها عنده فأنكر زيد وقال له : «أحلف لك. فقال : وإذا حلفت أصدقك؟ قال زيد : اتّق الله. قال أو مثلك يا زيد يأمر مثلي بتقوى الله؟ قال زيد : لا أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ، ولا دون أن يوصي بتقوى الله. قال هشام : بلغني أنّك تريد الخلافة ، ولا تصلح لها ، لأنك ابن أمة. قال زيد : فقد كان إسماعيل بن إبراهيم (ص) ابن أمة ، وإسحاق عليه‌السلام ابن حرة ، فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم محمدا (ص). فعندها قال له : قم. قال : إذن لا تراني إلّا حيث تكره! ولما خرج من الدار قال : ما أحب أحد الحياة قط إلّا ذلّ. فقال له سالم مولى هشام : لا يسمعن هذا الكلام منك أحد» (١).

وأمر هشام أن يرسل زيد إلى العراق لكي يقابل خالدا القسري في دعوى وجود الأموال عنده. فلما وصل زيد إلى الكوفة أمر يوسف بن عمر بإحضار خالد وجيء به «وعليه حديد ثقيل فقال له يوسف هذا زيد بن علي ، فاذكر ما لك عنده! فقال والله الذي لا إله إلّا هو ما لي عنده قليل ولا كثير ، ولا أردتم بإحضاره إلا ظلمه» (٢) أو قال على رواية أخرى : «أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثما في هذا! وكيف أودعه مالا ؛ وأنا اشتمه واشتم آباءه على المنبر» (٣).

وكان هشام بن عبد الملك قد كتب إلى واليه على الكوفة أن لا يبقى زيد فيها ويستعجله بالعودة إلى المدينة لعلمه بحب أهل الكوفة لآل البيت ومشايعتهم. ومعرفته بمقدرة زيد العلمية ، وقدرته على الاقناع والتأثير في الآخرين لكونه «حلو اللسان شديد البيان خليقا بتمويه الكلام ، وأهل العراق أسرع شيء إلى مثله» (٤). أو قال ـ في رواية أخرى ـ لواليه : «إن أشخص زيدا إلى بلده ، فإنه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلّا أجابوه» (٥).

وبدأ يوسف بن عمر يحثّ زيدا على العودة إلى المدينة المنوّرة. وتعلل زيد بوجود أشغال عنده في الكوفة فأخذ يلح عليه وأرسل معه الجند ليراقبوه حتى لا يعود خفية إلى الكوفة. ولما

__________________

(١) البيان والتبيين ١ / ٣١٠ وانظر هذه القصة في تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٢٥ وتاريخ الطبري ٧ / ١٦٥ ومروج الذهب ٢ / ١٤٣ والارشاد ٢٦٨ وزهر الآداب ١ / ١١٨ والكامل لابن الأثير ٥ / ٢٣٢ والحدائق الوردية ١ / ٣١٧ وما بعدها وعمدة الطالب ٣ / ٢٥٥ ونهاية الأرب ٢٥ / ٣٩٦ والمواعظ والاعتبار ٢ / ٤٣٧ وعيون الأخبار ١ / ٢١٢ وما بعدها وأعلام الورى للطبرسي ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٢٥ وانظر تاريخ الطبري ٧ / ١٦٢.

(٣) تاريخ الطبري ٧ / ١٦٦ ـ ١٦٧ والكامل لابن الأثير ٥ / ٢٣٠ والبداية والنهاية ٩ / ٣٢٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٢٥.

(٥) تاريخ الطبري ٧ / ١٦٨.

٢٠