تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

عليه‌السلام : ليس لك أن تقعد مع من شئت ، لأنّ الله تبارك وتعالى يقول : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) الآية ، وليس لك أن تتكلّم بما شئت ، لأنّ الله عزوجل قال : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) ، ولأنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو صمت فسلم ، وليس لك أن تسمع ما شئت لأن الله عزوجل يقول : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٢) (٣).

أقول : فيه كما ترى استفادة حكم المعاشرة والمجالسة مع من دأبه الخوض ، وإن لم يخض بالفعل.

وفي تفسير العيّاشي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «الكلام في الله والجدال في القرآن : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ، قال : ومنه القصّاص» (٤).

أقول : وهو من الجري والتعميم.

وقوله سبحانه : (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

من وضع الظاهر موضع المضمر للإشارة إلى أنّ الإنسان ما لم يكن ظالما لم يخض في آيات الله تعالى.

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٢). الإسراء (١٧) : ٣٦.

(٣). لم نعثر عليه في المصدر ؛ ولكن رواه الصدوق في علل الشرائع ٢ : ٦٠٥ ـ ٦٠٦ ، الحديث : ٨٠ ؛ بحار الأنوار ٢ : ١١٦.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٣٦٢ ، الحديث : ٣١ ، تفسير الصافي ٣ : ٤٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٦٩.

٨١

قوله : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)

في المجمع : قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «لما أنزل (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، قال المسلمون : كيف نصنع إن كان كلّما استهزء المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم ، فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ، فأنزل الله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، أمرهم بتذكيرهم [وتبصيرهم] ما استطاعوا» (١).

أقول : ظاهر الخبر أنّ قوله : (وَلكِنْ ذِكْرى) عطف على قوله : (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، فيكون أمرا بتذكيرهم إياهم لعلّهم أي المشركين يتّقون الخوض في الآيات.

قوله سبحانه : (أَنْ تُبْسَلَ)

الإبسال الإسلام للهلاك والعدل الفداء ، لأنّه يعادل المفدّى.

قوله سبحانه : (لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى)

هذا تصوير للحيرة ، فهو بين داعيين اشتبه عليه أمرهما ، داع يستهويه ويستغويه ، وداع يستهديه.

قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى)

قد مرّ بعض الكلام في معنى الهداية وسيجيء.

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٨٠.

٨٢

قوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ)

لمّا كان الأمر في معنى القول عطف : (وَأَنْ أَقِيمُوا) على قوله : (لِنُسْلِمَ) ، والمعنى : وقيل لنا : أن أقيموا الصلاة واتّقوه ، وكأنه حذف عن الذكر لمكان قوله سبحانه : (قَوْلُهُ الْحَقُ) ، فإنّ القول لا يطلق على الأوامر التشريعيّة كما في موارده كقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) (١).

وقوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) (٢) ، وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٣).

قوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ)

الحق هو الثابت غير الزائل عن محلّه ، والقول إنّما يوصف بالحق عندنا إذا كان إخبارا عند كون المخبر به مطابقا له لا يزول عن هذا الوصف ، ويوصف بالحق إذا كان إنشاء ، كالأمر والنهي إذا كان غير ممكن المخالفة ، أي لا يختلّف عن المطلوب ولا يفارقه ، وإذا أخذ هذا القول على حقيقته لزم أن يكون الأمر في نفسه واجدا للمأمور به ، أي هو هو ، وهو ظاهر ، وفي النهج : «قوله فعله» (٤).

أقول : وقد تبيّن بما بيّنا معناه.

فقوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ) في مقام التعليل لقوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقوله : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) في مقام التعليل لقوله : (قَوْلُهُ الْحَقُ) ، فإنّه إذا كان له الملك وحده فله التصّرف كيفما

__________________

(١). ق (٥٠) : ٢٩.

(٢). القصص (٢٨) : ٦٣ ؛ فصلت (٤١) : ٢٥ ؛ الأحقاف (٤٦) : ١٨.

(٣). الأعراف (٧) : ١٦٦.

(٤). نهج البلاغة : ٣٩١ ، من وصيته له ، للحسن بن علي ـ عليهما‌السلام ـ.

٨٣

يشاء ، وهو يعلم بظاهر كل شيء وباطنه ، فلا يملك شيء من نفسه ما يخالف أمره ، ولا يحتجب عنه شيء يتخّلف عن أمره ، وقوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) بمنزلة الفذلكة لما سبقه.

*

٨٤

[وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)]

٨٥

قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ)

لما انتهى الكلام إلى الهداية الإلهيّة وهي حق الهداية ، عقّب القول بقصة هدايته إبراهيم وذكر المهديّين من ذريته ، وهم الأئمة من الأنبياء.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات ، حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية» (١).

وفي تفسير البرهان : روى عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ آزر كان أبا إبراهيم في التربية» (٢).

أقول : ومن أجل ذلك ذكر أصحابنا أنّ آزر ما كان والد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بل جدّا لأمّه ، أو عمه عليه‌السلام ، وعليه يحمل قوله سبحانه : (لِأَبِيهِ آزَرَ) ، فإنّ لفظ ألأب أعمّ إطلاقا من الوالد كما في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (٣) ، فقد عدّ إبراهيم أبا ليعقوب وهو جدّه ، وإسماعيل أبا له وهو عمّه ، وليس الإطلاق من باب التغليب لعدم جواز تغليب الواحد على الإثنين ، ونظير الأب والوالد في النسبة : الأم والوالدة.

وعن الزجّاج قال : إنّه ليس بين النسّابين اختلاف أنّ اسم أبي إبراهيم تارخ (٤).

وهو يؤيّد ذلك ، على أنّ كلامه سبحانه يشهد بذلك ، قال تعالى : (قالَ سَلامٌ

__________________

(١). أوائل المقالات : ٤٦ ؛ ايمان أبي طالب : ٥٧ ؛ تصحيح الاعتقاد : ١٣٩.

(٢). البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٨٧.

(٣). البقرة (٢) : ١٣٣.

(٤). القصص للجزائري : ١٠٨ ؛ بحار الأنوار ١٣ : ٤٧.

٨٦

عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (١) ، وهذا في أول ما يكلّم أباه ويشاجره ، ثم قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) .. إلى أن قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .. إلى أن قال : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٢) الآيات ، وهذا في أواخر حاله مع قومه ، ثم قال سبحانه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٣) ثم قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) .. إلى أن قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤).

وهذا من دعاء إبراهيم في أواخر عهده ، وقد دعا لوالديه بالمغفرة مع نفسه والمؤمنين فهما غير أبيه الذي تبرأ منه وهو ظاهر ، وما ألطف قوله : (وَلِوالِدَيَ) ولم يقل : لأبويّ ، فما وقع في بعض الروايات من طرقنا أنّ آزر كان والد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لا ينبغي أن يركن إليه والله أعلم.

قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) سياق الآية أنّها معترضة أو كالمعترضة ، ولذلك لا يبعد أن يكون فيه إيماء إلى

__________________

(١). مريم (١٩) : ٤٧.

(٢). الشعراء (٢٦) : ٦٩ ـ ٨٦.

(٣). التوبة (٩) : ١١٤.

(٤). إبراهيم (١٤) : ٣٥ ـ ٤١.

٨٧

أنّ إراءة الملكوت له عليه‌السلام كان قد شرع من حين قوله لأبيه : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) ، وقوله : (مَلَكُوتَ) مصدر بمعنى الملك ، والتاء للمبالغة فهي بمعنى الملك العظيم وحيث إنه سبحانه وصف لنفسه ملكا وملكوتا وهو الملك العظيم ، فلملكه سبحانه مرتبتان : مرتبة الملك ، ومرتبة عظمته ، وقد فسّر سبحانه ملكوته في قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فتفريع قوله : (فَسُبْحانَ) على ما سبقه ، يدلّ على أنّ ملكوت كل شيء إفاضة وجوده بقوله : (كُنْ).

ومن المعلوم أنّ قول : (كُنْ) كناية عن إيجاده خارجا ، أي وجود الشيء ونفسه ، فلوجود كلّ شيء وجهان : وجه أمري ملكوتي هو كلمته سبحانه ، ووجه خلقي إلى نفسه ، وهو الذي عبّر عنه بقوله : (فَيَكُونُ) ، ولكلّ من الوجهين حكمه الخاصّ بنفسه ، كما مرّ بعض بيانه فيما مرّ ، وسيأتي تمام بيانه في سورة الإسراء ، إن شاء الله.

وحكم الملكوت أنّه قوله وكلامه سبحانه ، والقول حيث إنّه وسيلة التفهيم لا ينفكّ العلم به عن العلم بالقائل على قدر ما يعطيه القول من التعريف ، كما أنّ الملك من حيث إنّه ملك قائم بمالكه ، لا ينفكّ العلم به عن العلم بمالكه فرؤية الملكوت لا ينفكّ عن اليقين بالله تعالى ، وكذا لا ينفكّ عن العلم بحقيقة الشيء ذي الملكوت ، فإنّ الحقّ من وجود كلّ شيء هو مقدار ما قام منه بالله سبحانه ، وهو وجود المحتاج المدبّر وأمّا ما وراء ذلك وهو الذي نتوهّمه من استقلال وجود الأشياء وقدرتها وتدبيرها لأنفسها ، فذلك شيء يزيّنه الوهم ويسوّله الشيطان.

__________________

(١). يس (٣٦) : ٨٢ ـ ٨٣.

٨٨

فظهر بذلك أن مشاهدة الملكوت يعطي أولا : اليقين بالله سبحانه ، وثانيا : العلم بحقائق الأشياء ، وهو أنّها إن أضيفت إلى الله سبحانه فعين الإحتياج والفقر ، وإن أضيفت إلى أنفسها فمحض الهلاك والبطلان ، أموات غير أحياء لا يشعرون أيّان يبعثون.

وقد ظهر بذلك : أولا : أنّ قوله : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إلى آخر الآيات الثلاثة يمكن أن [يكون] من جملة ما شاهده عليه‌السلام من الملكوت.

وثانيا : معنى ترتب قوله : (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) على قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) ، ترتب الغاية على ذي الغاية.

وفي تفسيري العياشي والقمي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «كشط له عن الأرض ومن عليها ، وعن السماء ومن فيها ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه» (١).

وفي البصائر : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : كشط له عن الأرض حتى رآها ومن فيها [وعن السماء حتى رآها ومن فيها] ، والملك الذي يحملها ، والعرش ومن عليه (٢).

أقول : قد مرّ تفسير معناه.

والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وفي عدّة منها أنّ ذلك فعل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأمير المؤمنين والأئمّة من ولده (٣).

وفي خبر احتجاج علي ـ عليه‌السلام ـ مع الجاثليق ، قال ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٠٥ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٦٣ ، الحديث : ٣٣.

(٢). بصائر الدرجات : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، الحديث : ١.

(٣). بصائر الدرجات : ١٢٦ ـ ١٢٨ ، الجزء الثاني ، الباب العشرين ، الحديث : ١ ـ ١١.

٨٩

«وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله عليه‌السلام فقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)» (١) الخبر.

وسيأتي بتمامه في آية العرش من سورة الأعراف.

ثم أقول : وقد أفادت الآية معنى مقام اليقين ، فاليقين بالله سبحانه لا يتمّ من دون إراءة الملكوت ولذلك وقع في بعض الروايات تفسير اليقين في قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٢) بالموت ، فإنّ من أسباب انكشاف الغطاء عن الملكوت الموت ، وقد عرفت أن المشهود حينئذ أمران :

أحدهما : قيام الأشياء بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه تعالى ، وكيفيّة حفظه لها بنفسه وبملائكته ، وما يؤول إليه حال الأشياء في سبيلي السعادة والشقاء ، من كتاب وحساب ، وجنة ونار ، قال تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٣) وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤).

والآخر : بطلان الأشياء وهلاكها في أنفسها ، ولا ينفكّ الأمران وخاصة أولهما عن ثانيهما ، إذ الغفلة عن بطلان الأشياء وفقرها ، وتوهّم استغنائها والإستقلال لها لا يجتمع مع اليقين بالله سبحانه ، والحال أنّ اليقين علم لا يقبل الشك والريب وخطرة الوهم.

__________________

(١). البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٧٣ ؛ الكافي ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠ ـ الحديث : ١ ؛ إرشاد القلوب ٢ : ٣٠٩ ؛ بحار الأنوار ٥٥ : ٩ ، الحديث : ٨.

(٢). الحجر (١٥) : ٩٩.

(٣). التكاثر (١٠٢) : ٥ ـ ٦.

(٤). المطففين (٨٣) : ١٨ ـ ٢١.

٩٠

قوله سبحانه : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً)

وأنت إذا أخذت هذه الآيات الأربع وضممتها إلى قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، ثم تدبّرتها وتأمّلت في أطرافها وجدتها كلام إنسان قوي البيان أشدق اللسان ، غير أنّه لا يحسن الإنباء عن أسماء الكوكب والقمر والشمس كأنّه لم يراهنّ فيما يرى أولّ مرّة ، فيشير إليها لا بأسمائهن حتى أنّه يقول للشمس : هذا ربّي ، ولو علم منها ما يعلمه القوم لقال : هذه ربّي ، أو إنّها ربّي ، على أن السياق أيضا يعطي ذلك حيث قيل : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) ، ثم قيل : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) ، ثم قيل : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً) ، وظهور الجميع في أنّ الرؤية كانت أوّلها.

فالإعتبار بهذا كلّه وما يلازمها يقتضي أنّه ـ عليه‌السلام ـ كان إنسانا نشأ وتربّى في معزل لا يطأه الناس ، ومكان بعيد عن الإجتماعات ، مستور عن الناس ومعتقداتهم وآرائهم ورسومهم ، محجوب عن مشاهدة ما يشاهده كلّ من يعيش حرّا على بسيط الأرض.

فنشأ وليس معه إلّا المعلومات البسيطة غير المشوبة ، والفطريات غير المموّهة ، ولم يلق من الناس إلّا بعض من يقوم بأصول حياته من غذاء وستر وتكليم ، ثم إذا بلغ مبلغ الشبّان خرج والتحق بأبيه وأهله ، ورأى جماعات الناس وتحولاتهم وتقلباتهم ، وكلّ ذلك جديد عنده ينظر إلى كلّ ما يشاهده بنظر الفكر وعين الإعتبار ، فإنّ الأنس بالشيء والإعتياد لا يدع النفس تبحث عن أصله وحقيقته فحاجّ أباه وأنكر على أبيه في أمر الأصنام.

ثم إنّه جنّ عليه الليل وكانت الليلة لا محالة من ليالى النصف الأخير من

٩١

الشهر القمري ، فإنّه رأى القمر بازغا بعد ما رأى كوكبا مشرقا ، ولعلّه كانت الزهرة ثم أفل ، فرأى القمر وهذا لا يتحقق إلّا في النصف الأخير من الشهر ، فخالف الناس في أمر الكوكب والقمر.

ثم إنّه أصبح ورأى الشمس واعتبر أمرها خالف فيه القوم ممن يعبدها ، والدليل على أن الناس كانوا يعبدونها.

قوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، وقوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) فأفاد أنّ هاهنا قوما ضالين ، وقوله : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فأفاد أنّ مخاطبيه مشركون في عبادتهما وهو عليه‌السلام في جميع هذه الأحوال لم يكن بصدد هداية القوم ، بل في طريق اهتداء نفسه كما يشعر به كلامه الذي نقله الله عنه وإن كان المنقول عنه في غير هذه السورة على غير هذا الوجه ، بل مجموعا فيه توحيده في نفسه ودعوته لقومه.

وهذا الذي ذكرناه من الإعتبار يؤيّد ما في بعض الروايات : أنّ ملك عصره عليه‌السلام كان يفرّق بين النساء والرجال ويقتل الصبيان ، فحملت أم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ به وكانت تتستّر بحملها ، ثم لمّا وضعته إحتضنت به في غار سرّا وخوفا عليه ، وكانت تتعاهده أحيانا وترضعه وتربّيه ، حتى إذا كبر خرج عن الغار على حين غفلة من أمّه ولحق بأبيه وأهله ، فكان من أمره ما كان.

وفي العيون : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ أنّه سأله المأمون فقال له : يا بن رسول الله! أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال : بلى ، قال : فأخبرني عن قول الله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) ، فقال الرضا ـ عليه‌السلام ـ : إنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وقع إلى ثلاثة أصناف ، صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب الذي

٩٢

أخفي فيه ، (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) رأى الزهرة قال : (هذا رَبِّي) على الإنكار والإستخبار ، (فَلَمَّا أَفَلَ) الكوكب قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لأنّ الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم ، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي) على الإنكار والإستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ، فلمّا أصبح (رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر على الإنكار والإستخبار ، لا على الإخبار والإقرار ، (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ) للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وإنّما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ويثبت لهم أنّ العبادة لا تحقّ لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنّما تحقّ لخالقها وخالق السموات والأرض ، وكان ما احتج به على قومه ممّا ألهمه الله وآتاه ، كما قال الله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) فقال المأمون : لله درّك يا بن رسول الله (١).

وفي تفسيري العياشي والقمّي : وسئل أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول إبراهيم (هذا رَبِّي) أشرك في قوله هذا ربي؟ قال : «لا ، بل من قال هذا اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وإنّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك» (٢).

وفي تفسير العياشي : عن أحدهما عليه‌السلام : «إنّما كان طالبا لربّه ولم يبلغ

__________________

(١). عيون اخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨ ، الحديث : ١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٧١.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢٠٧ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٦٥ ، الحديث : ٤١.

٩٣

كفرا وإنّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته» (١).

أقول : ولا منافاة بين الأخبار ، فإنّه كان بالنسبة إلى قومه إنكارا وإنّ ـ عليه‌السلام ـ كان في نفسه طلبا وبحثا كالواحد منّا إذا أردنا تعليل شيء وضعنا ما وجدناه علة ، ثم طلبنا تقاديره ، فإن وافقها فهو وإلّا طرحناه وأخذنا نبحث عن غيره ، وقد مرّ أنه ـ عليه‌السلام ـ في هذه الخطابات في مقام اهتداء نفسه ، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله.

قوله سبحانه : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)

لما في الأفول وهو الغروب من وسمة التغير والحدوث ، فلا يلائم الربوبيّة وملك التدبير ، وجمعه جمع أولى العقل تنزيها لمقام الربوبيّة عن عدم الشعور.

وفي الآية دلالة على أنّ الحبّ إمّا عين العبادة أو مقوّم لها لا تنفكّ ، حيث لم يقل لا أعبد الآفلين أو ما يؤدي معناه ، وقد مرّت الأخبار في ذلك وبيانها في ذيل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (٢) من سورة المائدة ، فارجع.

قوله : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً)

البزوغ : الطلوع.

قوله تعالى : (قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي)

كان عليه‌السلام ما يرى إلى ربّه طالبا له كما في الرواية ، ثم شاهد خطأ قياسه

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٦٤ ، الحديث : ٣٨ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٨٢.

(٢). سورة المائدة (٥) : ١٠٥.

٩٤

أوّلا ، وثانيا : تبيّن له أنّ النظر وحده لا يوصله إلى مطلوبه وغايته ، بل بهداية من ربه ، فقال : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ، غير أنّ هذا أيضا نوع نظر لا يوجب الإتّصال بربّه والإستهداء بهدايته ، ولذلك أخطأ النظر الثالث منه ـ عليه‌السلام ـ أيضا حينما (رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ) وتبيّن له عليه‌السلام خطأ نظره ، تبيّن له أن الأمر لله جميعا لا ينجيه من الضلال إلّا البراءة النذّامّة إليه والإستعاذة به ، فقال عند ذلك : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فأكد الكلام ب : إنّ والجملة الإسمية وجاء بالمسند اسما دالا على الثبوت فهداه الله سبحانه من غير فصل ومهلة بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ثم قال :(حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، الحنف : الميل ، أي مائلا إلى التوحيد ومنفصلا عن الشرك.

قوله سبحانه : (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ)

ولو لا أنّه عليه‌السلام وجده أكبر لم يقل هذا ربّي لمساواتها القمر ، ومن هنا يعلم أنّه إنّما قال في القمر هذا ربّي بعد ما قال مثله في الزهرة وتبرأ منها لمكان الكبر الذي وجده في القمر ، ويؤمي إليه قوله تعالى : (هذا أَكْبَرُ) ، فإنّ الأكبر يقتضي كبيرا يقاس إليه.

قوله تعالى : (قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ)

هذا يؤيّد ما قدّمناه أنّ المقام لبيان اهتداء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لا هدايته للناس.

٩٥

قوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً)

كأنّهم خوّفوه في رفض آلهتهم ، فأجاب : إنّي لا أخافهنّ لعدم أثر فيها ، ولو أصابني شيء من جهة الرفض فبمشيئة الله أصابني لا بمشيئتهن ، وهو سبحانه يعلم بحالى وإنّي غير ظالم في توحيدي.

ثم أجاب أن لو كان الخوف من الشرك ممّا يجب ، لكان يجب عليهم أن يخافوا من شركهم بالله سبحانه ولا حجة لهم في شركهم لا عليه ـ عليه‌السلام ، لكونه ذا حجة.

قوله تعالى : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ)

لم يقل فأينا أحق بالأمن أخذا بالنصفة ورجوعا إلى حكومة العقل كما قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، كما هو الأنسب في أدب المناظرة والإحتجاج عند رجوع الخصمين إلى حكومة الحكم أن يحذف خصوصية كلّ منهما فيقال : فريقان ، فريق يقول كذا وآخر يدّعي كذا أيّهما على الحق؟ ثم أجاب فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، وعند ذلك نسب إلى نفسه الإهتداء بعد ما اعترف لربّه بالهداية.

وقد اشتملت الآيات في سوقها على طرف عال من أدب العبودية ومقام المراقبة لما يفيض من جانب الحق سبحانه إلى قلب العبد.

قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)

لبست عليه الأمر ألبسه من باب ضرب : أي خلطه فاشتبه عليه ، والإلباس والتلبيس التخليط ، ولو كانت الآية من تتمة كلام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كما هو

٩٦

ظاهر السياق [فمعناه] أنّ المشركين اختلط عليهم الإيمان بالشرك ، فعلموا أنّ للعالم ربا يجب أن يعبد فاشتبه عليهم الأمر ، فحسبوا أنّه أصنامهم أو الكوكب أو القمر أو الشمس بعينه ، أو أنّه يجب أن يعبد من طريق أحد هذه من غير ركون إلى حجة وبرهان ، بل على شك وأمّا هو ـ عليه‌السلام ـ فقد آمن بالله ولم يشرك بعبادة ربّه أحدا.

وفي الكافي ، وتفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ، قال : «بشك» (١).

وفي تفسير العياشي : عن يعقوب بن ليث عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ، قال : «الضلال وما فوقه» (٢).

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخر لكن ينبغي أن تفسر على ما قدّمناه من المعنى ، لا بأن يكون المراد عدم تلويث الإيمان وخلطه بالفسق ، فإنّ لفظ اللبس يأباه ، وإن كان هو أيضا بوجه آخر راجعا إليه.

وفيه أيضا : عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الزنا منه؟ قال : «أعوذ بالله من أولئك ، لا ، ولكنه ذنب إذا تاب تاب الله عليه» ، وقال : «مدمن الزنا والسرقة وشارب الخمر كعابد الوثن» (٣).

أقول : والرواية تؤيّد ما ذكرناه من معنى الظلم ، وكون الزنا ذنبا إذا تاب تاب الله عليه دون الشك ، هو أنّ الزنا وأمثالها من معاصي الجوارح يمكن أن يغفر للإنسان وهو حامل وزره ، وأمّا الشرك والشك ونحوهما فليسا من قبيل الأفعال

__________________

(١). الكافي ٢ : ٣٩٩ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٦٦ ، الحديث : ٤٨.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٦٦ ، الحديث : ٤٧.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٦٦ ، الحديث : ٤٦.

٩٧

الخارجة عن النفس المحمولة للإنسان ، بل هما مع الإنسان في مرتبة نفسه ، فإنّ المغفرة لا تنال الزنا ، بل الإنسان صاحب الزنا ، فيمكن أن ينجي الله صاحب الحمل من وبال حمله ، وأمّا الشرك مثلا فليس من قبيل الحمل ، فهو نقص وقصور في عين النفس الإنسانية كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) ، وليس المراد أنّ توبة المشرك غير مقبولة دون غيره وهو ظاهر بل المراد ما أشرنا إليه ، فما لم يخلص الإنسان نفسه لربّه لم يغفر له ، ولا يجتمع الشرك مع الرجوع إلى الله ، بخلاف فعل المعصية فإنه موجود في مرتبة الفعل دون النفس ، ولذلك ذكر في ذيل الرواية وهو كالإستدراك ، فقال : «مدمن الزنا والسرقة وشارب الخمر كعابد الوثن» الخبر ، فإنّ الإدمان وهو الإدامة والإصرار يصاحب ملكة نفسانية لا يدع للتوبة حقيقة وصدقا ونظيره معنى قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (٢) وقوله سبحانه : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٣) وقوله : (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) (٤).

وفي تفسير العياشي أيضا : عن أبي بصير عنه عليه‌السلام في الآية قال : «نعوذ بالله يا أبا بصير أن تكون ممن لبس إيمانه [بظلم]» ثم قال : «أولئك هم الخوارج وأصحابهم» (٥).

وفيه وفي الكافي : عن عبد الرحمن بن كثير عنه عليه‌السلام قال : «آمنوا بما

__________________

(١). النساء (٤) : ٤٨.

(٢). النساء (٤) : ١٣٧.

(٣). النساء (٤) : ١٧.

(٤). آل عمران (٣) : ١٣٥.

(٥). تفسير العياشي ١ : ٣٦٧ ، الحديث : ٥٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٩٠ ، الحديث : ١١.

٩٨

جاء به محمد من الولاية» (١) ، الخبر.

أقول : والروايتان من باب بيان المصداق ، وهما مع ذلك تؤيّدان ما قدمناه من المعنى.

قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

مقتضى المقام أنّ قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) لقصر التعيين ، فاللام في الأمن للجنس ، وإذا أخذ قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) على حقيقته من دون مسامحة كما هو الجري بكلامه سبحانه ، اتّضح كون اللام للجنس حقيقة لا إدعاءا ، فإنّ من آمن بالله من غير شك تمكنت في قلبه المعرفة بالله والعلم بمقام الله ، وعلم أنّ كلّ شيء لله ملكا طلقا ، فلم يبق شيء لاستقلال شيء بالتأثير عنده وقع ووقر ، فهو في أمن من كل شيء غير الله ، إذ لا يملك شيء نفعا يخاف فوته ، أو ضرا يخاف وقوعه ، وهو في أمن من جانب ربّه ، إذ هو وليّه في كلّ ما تقوم به نفسه ، غير أنّ الأمر كلّه لله ، ليس له من الأمر شيء ، فله الأمن مطلقا وقد مرّ نظير الكلام في سورة [يونس] في ذيل قوله تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ)

والدرجات على ما ينطبق على المقام التذكّر والإهتداء والأمن واليقين ، فالتذكر يفسّره مورده وهو الإنتقال من المقدمات الحقة العقليّة إلى المعارف الحقّة وهو

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٦٦ ، الحديث : ٤٩ ؛ الكافي ١ : ٤١٣ ، الحديث : ٣.

(٢). يونس (١٠) : ٦٢.

٩٩

العلم النافع ، والإهتداء والأمن سيفسّر هما قوله سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ) (١) ، واليقين يفسّره بحسب لازمه الآية التي في مورده ، ومن الدرجات على ما تشتمل عليه الآيات اللاحقة الإحسان والصلاح والإهتداء والإجتباء ، وسيجيء تفسير الإحسان إن شاء الله.

وقد تقدم تفسير الباقي في بعض الآيات المشتملة على ألفاظها ، ويمكن أن يكون من الدرجات مقام إيتاء الكتاب والحكم والنبوّة.

*

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٢٥.

١٠٠