قوله : (الَّتِي حَرَّمَ اللهُ)
تبديل الضمير أو إسم الربّ إلى إسم الله إشارة إلى مبدأ الحكم ، وأنّه لا يجوز التعدّي عنه والإهمال في حكمه ، وقد مرّ نظائره ، ونظيره قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) (١).
قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً)
قيل : تذييل الوفاء بالكيل والميزان بذلك لان مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان ممّا يجري فيه الحرج ، فأمر ببلوغ الوسع ، وأنّ ما وراءه معفوّ عنه.
قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)
العدل في القول حكاية الواقع على ما هو عليه ، من غير إفراط وتفريط ومن غير مساهلة ولا مبالغة ، ويشمل الكذب في الحكايات ، والزور في الشهادات.
قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)
في تفسير العياشي : عن الباقر ـ عليهالسلام ـ في الآية قال : «آل محمد الصراط الذي دلّ عليه» (٢).
وفي الروضة : لابن [الفتّال] الفارسي في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ قال : «سألت الله أن يجعلها لعلي ففعل» (٣).
__________________
(١). الأنعام (٦) : ١٥٢.
(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٨٤ ، الحديث : ١٢٦.
(٣). روضة الواعظين ١ : ١٠٦.
أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة ، وقد مرّ إشباع القول فيه في تفسير الفاتحة.
قوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
ختم هذه الآية الثالثة بذلك ، وختم الثانية بقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، وختم الأولى بقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وذلك لأنّ الذي تشتمل عليه الآية الأولى من الأحكام وهي النهي عن الشرك وإحسان الوالدين ، وحرمة قتل الأولاد والفواحش ، وقتل النفس ممّا يحكم به صريح العقل من غير استخدام مقدمة تحتاج إلى فكر ، فالمخالفة لها خروج عن طور العقل ومادته الإنسانية ، فلذلك ذيّل الحكم بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).
والذي تشتمل عليه الآية الثانية من الأحكام وهي حرمة التصرّف في مال إليتيم وما تتلوها ليست بتلك المثابة من الصراحة ، لكنها مع ذلك نتيجة مقدّمات عقلية صحيحة حقّة تظهر للأنسان بالتأمل والتنبّه وهو التذكّر فإطاعتها توجب ارتقاء الإنسان إلى مرتبة التذكّر فذيّلها بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
والآية الثالثة تشتمل على ما لا يكفي فيه صريح العقل ولا مقدّماته النظرية ، بل سلوك لما جعله الله من سبيله وصراطه تسليما محضا وتبعيّة خالصة ، ونتيجته التقوى التي هي باب كرامة الله ورحمته وكلّ خير يرجى من قبله سبحانه ، فذيلّها بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وجيء في الجميع بلفظ الوصية وهي الأمر بحفظ ما يهمّ حفظه ويكون نخبة من بين عدة إلى كثرة ، ولمّا كانت المحرمات كثيرة والتي لا مناص عنه في كلّ حين وزمان وفي جميع الشرائع هي هذه [المحرمات] المذكورة.
قوله : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ)
عطف على (وَصَّاكُمْ) (١) كما قيل ، أو على قوله : (قُلْ تَعالَوْا) ، والمعنى هذا جمل ما يجب عليهم اجتنابه ، (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، فيه تفصيل الشرائع ، (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) ليتّبعوه.
*
__________________
(١). الأنعام (٦) : ١٥٣.
[هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠)]
قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) ـ إلى آخره ـ قد مرّ الكلام في نظير الآية من سورة البقرة.
وقوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)
يدلّ على وقوع ذلك.
وفي الإحتجاج : عن أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ في معنى الآية : «إنّما خاطب نبيّنا ـ صلىاللهعليهوآله ـ : هل ينتظر المنافقون والمشركون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [فيعا ينونهم] (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ،
يعني بذلك أمر ربّك ، والآيات هي العذاب في دار الدنيا ، كما عذّب الأمم السالفة والقرون الخالية» (١).
أقول : وروى في التوحيد : ما يقرب منه عنه ـ صلىاللهعليهوآله ـ (٢).
وفي الحديثين جميعا : «أنّ هذه الآية طلوع الشمس من مغربها».
أقول : وهذا ممّا اتفقت على روايته العامة (٣) والخاصة (٤).
وفي الإكمال : عن الصادق ـ عليهالسلام ـ في هذه الآية «يعني خروج القائم المنتظر منّا» (٥).
أقول : والروايات فيه كثيرة من طرقنا (٦).
وفي الكافي وتفسير العياشي : عن أحدهما ـ عليهالسلام ـ في قوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٧) قال : «المؤمن العاصي حالت بينه وبين إيمانه كثرة ذنوبه وقلة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيرا (٨).
أقول : ويظهر من الآية أنّ الإيمان الخالى عن العمل لا ينفع ، كما يظهر ذلك
__________________
(١). الاحتجاج ١ : ٣٧٢.
(٢). التوحيد : ٢٦٦.
(٣). الفتن ، لإبن حماد : ١٨٣ ؛ المصنّف ، لإبن أبي شيبة ١٥ : ٦٦٦٥ ؛ تفسير الطبري ٨ : ٧٤ ؛ مستدرك الصحيحين ٤ : ٥٤٥ ؛ الدر المنثور ٣ : ٥٩.
(٤). تفسير القمي ٢ : ٣٢٠ ؛ الكافي ٥ : ١٠ ؛ الخصال ١ : ٢٧٤ ؛ تحف العقول : ٢٨٨ ؛ تهذيب الاحكام ٤ : ١١٤ ؛ وسائل الشيعة ١١ : ١٦.
(٥). كمال الدين ٢ : ٣٥٧.
(٦). تفسير الصافي ٣ : ١٣٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٥٠٠ ، اثبات الهداة ٣ : ٤٧٥ ؛ بحار الانوار ٥٢ : ١٤٩.
(٧). الأنعام (٦) : ١٥٨.
(٨). تفسير العياشي ١ : ٣٨٥ ، الحديث : ١٣٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٢ : ٥٠٢ ، الحديث : ١٠.
من قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١).
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً)
في تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليهالسلام ـ قال : كان علي يقرأها فارقوا دينهم ثمّ قال : «فارق والله القوم دينهم» (٢).
أقول : ونسب هذه القراءة في المجمع أيضا إلى علي ـ عليهالسلام ـ (٣).
وقوله : (وَكانُوا) يدل على كونهم أتباعا ، فلكل منهم إمام يتبعه ويقتدي به ، فإمام ضلال وإمام حقّ ، وإذ كان إمام الحق وشيعته من النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ والنبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ منهم كان الأنسب عليه قراءة فارقوا. حتى لا يشملهم قوله : لست منهم ، وأمّا قراءته : (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) ، فكأنه اعتبر فيها أنّ اختلاف الأمة لا يكون إلّا بأن يكون كلّ حزب يأخذ شيئا ويترك ما عند الآخر ، فكأنهم فرّقوا الدين إلى أجزاء ؛ أخذ كلّ شيئا منها.
وفي المجمع : عن الباقر ـ عليهالسلام ـ : «إنّهم أهل الضلال وأصحاب البدع والشبهات من هذه الأمّة» (٤).
وفي الحديث النبويّ : وافترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى [على] اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلّا واحدة [وهى الناجية] ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين
__________________
(١). فاطر (٣٥) : ١٠.
(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٨٥ ، ١٣١.
(٣). مجمع البيان ٤ : ٢٠٣.
(٤). مجمع البيان ٤ : ٢٠٣.
فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة» (١).
أقول : وقد اتفق على نقل مضمون الحديث عنه ـ صلىاللهعليهوآله ـ العامة والخاصّة.
قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)
في المجمع : عن الصادق ـ عليهالسلام ـ : لما نزلت هذه الآية : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) (٢) ، قال رسول الله : «ربّ زدني ، فأنزل الله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)» (٣).
وفي الكافي : عن الباقر ـ عليهالسلام ـ : أنّه سئل هل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك ، فقال : «لا ، هما يجريان في ذلك مجرى واحدا ، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقربان به إلى الله ـ عزوجل ـ» ، قلت (٤) : أليس الله عزوجل يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ مع المؤمن ، قال ـ عليهالسلام ـ : «أليس قد قال الله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ، فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله لهم حسناتهم لكلّ حسنة سبعون ضعفا ، فهذا فضل المؤمن ويزيده الله في حسناته على قدر صحّة إيمانه أضعافا كثيرة ، ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير» (٥).
__________________
(١). تفسير جوامع الجامع ١ : ٦٣٤.
(٢). النمل (٢٧) : ٨٩.
(٣). مجمع البيان ٢ : ١٣٧.
(٤). البقره (٢) : ٢٤٥.
(٥). الكافي ٢ : ٢٧.
وفي تفسير القمّي : عنه (١) ـ عليهالسلام ـ أيضا في الآية قال ـ عليهالسلام ـ : هي للمسلمين عامّة ، قال : فإن لم تكن له ولاية دفع عنه بما عمل من حسنة في الدنيا وما له في الآخره من خلاق» (٢).
وفيه أيضا عن الصادق ـ عليهالسلام ـ : «لما أعطى الله سبحانه إبليس ما أعطاه من القوة قال آدم : يا ربّ! سلّطته على ولدي وأجريته منهم (٣) مجرى الدم في العروق ، وأعطيته ما أعطيته فما لي ولولدي؟ فقال : لك ولولدك السيئة بواحدة ، والحسنة بعشرة أمثالها ، قال : يا ربّ زدني قال : التوبة مبسوطة إلى حين يبلغ النفس الحلقوم ، فقال : يا رب زدني ، قال : أغفر ولا أبالي ، قال حسبي» (٤).
أقول : وفي هذه المعاني روايات أخر ، وظاهر الرواية الأخيرة أنّ تضعيف الحسنة واحدة بعشر مما لا يختص بهذه الأمّة ، غير أنّ باب التوحيد المفتوح لهذه الأمة لمّا كان أعلى وأغلى ممّا فتح لسائر الأمم ـ كما سيجيء إن شاء الله بيانه ـ ، فالإخلاص في العمل المتأتّي للمخلصين من هذه الأمة لا يتأتّى لغيرهم ، كما أنّ آخر الزمان يربو على أوله ، وبهاء العمل وشرفه من حيث أنّه عبادة يزيد قلة وكثرة بمراتب الإخلاص ودرجاته ، فالعمل الواحد يمكن أن يضاعف أضعافا مختلفة بحسب الزيادة والنقيصة في الجملة ، وأمّا خصوص عدد العشر فيمكن أن يكون امتنانا بقرينة مقابلته الواحدة في السيئة مع العشر في الحسنة.
__________________
(١). في المصدر : «عن أبي عبد الله ـ عليهالسلام ـ»
(٢). تفسير القمي ٢ : ١٣١.
(٣). في المصدر : «منهم»
(٤). تفسير القمّي ١ : ٤٢.
وقد ذكر بعض المحققين في سرّ التضعيف في الحسنة بعشر أمثالها دون السيئة : أنّ الجوهر الإنساني المؤمن بطبعه مائل إلى العالم العلوي لأنّه مقتبس منه ، وهبوطه إلى القالب الجسماني غريب عن طبيعته ، والحسنة إنّما ترتقي إلى ما يوافق طبيعة ذلك الجوهر لأنها من جنسه ، والقوة التي تحرك الحجر إلى ما فوق ذراعا واحدا هي بعينها إن استعملت في تحريكه إلى أسفل ، حركته عشرة أذرع وزيادة ، فلذلك كانت الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، ومنها ما يوفّى أجرها بغير حساب ، والحسنة التي لا يدفع تأثيرها سمعة أو رياء أو عجب كالحجر الذي يدور من شاهق لا يصادفه دافع ، فإنّه لا يتقدر مقدار هوية بحساب حتى يبلغ الغاية ، إنتهى (١).
وفيه أولا : إنّه لا يفي ببيان تخصيص التضعيف بعدد العشرة.
وثانيا : إنّه بنى الزيادة والنقيصة على مقدار مقاومة المانع وعدمها ، فكلما خلص العمل اشتدّ تأثيره.
وهذا حق كما بيّناه آنفا إلّا أنّ لازمه أن يأخذ المبدأ نفس العمل خالصا ثم يتنزّل بحسب مقاومة الموانع وقلّتها وكثرتها ، فيؤخذ بالنصف والثلث والربع إلى العشر وما فوقها ، لا أن يؤخذ بالأضعاف كعشرة أمثال وسبعين ضعفا ونحوها ، وهو ظاهر.
وثالثا : إنّ لازمه أن السيئة إذا تمكنت فى النفس وأخلدت إلى الأرض أن تضاعف السيئة إلى عشرة أمثالها أو غيرها وليس كذلك.
فالظاهر أن يكون جزاء الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها لمجرد الإمتنان
__________________
(١). تفسير الصافي ٢ : ١٧٦.
الإلهي كما هو ظاهر قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، أي بتضعيف السيئة ، وأمّا أصل التضعيف في جانب الحسنة فيدور مدار الخلوص واقترانه بالموانع وليس له حينئذ مقياس معيّن ، بل يذهب في جانب الزيادة إلى ما لا يقدّر بقدر كما قال سبحانه : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) ، ويتنزّل في جانب النقيصة إلى ما يعلمه الله سبحانه واعتباره حينئذ من جانب الشرك إلى جانب الإخلاص تضعيف وزيادة ، وبالعكس تنقيص وتنزيل ، ونظير هذا الإعتبار متأتّ في السيئة ، فالسيئة الواحدة يمكن اختلافها باختلاف العوارض واللواحق والأشخاص والأزمان والأمكنة.
*
__________________
(١). الزمر (٣٩) : ١٠.
[قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)]
قوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي)
قيل : هذا بمنزلة الإعلان بالتوحيد بعد إبطال الشرك ، كأنّه تعالى ـ بعد إبطال شرك المشركين وأباطيل المبطلين ـ أمر نبيّه بأن يعلن أنّ دينه ملّة إبراهيم الحنيفية في التوحيد.
قوله سبحانه : (دِيناً قِيَماً)
قرئ بكسر القاف وفتح الياء ، مصدر أقيم مقام الوصف ، وقرئ بفتح القاف
وكسر الياء المشدّدة ك : «سيّد» و «هيّن» صفة مشبهة بمعنى القائم وتفيد المبالغة في القيام ، وصف به ملة إبراهيم ـ عليهالسلام ـ ، لشدة قيامه بالتوحيد أو بمصالح العباد.
قوله : (حَنِيفاً مُسْلِماً)
في الكافي : عن الصادق ـ عليهالسلام ـ في الآية قال : «خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان» (١).
أقول : وروى البرقي قريبا منه (٢).
وفي تفسير العياشي : عن الباقر ـ عليهالسلام ـ : «ما من أحد من هذه الأمّة يدين بدين إبراهيم غيرنا و [غير] شيعتنا» (٣).
أقول : والوجه فيه ما مرّ من الروايات في الصراط المستقيم ، وإنّها الولاية.
وقوله : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)
بيان لقوله (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).
قوله سبحانه : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ)
في تفسير القمّي قال : قال عليهالسلام : «في القدر والمال» (٤).
وفي تفسير العيّاشي : عن الصادق ـ عليهالسلام ـ قال : «لا نقول درجة
__________________
(١). الكافي ٢ : ١٥.
(٢). المحاسن ١ : ٢٥١.
(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٨٨.
(٤). تفسير القمّي ١ : ٢٢٢.
واحدة ، إنّ الله يقول : درجات بعضها فوق بعض ، إنّما تفاضل القوم بالأعمال» (١).
أقول : ولا منافات بين الروايتين ، فإنّ الأعمال وإن كانت لعاملها لكنّ الدرجات لله يختص بها من يشاء من عباده ، ليختبر بعضهم ببعض والجميع بما آتاهم ، والحمد لله ربّ العالمين.
تم ليلة الثلاثاء السادس عشر من محرم سنة ١٣٦٩ القمري.
*
__________________
(١). تفسير العياشي ١ : ٣٨٨.
سورة الأعراف
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)]
قوله سبحانه : (المص)
السورة مشتملة على معنى ما اشتملت عليه السور المفتتحة : ب (الم) وسورة (ص) ، فليكن على ذكر منك حتى نعود إليه في أول سورة (حم عسق) إن شاء الله تعالى ، والغرض الجامع من السورة على طولها الإحتجاج على غير المؤمنين والتذكير للمؤمنين ، وحيث كانت مكيّة إلّا ثمان آيات : (وَسْئَلْهُمْ
عَنِ الْقَرْيَةِ) ، إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) (١) ، على ما قيل ، فوجه الكلام فيها إلى المؤمنين والكفّار ، غير أهل الكتاب ، وإن كان ربّما مسّهم الخطاب بعض المس ، فالبيان فيها يدور بين أمرين.
أحدهما : حجة تدعو إلى الإتّباع من احتجاج أو موعظة أو حكمة أو قصّة وعبرة ، كقصة آدم وإبليس ، وقصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى ـ عليهمالسلام ـ.
وثانيهما : ذكرى بعد الإتباع كالآيات الداعية إلى ذكر ما نسيه الإنسان من مقام ربّه وما عهد به إليه ، والسورة تشتمل مع ذلك على طرف عال من المعارف الإلهيّة ، منها وصف الساعة والميزان والأعراف ، وذكر الأسماء الحسنى ، وذكر العرش ، ووصف عالم الذرّ والميثاق ، وذكر التجلّي ووصف الذاكرين.
قوله سبحانه : (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)
من قبيل براعة الإستهلال لنوعي البيان الذي تشتمل عليه السورة ، وهما الإحتجاج والتذكير على ما عرفت آنفا ، فقوله : (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي لتحتج عليهم بالإنذار ، وقوله : (وَذِكْرى) ، أي ليكون ذكرى لهم ، رافعا لنسيانهم ، وسيعود سبحانه في آخر السورة إلى ما يدعو به أولها.
قوله : (بَياتاً)
قال في الصحاح بيّت العدّو : أي أوقع بهم ليلا ، والإسم البيات (٢) ، فهو مفعول
__________________
(١). الأعراف (٧) : ١٦٣ ـ ١٧١.
(٢). الصحاح ١ : ١١٥٥.
مطلق
وقوله : (قائِلُونَ) من القيلولة ، وهي نوم الظهيرة.
قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ)
تقدم الكلام في الآية ، قوله : (١)
قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)
ذكر الوزن يوم القيامة وقع في أربعة مواضع من القرآن صريحا هذا أحدها.
والثاني : قوله سبحانه في سورة المؤمنين : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٢).
والثالث : قوله في سورة القارعة : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ* وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ) (٣).
والرابع : قوله في سورة الأنبياء : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤).
وهنا آيات أخر ستظهر أنها تصف الوزن كقوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٥) ، وقوله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) (٦).
__________________
(١). بياض في النسخة.
(٢). المؤمنون (٢٣) : ١٠٢ ـ ١٠٣.
(٣). القارعة (١٠١) : ٦ ـ ١١.
(٤). الأنبياء (٢١) : ٤٧.
(٥). الزلزلة (٩٩) : ٦ ـ ٨.
(٦). آل عمران (٣) : ٣٠.
وكيف كان ، فقوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ، تقديره : الوزن هو الوزن الحق ، أي العدل على ما قيل ، ويؤيّده قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (١) ، حيث بيّن الموازين بالقسط ، وهو العدل ، وهو حق الوزن الذي لا يبخس شيئا ولا يسامح فيه أصلا ، ولذا بدّل العدل بالحقّ.
وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)
جمع ميزان لا موزون كما يشعر به قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) (٢) ، فهناك موازين مختلفة وبيانه تعالى للموازين بالقسط لا يوجب وحدة الميزان ، فإنّ للعدل موازين مختلفة ، كما أنّ ميزان العدل في تخاصم العاجز والقوي ، غير ميزانه في تخاصم القوي والقوي ، نعم بعض موازين العدل أشمل وأوسع من بعض ، فميزان التوحيد أو الولاية وهما أوسع الأعمال دائرة ، أوسع من ميزان يوزن به عمل خاص ، كاختيار اليد اليمنى للأكل.
وبالجملة ، فهناك موازين توزن بها الأعمال ، غير أنّه سبحانه لم يقل : فمن ثقلت حسناته أو خفّت ، ولم يقل : فمن ثقلت موازين حسناته أو خفت حتى يستكشف منه أنّ الحسنات تقابل السيئات ، فأيّهما رجّحت ذهب بصاحب العمل إلى ما يقتضيه من جنّة أو نار ، بل جعل سبحانه ثقل الميزان سبب الفلاح وخفته سبب الخسران ، وهذا يلوّح بأنّ الحسنة ثقيلة مطلقا والسيئة خفيفة مطلقا وهو كذلك.
فإنّ آيات كثيرة في القرآن تنبىء عن أنّ الشرك والمعصية هلاك وبوار
__________________
(١). الأنبياء (٢١) : ٤٧.
(٢). الأنبياء (٢١) : ٤٧.