تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة فجمع الله الخلائق في ذلك اليوم في موطن يتعارفون فيه فيكلّم بعضهم بعضا ويستغفر بعضهم لبعض ، أولئك الذين بدت منهم الطاعة من الرسل والإتّباع ، وتعاونوا على البّر والتقوى في دار الدنيا ، ويلعن أهل المعاصي بعضهم بعضا من الذين بدت منهم المعاصي في دار الدنيا وتعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا والمستكبرون منهم والمستضعفون [يلعن] بعضهم بعضا ويكفّر بعضهم بعضا ، ثم يجمعون في موطن يفرّ بعضهم من بعض ، وذلك قوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (١) إذا تعاونوا على الظلم والعدوان في دار الدنيا (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٢).

ثم يجمعون في موطن [يبكون فيه] فلو أنّ تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لأذهلت جميع الخلائق عن معائشهم وانصدعت قلوبهم (٣) إلّا ما شاء الله ، فلا يزالون يبكون حتى يبكون الدم ، ثم يجتمعون في موطن يستنطقون فيه فيقولون : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، ولا يقرّون بما عملوا فيختم على أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود فتنطق ، فتشهد بكل معصية كانت (٤) منهم ، ثم يرفع [الخاتم] عن ألسنتهم فيقولون لجلودهم وأيديهم وأرجلهم : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فتقول : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٥) ، ثم يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلائق ، فلا يتكلّم أحد (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ

__________________

(١). عبس (٨٠) : ٣٤ ـ ٣٦.

(٢). عبس (٨٠) : ٣٧.

(٣). في المصدر : «وصدعت الجبال»

(٤). في المصدر : «بدت»

(٥). فصلت (٤١) : ٢١.

٤١

الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)» (١).

ويجتمعّون في موطن يختصمون فيه ، ويدان لبعض الخلائق من بعض وهو القول ، وذلك كلّه قبل الحساب ، فإذا أخذ بالحساب شغل كلّ امرىء بما لديه نسأل الله بركة ذلك اليوم» (٢).

أقول : يمكن أن يكون المراد من تفريق المواطن ، تفريقها بحسب الرتبة وحقيقة التدريج كما يقتضيه ما قدّمناه من البيان ، ويمكن أن يكون المراد ظهور ملكة الكذب المستقرة في هذا العالم ، فإنّ الملكة ينشأ منها أثرها سواء نفع أو أضرّ.

قوله سبحانه : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ)

أي شركهم في الدنيا يعني نتيجتها كقول هارون لقومه لمّا عبدوا العجل : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) (٣) ، وأصل الفتنة : المحنة والبلاء ، وقيل : المراد بالفتنة : الكذب.

قوله سبحانه : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)

في الكافي : عن أبي حمزة ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «يعنون بولاية علي» (٤).

__________________

(١). النبأ (٧٨) : ٣٨.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ ، الحديث : ١٦ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٣٩ ، الحديث : ٥.

(٣). طه (٢٠) : ٩٠.

(٤). الكافي : ٨ : ٢٨٧ ، الحديث : ٤٣٢.

٤٢

أقول : وروى مثله القمّي في تفسيره ، عن الصادق (١) ـ عليه‌السلام ـ ، وهو من الجري.

وفي تفسير القمي : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال أحد حتى يقول أهل الشرك : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)» (٢).

أقول : إنّه سبحانه إنّما أثبت كذبهم على أنفسهم ، ولم يثبت كذب قولهم ، كيف وهو سبحانه القائل : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (٣) ، فهم على كونهم مشركين في الظاهر غير مشركين بحسب الفطرة ، فقولهم هذا ميل وانتزاع منهم إلى أصل الفطرة وحكم الحقيقة لكن الأوزار التي حملوها على ظهورهم لا تخلّيهم أن يرتقوا إلى مرتقى الصالحين ، وهذا هو الطمع المذكور في الرواية ، فتدبّر.

قوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) لمّا بيّن سبحانه أنّ أمام المشركين يوما يشاهدون فيه بطلان ما يشهدون به في الدنيا ، أخذ في بيان وبال هذا الشرك وعاقبته وهي النار ، غير أنّ ذلك وبال حملوه إلى تلك الدار من هذه النار ، وإنّما الفرق بالخفاء والظهور فهم يهلكون أنفسهم في هذه الدار بشركهم وعتوّهم ، وإن لم يشعروا به لخفائه وغفلتهم ، وسيشاهدونه إذ لا ينفعهم التمنّي.

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٩٩.

(٢). لم نعثر عليه في المصدر ، لكنّه موجود في تفسير العياشي ١ : ٣٥٧ ، ١٥ ؛ الخرائج ٢ : ٦٨٦ ؛ الصراط المستقيم ٢ : ٢٠٩ ، الحديث : ٢٨.

(٣). الروم (٣٠) : ٣٠.

٤٣

والأكنّة : جمع كنان بالكسر وهو الغطاء ، والوقر : بفتح الواو الثقل في الأذن ، وقرء بالكسر وهو الحمل ، والأساطير : الأباطيل ، جمع أسطورة بالضم ، أو إسطارة بالكسر.

وقد مرّ تفصيل القول في هذا المعنى في أوائل سورة البقرة وللمقام ارتباط.

قوله : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ)

وهو صور الشرك والأعمال الظالمة المصاحبة نارا لهم من هذه الدار ، ولذلك لم ينفعهم التمنّي ، فإنّ رجوعهم إلى ما هم عليه في هذه الدار رجوع إلى ما لو بدا لكان.

قوله سبحانه : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

قيل : إطلاق الكذب على التمنّي ـ وهو لا يقبل الصدق والكذب ـ لكونه مضمّنا دعوى أنّهم إن أعيدوا صلحوا ولم يكذّبوا بآيات ربهم وهو كذب.

قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)

إنكار البعث كاللازم المتمّم لّاتخاذهم آلهة دون الله سبحانه ، ولذلك أورد عقيبه ، فبيّن سبحانه أنّهم سيشهدون على ما ينكرونه ، وسيرون وباله ثم بيّن حقيقة الحياة الدنيا كلّ ذلك في أربع آيات.

قوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ)

لمّا تبيّن أنّ اليوم يوم القيامة يوم ضلال الأوهام وبطلان الأسباب ، ولا يتعلّق العلم يومئذ إلّا وهو سبحانه قائم على نفسه ، ثمّ ذكر وقوفهم على ربّهم وهو

٤٤

كالنتيجة لما سبقه من البيان ، تحقق أنّ اليوم يوم لقائه ، ولذا عبّر عن يوم القيامة باللقاء ، ثم عبّر عنه بالساعة لذلك ولما سيذكر من كونه بغتة وهو الفجأة وهو يناسب الساعة.

قوله : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها)

في المجمع : عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في الآية قال : «يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون (يا حَسْرَتَنا)» (١).

أقول : ظاهره رجوع الضمير إلى الساعة من حيث كونها لقاء وحياة آخرة ، وأمّا ارجاع الضمير إلى الحياة الدنيا فهو على بعده لا يلائم قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ، إذ الحسرة لا تناسب ما لا حقيقة له إلّا اللعب واللهو.

قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)

وهو أحسن القول وأوجزه في بيان حقيقة الحياة الدنيا ، واللعب : هو العمل الذي لا غاية له إلّا الخيال ، فلا يكتسب به إلّا صورة ذهنية من غير نتيجة خارجية.

واللهو : ما يشغلك عمّا يهمّك ، والحياة الدنيا وهي مجموع ما يناله الإنسان الدنيا بتحوّلاته وتقلباته الإرادية ، أمور يتعلق بها أو بعدمها الإرادة الإنسانية ، والإرادة لا تتعلق إلّا بمعلوم حاصل قبلها ، يقصد ترتّبه على الإرادة والفعل ترتّب الغاية على ذي الغاية ، وجميع هذه المقاصد والمطالب أمور اعتبارية وهميّة ، غير متحققّة الحقيقة في العين أو منتهية إليها بالأخرة. يتّضح لك ذلك إذا تتبعت أصناف مقاصد الإنسان ، من مأكل أو مشرب أو منكح أو ملبس أو

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٤٠.

٤٥

مسكن أو مال أو بنين أو تكاثر أو تعاضد ، أو شيء من أصناف الجاه ، ك : رئاسة أو تقدم أو شهرة أو راحة ، فإنّ ذلك جميعا أمور إعتبارية وعناوين وهمية غير خارجية ، أو أمور خارجية ارتباطها بالإنسان ارتباط اعتباري كالمال والبنين.

وهذا هو اللعب يلعب به الصبيان ونواقص العقول من الناس غير أنّ اللعب وسائر الأمور الوهمية لا تقوم بذاتها إلّا بأمور خارجية وأفعال وأشياء عينيّة ، هي الأسباب العامّة المستقلة في تأثيرها النافعة أو الضارة ، الجالبة أو الدافعة ، وهذا إذعان بأنّها مالكة لتأثيرها ، وقادرة على أحكامها وآثارها.

وبالجملة ؛ فهو إعطاء ربوبيّة وملك لها ، وغفلة عمّا هو الحق والحقيقة من اختصاص الربوبيّة بالله سبحانه ، من غير شريك في الملك ووليّ من الذلّ ، وهذا هو اللهو يلهو به الإنسان عن ربّه ويغفل به عن العكوف على بابه ومشاهدة ما عنده.

قال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) (١).

وقال سبحانه : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢).

وإذ كان هذا حقيقة هذه الحياة ومآلها إلى الفناء ، ومرجعها إلى البطلان ، ولا مناص للإنسان عن الرجوع إلى ربّه والحياة عنده ، تعيّن له أن يسير في ساحة الحياة على ما يهديه ربّه ويجتنب بالتقوى عن غير ذلك ، ويتأدّب بأدب الله ، ليرتسم له في باطن هذه الحياة حياة يعيش بها يوم اللقاء ، دون ما يؤدّيه إلى دار البوار وقرار الهلاك.

__________________

(١). النور (٢٤) : ٣٩.

(٢). الفرقان (٢٥) : ٢٣.

٤٦

قال سبحانه : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١).

ولهذا الذي ذكرناه عقيب قوله سبحانه : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) بقوله سبحانه : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، فأخذ بوصف التقوى ، ثمّ عقّبه بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ). وقرء بالياء وهو أنسب بالسياق ، فإنّ التكلّم مع المشركين بطريق الغيبة.

وبالجملة ؛ فالناس في هذا المسمى ـ لعبا ولهوا ـ على ثلاث طبقات : الأولياء ، ومثلهم مثل العاقل يتّخذ اللعب لغرض صحيح عقلائي ، والمؤمنون ، ومثلهم مثل الصبي يلعب على ما يختاره له وليّه العاقل ، وسيجد فائدة لعبه من حيث لا يشعر ، وغير المؤمنين ، ومثلهم مثل الصبي يلعب بما بدا له من غير رؤية ونظر ، وسيعود صفر الكفّ ، ولم يبق له إلّا التعب البدني وفوت الوقت وعتاب الولي ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

فالسراب أرض سبخة ملحة ينعكس عندها أشعة البصر إلى خضرة الجو فيلمع كالماء فما يناله البصر حقيقة من الحقائق ، غير أنّ الإنسان يحكم بأنه ماء بحكم الشبه ، وهذا هو الخيال ، وهذا حال الدنيا عندها حقيقة ينالها الإنسان ، لكنّه يحكم بما ليس له وهو الخيال ، وهو ما يرى من استقلال الأسباب ويقصد بها معاني ليس لها إلّا الوهم ، فظهور هذه الحقيقة الظاهرة هو الدنيا ، وحقيقة هذا الظاهر هي الآخرة ، فمن اغترّ بالظاهر احتجب عن الباطن وضلّ سعيه في الحياة ، ومن أراده لباطنه فقد أخذ لآخرته متاعا حسنا ، قال علي ـ عليه أفضل السلام ـ : «الدنيا خلقت لغيرها ولم تخلق لنفسها» ، (٢) وقال ـ أيضا ـ فيما يصف به الدنيا :

__________________

(١). الكهف (١٨) : ٧.

(٢). نهج البلاغة : ٥٥٧ ، قسم الحكم ، رقم ٤٦٣.

٤٧

«ومن أبصر بها بصّرته ومن أبصر إليها أعمته» (١) ، وقال ـ أيضا ـ : «إنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر ممّا وراءها شيئا ، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدار وراءها ، فالبصير منها شاخص والأعمى إليها شاخص والبصير منها متزوّد والأعمى إليها متزّود» (٢) ، الخطبة.

وهو قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا* ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (٣). وقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٤).

هذا ما يعطيه كلامه سبحانه في حقيقة الدنيا ، وأمّا ما يصف حالها من فنائها وانقطاعها وغرورها وخيبة طالبيها ممّا يجري مجرى المواعظ ، فالكتاب والسنة مملوءان منه ، والله الهادي.

*

__________________

(١). نهج البلاغة : ١٠٦ ، قسم الخطب ، رقم ٨٢.

(٢). نهج البلاغة : ١٩١ ـ ١٩٢ ، قسم الخطب ، رقم ١٣٣.

(٣). النجم (٥٣) : ٢٩ ـ ٣٠.

(٤). الروم (٣٠) : ٧.

٤٨

[قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)]

قوله : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)

تسلية منه سبحانه وتعالى لرسوله فيما تجرّى به المشركون من تكذيبه وإنكار التوحيد ، فسلّاه :

أولا : بأنّ تكذيبهم إنّما يرجع إلى الله سبحانه لا إليه ، لأنّهم لم يبطلوا دعوته الباهرة ، وإنّما جحدوا آيات الله ، وهذا بحسب نظام التشريع والفرعية في ظرف الإختيار.

وثانيا : إنّ الله لم يشأ منهم الإيمان والإهتداء ، لأنّهم بحسب الباطن ، موجب الحقيقة أموات غير أحياء لا يعقلون ، فلا يسمعون دعوة حتّى يستجيجوا

٤٩

وهذا بحسب حكم القدر.

وفي تفسير العياشي : عن عمّار بن ميثم ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : قرأ [رجل] عند أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ، فقال : «بلى فإنّهم لا يكذّبونك والله لقد كذّبوه أشد التكذيب ولكنها مخففة «لا يكذبونك» لا يأتون بباطل يكذبون به حقك» (١).

أقول : وروي هذا المعنى في الكافي وتفسير القمي : وغيره بعدّة طرق عن أمير المؤمنين والصادق ـ عليهما‌السلام (٢) ـ ، فهو من «أكذبه» إذا وجده كاذبا ، لا من كذّبه إذا نسبه إلى الكذب (٣).

وقوله : (بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ)

الإلتفات من ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو لفظ الجلالة للتلويح إلى موقع هذا الجحود ، وإنّه جحود بآيات الله ، فلا ينتهي إلّا إلى خسران الجاحدين فتسلّى نفس النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ احسن التسلية ، وعلى هذا الطريق ، أن يتلقى الإلتفاتات اللاحقة في قوله : (لِكَلِماتِ اللهِ) ، وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ) وقوله : (يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

قوله سبحانه : (أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ)

في تفسير القمّي : في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في قوله :

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٣٥٩ ، الحديث : ٢٠.

(٢). الكافي ٨ : ٢٠٠ الحديث : ٢٤١ ، تفسير القمّي ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٣). لسان العرب ١٢ : ٥٣ ، مادّة «كذب».

٥٠

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) ، قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يحب إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، دعاه رسول الله وجحد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء ، فشقّ ذلك على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فأنزل الله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) إلى قوله : (نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) ، يقول : سربا (١).

أقول : السرب بفتحتين ، قال في الصحاح : بيت في الأرض ، تقول إنسرب الوحشي في سربه ، وأسرب الثعلب في جحره (٢) انتهى.

والنفق بفتحتين : ثقبة إلى محل معهود.

قوله : (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ)

أي فافعل فجواب (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) مقدّر يدل عليه الكلام.

قوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)

في مقام التعليل بقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).

وقوله سبحانه : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)

فيه إيماء إلى علّة ما سبقه ، ومآل المعنى ـ والله العالم ـ : لا تحزن على تكذيبهم وجحودهم واستنكافهم عن الهدى ، ولا تطمع في استجابتهم فإنّهم لا يسمعون لأنّهم موتى ، لكنّهم لا يفوتوننا فسوف يبعثهم الله فيفقهون ويسمعون ، ثم

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٩٨.

(٢). صحاح اللغة ١ : ١٤٧.

٥١

يرجعون إليه فيخزيهم بما كانوا يعملون.

ففي الكلام فائدة أخرى وهي دفع الدخل وتحكيم ما مرّ من وصف بعثهم وحشرهم.

وقرء : يرجعون بفتح الياء ، والضم أبلغ وأنسب للسياق.

*

٥٢

[وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ

٥٣

أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)]

وقوله سبحانه : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

إنّهم موتى آذان لهم ولا قلوب ، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) (١) حتى يبعثهم الله ، فلا يبقى لنزول الآية تبعة إلّا نزول العذاب ، وفيه بطلان الدعوة ، فلا مانع عن نزول الآية من قبل الله لقدرته على كل شيء ، بل من قبلهم ، وإلى ذلك

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٢٥.

٥٤

يشير ما في تفسير القمي في الآية قال : قال : لا يعلمون أنّ الآية إذا نزلت (١). ولم يؤمنوا بها لهلكوا (٢).

ثم إنّ قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) بعد ما نزل عليهم القرآن وهو الآية المعجزة الباهرة ، وقد تحدّى به الرسول فلم يقدر على مقاومتها أحد ، وبعد ما تلى عليهم القرآن آيات الله من سماء وأرض وما بينهما من خلق وتصريف ، فقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) في هذا الموقف ليس إلّا أنّه لا يعتنون بهذه الآيات الباهرة ويهملون ذكرها من أصلها فلم تبق فائدة في مخاطبتهم ولا جدوى لمشافهتهم ، لأنّهم لا يرون شيئا من الآيات آية وإن تفوّهوا بلفظه واعترفوا بمفهومه ، لكن لا يرون له مصداقا.

ولهذا أجابهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) فأجاب بقدرة الله عليها ، وأكّده ب : (إِنَ) ، لكونهم في مقام الإنكار ، ولم يزد على أصل القدرة شيئا ولم يذكر أنه هل نزّل شيئا أو هل سينزل أو لا ينزّل لعدم إجدائه لهم شيئا وإنما ذيّله بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وعند ذلك سقط خطاب النبيّ لهم ، ولذلك أخذ سبحانه يخاطبهم من غير وساطة النبي في الآيتين التاليتين.

قوله سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)

ذكر الوصفين ، أعني قوله : (فِي الْأَرْضِ) وقوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) لتحقيق الموصوفين وتثبيتهما كما في كل وصف لازم لموصوفه ، كقولنا : الشمس مضيئة والبدر منير ومن هذا الباب أيضا أمثال قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ *

__________________

(١). في المصدر : «جاءت»

(٢). تفسير القمي ١ : ١٩٨.

٥٥

وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١) أخذ الوصف فعلا في هذا الباب أبلغ من الإسم بوجه ، وقوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، أي يجري فيهم ما أجراه فيكم من شؤون الحياة جمعا وفرادى ، فكما أفاض عليكم جميع ما يستعدّه وجودكم وتأليف طبائعكم من الإستكمال في الحياة الدنيا ، فكذا في كلّ أمة من أمم الدوابّ والطيور ، فبينها نظام تكويني ونظام اعتباري ، (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) بمنع ما يستحقه شيء بحسب فطرته والبخل عمّا يسأله بحسب جبلّته ، كما قال سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢) وقال سبحانه : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) أي طريق غير مختلف ولا متخلّف.

فإذا كان الأمر على هذا وجميع الإنسان والحيوان امم متماثلة ، فكلّ إلى ربّهم يحشرون ، إذ هو الآخذ لما أعطيت من الحياة والوجود ، وفي الآية التفات بتبديل الغيبة إلى الخطاب ، فإنّ الآية السابقة قطعت خطاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لهم بالإعراض.

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ)

فهم (صُمٌ) لعدم استماع الدعوة و (بُكْمٌ) لعدم التفوّه بكلمة الحق ، وقوله : (فِي الظُّلُماتِ) ، بمنزلة العمى ، ولم يصرّح به إذ لم يسبق المقام إلّا عدم وصول الدعوة إليهم وعدم استجابتهم ، فليس للبصر هناك حظّ حتى ينسب إليهم

__________________

(١). الطارق (٨٦) : ١١ ـ ١٢.

(٢). هود (١١) : ٦.

(٣). هود (١١) : ٥٦.

٥٦

العمى ، لكن اشير إليه ضمنا ، فما ألطفه من سياق ، وهذه الدعوى وهي دعوى الصمم والبكمة أوجب ثانيا الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة ، فإنّ الأصمّ الأبكم لا مطمع في خطابه مع أنّ الآية من تمام الآية السابقة.

وملخّص المعنى أنّ كلّ طائفة من طوائف دوابّ الأرض ومنهم الناس ، وطوائف الطير أمة متماثلة لغيرها أمر حياتها وتدبيرها إلى ربّها في الدنيا محشورة إلى الله ، والمكذّبون بالآيات من بين جميعهم صمّ وبكم في الظلمات فهم لا يعلمون. فتكون في معنى قوله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (١) وقوله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢).

قوله سبحانه : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ)

في مقام التعليل لقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، لأنّ الصمم والبكمة والظلمة وخلافها صور الإضلال والهداية الإلهيتين ، وسيجيء بعض الكلام فيه في قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) (٣) من هذه السورة.

وفي تفسير القمي : عن أبي حمزة ، قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن الآية ، فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : نزلت في الذين كذّبوا بأوصيائهم ، صمّ بكمّ كما قال الله : (فِي الظُّلُماتِ) ، من كان من ولد إبليس فإنّه لا يصدّق

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢). الأنفال (٨) : ٥٥.

(٣). الأنعام (٦) : ١٢٥.

٥٧

بالأوصياء ولا يؤمن بهم أبدا ، وهم الذين أضلّهم الله ومن كان من ولد آدم آمن بالأوصياء فهم على صراط مستقيم.

قال : وسمعته يقول : كذّبوا بآياتنا كلّها ، في بطن القرآن : «كذّبوا بالأوصياء كلّهم (١).

أقول : كون الأوصياء آيات الله قد مرّ بيانه في آية النسخ من سورة البقرة ، ومعنى كونهم من ولد ابليس ، مشاركته في ولادتهم ، كما قال تعالى : (وَشارِكْهُمْ) (٢).

وقوله : في بطن القرآن إلى آخره ، من الشواهد على اطلاق التنزيل في كلامهم على أعم من شأن النزول المصطلح عليه ، وأنّ جلّ ما ورد في نزول الآيات في شأن الولاية من قبيل الجري بحسب بطن القرآن.

قوله سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ)

رجوع إلى الخطاب بواسطة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. وقوله : (أَرَأَيْتَكُمْ)

فعل مضمّن معنى اخبروني ، وكأنه تحوّل في الكلمة بحسب الإستعمال ، وقد ضمن أرأيت معنى الإستخبار أوّلا ، ثم ضمّ إليه علامة الخطاب ثانيا ، فقيل : أرأيتك ، أرأيتكما ، أرأيتكم ، فلا محل لعلامة الخطاب من الإعراب نظير قولنا : ذلك ، ذلكما ، ذلكم إلى آخره ، وفي الآية استدلال بما يقصده الإنسان عند ضلال الأسباب وسقوطها عن التأثير ؛ فلا يقصد الإنسان في كشفه إلّا الله ، فهو الله دون غيره.

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٩٩.

(٢). الإسراء (١٧) : ٦٤.

٥٨

قوله سبحانه : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ)

قال في الصحاح : البأساء والضرّاء : ـ المشدّدة ـ ، وهما إسمان مؤنثان من غير تذكير (١) ، إنتهى. وكأنّ الاولى شدّة من خارج ، كحرب وفتنة ، والثانية شدة من داخل كمرض وسوء حال ، والبأس : العذاب ، وكأنّ الأصل في معناه التأثير السيىء المكروه والإبلاس : اليأس.

ومورد الآية ما لا يسقط الاسباب دونه من أنواع المكاره والبلايا ، فلا ينافي الآية السابقة.

وفي بعض الأخبار تطبيق الآيات على دولة بني أمية وبني العباس وقيام القائم [عجلّ الله فرجه] (٢) وهو من الجري.

قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ)

وهذا هو الإستدراج وسيأتي بيانه في قوله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (٣) من سورة الأعراف.

قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ)

دابر الشيء آخره ، والكلام من الإستعارة بالكناية والإستعارة التخييليّة ، شبّهوا ـ وهم أعقاب متعاقبون ـ بأمر جار يبدو شيئا فشيئا ، فإذا قطع الدابر منه فنى.

__________________

(١). الصحاح ١ : ٧٢٠.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢٠٠ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٣٦٠ ؛ دلائل الإمامة : ٢٥٠ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٥٤ ؛ إثبات الهداة ٣ : ٥٢٠ ؛ بحار الأنوار ٣٥ : ٣٧١.

(٣). الأعراف (٧) : ١٨٢.

٥٩

قوله سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ)

في تفسير القمّي في رواية أبي الجارود : عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ، يقول : «[إن] أخذ الله منكم الهدي (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) ، يقول : يعرضون» (١).

أقول : وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ) تمهيد لصرف الكلام عن أدلة التوحيد إلى التعرض بحال الظالمين.

قوله سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ)

في تفسير القمي : إنّها نزلت حين (٢) هاجر رسول الله إلى المدينة وأصاب أصحابه الجهد والعلل والمرض ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ، فأنزل الله : (قُلْ) لهم يا محمّد! : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) ، أي لا يصيبكم (٣) إلّا الجهد والضرّ في الدنيا ؛ فأمّا العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلّا القوم الظالمين (٤).

أقول : ويضعفّه على أنّه لا ينطبق على اللفظ البتة.

فإن قلت : إنّ الأخبار مستفيضة أنّ الأنعام نزلت جملة واحدة والسورة مكية ، وهذا ينافي كون الآية مدنيّة وكذا ما ذكره أنّ قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٠١ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٥٧ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٥.

(٢). في المصدر : «لمّا»

(٣). في المصدر : «إنّهم لا يصيبهم»

(٤). تفسير القمّي ١ : ٢٠١.

٦٠