تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) نزلت بالمدينة.

قلت : نزول السورة جملة واحدة وفي مكة لا يوجب كون جميع آياتها المثبتة في المصاحف مكيّة لجواز أن يثبتوا عند التأليف بعض الآيات من غير السورة في السورة ، وله نظائر ، وأمّا العامّة فقد استثنوا عدّة آيات من سورة الأنعام ، فصرحوا أنّها مدنية ، سيأتي الإشارة إليها.

قوله سبحانه : (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)

قيل : الترديد والمقابلة بين البغتة والجهرة لما في البغتة من معنى الخفاء.

قوله سبحانه : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ)

قد مرّ معنى الصلاح ، وحذف المتعلق للإهمال لا للإطلاق بقرينة المقابلة مع التكذيب ، أي أصلح إصلاحا مّا إمّا نفسه أو عمله ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قوله سبحانه : (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

قال في الكشاف : جعل العذاب ماسّا كأنّه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام ، ومنه قوله : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١) (٢).

أقول : فيكون من الإستعارة بالكناية والإستعارة التخييلية ، والظاهر أنّ مورد الإستعارة قوله : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ، فإنّه من فسقت التمرة ، إذا خرجت عن

__________________

(١). الفرقان (٢٥) : ١٢.

(٢). الكشاف للزمخشري ٢ : ٢٥.

٦١

قشرها ، فهم بالتكذيب والتمرّد يخرجون من لباس الإيمان والطاعة الحافظ لأبدانهم من الآفات الماسّة ، فيمسّهم حينئذ العذاب كما يمس التمرة ما لا يلائمه على لطف جرمها.

قوله سبحانه : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا)

في المجمع : قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربهم برغبتهم (١) فيما عنده ، فإنّ القرآن شافع ومشفّع» (٢).

أقول : كان بيانه عليه‌السلام مبني على كون قوله سبحانه : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) جملة معترضة أوردت لتهييج رجائهم وإثارة رغبتهم بأنّه الولي الشفيع ، فيرجوا الوصول إليه بتولّيه أمره وشفاعته لهم ، فينذروا فيتّقوا ممّا يخافون ، فيكون القرآن شافعا في إيصالهم إلى قربه مشفعا في ذلك ، ولذلك بدّل عليه‌السلام في تفسيره الخوف ب : الرجاء والرغبة ، وأثبت للقرآن الشفاعة مع نفيه في الآية عن غيره سبحانه.

وأمّا ما قيل : إنّ قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) في موضع الحال من (يُحْشَرُوا) ، بمعنى يخافون ان يحشروا إلى ربهم غير منصورين ولا مشفوعا لهم ، ولا بّد من هذا الحال : لأن كلّا محشور ، فالمخوف إنّما هو الحشر على هذا الحال ، إنتهى (٣).

يبعّده السياق لمكان قوله : (مِنْ دُونِهِ) ، فافهم ، على أنّه أحد [معاني]

__________________

(١). في المصدر : «ترغبهم»

(٢). مجمع البيان ٤ : ٦٠ ، في المصدر : «شافع مشفع لهم».

(٣). جوامع الجامع ١ : ٣٨٠.

٦٢

الولاية بمعنى النصرة ، وإنّما هي ولاية الأمر.

قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)

في تفسير القمي : إنّه كان سبب نزولها أنه كان بالمدينة قوم فقراء مؤمنون يسمّون أصحاب الصفّة ، وكان رسول الله أمرهم أن يكونوا في صفّة يأوون إليها ، وكان رسول الله يتعاهدهم بنفسه ، وربّما حمل إليهم ما يأكلون ، وكانوا يختلفون إلى رسول الله فيقربهم ويقعد معهم ويؤنسهم ، وكان إذا جاء الأغنياء والمترفون من أصحابه أنكروا عليه ويقولون له : أطردهم عنك ، فجاء يوما رجل من الأنصار إلى رسول الله وعنده رجل من أصحاب الصفّة ، وقد لصق برسول الله ورسول الله يحدّثه ، فقعد الأنصاري بالبعد منهما ، فقال له رسول الله : تقدّم ، فلم يفعل ، فقال له رسول الله : «لعلك خفت أن يلزق فقره بك ، فقال : أطرد هؤلاء عنك ، فأنزل الله : (وَلا تَطْرُدِ) (١).

ومن طريق العامة : إنّ رؤوسا من المشركين قالوا لرسول الله : لو طردت عنّا هؤلاء الأعبد ـ يعنون فقراء المسلمين وهم : عمّار وصهيب وخبّاب وسلمان وأضرابهم وأرواح جبابهم ، وكانت عليهم جباب من صوف ـ جلسنا إليك وحادثناك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أنا بطارد المؤمنين ، فقالوا : فأقمهم عنّا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت ، فقال : نعم طمعا في إيمانهم (٢) ، الحديث.

وهو أقرب اعتبارا نظرا إلى أنّ السورة مكيّة ، وقوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ،

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٠٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٥٩ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٣٩.

(٢). تفسير الطبري ٧ : ١٢٨ ؛ الكشّاف ٢ : ٢٧ ؛ تفسير الثعلبي ٤ : ١٥٠ ؛ تفسير ابن كثير ٢ : ١٢٥ ؛ تفسير القرطبي ٦ : ٤٣١. السمرقندي في تفسيره ١ : ٤٨٧ ؛ الرازي في تفسيره ١٢ : ٢٣٤ ؛ أسباب النزول للواحدي : ١٧٨ ـ ١٧٩ ؛ ومن الخاصة : جوامع الجامع ١ : ٣٨٠.

٦٣

قوله : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) تفيد الجملتان معا أن الحكم وهو البينونة من الطرفين ، كقوله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (١) ، وقوله : (طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (٢).

قوله سبحانه : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)

الآية وان كانت مطلقة ، لكن السياق يعطي أنّ المفتونين هم الأغنياء من المشركين ، والمفتون بهم هم الفقراء من المؤمنين ، وقولهم : (أَهؤُلاءِ) للتحقير ، وقولهم : (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) كلام مسوق للسخريّة بتسمية الإيمان منّا ، ولذلك سمّاهم سبحانه : (بِالشَّاكِرِينَ) لمكان قبولهم المنّ ووضعهم إيّاه موضعه وهو الإيمان.

قوله سبحانه : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

قوله : (يُؤْمِنُونَ) ، كأنّه مستعمل في الحال بالأشراف ، والمراد به الذين يجيؤن النبي ليؤمنوا ، ولذلك عقّبه بقوله : (بِآياتِنا) ، ولم يجر على ما هو المعهود من قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) ، وهذا هو الأنسب لقوله آنفا : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ).

وقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

تنكير المبتدأ كأنّه للتنويع.

__________________

(١). الممتحنة (٦٠) : ١٠.

(٢). المائدة (٥) : ٥.

٦٤

وقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)

في مقام تفسيره وقوله : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ ..) ، ب : أنّ المفتوحة تفسير الرحمة ، وقرء ب : إنّ المكسورة فيكون تقليلا وتفسيرا لمجموع الجملة ، وقوله : (فَأَنَّهُ) ، جواب الشرط ، والخبر مقدّر.

وفي المجمع في الآية : قيل نزلت في التائبين وهو المرويّ عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ (١) (٢).

وفي تفسير البرهان : ومن طريق المخالفين ما روي عن ابن عباس في الآية نزلت : في علي وحمزة [وجعفر] وزيد (٣).

أقول : وما مرّ من معنى الآية يؤيّد الرواية الأولى كما لا يخفى.

*

__________________

(١). في المصدر : «أبي عبد الله»

(٢). مجمع البيان ٤ : ٦٥.

(٣). البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٦١ ، عن تفسير الحبري : ٢٦٥ ، الحديث : ٢٦ ؛ وشواهد التنزيل ١ : ١٩٦ ، الحديث : ٢٥٤.

٦٥

[قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩)]

قوله سبحانه : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ)

كأنه بيان جيء به دفعا لما يسبق إلى ذهن المخالف أنّ النهي تعبدي أو جزافي ، فيكون المحصّل أنّ هذا النهي ليس نهي تعبد فقط ، بل العقل أيضا يعاضده ، فإنّي على بيّنة من ربّي ، فأنا من المهتدين ، ولا يجوز على المهتدي ضلال فلا يعبد ما تدعون من دون الله ، لأنّه هوى منكم وضلال.

فهذه الجمل المتعاقبة يعلّل كلّ لا حقة منها لسابقته بحسب المعنى.

٦٦

وقوله : (أَهْواءَكُمْ) ، جيىء بصيغة الجمع مع أنّه يشار به إلى عبادتهم ، وهو معنى واحد ، لما كان في عبادتهم من الإختلاف بحسب اختلاف الآلهة والأهواء التي أوجبت اتّخاذ كلّ طائفة صنما خاصّا.

قوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)

هذه الجملة وقوله : (يَقُصُّ الْحَقَ) ، وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) ، كالعلل لمجموع ما يتحصّل من الكلام أنّ الآية ليست بيد النبي ، بل بيد الله ، ولو شاء لأنزلها ، لكن لا ينزل إلّا على المشركين لا لهم ، وقوله سبحانه : (يَقُصُّ الْحَقَ) ، من قصّ الأثر إذا تبعه ، أي لا يفارق حكمة الحق وهو خير الفاصلين.

قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ)

قد تكرر في كلامه سبحانه ذكر الغيب ، وربما قوبل بالشهادة ، والشهادة هي كون الشيء بوصف الحضور والوجدان ، وإذا نسب إلى الشاهد كان بمعنى وجدانه المشهود من غير حجاب حائل ، والغيب ارتفاع هذا الوصف وفقدان الحضور ، فهو معنى عدمي ، وعلى هذا كان كلّ شيء إذا قيس إلى نفسه لم يقبل إلّا معنى الشهادة لعدم غيبوبته عن نفسه ما خلا الله سبحانه ؛ فإنّه أرفع وأعلى من الوصف وأكبر من أن يوصف فذاته ليس بغيب ولا شهادة ، إلّا من جهة أسمائه وأوصافه المقدّسة ، وإذا نسب الشيء إلى غيره أمكن أن يختلف اتّصافه بالوصفين ، فيكون شهادة وغيبا باعتبارين كما أنّ ما في داخل الحائط شهادة لمن كان في داخله ، غيب عمّن هو خارجه ، وما في قلب الإنسان شهادة له ، غيب بالنسبة إلى غيره ، وما تحت إحدى الحواس مشهود له غائب عن غيره.

٦٧

وبالتأمل في هذه الأمثلة ونظائرها يعلم أنّ من الغيب ما يمكن أن يكون شهادة ، كمن يحجبه جدران الحائط عمّا وراءه فيشرف فيشاهد ما كان محجوبا غائبا عنه ، أو يستدل بالآثار فيعلم ما كان مجهولا ، كما يستدل على ما في قلب زيد من الآثار البادية أنّه مسرور أو مغموم.

ومنه ما لا يمكن أن يكون شهادة كاللون والصور يحسه البصر ولا يناله السمع ، وإن استدلّ على بعض لوازمه كالإلتذاذ والتأثير ، كما في قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١) ، وقوله : (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (٢) فإنّ العلم من طريق الإستدلال أو بواسطة إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان موجودا عندهم ، وقد عدّ إيمانهم مع ذلك إيمانا بالغيب ، فالغيب باق على ما هو عليه وإن كان معلوما من بعض وجوهه ، فالإدراك المتعلّق بالغائب من جهة الإستدلال بآثاره لا يسمّى علما بالغيب إلّا مسامحة.

ومن جهة أخرى العلم من جهة مطلق الإستدلال ربّما أصاب وربما أخطأ ، ومع احتمال الخطأ لا علم ، بل هو ظن وحسبان. إنّما يكون علما ، ثمّ علما بالغيب إذا كان مأمونا مصونا من الخطأ ، كما يستفاد من قوله سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (٣) فإنّ الإرصاد من جوانب الرسول ، أو الخبر الذي أخبر هو إنّما به يتحقق العلم ولا يمسّ الشياطين شيئا من الوحي بالخلط والدسّ.

ومن الشاهد على ذلك قوله سبحانه : في ذيل قصة يوسف : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣.

(٢). يس (٣٦) : ١١.

(٣). الجن (٧٢) : ٢٦ ـ ٢٧.

٦٨

الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١) ، فإنّ القصة موجودة عند أهل الكتاب بعنوان التاريخ ، غير أنّ ما عندهم غير مأمون عليه من تحريف المحرفين أو سهو الناقلين وبخلاف إخباره سبحانه الذي (يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) وإليه يشير قوله تعالى في ذيل الآية : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) فانتفاء الحضور يجعله بناءا غيبيّا غير معلوم ، وإنّ قصّة التاريخ فهو سبحانه لا يسمّي بالعلم كلّ ما نسمّيه علما بالمسامحة العرفيّة ، ونظير الآية قوله تعالى في قصة مريم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٢) ، ونظيره أيضا قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣) ، وقريب منه قوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (٤).

والآيات كما ترى تعلّق الوحي والعلم بنبأ الغيب لا بنفسه ، وقد قدّمنا في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي) (٥) الآيات من البقرة ، إنّ العلم بالشيء غير العلم بنبأه وهو صورة الشيء بحسب الإخبار ، فالعلم بالشيء إحاطة بنفسه ، والعلم بنبأه إحاطة بنبأه وصورته دون نفسه ، فالعلم بنبأه الغيب غير العلم بالغيب ، قال سبحانه : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٦) ،

__________________

(١). يوسف (١٢) : ١٠٢.

(٢). آل عمران (٣) : ٤٤.

(٣). القصص (٢٨) : ٤٤.

(٤). هود (١١) : ٤٩.

(٥). البقرة (٢) : ٣١.

(٦). طه (٢٠) : ١١٠.

٦٩

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : ليس العلم بكثرة التعلم وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء (١).

ثم إنّ فرض تحقق الغيبة فرض خروج الشيء عن الإحاطة فلا معنى للعلم بالغيب حينئذ وقد قال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢) ، فجعل كلّ شيء ينسب إليه الخلق ذا قدر وحدّ ، ولا معنى لإحاطة الشيء المقدّر المحدود بما هو غائب عن ذاته خارج عن حيطته وحدّه ، قال سبحانه : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (٣) ، فمن في السماوات والأرض من شيء مخلوق مقدر محدود ومؤجلّ ، قال سبحانه : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٤).

وأما الله جلّ شأنه فهو محيط بكلّ شيء عالم به قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥) ، وقال سبحانه وتعالى : (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٦) وقال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٧) وقال تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٨).

فلا يغيب عنه ولا يبعد منه ولا يخرج عن إحاطته وعلمه شيء ، وحفظ هذه

__________________

(١). منية المريد : ١٦٧ ؛ مصباح الشريعة : ١٦ ؛ بحار الأنوار ٦٧ : ١٣٩.

(٢). القمر (٥٤) : ٤٩.

(٣). النمل (٢٧) : ٦٥.

(٤). الأحقاف (٤٦) : ٣.

(٥). فصلت (٤١) : ٥٣ ـ ٥٤.

(٦). الطلاق (٦٥) : ١٢.

(٧). الحديد (٥٧) : ٤.

(٨). يونس (١٠) : ٦١.

٧٠

المعاني على حقيقتها يوجب أن يكون كل شيء على هويته وشخصيته محفوظا عند الله سبحانه ، لا كما تبقى الأشياء عندنا بصورها ومعانيها ، وإن بطلت بزعمنا أشخاصها ، وفقدتها الأمكنة ومحتها الأيّام ، فإنّ ذلك من المجاز وحقيقته بقاء معانيها في ذكرنا ، أو بقاء آثارها ، بل هي باقية لله بأنفسها محفوظة له بهويّتها وحقيقتها لا بصورها ، لا تفوته سبحانه ولا تغيب ، وإن فاتت الأيّام وغابت عن أبصار الناظرين وبصائر المدركين فإنّ مرجع هذا الفقد والغيبة إلى تقدر الوجود ومحدودية الذوات كما عرفت.

وهو إنّما يتحقّق بين محدود ومحدود ، بل في المحدود فقط ، وأمّا بين محدود وغير محدود ، ومحيط ومحاط ، فغير المحدود لا يفقد المحدود والمحاط لا يغيب عن المحيط ، فقد تحقق أنّ شيئا من الأشياء سواء كان محدودا متناهيا على الإطلاق ، أو غير محدود بالنسبة إلى غيره ، وإن كان محدودا بالنسبة إلى الله سبحانه لا يفوته تعالى ولا يخرج عن إحاطته وعلمه.

ومن هنا يظهر أنّ لو تحقق في الموجودات عدة محدودة وأخرى غير محدودة ، كان غير المحدود غيبا بالنسبة إلى المحدود مطلقا ، وأمّا المحدود فالغيب والشهادة فيه بالنسبة إلى مثله نسبيّ كالمبصر بالنسبة إلى الباصر ، ربّما كان غائبا وربّما كان مشهودا ، والغيب من حيث غيب لا يكون مشهودا للمغيب عنه وهو ظاهر ، قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ) (١) ، فعلم هذا القسم مقصور بما أودع الله فيهم من إطلاق الوجود قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (٢).

__________________

(١). النمل (٢٧) : ٦٥.

(٢). البقرة (٢) : ٢٥٥.

٧١

وكلّ شيء بالنسبة إليه ، سواء كان محدودا مقدرا كمن في السموات والأرض ، كما يشير إليه قوله سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) ، أو غير مقدر ولا محدود ، كما يشير إليه قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢) ، فإنّ القدر مصاحب للنزول وملازم له فجميع القسمين بأي حيثية أخذا غيبا أو شهادة محدود متناه بالنسبة إليه سبحانه ، كما يشير إليه قوله : (كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٣) ، وهي جميعا معلوم محاط له سبحانه لا يشاركه غيره ، وقد جمع الجميع قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ، وهذه هي الموجودات التي وراء ساحة السموات والأرض الغائبة عنها.

ومفاتح جمع مفتح ، بفتح ، الميم وهو المخزن ، فيكون المراد خزائن الغيب ، وإمّا جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح فيدلّ على أنّ هناك خزائن مسدودة الأبواب مغلّقتها ، عنده مفاتيحه لا يتصرف فيه إلّا هو سبحانه أو من أذن له وإرتضاه.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وهذه هي الموجودات الجسمانية ، فقوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تعميم لما في الأرض أنفسها ، وقوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) ، تعميم لحالاتها وتحوّلاتها ، وقوله : (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) وقرءت بالرفع ، (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، إشارة إلى حفظ كلّ شىء في الكتاب

__________________

(١). القمر (٥٤) : ٤٩.

(٢). الحجر (١٥) : ٢١.

(٣). الرعد (١٣) : ٨.

٧٢

المبين ، وهو الكتاب الذي لا تغيّر فيه ولا تبدّل ، قال تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) ، وقال : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٢).

وسيجيء الكلام فيه في آخر سورة الرعد إن شاء الله العزيز.

ويدلّ على ما مرّ من معنى خزائن الغيب ما في التوحيد والمعاني والمجالس : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «لما صعد موسى إلى الطور فنادى ربه عزوجل ، قال : يا ربّ! أرني خزائنك فقال : يا موسى! إنّما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له : كن فيكون» (٣).

أقول : سيجيء تفسيره في سورة الحجر.

وفي الكافي والمعاني وتفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ الورقة : السقط ، والحبة : الولد ، وظلمات الأرض : الأرحام ، والرطب : ما يحيى [من الناس] ، واليابس : ما يغيض (٤) ، وكلّ ذلك في كتاب مبين» (٥).

أقول : ورواه القمّي أيضا في تفسيره (٦).

وفي تفسير العياشي : عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ : «الورقة : السقط ، يسقط من بطن أمه من قبل أن يهلّ الولد (٧) ، [قال : فقلت وقوله : (وَلا حَبَّةٍ) قال :

__________________

(١). الرعد (١٣) : ٣٩.

(٢). ق (٥٠) : ٤.

(٣). التوحيد : ١٢٣ ، الحديث : ١٧ ؛ معاني الأخبار : ٤٠٢ الحديث : ٦٥ ؛ أمالي الصدوق : ٥١١ ، الحديث : ٤.

(٤). في الكافي : «يقبض» ، في بقية المصادر : «يغيض» وفي تفسير القمي : «ما تغيض الأرحام».

(٥). الكافي ٨ : ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، الحديث : ٣٤٩ ؛ معاني الأخبار : ٢١٥ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٦١ ، الحديث : ٢٨.

(٦). تفسير القمي ١ : ٢٠٣.

(٧). أهلّ الولد : رفع صوته بالبكاء حين الولادة.

٧٣

يعني] الولد في بطن أمه إذا أهلّ ويسقط من قبل الولادة [قال : قلت : قوله (وَلا رَطْبٍ) قال : يعني] المضغة إذا استكنّت في الرحم قبل أن يتمّ خلقها قبل أن تنتقل ، [قال : قلت : قوله (وَلا يابِسٍ) قال :] واليابس الولد التام ، و [قال : قلت : في] (كِتابٍ مُبِينٍ) [قال : في] إمام مبين (١).

أقول : الروايتان من باب التطبيق والجري ، سوى قوله في الثانية : والكتاب المبين : الإمام المبين ، فهو من البطن وسيجيء إن شاء الله.

وفي المعاني : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، فقال : «الغيب ما لم يكن ، والشهادة ما قد كان» (٢).

أقول : وهو بوجه راجع إلى ما مرّ ، فما لم يكن وهو معلوم فإنّه ليس بمعدوم لله ، بل موجود ومحفوظ في خزائن الغيب ، وأمّا ما قد كان فقد خرج من الغيب إلى الشهادة ، وإن صار من وجه آخر غيبا بعد انقضاء أجله.

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، الحديث : ٢٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٦٤ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٤٤.

(٢). معاني الأخبار : ١٤٦ ، الحديث : ١.

٧٤

[وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩)

٧٥

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣)]

قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)

التوفّي والإستيفاء : أخذ الحقّ تماما وقوله تعالى : (جَرَحْتُمْ) ، الجرح الفعل والإكتساب ، ومنه الجارحة بمعنى العضو ، وكان الأصل فيه الجرح ـ بالفتح ـ بمعنى ايراد الجرح بالضم ، وهذه الآية واللّتان بعدها جميعا كأنها من تمام الآية السابقة ، فإنّها تبين سعة العلم ، وهذه تبيّن سعة التدبير والحكم ، وجميع الآيات الأربع بمنزلة التقرير والتوضيح للآية التي قبلها ، أعني قوله : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (١) ، فنسبة هذه الأربع إلى تلك الآية كنسبة قوله

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٥٧.

٧٦

سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (١) إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) (٢) بعينها فيما تقدم بيانه.

وبذلك يظهر وجه الإلتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) ، والإلتفات من الغيبة إلى التكلّم في قوله : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا).

وبيانه أنّهم لمّا لم يعبأوا بالآيات التي أتى بها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وسألوا آية كان معناه استعجال العذاب ، فلمّا قال لهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما أمر به : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) ثم قال : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، سقط الخطاب معهم عندئذ وانقطع الكلام ، ولذلك تصدى هو سبحانه لخطابهم شفاها لكن مع حفظ الغيبة لنفسه ، على ما يقتضيه التحرّز عن انهتاك مقام المتكلم على ما مرّ في أول السورة ، فأبقى نفسه على الغيبة أولا وجعلهم مخاطبين فقال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي يأخذ نفوسكم بالليل ، (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي ما اكتسبتم بالنهار ، (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي في النهار ، (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي الموت ، لأنّ أجل هذه الحياة الموت دون القيامة ، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي في القيامة ، وقيل : بالموت ، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، أي بالمجازاة بتوفيتكم أعمالكم.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ)

والقهر هو الغلبة بإعمال الإقتدار ، ولذا قيّد بما يدل على الإستعلاء ، كما في قوله :

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٣٨.

(٢). الأنعام (٦) : ٣٧.

٧٧

(وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (١) ، مع كونه متعدّيا ، (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) كأنّه عطف على مقدّر وهو مصاديق القهر ، كأنّه قيل : وهو القاهر يفعل كذا وكذا ، (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٢) وقوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣).

وإذا بلغ الكلام هذا المبلغ استأنس الخطاب وقرب المتكلم من المخاطب ، فناسب أن يعرّف نفسه وقد كان غير معروف فقال : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ، فأخذ لنفسه مقام التكلّم ليعرف المخاطب أنّ المتكلم هو هو ، (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) ولا يقصّرون.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) ، بدل التكلم إلى الغيبة ثانيا ، لأنّ المرجع إليه هو الله لألوهيته وليأخذ الوصف ، وهو قوله : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ، وإذا كان سبحانه هو الله العالم بكل شيء القاهر فوق عباده فهو المولى الحق ، فله كلّ حكم ، ولذا عقّبه بقوله : (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) ، وإذا كان له كلّ حكم وهو أسرع الحاسبين لا يشغله شأن عن شأن.

وعند هذا تمّ بيان قوله سبحانه : (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، فالحكم فيما يستعجلون به من الآية : (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) يعلم متى يستحقون وكيف يستحقون نزول الآية والعذاب ، فالآيات في الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب في طريق ، وأيضا من الغيبة إلى التكلم ، ثم إلى الغيبة في طريق ، نظير قوله سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ

__________________

(١). يوسف (١٢) : ٢١.

(٢). الحديد (٥٧) : ١٨.

(٣). آل عمران (٣) : ١٤٠.

٧٨

أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١) بعينها.

ثم إنّ في قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) دليلا على أنّ النفوس غير الأبدان أولا ، وأنّ النوم والموت متّحدان من حيث الحقيقة ، وهو توفّي النفس ثانيا ، وقد مرّ بعض الكلام في [الآية ٣٨ من هذه السورة وسيأتى بعض الكلام فى] قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) (٢) الزّمر.

قوله : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)

المراد بالظلمة الشدّة استعارة.

وقوله : (يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ)

الضمير إلى هذه وهي الشدة الخاصة المدعوّ فيها ينجيكم منها ومن كلّ كرب سواها.

قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً)

في التعبير بالبعث إيماء إلى أنّه مهيّأ لا يحتاج إلى أزيد من البعث كايقاظ النائم.

وقوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً)

من اللبس بمعنى الخلط ، و (شِيَعاً) ، حال أو مفعول به ليلبسكم بتضمين معنى الجعل ونحوه ، أي يخلطكم فيصيروا شيعا مختلفة كلّ يتبع إماما ويأتمر آمرا

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٣٨.

(٢). الزمر (٣٩) : ٤٢.

٧٩

فيذيق بعضكم بأس بعض بالقتال وإراقة الدماء وإفساد الأمور.

وفي تفسير القمّي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال : «هو الدخان والصيحة ، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : وهو الخسف ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض ، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) هو أن يقتل بعضكم بعضا ، فكل هذا في أهل القبلة ، [كذا] يقول الله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (١).

وفي المجمع (مِنْ فَوْقِكُمْ) السلاطين الظلمة ، (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) العبيد السوء ، ومن لا خير فيه.

قال : وهو المروي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) ، سوء الجوار ، قال : وهو المروي ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ (٢).

أقول : كل ذلك من قبيل عدّ المصاديق وهي غير منحصرة.

قوله سبحانه : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ)

في تفسير القمّي : عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسبّ فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم ، إنّ الله يقول في كتابه : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا)» (٣).

وفي المعاني : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال علي بن الحسين

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢٠٤.

(٢). مجمع البيان ٤ : ٧٨.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٠٤.

٨٠