تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

وحاشا مقام النبي المرسل ـ أحد أولي العزم الخمسة الذين هم سادة الأنبياء وحملة التوحيد عن الجهل والإقتراح ، إنّما كان يسأل الرؤية التي سيرزقه أهل الجنة من النظر إلى الله تعالى دون الرؤية المتعلقة بالأضواء والألوان على الأجسام ، وعلى ما مرّ يدل بعض الروايات.

ففي التوحيد : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في حديث : وسأل موسى وجرى على لسانه من حمد الله عزوجل : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، فكانت مسألته تلك أمرا عظيما ، وسأل امرا جسيما فعوتب فقال الله عزوجل : (لَنْ تَرانِي) في الدنيا حتى تموت فتراني في الآخرة ، ولكن إن أردت أن تراني في الدنيا ف (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ، فأبدا الله بعض آياته وتجلّى ربّنا للجبل فتقطّع الجبل فصار رميما (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) ، ثم أحياه الله وبعثه فقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، يعني أوّل من آمن بك منهم بأنّه لا يراك (١).

أقول : وقد اتضح معنى الحديث في الجملة بما مرّ والأخبار في إثبات هذه الرؤية والمشاهدة كثيرة.

فعن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله» (٢).

وفي النهج : عنه ـ عليه‌السلام ـ : «لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» (٣).

__________________

(١). التوحيد : ٢٦١ الحديث : ٥.

(٢). مفتاح الفلاح : ٣٦٧ ؛ مشرق الشمسين : ٤٠٢ ؛ شرح الأسماء الحسنى ١ : ٤.

(٣). نهج البلاغة : ٢٥٨ ، الخطبة : ١٧٩ ؛ وفي المصدر : «لم تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان».

٣٠١

وعنه ـ عليه‌السلام ـ : «لم أعبد ربّا لم أره» (١).

وفي التوحيد : عن أبي بصير عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن الله عزوجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال : «نعم ، وقد رأوه قبل يوم القيامة» ، قلت : متى؟ قال : «حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ، ألست تراه في وقتك هذا»؟! قلت : فأحدّث بها عنك ، فقال : «لا ، فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ، ثم قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر ، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ـ تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون» (٣).

أقول : وظاهر من الرواية أنّ هذه الرؤية ليست هي الإعتقاد والإيمان القلبي المكتسب بدليل ، كما أنّها غير الرؤية البصرية الحسّية ، وأنّ المانع من استعمال الرؤية في حقه سبحانه أو تكثير هذا الإستعمال انصراف اللفظ عند الناس إلى الرؤية الحسيّة ، وإلّا فحقيقة الرؤية ثابتة وهي نيل الشيء بالمشاهدة العلميّة من غير طريق التصوّر والإعتقاد الفكري ، بل هنا عدة من الأخبار تنفي أن يكون هو سبحانه معلوما بالعلم الفكري والتصور الذهني أصلا ، بل هو معلوم مشهود بنحو آخر من المعرفة والكشف.

وفي التوحيد والأمالي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في خطبة له ـ عليه‌السلام ـ : «أحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجلّ لا باستهلال رؤية ،

__________________

(١). الكافي ١ : ٩٧ ـ ٩٨ ، الحديث : ٦ ، فيه : «ما كنت» ؛ ١ : ١٣٨ ، الحديث : ٤ ؛ الاختصاص :٢٣٥ ؛ الأمالي للصدوق : ٣٤١ ، الحديث : ١ ؛ التوحيد : ١٠٩ ، الحديث : ٦ ، و ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، الحديث : ١ و ٣٠٨ ، الحديث : ٢.

(٢). الاعراف (٧) : ١٧٢.

(٣). التوحيد : ١١٧ ، الحديث : ٢٠.

٣٠٢

باطن لا بمزايلة» (١).

وفي التوحيد : ـ أيضا ـ : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في كلام له في التوحيد : «وأحد صمد أزليّ صمدي ، لا ظلّ له يمسكه وهو يمسك الأشياء بأظّلتها ، عارف بالمجهول ، معروف عند كلّ جاهل ، لا هو في خلقه ولا خلقه فيه» (٢).

وفي الإرشاد وغيره : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في كلام له : «إنّ الله أجلّ من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء» (٣).

وفي التوحيد : عن موسى بن جعفر ـ عليه‌السلام ـ في كلام له في التوحيد : «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، فقد احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا اله إلّا هو الكبير المتعال» (٤).

أقول : وهذا المعنى مروي عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ على ما في العلل وجوامع التوحيد (٥).

ومقتضى الروايات الثلاث السابقة أنّه سبحانه معروف غير مجهول عند أحد على جهلهم به ، وتفسير ذلك الرواية الأخيرة ، فإنّ مقتضاها أنّه سبحانه غير محتجب عن شيء قطّ إلّا بنفس ذلك الشيء ، فالإلتفات إلى الأشياء هو العائق عن مشاهدته سبحانه ، ثم حكم ـ عليه‌السلام ـ أنّ هذا الحاجب الساتر غير ساتر حقيقة ، فهو حجاب غير حاجب وستر غير ساتر ، وينتج مجموع الكلامين

__________________

(١). التوحيد : ٣٤ ، الحديث : ٢ ؛ الامالي للشيخ الطوسي : ٢٢ ، الحديث : ٢٨ ؛ الأمالي للمفيد : ٢٥٣ ، الحديث : ٤.

(٢). التوحيد : ٥٧ ـ ٥٨ ، الحديث : ١٥.

(٣). الارشاد ١ : ٢٢٤.

(٤). التوحيد : ١٧٨ ، الحديث : ١٢.

(٥). علل الشرائع ١ : ٩ ـ ١٠ ، الحديث : ٣ ؛ التوحيد : ١٧٩ ، الحديث : ١٢.

٣٠٣

أنّه سبحانه مشهود عند الكل ، معلوم لهم ، غير أنّ التفات الخلق إلى ذواتهم واشتغالهم بأنفسهم حجبهم عن التنبّه بأنّهم يشهدونه ، فالعلم موجود مطلقا دون العلم بالعلم ، فلو سأل أحد من الله أن يشاهده رجع سؤاله إلى سؤال أن ينسيه سبحانه غيره حتى تصفو له المشاهدة ويتّم له المعرفة ، فافهم ولا تزغ.

وبهذه الرواية أيضا يظهر معنى ما في عدّة من الروايات كما في جوامع التوحيد : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : «خلقة الله الخلق حجاب بينه وبينهم» (١).

وفي العلل : عن الثمالي قال : قلت لعليّ بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ لأي علّة حجب الله عزوجل الخلق عن نفسه؟ قال : «لأنّ الله تبارك وتعالى بناهم بنية على الجهل» (٢).

أقول : فالبناء على الجهل جعلهم بحسب الخلقة مشتغلين بأنفسهم.

وفي المحاسن : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله عزوجل كان ولا شيء غيره ، نورا لا ظلام فيه ، وصادقا (٣) لا كذب فيه ، وعالما (٤) لا جهل فيه ، وحيّا (٥) لا موت فيه ، وكذلك هو اليوم ، وكذلك لا يزال أبدا» ، الحديث (٦).

وفي التوحيد : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «كان يعني رسول الله

__________________

(١). التوحيد : ٣٥ ـ ٣٦ ، الحديث : ٢ ؛ الأمالي ، للشيخ المفيد : ٢٥٤ ، الحديث : ٣ ؛ الأمالي للشيخ الطوسي : ٢٢ ، الحديث : ٢٨ ؛ نور البراهين ١ : ١٠٢.

(٢). علل الشرائع ١ : ١١٩ ، الحديث : ٢.

(٣). في المصدر : «صدقا»

(٤). في المصدر : «علما»

(٥). في المصدر : «حياة»

(٦). المحاسن ١ : ٢٤٢ ، الحديث : ٢٢٨.

٣٠٤

إذا نظر إلى ربّه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب» (١).

وفي التوحيد : ـ أيضا ـ : عن محمد بن الفضيل قال : سألت أبا الحسن ـ عليه‌السلام ـ هل رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ربّه عزوجل؟ فقال : نعم ، بقلبه رآه ، أما سمعت الله عزوجل يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٢) ، لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد» (٣).

وفي التوحيد : عن عبد الأعلى ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «ومن زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك ، لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره ، وإنّما هو واحد موحّد ، فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره ، إنّما عرف الله من عرفه بالله ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنّما يعرف غيره ، ليس بين الخالق والمخلوق شيء (٤) ، والله خالق الأشياء لا من شيء يسمّى بأسمائه ، فهو غير أسمائه ، والأسماء غيره ، والموصوف غير الواصف ، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة ، لا يدرك مخلوق شيئا إلّا بالله ، ولا تدرك معرفة الله إلّا بالله ، والله خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه» (٥).

أقول : والرواية تشتمل على إثبات معرفة الله سبحانه لكلّ مخلوق مدرك لشيء ، وأنّ هذه المعرفة غير المعرفة الفكرية التي تؤخذ من الأدلة والآيات ، وأنّ تلك المعرفة ليست في الحقيقة معرفة ، بل هي شرك وضلالة.

بيان ذلك على ما تعطيه الرواية من المقدّمات : أنّ المعرفة المتعلّقة بشىء إنّما

__________________

(١). التوحيد : ١١٣ ـ ١١٤ ، الحديث : ١٣.

(٢). النجم (٥٣) : ١١.

(٣). التوحيد : ١١٦ ، الحديث : ١٧.

(٤). في المصدر : ـ «ليس بين الخالق والمخلوق شيء»

(٥). التوحيد : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، الحديث : ٧.

٣٠٥

هي إدراكه ، فما وقع في ظرف الإدراك فهو الذي تتعلق به المعرفة لا غيره ، فلو فرضنا أنّا عرفنا شيئا بشيء آخر هو واسطة في معرفته ، فالذي تعلّق به إدراكنا هو الوسط دون ذي الوسط ، فلو كان المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط ، كان اللازم منه أن يكون الوسط بوجه هو ذا الوسط حتى يكون العلم بأحدهما علما بالآخر ، فهو هو بوجه وليس هو بوجه ، فيكون واسطة رابطة بين الشيئين ، وإذ كان لا واسطة بين الخالق والمخلوق ليكون رابطة بينهما ، فلا يمكن معرفته سبحانه بشيء غير نفسه فلو عرف بشيء كان هو نفسه ، ولو لم يعرف بنفسه لم يعرف بشيء ، فدعوى أنّه معروف بشيء من الأشياء شرك خفي ، لأنّه إثبات واسطة بين الخالق والمخلوق يكون غيرهما كليهما ، لكنه سبحانه معروف ، لأنّ شيئا من الأشياء لا يعرف إلّا به فإنّه هو المظهر لكلّ شيء عند كلّ شيء يعرفه فهو سبحانه واسطة ، فهو معلوم أوّلا معروف إبتداءا ، ثم الشيء المعروف المفروض بعرضه ثانيا.

فقوله ـ عليه‌السلام ـ : «بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك» ، كأنّ المراد بالحجاب شيء من الموجودات يكون فاصلا بينه وبين العارف ، وبالصورة الصورة الذهنية المقارنة بالأوصاف المحسوسة كالمقادير والألوان والأضواء ، وبالمثال ما هو من قبيل المعاني غير المحسوسة ، أو المراد بالصور التصورات ، وبالمثال التصديقات.

وبالجملة ، العلوم الفكرية داخلة فيها ، والأخبار في نفي كون العلم الفكري علما بالله سبحانه كثيرة جدّا ، وكون هذه المعرفة شركا لإثباته غير الله سبحانه يشترك معه في الوجود غيره وغير مخلوقه ، ولذلك عقّب ـ عليه‌السلام ـ الكلام بقوله : «وإنّما هو واحد موحّد» أي إنّه لا شريك له في ذاته بوجه

٣٠٦

من الوجوه أصلا.

فكيف يوحّد من زعم أنّه يعرفه بغيره ، إنّما عرف الله من عرفه بالله ، ومن لم يعرفه به فليس يعرفه ، أي ليست معرفته معرفة الله إنّما يعرف غيره ، كلّ ذلك لأنّه ليس بين الخالق والمخلوق شيء ، أي أمر ربطهما هو غيرهما ، والله خالق الأشياء لا من شيء يكون رابطا بينهما موصلا للخالق بالمخلوق وبالعكس.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «تسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه» ، في موضع دفع الدخل ، وهو أن يقال : إنّا نعرفه سبحانه بأسمائه ، وأسماؤه حاكية عنه تعالى.

فدفعه بأنّ نفس التسمّي بالأسماء يقضي بأنّ الأسماء غيره إذ لو لم يكن غيره كان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشيء آخر ، ثم أكّده بأنّ الأسماء واصفة والذات موصوفة والموصوف غير الواصف.

فإن عاد القائل وقال : إنّا نؤمن بما نجهله ولا يمكننا معرفته بنفسه إلّا بما يسمّى معرفة مجازا كالمعرفة بالآيات ، وزعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو مناقض لنفسه مختلط فهمه ضال عن المعرفة لا يدري ماذا يقول فإنّه يدرك شيئا ولا يدرك مخلوق شيئا إلّا بالله ، فهو يعرف الله ولا ينال ولا يدرك معرفة الله إلا بالله ، ولا رابطة مشتركة بين الخالق والمخلوق ، والله خلو من خلقه ، وخلقه خلو منه.

فقد تحصل من الرواية ، أنّ معرفة الله ضروري لكلّ مدرك من خلقه ، إلّا أنّ الكثير منهم ضال عن المعرفة مختلط عليه ، والعارف بالله يعرفه به ويعلم أنّه يعرفه ، والروايات في هذه المعاني كثيرة.

وفي العيون : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ فيما سأله المأمون أن قال له : كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران ـ عليه‌السلام ـ لا يعلم أن الله لا يجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ كليم الله علم أنّ

٣٠٧

الله منزّه عن أن يرى بالأبصار ولكنّه لمّا كلّمه الله وقرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته ، وكان القوم سبعمائة ألف ، فاختار منهم سبعين ألفا ، ثم اختار منهم سبعة الآف ، ثم اختار منهم سبعمائة ، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل الله أن يكلّمه ويسمعهم كلامه ، وكلّمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأنّ الله أحدثه في الشجرة ثمّ جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه.

فقالوا : لن نؤمن بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا ، بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا.

فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني اسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنك ذهبت بهم فقتلتهم ؛ لأنك لم تك صادقا فيما ادّعيت من مناجاة الله إيّاك ، فأحياهم وبعثهم معه.

فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حق معرفته ، فقال موسى : يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفيّة له ، وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه.

فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله.

فقال موسى : يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت اعلم بصلاحهم ، فأوحى الله إليه : يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤ اخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ

٣٠٨

مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) يقول رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنّك لا ترى» (١).

أقول : جوابه ـ عليه‌السلام ـ كما ترى جدلي ، غير أنّ الكلام الإلهي لا يدفعه بحسب نظر الخصم ، وهو أيضا لا يدفع في نفسه المعنى الذي قدّمناه ، والشاهد على كونه مبنيا على الجدل منه ـ عليه‌السلام ـ أنه ورد عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ عدّة خطب وروايات بطرق مختلفة إثبات التجلّي والرؤية له تعالى بالمعنى الذي قدّمناه وتشريح معناه ، وما كان يمكنه ـ عليه‌السلام ـ الجواب البرهاني ببيان حقيقة الأمر فإنّ القوم يؤمئذ كانوا على قولين إثنين لا ثالث لهما عندهم :

أحدهما : قول المعتزلة وهو نفي الرؤية مطلقا واستحالته عليه تعالى مستندا إلى أنّ الرؤية تختصّ بالبصر ، والرؤية البصرية إنّما تتعلّق بالجسمانيات المحدودة بالجهات والأعراض الجسمانية وهي مستحيلة في حقه تعالى وهو باطل ، فإنّه إنّما يقتضي استحالة المشاهدة البصرية ، وأمّا المشاهدة بمعنى إدراك المعلول بتمام ذاته علّته الموجدة ووجدانه إيّاها على ما يقتضيه سعة وجوده ومرتبة هويّته فلا ، وليس كلّ إدارك يجب أن يكون بحاسّة من الحواس الظاهرة المتعلّقة بالجسمانيات ، أو الباطنة المتعلقة بالصور والمعاني المحدودة فإنّا ندرك ذواتنا بحضور ذواتنا لذواتنا من غير استناد ذلك إلى حاسّة من الحواس أو قوة من القوى.

وثانيهما : قول الأشاعرة على ما نسب إليهم وهو إثبات الرؤية البصرية في حقّه تعالى يوم القيامة لا في الدنيا مستندا بعدم الدليل على قصر الرؤية البصرية

__________________

(١). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٠٠ ، الحديث : ١.

٣٠٩

على ما يلازم الجسمانيّة والجهة.

وربّما استدلّوا بأن الإبصار يتعلّق بالجوهر والعرض ولا جامع بينهما إلّا الموجود مطلقا ، فكل موجود يجوز أن يكون مبصرا مرئيا بالعين ، والله سبحانه موجود فيجوز عليه أن يكون مرئيا مبصرا. وليت شعري ماذا تصوّروه في معنى إبصار العين حتى جوّزوا إحساس البصر لما ليس في جهة ولا مكان ولا زمان ، ولا هو موصوف بأوصاف الأجسام ، وأغرب منه تخيّلهم تعلق الإبصار بنفس الجسميّة كتعلّقه بالألوان والمقادير وسائر أعراض الجسم ، وأعجب منه أخذهم الموجود المطلق جامعا منحصرا بينهما ، ثم حكمهم بأنّ كلّ موجود يجوز أن تتعلق به الرؤية البصريّة.

فهذه وأمثالها أقاويل لا ينبغي للباحث المحصّل أن يتلف وقته في تزييفها ونقضها ، أو يشتغل بالتأمل في أطرافها أزيد ممّا يعتبر به المعتبر ويستبصر للشر ليجتنب عنه ويتّقي قربه.

وبالجملة ، فمع دوران الأمر بين هذين القولين ، والحقّ بمعزل منهما ما كان يسع له ـ عليه‌السلام ـ أن يجيب بما هو الحق عنده على ما روينا عنه ، فالرواية واردة مورد الإقناع والجدل ، وقد وردت في هذا المساق روايات أخرى ، كما وردت في مساق الرواية الأولى.

وفي البصائر : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الكروبيّين قوم من شعيتنا من الخلق الأوّل ، جعلهم الله خلف العرش ، لو قسّم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم ، ثم قال : إنّ موسى لمّا سأل ربّه ما سأل ، أمر واحدا من الكروبيّين فتجلّى للجبل فجعله دكّا» (١).

__________________

(١). بصائر الدرجات : ٦٩ ، الحديث : ٢.

٣١٠

أقول : قوله سبحانه : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ).

التجلّي : التكشّف ، وأصل الجلاء هو الظهور والبينونة مقابل الخفاء ، ومنه : الجلاء بمعنى الخروج من الوطن بمعنى ذهاب الوسخ والرين ، وبمعنى الزينة وغير ذلك.

وورود التجلّي بعد قوله : (لَنْ تَرانِي) لا يخفى لطفه ، والدك والدق بمعنى واحد ، وكأن الدك أشدّ.

قوله سبحانه : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)

الخرور : السقوط ، والصعقة الغشية ، النشوة والموت ، وفي القرآن : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (١) أي : مات.

وفي بعض الروايات أنّه ـ عليه‌السلام ـ مات في هذه الصعقة ثم ردّ الله عليه روحه» (٢).

أقول : ويمكن استفادته من قوله تعالى : (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) ، فإنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ إنّما قال ذلك بعد ما شاهد ما آل إليه أمر الجبل وأخذته الصعقة ، ولم يقله عند ما سمع قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ، مع أنّ كلامه سبحانه أقوى في إفادة اليقين وإيجاد الإيمان والطمأنينة من دلالة رؤية اندكاك الجبل والإبصار به ، والبصر ربّما يغلط ويكذب وكلامه سبحانه صدق لا يحتمل الكذب ولا يبدّل القول لديه ، وهو ـ عليه‌السلام ـ أعرف بمقام ربّه ، فليس إلّا أنه ـ عليه‌السلام ـ وجد من ربّه أمرا وراء الكلام

__________________

(١). الزمر (٣٩) : ٦٨.

(٢). تفسير العياشي ٣ : ٢٦ ، الحديث : ٧٢ ؛ مع تفاوت.

٣١١

فصعق ، كما وجد الجبل أمرا فاندكّ من عظمته ، فلم يوجد الصعقة فيه صورة اندكاك الجبل وهو ـ عليه‌السلام ـ صاحب المعجزات قد شاهد ما هو أعظم صورة من اندكاكه ، كقضايا الثعبان وإليد البيضاء وفلق البحر وغير ذلك ، ولم يصعق في شيء منها ، بل إنّما أوجد الصعقة فيه ما أوجد الدكّ في الجبل وهو التجلّي فوجد ـ عليه‌السلام ـ من التجلّي ما وجده الجبل ، وقد زال الجبل عن مكانه بالإندكاك وصيرورته رميما كالهباء ، فبطل جبليّة الجبل ولم يبق إلّا الهباء المنثور وليس الهباء بجبل وكذلك فعل بموسى ـ عليه‌السلام ـ فصعق.

ومن هنا يعلم أن صعقته ـ عليه‌السلام ـ كان موتا منه وبطلانا لحياته الدنيا وزوالا عن مكانه على ما قال سبحانه (لَنْ تَرانِي) ، فكانت صعقته موته وافاقته (١) رجوع روحه إليه كما ورد في الروايات.

قوله سبحانه : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

الإيتاء هو الإعطاء ، وهو هاهنا النعمة بقرينة الشكر والأمر بأخذ النعمة بعد ايتائها والإنعام بها كناية عن الشكر عليها والتحفظ بها ، فتعقيبه بقوله : (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، كالتصريح بعد الكناية ، وقد مرّ معنى الإصطفاء في سورة البقرة ، ومعنى الشاكرين في أول هذه السورة ، وأنّ الشاكرين هم المخلصون ، فموسى ـ عليه‌السلام ـ من المخلصين ، ويصدّقه قوله سبحانه : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٢).

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «أوحى الله إلى موسى أن :

__________________

(١). في الاصل : «إفادته» والأصح ما أثبتناه في المتن.

(٢). مريم (١٩) : ٥١.

٣١٢

يا موسى! أتدري لم اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال : يا ربّ ولم ذاك؟! قال : يا موسى إنّي قلّبت عبادي ظهرا لبطن فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لي نفسا منك ، يا موسى : إنّك إذا صلّيت وضعت خدّك على التراب أو قال على الأرض» (١).

أقول : وروي قريبا في العلل (٢) وقوله : «إنّك إذا صليّت» ، بمنزلة بيان الملكة والخلق ببعض الأفعال الصادرة عنها وهو ظاهر.

قوله سبحانه : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ)

في البصائر : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الألواح كانت من زمرّد أخضر» (٣).

أقول : وكذا رواه العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٤).

قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)

في التنكير دلالة على التبعيض.

وفي تفسير العيّاشي : عن عبد الله بن الوليد ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال الله لموسى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فعلمنا أنّه لم يكتب لموسى الشيء كلّه ، وقال الله لعيسى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) (٥) ،

__________________

(١). الكافي ٢ : ١٢٣ ، الحديث : ٧.

(٢). علل الشرائع ١ : ٥٦ ، الحديث : ١ و ٢.

(٣). بصائر الدرجات : ١٤١ ، الحديث : ٦.

(٤). تفسير العياشي ٢ : ٢٨ ، الحديث : ٧٧ ، مع تفاوت.

(٥). الزخرف (٤٣) : ٦٣.

٣١٣

وقال الله لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) ، (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)» (٢) (٣).

أقول : وهذا المعنى مروي في عدّة من الروايات ، وعلى هذا فما ورد في بعض الروايات أن في الألواح علم كل شيء إمّا مأوّل أو مطروح.

قوله تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها)

هذا نظير قوله تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤) ، وقوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (٥) ، والوجه فيه أنّ اختلاف الآيات أو الأحكام من جهتين :

إحداهما : اختلافها من حيث كون بعضها أهمّ من بعض وبعضها أشرف من بعض ، كالنسبة بين الواجب والمندوب ، والنسبة بين الصلاة وغيرها.

وثانيهما : من حيث المراتب كمراتب الإيمان المندوب إليه في الآيات ومراتب الخلوص مراتب التقوى ، والقسم الأوّل حيث كانت في مرتبة واحدة لم يحسن توجيه الأمر إلى بعض دون بعض والجميع مأمور به ، ولم يقل أن يجدّوا في أحسنها أو يحافظوا عليها كما قال سبحانه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٦) فتبيّن الحمل على المراتب بأن ياخذوا من الإيمان بأحسنه ، ومن التقوى بحق التقوى ، ومن الذكر بأقواه.

__________________

(١). النساء (٤) : ٤١.

(٢). النحل (١٦) : ٨٩.

(٣). تفسير العياشي ٢ : ٢٦٦ ، الحديث : ٥٨.

(٤). الزمر (٣٩) : ٥٥.

(٥). الزمر (٣٩) : ١٨.

(٦). البقرة (٢) : ٢٣٨.

٣١٤

قوله سبحانه : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) ـ إلى قوله ـ (يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً)

فإن قلت : ما معنى هذا الصرف مع اتّصافهم بهذه الأوصاف الأربعة التي توجب كونهم منصرفين بأنفسهم من غير حاجة إلى صرف إلهي ؛ إذ لا معنى لصرف المنصرف.

قلت : كلّ حادثة حدثت لها نسبة ما إلى الله سبحانه ـ على ما مرّ في الكلام على القدر ـ غير أنّ تنزّه ساحة الحق سبحانه عن نسبة الشرّ إليه يوجب القول بأنّ ما يفيضه على عباده من قبيل الشرّ والنقمة ، إنّما هو لاستدعائهم ذلك ، وفعلهم ما يوجب انقطاع النعمة عنهم وسلب التوفيق عنهم ، فيشتدّ ما فيهم من الضلال والغيّ كما قال سبحانه : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (١) ، وقال أيضا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٢) ، وقال سبحانه (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) (٣).

فتماديهم في الضلال ينحلّ إلى مراتب ودرجات كل لاحقة منها ، إنّما لحقتهم من الله سبحانه نقمة له لاتّصافهم بالسابقة ، وينتهي الجميع إلى ما سبق منهم في الذر على ما سيجيء انشاء الله تعالى ، ولذلك علّل الصرف بقوله في ذيل الآية : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ).

قوله سبحانه : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

في الآية دلالة على أن حبط العمل نفسه جزاء ، وهو خلوّ اليد عن النتيجة ، فإنّ

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٦.

(٢). الصف (٥١) : ٥.

(٣). الروم (٣٠) : ١٠.

٣١٥

المجازاة إنّما هو بالعمل ، والعمل هنا حابط بائر فهو الجزاء ، ويمكن أن يكون قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) ، تمام التعليل الذي يشتمل عليه قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، فيكون الجميع بمنزلة القياس الحملي المشتمل على الصغرى والكبرى ، وينتج ما ذكره سبحانه بقوله : (سَأَصْرِفُ) ، ويفيد أنّ الصرف إنّما هو لمكان الحبط فلا تنتج أعمالهم نتيجة ينتفعون بها في الرجوع إلى الله والإيمان بآياته.

*

٣١٦

[وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)]

٣١٧

قوله سبحانه : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً)

خصّ هاتان الصفتان من بين سائر صفاته ككونه جسما وذا مكان وزمان وشكل ومحدودا وغير ذلك ، مع أنّ الجميع ينافي الإلهيّة (١) لكون هذين الوصفين من أوضح لوازم الإلهيّة عند من يتخذ شيئا إلها ؛ فإنّه يتّخذه إلها ليعتنى به ويهديه إلى السعادة ، وإلّا فلا معنى للرجوع إلى من يكون الرجوع والتألّه إليه واللارجوع على السواء ، وقد قال السامريّ لهم حين أخرجه إليهم : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) (٢) ، وقد علموا من موسى أنّ الله يكلّمه ويهديه إلى صراط مستقيم ، ولذلك عقّب الكلام بقوله تعالى : (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) ، فأتى بالفصل دون الوصل ، فكأنه قيل : فلم اتخذوه إلها وأمره بهذا الوضوح من الفساد؟ فقيل : اتّخذوه إلها وكانوا ظالمين من قبل ، وكان لا يبعد عنهم مثل هذا الصنيع كلّ البعد.

قوله سبحانه : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)

كناية عن اشتداد ندمهم ، فإنّ النادم المتحسّر يعضّ على يده غمّا ، فتصير يده مسقوطا فيها كما قيل.

قوله : (غَضْبانَ أَسِفاً)

الأسف : الحزن وشدّة الغضب.

__________________

(١). في المخطوط : أنّ الجميع الإلهية ، والصحيح ما أثبتناه ، كما يظهر من ملاحظة الميزان في تفسير القرآن ٨ : ٢٤٩ ذيل الآية.

(٢). طه (٢٠) : ٨٨.

٣١٨

وقوله : (خَلَفْتُمُونِي)

أي قمتم مقامي بعدي.

وقوله : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ)

عجل عن الأمر : أي تركه غير تامّ.

وقوله : (أَلْقَى الْأَلْواحَ)

أي طرحها ، والآية تشهد أنّه ـ عليه‌السلام ـ كان عند الرجوع غضبان ، ثمّ ألقى الألواح بعد ذلك ؛ فقد اشتد غضبه بالمعاينة بعد الإخبار ، وكذلك فسّر في الروايات.

ففي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أخبر موسى أنّ قومه اتّخذوا عجلا جسدا له خوار فلم يقع منه موقع العيان ، فلمّا رآهم اشتدّ غضبه فالقى الألواح من يده ، قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : وللرؤية فضل على الخبر» (١).

أقول : وهذا المعنى مروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أيضا (٢).

قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

في الكافي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوما أو قال ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوما إلّا زهّده الله في الدنيا وبصّره

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ٢٩ ، الحديث : ٨١.

(٢). الميزان في تفسير القرآن ٨ : ٢٦١ ، نقلا عن الدر المنثور.

٣١٩

دائها ودوائها وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه ، ثم تلا : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) ، فلا ترى صاحب بدعة إلّا ذليلا ، ولا مفتريا على الله وعلى رسوله وعلى أهل بيته إلّا ذليلا» (١).

أقول : ومعنى الحديث ظاهر وصدره مستفاد من الآية بطنا.

*

__________________

(١). الكافي ٢ : ١٦ ، الحديث : ٦.

٣٢٠