تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ) (١).

فقد تبين من جميع ما تقدم إن إبليس ـ لعنه الله ـ موجود مخلوق يدعو إلى الشر كان في مرتبة مشتركة مع الملائكة لم يتميز منهم إلا بعد خلق الإنسان وحيئذ وقع في جانب الشر والشقاء وإليه يستند انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم وانسياقه إلى جانب الشقاء والضلال وجهة المعصية والباطل ، كما أن الملك إليه يستند هداية الانسان إلى غاية السعادة ، ومنزل الكمال والقرب ، وله لعنه الله ذرية وأعوان مختلفوا الأنواع لهم أن يتصرفوا في جميع ما يمكن أن يرتبط به الإنسان من الدنيا وما فيها باظهار الباطل في صورة الحق ، وتزيين القبيح في صورة الجميل فأفعالهم غير متميزة من أفعال الإنسان ولا مزاحمة ، كما أن ذواتهم ووجوداتهم في غير عرض وجود الإنسان وسنخ ذاته ، وهم يتصرفون في قلوب الناس وفي أبدنهم وفي سائر شؤون الدنيا وحياتها ؛ بتصرفات مختلفة اجتماعا وانفرادا وبلا واسطة ومع الواسطة ، وربما فارقوا الإنسان ن وربما صاحبوه مدة حياته وفي قبره ويوم حشره هذا ، وعلى هذا وردت الروايات.

ففي الكافي : عن الصادق ـ عليه السلام ـ : «إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ، وكان في علم الله أنه ليس منهم ، فاستخرج ما في نفسه من الحمية (٢) فقال : (خَلَقْتَنى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)» (٣) (٤).

__________________

(١). عبس (٨٠) : ١٥ ـ ١٦.

(٢). في المصدر : " بالحمية والغضب ".

(٣). ص (٣٨) : ٧٦.

(٤). الكافي ٢ : ٣٠٨ ، باب العصبية ، الحديث : ٦.

٢٠١

أقول : وقد مرّ معناه.

وفي العيون : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ ابليس أوّل من كفر وأنشأ الكفر» (١).

أقول : وروى العيّاشي : مثله عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٢).

وفي الكافي (٣) : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «إنّ أوّل معصية ظهرت الأنانية من (٤) إبليس اللعين حين أمر الله ملائكته بالسجود لآدم ، فسجدوا وأبى اللعين (٥) أن يسجد» (٦) ، الحديث.

أقول : قوله : (الأنانية) خبر إنّ وقوله : (من إبليس) ظرف مستقر وخبر بعد خبر ، والأنانيّة : قول : «أنا» ، وليس كلّ قول : «أنا» أو ما في معناه بمذموم فقد حكاه الله سبحانه عن اناس وارتضاه ولم يذمّه ، كقول إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٧) ، وقول أيوب : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨) ، إلى غير ذلك من آيات كثيرة ، بل قول : «أنا» في مقام دعوى الإستقلال الوجودي ، وقد أثبت سبحانه لنفسه ملك كلّ شيء في آيات كثيرة وكلّ شيء وكلّ ما لكلّ شيء فهو لله سبحانه ، وهذا يوجب أن لا يلتفت إلى شيء ولا ينظر إليه نظر الإستقلال والإستغناء عنه عزّ اسمه ، فإذا نظر إلى شيء كذلك

__________________

(١). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٢١.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٤ ، الحديث : ١٧.

(٣). لم نجده في الكافي.

(٤). في علل الشرايع : «عن»

(٥). في علل الشرايع : «إبليس اللعين»

(٦). علل الشرائع ١ : ٦٢ ، الحديث : ١.

(٧). الشعراء (٢٦) : ٨٣.

(٨). الأنبياء (٢١) : ٨٣.

٢٠٢

فقد تحقّقت الغفلة عنه تعالى ، وكلّ معصية ومخالفة بأيّ وجه اتّفقت وفي أيّ مرتبة تحقّقت ؛ لم تتحقّق إلّا بالذهول عنه تعالى والإقبال إلى غيره ، وإعطاء الإستقلال لنفس العاصي وللغير فلا تخلو معصية عن دعوى الأنانية وإثبات الشريك في الملك والربوبية له سبحانه ؛ ولذلك كانت الأنانية أوّل معصية عصي بها الله سبحانه ، وإليها ترجع جميع المعاصي والرذائل ، ويلازمها الغفلة كما سيأتي في قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (١) ، فالأنانية أوّل المعاصي من حيث رجوع الجميع بالتحليل إليها ، وهي أوّل من حيث صدورها من إبليس ـ لعنه الله ـ

وفي تفسير القمي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الإستكبار هو أوّل معصية عصي الله بها» (٢).

وفي المعاني : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ «إنّه سمي إبليس ، لأنه أبليس من رحمة الله (٣).

وفي تفسير القمي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث فقال إبليس : «يا رب ، فكيف وأنت العدل الذي لا يجور (٤) فثواب عملي بطل ، قال : لا ، ولكن سلني (٥) من أمر الدنيا ما شئت ثوابا لعملك أعطك (٦) ، فأوّل ما سأل البقاء إلى يوم الدين ، فقال الله : قد أعطيتك ، قال : سلّطني على ولد آدم ، قال : قد سلطتك ،

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٧٩.

(٢). تفسير القمي ١ : ٤٢.

(٣). معاني الأخبار : ١٣٨ ، «باب معنى إبليس» ، الحديث : ١.

(٤). في المصدر : «لا تجور»

(٥). في المصدر : «إسأل»

(٦). في المصدر : «فاعطيتك»

٢٠٣

قال : أجرني فيهم (١) مجرى الدم في العروق ، قال : قد أجريتك ، قال : لا يولد (٢) لهم ولد إلّا ولد (٣) لي إثنان (٤) ، وأراهم ولا يروني ، وأتصوّر لهم في كل صورة شئت ، فقال : قد أعطيتك ، قال : يا ربّ زدني ، قال : قد جعلت لك ولذريتك صدورهم (٥) أوطانا ، قال ربّ حسبي ، فقال إبليس عند ذلك : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)» (٦) (٧) ، الحديث.

أقول : وفي هذا المساق أحاديث أخر ، وقد عرفت أنّ مضمونها مستفادة من الآيات ، غير أنّ سياق الآيات يعطي أنّ هذه السؤالات وإجابتها منه كان بحسب الوجود والتكوين بيّنت في الروايات في صورة المحاورة تمثيلا ، كما يظهر من مثل قوله تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٨).

وفي العلل : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٩) ، أنّه سئل عنه فقال عليه‌السلام : «يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الأولى والثانية» (١٠).

__________________

(١). في المصدر : «منهم»

(٢). في المصدر : «ولا يلد لهم»

(٣). في المصدر : «ويلد لي»

(٤). في المصدر : + «قال»

(٥). في المصدر : «قد جعلت لك في صدورهم»

(٦). ص (٣٨) : ٨٢ ـ ٨٣.

(٧). تفسير القمّي ١ : ٤٢.

(٨). الإسراء (١٧) : ٦٢.

(٩). الحجر (١٥) : ٣٧ ـ ٣٨.

(١٠). علل الشرائع ٢ : ٤٠٢ ، الباب : ١٤٢ ، الحديث : ٢.

٢٠٤

أقول : وفي الأخبار تفسير الآية بغير هذا التفسير ، وسيأتي تفسير الجميع في سورة الحجر إن شاء الله تعالى.

وفي النهج : في خطبة له ـ عليه‌السلام ـ في صفة خلق آدم : «واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم ، وعهد وصيته إليهم في الإذعان بالسجود له ، والخشوع لتكرمته ، فقال سبحانه : اسجدوا لادم فسجدوا إلّا ابليس وجنوده (١) اغترتهم (٢) الحميّة ، وغلبت عليهم (٣) الشقوة» ، الخطبة (٤).

وفي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : والذي بعث (٥) محمدا ؛ للعفاريت والأبالسة على المؤمن أكثر من الزنابير على اللحم (٦).

وفيه أيضا في قوله تعالى : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ، عنه ـ عليه‌السلام ـ : «الصراط هنا علّي» (٧).

أقول : وهو من التفسير بحسب البطن ، وقد مرّ بيانه في تفسير الفاتحة.

واعلم أنّ الأخبار في أنحاء تصرفاته أكثر من أن تحصى ، وهي على قسمين :

أحدهما : ما يبيّن تصرفاته من غير تفسير ، كما في الكافي : عن علي ـ عليه‌السلام ـ : لا تؤوا منديل اللحم في البيت : فإنّه مربض الشيطان ولا تؤوا

__________________

(١). في المصدر : ـ «وجنوده»

(٢). في المصدر : «اعترته»

(٣). في المصدر : «عليه»

(٤). نهج البلاغة (عبده) ١ : ٢١ ، الخطبة : ١.

(٥). في المصدر : + «بالحق»

(٦). تفسير العياشي ٢ : ٣٠١ ، الحديث : ١١١.

(٧). راجع : تفسير العياشي ٢ : ٩ ، الحديث : ٦.

٢٠٥

التراب خلف الباب فإنه مأوى الشيطان» (١).

وفيه : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ على ذروة كلّ جسر شيطانا فإذا انتهيت إليه فقل : بسم الله ، يرحل عنك» (٢).

وفي الكافي : عن علي ـ عليه‌السلام ـ قال رسول الله [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] : بيت الشيطان في (٣) بيوتكم بيت العنكبوت (٤).

وفيه أيضا : عن أحدهما عليهم‌السلام قال : «لا تشرب وأنت قائم ، ولا تبل في ماء نقيع ، ولا تطف بقبر ، ولا تخل في بيت وحدك ، ولا تمش بنعل (٥) واحدة ، فإنّ الشيطان أسرع ما يكون إلى العبد إذا كان على بعض هذه الأحوال» (٦).

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إذا (٧) ذكر اسم الله تنحّى الشيطان وإن فعل ولم يسمّ أدخل ذكره وكان الحمل منهما جميعا والنطفة واحدة» (٨).

وفي تفسير القمي : عنه ـ عليه‌السلام ـ : «ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان» (٩).

__________________

(١). راجع : الكافي ٦ : ٥٣١ ، باب النوادر ، الحديث : ٦ ؛ علل الشرائع ٢ : ٥٨٣ ، باب ٣٨٥ ، الحديث : ٢٣.

(٢). الكافي ٤ : ٢٨٧ ، باب الدعاء في الطريق ، الحديث : ٣.

(٣). في المصدر : «الشياطين من»

(٤). الكافي ٦ : ٥٣٢ ، باب النوادر ، الحديث : ١١.

(٥). في المصدر : «في نعل»

(٦). الكافي ٦ : ٥٣٤ ، باب كراهية أن يبيت الإنسان وحده والخصال المنهي عنها لعلّة مخوفة ، الحديث : ٨.

(٧). في المصدر : «إن».

(٨). الكافي ٥ : ٥٠١ ، «باب القول عند دخول الرجل بأهله» ، الحديث : ٣.

(٩). تفسير القمي ٢ : ٢٢.

٢٠٦

وفي الحديث : «من نام سكران (١) بات عروسا للشيطان» (٢).

أقول : والأخبار في هذه المعاني أكثر من أن تحصى ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٣).

والقسم الثاني من الأخبار ما فيه بعض التفسير لصفاته ومختصاته لعنه الله :

ففي الكافي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم» (٤).

وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «إنّ الشيطان يجري (٥) من ابن آدم مجرى الدم (٦) فضيّقوا مجاريه بالجوع» (٧).

وفي المحاسن : عن الرضا ، عن آبائه ، عن علي ـ عليهم‌السلام ـ في حديث : «فأمّا كحله فالنوم ، وأمّا سفوفه فالغضب ، وأما لعوقه فالكذب» (٨).

وفي الحديث : «إنّ موسى رآه وعليه برنس فسأله عن برنسه ، فقال : به اصطاد قلوب بني آدم» (٩).

وفي مجالس عن الشيخ عن الرضا ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ : «إنّ ابليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم» إلى أن بعث الله المسيح ـ عليه‌السلام ـ يتحدّث

__________________

(١). في المصدر : «سكرانا»

(٢). بحار الأنوار ٧٦ : ١٤٨.

(٣). المائدة (٥) : ٩٠.

(٤). الكافي ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، «باب الغضب» ، الحديث : ١٢.

(٥). في المصدر : «ليجري»

(٦). في المصدر : + «ألا»

(٧). بحار الأنوار ٦٠ : ٣٣٢.

(٨). بحار الأنوار ٦٠ : ٢١٧ عن المحاسن.

(٩). راجع الكافي ٢ : ٣١٤ ، باب العجب ، الحديث : ٨.

٢٠٧

عندهم ويسائلهم ، ولم يكن بأحد منهم أشدّ أنسا منه بيحيى بن زكريا ، فقال له يحيى : يا أبا مرّة إنّ لي إليك حاجة ، فقال له : أنت أعظم قدرا من أن أردّك بمسألة فاسألني (١) ما شئت فإنّي غير مخالفك في أمر تريده ، فقال يحيى : يا أبا مرّة ، أحبّ أن تعرض عليّ مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بنى آدم ، قال له إبليس : حبّا وكرامة وواعده لغد.

فلّما أصبح يحيى قعد في بيته ينتظر الوعد (٢) وأغلق (٣) عليه الباب اغلاقا ، فما شعر حتى ساواه من خوخة كانت في بيته ، فإذا وجهه صورة وجه القرد ، وجسده على صورة الخنزير ، وإذا عيناه مشقوقتان طولا (٤) ، وإذا أسنانه وفمه مشقوقات طولا (٥) عظما واحدا بلا ذقن ولا لحية ، وله أربعة أيد ، يدان في صدره ، ويدان في منكبه ، وإذا عراقيبه قوادمه ، وأصابعه خلفه ، وعليه قباء ، وقد شدّ وسطه بمنطقة فيها خيوط معلّقة بين (٦) أحمر وأصفر وأخضر (٧) وجميع الألوان ، وإذا بيده جرس عظيم ، وعلى رأسه بيضة ، وإذا في البيضة حديدة معلّقة شبيهة بالكلّاب ، فلمّا تأمله يحيى ـ عليه‌السلام ـ قال له : ما هذه المنطقة التي في وسطك ، فقال : هذه المجوسيّة أنا الذي سننتها وزيّنتها لهم ، فقال له : ما هذه (٨) الخطوط (٩)

__________________

(١). في المصدر : «فسلني»

(٢). في المصدر : «الموعد»

(٣). في المصدر : «وأجاف»

(٤). في المصدر : «وفمه مشقوق طولا»

(٥). في المصدر : ـ «مشقوقات طولا»

(٦). في المصدر : «من بين»

(٧). في المصدر : «وأخضر وأصفر»

(٨). في المصدر : «فما»

(٩). في المصدر : «الخيوط»

٢٠٨

الألوان قال : هذه جميع أصناع (١) النساء لا تزال المرأة تصنع الصنيع (٢) حتى يقع مع لونها فأفتن (٣) الناس بها ، فقال له : فما هذا الجرس الذي بيدك. قال : هذا مجمع كلّ لذّة من طنبور وبربط ومعزفة وطبل وناي وصرناي ، وإنّ القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذّونه فأحرك الجرس فيما بينهم فإذا سمعوه استخفّ بهم (٤) الطرب ، فمن بين من يرقص ، ومن بين من يفرقع أصابعه ، ومن بين من يشقّ ثيابه ، فقال له : وأيّ الأشياء أقرّ لعينك قال : النساء هنّ فخوخي ومصائدي ، فإنّي إذا اجتمعت إلى دعوات الصالحين ولعناتهم صرت إلى النساء فطابت نفسي بهن.

فقال له يحيى ـ عليه‌السلام ـ : فما هذه البيضة على رأسك ، قال : بها أتوقّى دعوة المؤمنين ، قال : فما هذه الحديدة التي أرى (٥) فيها ، قال : بهذه أقلّب قلوب الصالحين. قال يحيى ـ عليه‌السلام ـ : فهل ظفرت بي ساعة قط ، قال : لا ، ولكن فيك خصلة تعجبني ، قال يحيى ـ عليه‌السلام ـ : فما هي؟ قال : أنت رجل أكول ، فإذا أفطرت أكلت وبشمت ، فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى ـ عليه‌السلام ـ : فإنّي أعطي الله عهدا إني لا أشبع من الطعام حتى ألقاه ، قال له إبليس : وأنا أعطي الله عهدا أن (٦) لا أنصح مسلما حتى ألقاه ، ثم خرج فما عاد إليه بعد ذلك (٧).

__________________

(١). في المصدر : «أصباغ»

(٢). في المصدر : «تصبغ الصبغ»

(٣). في المصدر : «فأفتنن»

(٤). في المصدر : «استخفهم»

(٥). في المصدر : «أراها فيها»

(٦). في المصدر : «أني»

(٧). الأمالي للطوسي : ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٢٠٩

أقول : والحديث مروي من طرق العامة أبسط من ذلك ، والأخبار في أنحاء إغواءاته وأقسام تزييناته عند أنواع المعاصي كثيرة ، والجميع تشهد بأنّها تشكلات مثالية على حسب ما يلائم نوع المعصية من الشكل والكيفيّة ، نظير ما تتمثّل الحوادث في الرؤيا على حسب المناسبات المألوفة والاعتقادات المعتادة.

ومن هذا القسم يتبيّن أنّ الكيفيّات والخصوصيّات الواردة في القسم الأوّل من الأخبار ؛ إنّما هي أنواع نسب تكون بين هذا الموجود وبين الأشياء تدعو إلى وساوس وخطرات تناسبها ، والله اعلم (١).

وفي المجمع : ن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) : «معناه اهوّن عليهم أمر الآخرة ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم ، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) ، أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة وتحسين الشبهة ، (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بتحبيب اللذات عليهم (٢) وتغليب الشهوات على عقولهم» (٣) (٤).

أقول : وقد تبيّن معنى الرواية فيما مرّ والقرآن يخصّ اليمين بالأمور المسعودة والشمال بالأمور المشؤومة المنحوسة.

قوله سبحانه : (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ)

خصّ (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ، بلفظة : (مِنْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ

__________________

(١). في المخطوط بعده «تمت الحاشية».

(٢). في المصدر : «إليهم»

(٣). في المصدر : «قلوبهم»

(٤). مجمع البيان ٤ : ٢٢٨.

٢١٠

شَمائِلِهِمْ) بلفظة : (عَنْ).

قيل في وجهه : إنّ الملكين الكاتبين للأعمال لمّا كانا قاعدين عن اليمين والشمال لا يقرب الشيطان منهما ، بل يتباعد عنهما.

أقول : وهو وجه غير مغن فإنّ التعدية ب (عن) غير مختص بإتيان الشيطان ؛ بل مطّرد في غيره ، كما في قوله تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ) (١) ، وقوله : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (٢) ، وقوله : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٣).

وقيل : إنّ اختلاف الحروف في التعدية لغة تؤخذ ولا تقاس ، إنما يفتّش عن صحّة موقعها فقط ، فلمّا سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه ، وعن شماله وعلى شماله قلنا معنى على يمينه : إنّه تمكّن من جهة اليمين تمكّن المستعلي من المستعلى عليه ، ومعنى عن يمينه : إنّه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له ، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره. إنتهى (٤).

أقول : وهو غير واف ، فإنّ السؤال باق بعد ، فإنّ الوجه الذي ذكره يمكن انطباقه على ما بين الأيدي وعلى الخلف فتخصيص الإثنين من بين الأربعة لا بدّله من وجه.

ويمكن أن يقال : إنّ معنى التجاوز متقدّم بظهور بعد خفاء وهو إنّما يتمّ في جانبي اليمين والشمال ، وأمّا ما بين الأيدي ففيه معنى الظهور فقط ، وأمّا الخلف

__________________

(١). النحل (١٦) : ٤٨.

(٢). ق (٥٠) : ١٧.

(٣). الصافات (٣٧) : ٢٨.

(٤). راجع الكشّاف ٢ : ٩٣ ؛ للزمخشري ؛ الميزان في تفسير القرآن ٨ : ٣٢.

٢١١

ففيه معنى الخفاء فقط ، بخلاف اليمين والشمال ففي الكلام تلميح إلى ذلك ، وقد شاع ذلك حتى جعل (عن) بمنزلة الجزء من الكلمة ، فاستعمل اسما وأدخل عليه (من) فقيل : من عن يمينه ومن عن شماله وذلك من التطوّر في اللغة.

قوله سبحانه : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)

وهؤلاء الأكثرهم المتبعون له من الغاوين بدليل قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١) ، وقد عبر عنه في موضع آخر بقوله : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٢) ، وغير هؤلاء هم المخلصون قال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣).

ومن هنا يستفاد أنّ الشاكرين مخلصون ، بمعنى ثبوت الوصف لا حدوث الفعل ، والشكر إنّما يكون على نعمة أنعمها منعم ، ومعناه استعمال النعمة على وجه يحكي الإستعمال ، كونها نعمة بدليل قوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٤) ، وقوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٥) ، إلى غير ذلك من الآيات.

وأصل الكفر الستر ، فالشكر كشف وحكاية ، فيؤول المعنى إلى الذكر والنسيان فالشاكرون هم الذين لا ينسون الله في نعمة أنعمها عليهم ، وكلّ شيء نعمة ، فهم لا ينسون الله في شيء من أنفسهم وغير أنفسهم طرفة عين ، فهم

__________________

(١). الحجر (١٥) : ٤٢.

(٢). النساء (٤) : ١١٨.

(٣). ص (٣٨) : ٨٢ ـ ٨٣.

(٤). إبراهيم (١٤) : ٧.

(٥). البقرة (٢) : ١٥٢.

٢١٢

الذاكرون وهم المخلصون ، وللكلام ذيل سيمرّ بك إن شاء الله.

وفي المجمع : عن تفسير الثمالي ، عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في قوله : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (١) ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «من بنى آدم تسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة» (٢).

وفي رواية أخرى : «من كلّ ألف واحد لله وسائرهم للنار ولإبليس» (٣).

أقول : والعدد للتكثير لا للتحديد.

قوله سبحانه : (مَذْمُوماً مَدْحُوراً)

ذأمه بالهمزه ، أي ذمّه ، والدحر هو الطرد.

قوله : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ)

عطفه على ما قبله من غير فصل يشعر بكون الجميع قصة واحدة مربوطة بجميع الإنسان لا مختصة بآدم ـ عليه‌السلام ـ وحده كما ، وقد مرّ قد الكلام في قصة جنة آدم في سورة البقرة.

قوله : (فَدَلَّاهُما) ـ إلى قوله : ـ (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما)

التدلية : الإنزال والتقريب.

وفي تفسيري القمي والعياشي : عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن

__________________

(١). النساء (٤) : ١١٨.

(٢). مجمع البيان ٣ : ١٩٤.

(٣). نفس المصدر.

٢١٣

الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «كانت سوآتهما لا تبدو لهما ، فبدت (١) ، يعنى كانت داخلة» (٢) (٣).

أقول : وروى قريبا منه العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام (٤).

وقوله : «يعني كانت داخلة» من كلام الراوي بقرينة قوله : «يعني» وقد أخطأ في معناه بدليل قوله تعالى : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ، ولو كان كما فسّر لم يكن لتقييد الكلام بقوله : عنهما معنى ، وكان حق الكلام أن يقال : ما وري من سوآتهما ، بل معنى كلامه عليه‌السلام : أنّ سوآتهما ما كانت ظاهرة لهما فظهرت بعد الأكل ، وقد مرّ توضيحه في سورة البقرة.

وقوله : (يَخْصِفانِ عَلَيْهِما)

أي يلزقان بعض الورق ببعض لستر ما بدت من سوآتهما.

قوله سبحانه : (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)

وهو قوله تعالى في سورة (طه) في أول القصة : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (٥).

*

__________________

(١). في تفسير القمي : ـ «فبدت»

(٢). في تفسير العياشي : «من داخل»

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٢٥.

(٤). تفسير العياشي ٢ : ١٠ ـ ١١ ، الحديث : ١١.

(٥). طه (٢٠) : ١١٧.

٢١٤

[يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ

٢١٥

الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)]

قوله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ)

في تفسير العياشي : عنهما عليهما‌السلام قالا : «هي عامة» (١).

أقول : وهذه أربعة خطابات وهي بعينها الخطابات التي أوردت في غير هذه السورة مختصة بآدم ـ عليه‌السلام ـ وعمّمت في هذه السورة لجميع بنى آدم ، والثلاثة الأول منها ، هي الراجعة إلى الأكل والشرب واللباس تفهم من قوله تعالى : (يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) (٢) والرابعة : مفهومة من قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (٣).

ومن عمومها يستفاد أنّ ما اشتملت عليه هذه الخطابات على الإجمال أمور مشرّعة في جميع الشرائع من غير استثناء.

قوله سبحانه : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً)

اللباس : الثياب التي تستر سوأة البدن ، والريش : ما يتجمل به مأخوذ من ريش

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ١١ ، الحديث : ١٣.

(٢). طه (٢٠) : ١١٧ ـ ١١٨.

(٣). طه (٢٠) : ١٢٣.

٢١٦

الطائر استعارة لتزيّنه به ، ووصفه سبحانه اللباس والريش بأنّه أنزله نظير قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١) ، وقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (٢) ، وقد قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٣) ، وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤).

ومن هنا يتبيّن معنى ما في الإحتجاج : عن علي ـ عليه‌السلام ـ في آيتي الأنعام والحديد ، قال عليه‌السلام : «إنزاله ذلك خلقه إيّاه» (٥) ، الحديث.

وفي الآية مع ذلك دلالة على شمول الخلقة لما عملته الأيدي ، وإنّ الخلقة ليست على نسق واحد.

قوله : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ)

في تفسير القمّي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «وأمّا (٦) اللباس فالثياب التي يلبسون ، وأما الرياش فالمتاع والمال ، وأمّا لباس التقوى فالعفاف ، إنّ (٧) العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عاريا من الثياب ، والفاجر بادي العورة وإن كان كاسيا من الثياب ، (ذلِكَ خَيْرٌ) ، يقول : والعفاف (٨) خير» (٩).

__________________

(١). الزمر (٣٩) : ٦.

(٢). الحديد (٥٧) : ٢٥.

(٣). الحجر (١٥) : ٢١.

(٤). القمر (٥٤) : ٤٩.

(٥). الإحتجاج ١ : ٣٧٢.

(٦). في المصدر : «فأمّا»

(٧). في المصدر : «لأن»

(٨). في المصدر : «يقول : (ولباس التّقوى ذلك خير) يقول : العفاف خير»

(٩). تفسير القمي ١ : ٢٢٦.

٢١٧

أقول : والعفاف : التحفّظ من طغيان الشهوة وسقوطه وأخذ طريق الإعتدال فيها ، وفي الحديث تخصيص لباس التقوى بمورد الشهوة من غير تعميم بمورد الغضب أيضا وهو المؤيّد بخصوصية الإستنتاج الذي في الآية ، فإنّ هذه الخطابات كالإستنتاج من قصّة الجنّة.

وفي تفسير القمّي : أيضا قال عليه‌السلام : «لباس التقوى ثياب (١) البياض» (٢).

أقول : ولعلّه لكونها مصداقا للعفاف من حيث اللون في اللباس فإنّ البياض متوسط كالمعتدل بين الألوان المفرّحة المطربة كالحمرة والخضرة ، والألوان الكاسرة المحزنة كالسواد والنيليّة.

قوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)

إنّه إذا وجب لهم أن يواروا سوءاتهم باللباس ويتزيّنوا بالريش حفظا لظاهرهم ؛ وجب أن يتخذوا نظير ذلك حفظا لباطنهم وهو لباس التقوى ، وفي الكلام التفات من خطاب بني آدم إلى الغيبة ، ونقل الخطاب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وأصل الإلتفات في قوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) ، حيث لم يقل : ذلكم خير ، وصرف الخطاب عنهم إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

والوجه فيه أنّ الإخبار عن أنّه هو أنزل اللباس لمواراة سوءاتهم لا يصحّ اجتماعه مع بيان كونه آية ، فإنّ كون شيء آية بالنسبة إلى مراد ، وبيان المراد من ذلك الشيء كلّ منهما يغني عن الآخر ؛ فلذلك غيّر الخطاب ليكون كأنّه قد بيّن

__________________

(١). في المصدر : «لباس»

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٢٥.

٢١٨

لقوم مراده لفظا ، ولقوم أنّه واف لبيان مراده ، فافهم ذلك.

فإن قلت : فكيف يبيّن كون بعض المخلوقات آية في نحو قوله [تعالى] : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) (١) ، وقوله [تعالى] : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) (٢).

قلت : لا ضير فيه ، وإنّما يلغو لو كان بيّن لقوم إنّا أحيينا الأرض الميتة فلنا أن نحيي الإنسان الميّت ، وأنّ هذه آية لكم في كلام واحد وهو ظاهر بالتأمّل.

قوله : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ)

قد مرّ ما يتعلق بالآية من الكلام وظاهر الآية إطلاق السوءة.

قوله : (قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها)

الجملة الثانية لازمة للجملة الأولى ، فإنّ الاستناد في الدين لا يجوز إلّا إلى الله سبحانه ، فالإستناد إلى فعل الآباء وسنتهم بدعوى أنّ الله أمرهم بها ، ولذا نسب إليهم قولهم : (اللهُ أَمَرَنا بِها). وهو جهل ، فإنّ آبائهم مثلهم لا يكشف عملهم عن أمر الله وخاصة في الفحشاء ، فهو قول منهم على الله ما يعلمون.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله» (٣).

أقول : [إنّه] ردّ على المجبّرة والقدريّة ، فالجبرية لقولها إنّ الله يجبر على

__________________

(١). يس (٣٦) : ٣٣.

(٢). الشورى (٤٢) : ٣٢.

(٣). تفسير العياشي ٢ : ١٢ ، الحديث : ١٦.

٢١٩

الأفعال ومنها : المعاصي والفحشاء ، يكذب قوله [تعالى] : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ، والقدريّة لقولها : إنّ الخير والشرّ من الأفعال إلى الانسان ، يكذب قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) كما في الرواية.

قوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)

المسجد : هو زمان السجود أو مكانه أو السجود وهو الصلاة.

وفي الكافي : مضمرا ، وفي تفسير العياشي : عن عبد صالح ، في الآية السابقة قال : «هل رأيت (٢) أحدا زعم (٣) أن الله أمر (٤) بالزنا و (٥) شرب الخمر وشيء من هذه المحارم» فقيل : لا ، قال (٦) : «ما هذه الفاحشة التي يدّعون (٧) أنّ الله أمرهم بها» (٨) ، قيل : الله أعلم ووليّه ، فقال (٩) : «فإنّ (١٠) هذا في (١١) أئمة الجور إدّعوا أنّ الله أمرهم بالإيتمام بقوم لم يأمرهم الله (١٢) بالإيتمام بهم ، فردّ الله ذلك عليهم فأخبر (١٣)

__________________

(١). القمر (٥٤) : ٤٩.

(٢). في تفسير العياشي : «أرأيت»

(٣). في تفسير العياشي : «يزعم»

(٤). في تفسير العياشي : «أمرنا»

(٥). في الكافي : «أو»

(٦). في المصدرين : «فقال»

(٧). في تفسير العياشي : «تدعون»

(٨). في تفسير العياشي : «أمر بها»

(٩). في الكافي : «قال»

(١٠). في تفسير العياشي : «إنّ»

(١١). في تفسير العياشي : «من»

(١٢). في تفسير العياشي : ـ «بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله»

(١٣). في تفسير العياشي : «فأخبرنا»

٢٢٠