تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

[وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠)]

قوله سبحانه : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)

الظاهر أنّ الضمير راجع إلى إبراهيم دون نوح ـ عليهما‌السلام ـ وإن كان أقرب لفظا ؛ لأن التعداد مقصور على ذرية إبراهيم ولم يذكر أحد من ذرية نوح من غير نسل إبراهيم كهود وصالح.

١٠١

قوله : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى)

في الكافي : عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال أبو جعفر يا أبا الجارود! ما يقولون لكم في الحسن والحسين»؟ قلت : ينكرون علينا أنّهما إبنا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : «فأشيء إحتججتم عليهم»؟ قلت : احتججنا عليهم بقول الله عزوجل في عيسى بن مريم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح ـ عليه‌السلام.

قال عليه‌السلام : «فأي شيء قالوا لكم»؟

قلت : [قالوا :] قد يكون ولد الإبنة من الولد ولا يكون من الصلب.

قال : «فأي شيء إحتججتم عليهم»؟

قلت : احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١).

ثم قال : «أي شيء قالوا»؟

قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول أبنائنا.

قال : فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «لأعطينّكما من كتاب الله عزوجل ، أنّهما من صلب رسول الله لا يردّهما إلّا كافر»

قلت : وأين ذلك جعلت فداك؟

قال عليه‌السلام : «من حيث قال الله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٦١.

١٠٢

وَأَخَواتُكُمْ) ، إلى أن إنتهى إلى قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (١) ، يا أبا الجارود! هل كان يحلّ لرسول الله نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا : نعم ، كذبوا وفجروا ، وإن قالوا : لا ، فإنهما إبناه لصلبه» (٢).

أقول : وروى مثله القمّي في تفسيره إلّا أنّ فيه : فجعل عيسى من ذرية إبراهيم (٣) ، والأخبار في هذا المعنى كثيرة (٤).

قوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ)

فهو كمال الهداية ومحضها لا يشوبها ولا يقارنها ضلال حتى تتخلف يوما أو يختلف كما يشعر به قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، ومع ذلك فأمر الهداية ليس بإجباري حتى يسقط اختيار هؤلاء المهديين ، ولا لهم كرامة جزافية عليه سبحانه وإن فعلوا ما فعلوا ، بل الأمر يدور مدار التوحيد والعبودية كلّ يدل عليه ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، ولقد أشبعنا القول في معنى هذه الهداية ، وهي الإهتداء بهداية الله سبحانه في ذيل قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) (٥) ، من سورة البقرة.

قوله سبحانه : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ليس الكلام مسوقا لبيان الإستثناء كقول القائل : إن لم تعنّي فقد أعانني فلان ،

__________________

(١). النساء (٤) : ٢٣.

(٢). الكافي ٨ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الحديث : ٥٠١.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٠٩.

(٤). البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٩٣ ـ ٥٩٦ ؛ تفسير الصافي ٣ : ٦٣.

(٥). البقرة (٢) : ١٢٤.

١٠٣

وإن لم تصغ إلى حديثي فقد سمعه آخرون ، يعني لقد كفيت المؤونة أو لقد استوفيت الحظ وبلغت الغرض ، فهذا غير جائز فيه تعالى لبراءة ساحته عن كل حاجة وعدم مغلوبيته فيما يريد ، بل تسلية منه تعالى لرسوله ، إنّه إن يكفر بها هؤلا الكفّار من أهل مكة وغيرهم (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ، وعلى هذا يجب أن يكون في كلّ عصر من هو موكلّ عليها مؤمن بها غير كافر ألبتّة ، ولازمه أن الأرض لا تخلو من معصوم.

ومن هنا يظهر أن لا معنى لقول من يقول : إنّ المراد بهم أصحاب النبي وكلّ من آمن به ، وفيه : أنّ فيهم منافقون وأصحاب الردّة ، وكذا ما قيل : إنّهم كلّ مؤمن من بني آدم ، وكذا ما قيل : إنّهم الأنصار ، وكذا ما قيل : إنّهم الفرس على أنّ كلامه في الإيمان غير المختلط بالشرك ، وقد قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) ، وكذا ما قيل : إن المراد بهم الملائكة وكذا ما قيل : إنّهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة ، وليت شعري أيّ معنى لتسلية رسول الله : فإن كفر بها قومك وكذّبوا دعوتك فالملائكة يؤمنون بها أو الأنبياء الماضون قد آمنوا بها ، فيتسلّى بذلك رسول الله ويذهب الحزن عن قلبه ، وما وجه التعبير بقوله : هؤلاء وترك لفظ القوم ، كما في أمثال هذه الموارد؟

فإن قلت : يدل على أنّهم هم الأنبياء وصل قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) بما قبله : وقوله تعالى بعده : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) كما في الآية.

قلت : لا دلالة فيه على ذلك ، أمّا الآية الاولي : فدلالتها مبنية على أن يكون المراد بالتوكيل الحمل ، وليس كذلك البتّة ، بل هو التحفّظ ، كما سيجيء ، وأمّا الثانية : فإنّما تتمّ دلالتها لو كان رسول الله ـ صلّى الله عليه ـ وآله مأمورا

__________________

(١). يوسف (١٢) : ١٠٦.

١٠٤

بالإقتداء بهم لا بهداهم ، وليس كذلك كما سيجيء.

وفي تفسير العياشي : عن ابن سنان ، عن سليمان بن هارون ، قال : «قال الله : لو أنّ أهل السماء والأرض اجتمعوا على أن يحوّلوا هذا الأمر عن موضعه الذي وضعه الله فيه ما استطاعوا ، ولو أنّ الناس كفروا جميعا حتى لا يبقى أحد لجاء لهذا الأمر بأهل يكونون هم أهله ، ثم قال : أما تسمع الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) (١). وقال في آية أخرى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).

ثم قال : أما إنّ أهل هذه الآية هم أهل تلك الآية (٢).

وفي الكافي : عن أبي حمزة الثمالى ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «قال الله عزوجل : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) إلى قوله : (بِكافِرِينَ) فإنّه وكّل بالفضل من أهل بيته والإخوان والذريّة ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أمّتك (فَقَدْ وَكَّلْنا) أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به فلا يكفرون به أبدا ، ولا أضيع الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك ، علماء أمتك وولاة أمري بعدك ، وأهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب ولا إثم ولا وزر ولا بطر ولا رياء» (٣).

أقول : ورواه العياشي في تفسيره (٤).

قوله عليه‌السلام : «بالفضل» ، الظاهر أن المراد به كرامة الهداية التي فيها

__________________

(١). المائدة (٥) : ٥٤.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٣٦٩ ، الحديث : ٥٦.

(٣). الكافي ٨ : ١١٩ ، الحديث : ٩٢.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٣٦٩ ، الحديث : ٥٧.

١٠٥

التوكيل سمّاه فضلا ، كما سمّاه الله سبحانه فضلا في قوله : (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) ، وقوله : «من أهل بيتك من بعدك مبتدأ خبره قوله : علماء أمّتك» ، وإنّما ، استفاده عليه‌السلام من رجوع الضمير إلى (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ، فإنّ المراد بالتوكيل ليس هو الحمل بدل قوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) فإنّ الكفار ليس لهم أن يحملوا النبوّة بمعنى أن يتنبؤا باختيارهم ، بل المراد التحفّظ بها علما وعملا وفيها كلّ علم نافع وعمل صالح ، وعند ذلك يظهر وجوب كون هؤلاء القوم علماء الأمة وولاة الأمر بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى آخر ما عدّه عليه‌السلام من فضائلهم.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)

الهاء للسكت ، أثبت في الكتابة لثبوتها في المصحف ، كما قيل ، وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) ، فذلكة لشرح هدايتهم وتفصيلها ، وتقديم المتعلق على الفعل يفيد الحصر ، وقد أمر ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالإقتداء بهدايتهم لا بهم ؛ لعدم كونه مفضولا بالنسبة إليهم والمتبوع أفضل من التابع لا محالة.

فإن قلت : الإقتداء بهدايتهم اقتداء بهم

قلت : هو كذلك لو كانت الإضافة في قوله : (فَبِهُداهُمُ) من إضافة المصدر إلى الفاعل ، وليس كذلك بشاهد جميع الآيات وخاصة قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) وهو متصل به ، بل الهدى هدى الله ، وإنّما أضيف إليهم ؛ لتكون إشعارا بأنّ الدين واحد ، وهو عند الله الإسلام ، فما عرّفه الله لأنبيائه من المعارف الحقّة واحد صراطا مستقيما ، وما شرعه لهم أيضا كذلك ، ولو تطرّق إلى شيء منه نسخ فإنّما هو تكميل لا تغيير.

١٠٦

[وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ

١٠٧

ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥)]

قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ)

القدر : مصدر بمعنى التقدير ، فهو في هذا المورد بقرينة قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) بمعنى الوصف ، أي ما وصفوه حق وصفه فله سبحانه وصف ،

١٠٨

على أنّ المصدر إذا أضيف دلّ على تحقّق معناه ، كما ذكره الجرجاني في دلائل الإعجاز ، وإذ أضيف إليه (حَقَ) دلّ على أنّهم وصفوه ولكن لا وصفا يحقّ له ويليق بساحة عظمته ، فله سبحانه وصف قصر فيه القاصرون ، إذ لم يتأدّبوا بأدب الله ، ولم ينساقوا حسب ما ساقهم كتاب الله كما قال في آخر هذه الآيات : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) ، وقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) (١) ، وهذا مع قوله سبحانه : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٢) ، وقوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (٣) ، وقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٤) ، وقوله : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنّه سبحانه أكبر من أن يوصف ببيان أو يقدّر بلسان ، يدلّ على أنّه سبحانه أرفع من أن يحدّ بتحديد وصف أو يقدر بتقدير بيان ، غير أنّه سبحانه جعل لنفسه نعوتا وأسماء إرفاقا بعباده وتسهيلا للأمر اليهم ، فأمرهم أن يدعوه بتلك الأسماء والصفات ، ويعبروا عنه بها لتكون وسيلة إلى إرتقائهم إلى ما يسقط دونه البيان ، وذريعة إلى بلوغهم ما لا يبلغه عقل ولا وهم ولا حسّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

وفي تفسير القمي : في الآية قال ـ عليه‌السلام ـ : «لم يبلغوا من عظمة الله أن يصفوه بصفاته» (٦).

__________________

(١). الاعراف (٧) : ١٨٠.

(٢). الصافات (٣٧) : ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٣). الاسراء (١٧) : ١١١.

(٤). الإخلاص (١١٢) : ١.

(٥). الرعد (١٣) : ٩.

(٦). تفسير القمّي ١ : ٢١٠.

١٠٩

وفي التوحيد : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في خطبة له قال ـ عليه‌السلام ـ «لمّا شبّهه العادلون بالخلق المبعّض المحدود في صفاته ، ذي الأقطار والنواحي المختلفة في طبقاته ، وكان عزوجل الموجود لنفسه لا بأداته ، إنتفى أن يكون قدّروه حق قدره ، فقال تنزيها بنفسه عن مشاركة الأنداد ، وارتفاعا عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ..) ، فما دلّك القرآن عليه من صفته فاتبعه ليتوصل (١) بينك وبين معرفته فأتمّ به واستضيء بنور هدايته ، فإنّها نعمة وحكمة أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما دلّك الشيطان عليه مما ليس في القرآن عليك فرضه ولا في سنة الرسول وأئمّة الهدى أثره فكل علمه إلى الله عزوجل ، فإنّ ذلك منتهى حق الله عليك» (٢).

وفي الكافي : عن الفضيل قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إنّ الله لا يوصف وكيف يوصف؟ وقد قال في كتابه : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك» (٣).

أقول : ولعلّ الأخذ في الرواية باطلاق الجملة مع قطع النظر عن ذيلها ونظائره كثيرة في روايات أهل البيت ، وعلى هذا فنفي الوصف والقدر والإستشهاد بالآية ، مع أن الآية تثبت له تعالى قدرا كما عرفت مبني على إرجاع الآية إلى ما يعطيه قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٤) ، وهو كونه موصوفا بنفي الوصف ، فإنّه تعالى أكبر وأعظم من أن يوصف ، ونفس هذا وصف ، كما أنّ قوله ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١). في المصدر : «ليوصل» وفي نسخة : «لتوسّل»

(٢). التوحيد للصدوق : ٥٥.

(٣). الكافي ١ : ١٠٣ ، الحديث : ١١.

(٤). الصافات (٣٧) : ١٥٩.

١١٠

فلا يوصف بقدر ـ إلى آخره ـ توصيف في عين نفي التوصيف ، فافهم ذلك.

قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ)

ظاهر كون السورة مكيّة أن يكون القائل : (ما أَنْزَلَ اللهُ) بعض مشركي مكّة ، لكنّ سياق الجواب بقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) لا يلائمه فإنّ الأوصاف المذكورة إنّما هي لليهود دون مشركي مكة ، فلعلّ الآية مدنية كما أن قوله تعالى بعدها : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) يحكم بكونها مدينة لا مكيّة.

قوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً)

في تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون ما شاءوا ويخفون ما شاءوا وقال : كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم (١).

قوله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى)

المراد به مكّة.

في تفسير العياشي : عن علي بن أسباط ، قال : قلت لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : لم سمّي النبيّ الأمي.؟ قال : «نسب إلى مكة وذلك من قول الله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) ، وأم القرى مكّة (٢) ومن حولها الطائف».

أقول : كون إنذار مكة والطائف غاية إنزال القرآن ، لا ينافي تمام الغاية إنذار كل من بلغ من أهل الشرق والغرب فإنّها غاية ذات مراتب ، وعلى ذلك جرت الدعوة النبويّة ، فقدّمت العرب ثمّ الذين يلونهم وإليه يشعر قوله : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٦٩ ، الحديث : ٥٩.

(٢). تفسير العياشي ٢ : ٣١ ، الحديث : ٨٦.

١١١

عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١) وقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) (٢) ، إلى غير ذلك.

قوله سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى)

في تفسير العياشي : نزلت في ابن أبي سرح الذي كان عثمان [بن عفان] استعمله على مصر ، وهو ممّن كان رسول الله يوم فتح مكة هدر دمه وكان يكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا أنزل الله عزوجل : (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣) ، كتب : إنّ الله عليم حكيم (٤) ، وكان ابن أبي سرح يقول للمنافقين إنّي لأقول من نفسي (٥) مثل ما يجيء به فما يغيّر عليّ فأنزل الله تبارك وتعالى فيه الذي أنزل (٦).

وفي تفسير القمّي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ عبد الله بن سعد ابن أبي سرح أخا عثمان [بن عفان] من الرضاعة ، وقدم المدينة وأسلم ، وكان له خط حسن ، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاه فكتب ما يمليه [عليه] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، [من الوحى] وكان إذا قال له رسول الله : سميع بصير يكتب سميع عليم ، وإذا قال : والله بما تعلمون خبير ،

__________________

(١). الشعراء (٢٦) : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢). فصلت (٤١) : ٤٤.

(٣). البقرة (٢) : ٢٠٩.

(٤). في الكافي زيادة : فيقول له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : دعها فانّ الله عليم حكيم ، الكافي ٨ : ١٧٢ ، الحديث : ٢٤٢.

(٥). هذا في الكافي ، وفي المصدر : «لأقول الشيء»

(٦). تفسير العياشي ١ : ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، الحديث : ٦٠.

١١٢

يكتب بصير ، ويفرّق بين التاء والياء ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول : هو واحد (١) ، فارتد كافرا ورجع إلى مكة وقال لقريش : والله ما يدري محمد ما يقول ، أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر عليّ ذلك ، فأنا إذا أنزل مثل ما ينزل (٢) ، فأنزل الله على نبيّه في ذلك : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ، فلمّا فتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مكّة أمر بقتله فجاء به عثمان قد أخذ بيده ورسول الله في المسجد ، فقال يا رسول الله : إعف عنه فسكت رسول الله ، ثم أعاد فسكت ، ثم أعاد فقال : هو لك ، فلمّا مرّ قال رسول الله لأصحابه : ألم أقل من راه فليقتله؟ فقال رجل : كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلىّ فأقتله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الأنبياء لا يقتلون بالإشارة ، فكان من الطلقاء (٣).

أقول : وعلى ما في الرواية فهو المقصود من جميع الجمل الثلاث ، فكان تغييره القرآن من افتراء الكذب على الله ، وقوله : أنا أقول مثل ما يقول دعوى للوحي ، وقوله : فأنا إذا أنزل مثل ما ينزل دعوى للقدرة على إنزال مثل القرآن ، وهذا فوق الذي تقدّمه من الظلم ، فإنّ الأولين طعن في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والثالث استعلاء على الله ، ولعلّه لذلك غيّر السياق فقيل : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) ولم يقل أو قال.

وفي تفسير الكشاف : في ذيل قوله تعالى : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما

__________________

(١). اي من جهة رسم الخطّ.

(٢). في المصدر : «أنزل مثل ما أنزل الله»

(٣). تفسير القمّي ١ : ٢١٠ ـ ٢١١.

١١٣

أَنْزَلَ اللهُ) : هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي ، كان يكتب لرسول الله صلّى عليه وآله ، فكان إذا أملى عليه : سميعا عليما كتب هو عليما حكيما ، وإذا قال : عليما حكيما ، كتب هو غفورا رحيما ، فلمّا نزلت : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ..) (١) ، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : اكتبها فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمّد صادقا لقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه ولئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال ، فارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة ، ثم رجع مسلما قبل فتح مكّة (٢).

أقول : هو انطباق جميع الجمل الثلاث عليه ، ثم الوعيد الذي يتلوها وهو قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) ، فأخذ فيه الظلم ، وظاهر السياق كون اللام للعهد ، واختتام آخره بقوله : (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) ، كل ذلك يوجب أن يكون ممّن ختم له بالشقاء ، ويؤيده ما مرّ من روايتي القمّي والعيّاشي رحمهما‌الله.

قوله سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ)

غمرات الموت شدائده من غمره الماء إذا علاه وغشيه ، والغمرة الماء الكثير.

قوله : (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ)

أي يطالبون أنفسهم كما يبسط المتقاضي المتسلّط يده لغريمه يستوفيه دينه ، أو كناية عن شدّة الزجر والعذاب وعدم الكفّ عن أنواع الأذى.

__________________

(١). المؤمنون (٢٣) : ١٢.

(٢). تفسير الكشاف ٢ : ٤٥.

١١٤

وقوله : (عَذابَ الْهُونِ)

الهون : شدّة الهوان والمذلّة.

وفي تفسير القمي : في قوله : (عَذابَ الْهُونِ) قال ـ عليه‌السلام ـ : «العطش» (١). ورواه العياشي في تفسيره : عن الصادق ـ عليه‌السلام (٢) ـ.

وفي تفسير القمي : عنه ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الآية نزلت في أعداء آل محمد ـ عليهم‌السلام ـ» (٣).

أقول : وهو من الجري.

قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ)

وصف سبحانه يوم الموت بنظير ما وصف به يوم القيامة فيما مرّ من زوال المعين وضلال ما يدعونه شركاء لله سبحانه ولذا ورد عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «من مات فقد قامت قيامته» (٤) الخبر.

وقوله : (خَوَّلْناكُمْ)

التخويل : الإعطاء والتفضل وهو دون التمليك ، فإنّ التمليك يوجب انفصال المال عن المالك الأوّل ، وليس يصح ذلك فيما يخوّله الله عباده ويملّكهم ؛ فإنّه تعالى المالك لما يملكهم قبل التمليك وبعده ، ولذلك فالقرآن لا يقرّ لغيره سبحانه

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢١١.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٧٠ ، الحديث : ٦٣.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢١١.

(٤). بحار الأنوار ٥٨ : ٧ ؛ ٧ : ٦٥ ؛ الحدائق الناضرة ٧ : ٤٤٣ ؛ ورواه أيضا عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في كنز العمال ١٥ : ٥٤٨ ، الحديث : ٤٢١٢٣ ؛ كشف الخفاء ٢ : ٢٧٩.

١١٥

ملكا ، بل يعبّر عنه بنحو التخويل والإستخلاف ، فالتخويل تمليك ظاهري.

وقوله : (فِيكُمْ شُرَكاءُ)

الظرف لغو متعلّق بما بعده.

قوله : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)

معنى الآية ظاهر

فإن قلت : ما وجه التعبير بالفعل في قوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ، وبالإسم في قوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ)؟

قلت : قيل إنّ قوله : (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ) عطف على قوله : (فالِقُ الْحَبِ) ، وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالتفسير لفلق الحبّ ، كأنه قيل : إنّ الله فالق الحبّ والنوى ومخرج الميّت من الحيّ ، ومعنى فلق الحبّ إخراج الحي من الميت.

في الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في رواية : «فالحبّ طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبّته ، والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير ، وإنّما سمي النوى من أجل أنّه نأى [عن كل خير] (١) وتباعد منه ، وقال الله عزوجل : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) (٢) ، فالحي المؤمن الذي تخرج [طينته] من طينة الكافر ، والميت الذي تخرج من الحي ؛ هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن ، فالحي المؤمن ، والميت الكافر» الخبر (٣).

__________________

(١). الاصل : «من الحق»

(٢). يونس (١٠) : ٣١.

(٣). الكافي ٢ : ٥ ، الحديث : ٧.

١١٦

أقول : وروي ما في معناه العياشي والقمي : في تفسيرهما ، وجميعها من قبيل الجري بحسب الباطن (١).

وفي تفسير القمّي : وقال أيضا : (فالِقُ الْحَبِ) ، [الحبّ أن] يفلق العلم من الأئمّة ، (وَالنَّوى) ما بعد منه (٢).

أقول : وهو من الجري كسابقه.

وقوله : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)

أي تصرفون عنه إلى غيره ، وأصل الإفك الفرية.

قوله سبحانه : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً)

وقرء : وجاعل الليل ، وقرء : خلق الإصباح وجعل اللّيل ، والإصباح : مصدر سمّي به الصبح ، والظاهر أنّ الإضافة بمعنى «في» ، مثل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣) ، أي شاقّ محلّ الصبح ، أو ظلمة الأفق وقت الإصباح لإطلاع الفجر ، والسّكن : ما يسكن فيه ، والليل سكن بالطبع تسكن فيه الموجودات المتحركة.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «تزوّجوا بالليل فإن الله جعله سكنا ولا تطلبوا الحوائج بالليل فإنه مظلم» (٤) ، وفيه عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها بالنهار ، فإنّ الله جعل الحياء في العينين ، وإذا

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٧٠ ، الحديث : ٦٤ و ٦٥ ؛ تفسير القمي ١ : ٢١١.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢١١.

(٣). سبأ (٣٤) : ٣٣.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٧١ ، الحديث : ٦٨.

١١٧

تزوّجتم فتزوجوا بالليل ، فإنّ الله (جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) (١) ، وفيه : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله جعل الليل سكنا وجعل النساء سكنا ، ومن السنة التزويج بالليل وإطعام الطعام» (٢).

وفي نهج البلاغة : قال ـ عليه‌السلام ـ : «ولا تسر أوّل الليل ، فإنّ الله جعله سكنا وقدّره مقاما لا ظعنا فأرح فيه بدنك وروّح ظهرك» (٣).

وفي الكافي : كان علي بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ يأمر غلمانه أن : لا يذبحوا حتى يطلع الفجر ، ويقول : «إن الله جعل الليل سكنا لكلّ شيء» (٤).

أقول : وجميع ما مرّ من الأحكام كما ترى مستفادة من لفظ : السكن ، ومن السكن الأنس ، ولذا كانت النساء سكنا.

قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا)

في تفسير علي بن إبراهيم : قال : قال ـ عليه‌السلام ـ : «النجوم آل محمد» (٥).

أقول : وسيأتي إن شاء الله نظير الرواية في سورة النحل عند قوله تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٦).

قوله : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٧٠ ، الحديث : ٦٦ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٠ ، الحديث : ٢.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٧١ ، الحديث : ٦٧.

(٣). نهج البلاغة : ٣٧٢ ، من وصيّة له ـ عليه‌السلام ـ وصى بها معقل ، قسم الكتب ، الرسالة : ١٢.

(٤). الكافي ٦ : ٢٣٦ ، الحديث : ٢ و ٣.

(٥). تفسير القمي ١ : ٢١١.

(٦). النحل (١٦) : ١٦.

١١٨

في تفسير العياشي : عن أبي بصير عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قلت له : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ، قال : «ما يقول أهل بلدك الذي أنت فيه» ، قال : قلت : يقولون مستقر في الرحم ، ومستودع في الصلب فقال : «كذبوا ، المستقرّ ، ما استقرّ الإيمان في قلبه فلا ينزع منه أبدا ، والمستودع الذي يستودع الإيمان زمانا ثم يسلبه ، وكان الزبير منهم» (١).

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة ، وبنائها على كون المستقر والمستودع إسمي مكان ، والمعنى : فمنكم من هو محل استقرار الإيمان ، ومنكم من هو محل استيداعه ، وأما كونهما مصدرين أو كون المستقر بكسر القاف فبعيد من اللفظ ، يحتاج إلى تقدير أو تقريب ، ولذا كان تفسيرهما بالمستقر في الرحم والمستودع في الصلب بعيدا من اللفظ وإن فسر بذلك بعض المفسرين لاحتياجه إلى تقدير ، أي ذو استقرار وذو استيداع ، على أنّه كما أنّ الصلب مستودع بالنسبة إلى الرحم ، كذلك الرحم ليس مستقرا بالنسبة إلى الأرض وهكذا.

ولذلك احتمل بعض المفسرين أن يكون المعنى : فمستقر فوق الأرض ومستودع تحتها فزاد اشكالا ، وهو أنّ الأمر فيها فوق الأرض وما تحتها على خلاف ما ذكره ، مع أن ما مرّ من الإشكال على حاله.

وفي الكافي وتفسير العياشي : عن محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : سمعته يقول : «إنّ الله خلق خلقا للإيمان لا زوال له ، وخلق خلقا للكفر لا زوال له ، وخلق خلقا بين ذلك ، فاستودع بعضهم الإيمان ، فإن شاء أن يتمّه لهم أتمّه ، وإن شاء أن يسلبهم إيّاه سلبهم» (٢).

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٧١ ، الحديث : ٦٩ ؛ بحار الأنوار ٦٩ : ٢٢٢ ، الحديث : ٨.

(٢). الكافي ٢ : ٤١٧ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٧٣ ، الحديث : ٧٦.

١١٩

أقول : والرواية غير مفسرة للآية لجعلها الأقسام ثلاثة : كفر غير زائل ، وايمان غير زائل ، وما بين ذلك وهو أيضا بوجه قسمان : كفر غير ثابت ، وإيمان غير ثابت ، وسياق الآية وأدب الكلام يأبى عن إسناد الكفر المستقر أو الكفر المستودع إليه تعالى ، ولذا غيّر عليه‌السلام السياق ثانيا فقال : «فاستودع بعضهم الإيمان» ، إنتهى فالرواية ناظرة إلى آيات الطينة والضلال والهداية فتدبّر.

قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ)

المتراكب : ما ركب بعضه فوق بعض ، والطلع من النخل بمنزلة الزهر ، والقنوان : جمع قنو بالكسر فالسكون كصنوان وصنو : العنقود ، والينع : البلوغ ، وختم هذه الآية بقوله : (يُؤْمِنُونَ) والتي سبقتها بقوله : (يَفْقَهُونَ) والسابقة عليها بقوله : (يَعْلَمُونَ) لتفاوت الآيات في القرب من الفهم.

فانّ نزول المطر وتربيته لأنواع النباتات والأشجار أبسط دلالة وأقرب فهما ، ثمّ النجوم في هدايتها في ظلمات البر والبحر أسهل نيلا عن اختلاف احوال الناس في الإستقرار والإستيداع ، والتلون والثبات ، مع انتهائهم جميعا إلى نفس واحدة فاهل الآية الثانية أدقّ نظرا بالنسبة إلى أهل الاولى والثالثة كذلك بالنسبة إلى الثانية ، ولذلك خصّ الأولى بقوم يؤمنون ، والثانية بقوم يعلمون والثالثة بقوم يفقهون.

قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

في الكافي عن أبي سدير قال : سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله عزوجل : «(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ :

١٢٠