تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

إنّ الله عزوجل إبتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فأبتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهن سماوات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١)» (٢).

أقول : وروى مثله الصفّار في البصائر والعيّاشي في تفسيره (٣).

وإذا كانت السماوات والأرض مبدعات بطلت دعوى الولد له سبحانه ، إذ الولد إنّما يكون عن صاحبة ، والصاحبة ممّا أبدعه الله فيما بين الأزواج ، فلم يكن قبل إيجاد الخلق صاحبة فلم يكن ولد ، ولو لم يكن عن صاحبة كان خلقا كسائر المخلوقات لا وجه لاختصاصه باسم الولد ، فخلق كلّ شيء ، والعلم بكلّ شيء يأبى عن اتخاذ الولد من المخلوقات ، والإبداع يأبى عن صحة تحقّق الولد.

قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ)

حجة على المفوّضة الزاعمة أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم ، وما احتجوا به أنّ الآية مخصّصة عقلا ، فإنّ نسبة أفعال العباد إلى الله عزوجل يوجب الجبر المستلزم لإسناد الشرور والقبائح إليه تعالى ، وبطلان البعث والتشريع والثواب والعقاب ، إلى غير ذلك مردود بأنّه إنّما يستلزم ذلك لو كان نسبة الخلق إلى الجميع نسبة واحدة وليس كذلك ، فالإرادة الإلهية لم تتعلق بالجميع على نحو واحد بل إنّما تعلّقت بأفعال العباد من مجرى اختيارهم وبغيرها على غير هذا النحو ، ويستنتج

__________________

(١). هود (١١) : ٧.

(٢). الكافي ١ : ٢٥٦ ، الحديث : ٢.

(٣). بصائر الدرجات : ١١٣ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٧٣ ، الحديث : ٧٧.

١٢١

من ذلك أن الوجود لله سبحانه والاستناد للعبد ، فافهم ، وللكلام أطراف قد مرّ بعضها وسيجيء بعضها الآخر.

قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

وكل في أمره إلى فلان ، ويكل إليه أي اعتمد ، ووكّله في أمره توكيلا ووكالة أي جعله قائما مقام نفسه في تدبيره وإنفاذه وفعله ، ورجل وكل بفتحتين ووكلة تكلة مثال : لمزة وهمزة أي عاجز يكل أمره إلى غيره ويتّكل عليه والله تعالى هو القائم على كلّ شيء فيما يحتاج إليه في نفسه وفي غيره ، فهو الوكيل لكلّ شيء وعلى كلّ شيء ، غير أنّ الأدب العبودي يقتضي اسقاط قولنا لكلّ شيء عن اللفظ لما فيه من شائبة الإستعمال والإستعلاء ، (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١) عزّت أسماؤه فهو على كلّ شيء وكيل.

قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)

البصر هو القوة المودعة في العين لتشخيص الضوء واللون ، وربّما سمّي به الآلة الباصرة تسمية للمحل بإسم الحالّ ، وربّما سمي به الإدراك الباطني من وهم أو عقل ، والبصر سواء أريد به القوة الظاهرة أو أريد به القوة الباطنة لا يجوز تعلقه به تعالى ، أما الظاهرة فلإحتياجها إلى جسم ذي كيفيّة ، سبحانه وتعالى عن الجسميّة ، وأمّا الباطنة فلإحتياجها إلى حدّ ، وهو سبحانه بريء عن الحدود ، فالله سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

__________________

(١). الاعراف (٧) : ١٨٠.

١٢٢

وفي التوحيد : عن اسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، يا بن الفضل! إنّ الأبصار لا تدرك إلّا ماله لون وكيفية ، والله خالق الألوان والكيفيّات (١).

وفيه أيضا : عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن ادخله إلى أبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ فاستأذنت في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرّة : إنّا روينا : أنّ الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين فقسّم الكلام لموسى ، ولمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الرؤية ، فقال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين [من] الجن والإنس : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٣) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤) ، أليس محمّدا؟. قال : بلى ، قال : «فكيف يجيىء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٥) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٦) ، ثم يقول : أنا رأيته [بعينى] وأحطت به علما وهو على صورة البشر أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي من عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.

__________________

(١). لم نجده في التوحيد ، ولكن رواه في الأمالي : ٤١٠ ، الحديث : ٣.

(٢). الأنعام (٦) : ١٠٣.

(٣). طه (٢٠) : ١١٠.

(٤). الشورى (٤٢) : ١١.

(٥). طه (٢٠) : ١١٠.

(٦). الشورى (٤٢) : ١١.

١٢٣

قال : أبو قرة : فإنّه يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١) فقال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى ، حيث قال : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٢) ، يقول ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (٣) ، فآيات الله عزوجل غير الله ، وقد قال الله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٤) فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة». فقال أبو قرّة فتكذّب لروايات؟ فقال أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : إذا كانت الروايات مخالفة قرآن كذّبت بها ، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء» (٥).

أقول : ورواه في الكافي : أيضا (٦).

قوله : فقال أبو الحسن : «إذا كانت ، يمكن أن يستشمّ منه ثبوت أصل الرواية ، غير أنّها لما فسرّت على خلاف المراد بحيث لا يقبل الردع لم يكن بدّ من انكارها بمعناها عند الجمهور ، وله نظائر كحديث نزوله تعالى كلّ ليلة جمعة إلى سماء الدنيا ، وحديث كون أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر ، إلى غير ذلك ، ومع ذلك فحديث الرؤية ثابت من طرق أهل البيت بالمعنى اللائق بساحة قدسه وكبريائه تعالى وتقدّس.

__________________

(١). النجم (٥٣) : ١٣.

(٢). النجم (٥٣) : ١١.

(٣). النجم (٥٣) : ١٨.

(٤). طه (٢٠) : ١١٠.

(٥). التوحيد : ١١١ ـ ١١٢ ، الحديث : ٩.

(٦). الكافي ١ : ٩٦ ، الحديث : ٢.

١٢٤

قال بعضهم : إنّ الإدراك عبارة عن الإحاطة ، ومنه : (إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) (١) ، أي أحاط به ، (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٢) أي محاط بنا ، فالمنفي إذا عن الأبصار إحاطتها به عزّ وعلا لا مجرد الرؤية ، ثم قال : إنّ تخصيص الاحاطة بالنفي يشعر بطريق المفهوم بثبوت ما هو أدنى من ذلك ، وأقلّه مجرّد الرؤية ، كما أنّا نقول لا تحيط به الافهام ، وإن كانت المعرفة بمجردها حاصلة لكلّ مؤمن ؛ فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للحسّ ، وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للحسّ ثابت غير منفي (٣) ، إنتهى.

أقول : وما ذكره أن معنى الإدراك هو الإحاطة خلاف ما يظهر من اللغة ، فأصل الإدراك اللحوق ، يقال : أدركت فلانا ، أي لحقت به ، وأدرك زمانا كذا أي لحقه وبلغه ، ثم أستعمل في تعلّق القوة الحاسّة بمتعلقه كأنّها تلحقه استعارة ، ثمّ صار حقيقة بالغلبة.

ولو سلّم ذلك فحيث كان الإدراك هو الإحاطة ، والإدراك بالبصر هو الإبصار والرؤية فلا معنى لبقاء الرؤية مع انتفاء الإدراك ، ومن هنا يظهر ان لا معنى للمفهوم الذي تخيله ، فإن انتفاء الإحاطة مساوق لانتفاء الرؤية.

ولو سلّم فإنّما يصحّ ذلك في المركبات دون البسائط ، إذ فرض الإحاطة بالشيء علما ، والعلم بما هو دون الإحاطة فرض الكلّ والبعض في ذاته ، كما هو ظاهر.

فإن قلت : فالعقل لا يحيط به تعالى وله علم مّا به تعالى ولا يلزم التركيب.

قلت : لزوم التركيب ضروري ، والعقل كالحسّ والوهم لا يناله سبحانه

__________________

(١). يونس (١٠) : ٩٠.

(٢). الشعراء (٢٦) : ٦١.

(٣). التبيان ٤ : ٢٢٤ و ٢٢٥.

١٢٥

لاستحالة تحديده بحدّ مطلقا ، ولا فرق في ذلك بين التحديد التام والناقص ، وإنما يعرف سبحانه بأسمائه وأوصافه ، ومعرفة الشيء بوجه من وجوهه معرفة لذلك الوجه حقيقة وللشيء بعرضه ، وللكلام بقية سيمرّ بك إن شاء الله.

قوله سبحانه : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

اللطف : هو رقّة ، قوام الشيء بها ، يصح أن ينفذ في خلل الأجسام ، وبالتحليل والتجريد عن لوازم المصاديق المادية : نيل الشيء لكل ما ظهر وخفي ودقّ وجلّ ، وهو سبحانه كذلك ، فهو عالم بكل ما كبر وصغر وخفي لدقّته أو ظهر بكلّ مدرك من المدارك.

والخبير من الخبرة وهو العلم بالشيء بحيث يأنس العالم بمعلومه بحيث لا يشتبه عليه ولا يخطأ فيه ، ولذلك صار الغالب استعماله في موارد العلم الحاصل بتكرر الإدراك كتجربة واعتبار ، يقال : فلان من أهل الخبرة بهذا الأمر ، وبالجملة فالإسمان اللطيف والخبير من شعب الإسم العليم.

وفي الكافي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في خبر طويل قال ـ عليه‌السلام ـ : «وأمّا اللطيف فليس على قلّة وقضافة (١) وصغر ، ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك ، كقولك للرجل : لطف عني هذا الأمر ، ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنّه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متغمضا (٢) متلطّفا لا يدركه الوهم ، وكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد أو يحدّ بوصف ، واللطافة منا الصغر والقلة ، فقد جمعنا الإسم واختلف المعنى.

__________________

(١). القضافة بالضاد المعجمة : الدقّة والمخافة [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). في المصدر : «متعّمقا»

١٢٦

وأما الخبير : فهو الذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته شيء ، ليس للتجربة ولا للإعتبار بالأشياء ، فتفيده التجربة والإعتبار علما ، ولو لا هما ما علم ، لأنّ من كان كذلك كان جاهلا ، والله لم يزل خبيرا بما يخلق [وما لم يخلق ،] والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم ، فقد جمعنا الأسم واختلف المعنى» (١) الخبر.

وسيجيء بتمامه مع تفسيره في الكلام على الأسماء الحسنى في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢).

قوله سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)

البصيرة : نور القلب الذي به يدرك ، كما أنّ البصر نور العين الذي به تدرك ، فالبصيرة للقلب كالبصر للعين ، وقد تطلق ويراد بها الحجّة ، كما أنّ البصر قد يطلق ويراد به نفس العين التي بها الإبصار ، فالمراد بقوله : (أَبْصَرَ) ، وقوله : (عَمِيَ). إعمال البصيرة وتركه.

ثمّ الكلام في هذه الآية وارد على لسان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كأنّه قيل : قل : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) إلى آخره ، ثمّ أسقط وضمّ الكلام إلى الكلام إشعارا بأن الله سبحانه هو المتكلم بلسانه وقوله قوله ، ثم أعيد الكلام إلى ما كان عليه من خطابه لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقيل : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).

قوله : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ). أي تعلمت وقرأت.

__________________

(١). الكافي ١ : ١٢٢ الحديث : ٢.

(٢). الأعراف (٧) : ١٨٠.

١٢٧

في تفسير القمي : قال ـ عليه‌السلام ـ : «كانت قريش تقول لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إن الذي تخبرنا [به] من الأخبار تتعلّمه من علماء اليهود وتدرسه» (١).

أقول : واللام في قوله : (لِيَقُولُوا) ، للغاية كما في قوله : (وَلِنُبَيِّنَهُ) ، والغايتان جميعا حقيقيتان ، قال تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) (٢) ، وقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٣) ، لا كما قيل : إن الغاية في الأوّل مجازيّة ، وفي الثاني حقيقية ، وقد بيّنا ذلك فيما مرّ وسيجيء تمامه.

*

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢١٢.

(٢). الإسراء (١٧) : ٢٠.

(٣). الإسراء (١٧) : ٨٢.

١٢٨

[اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣)]

١٢٩

قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)

في تفسير القمّي : منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) (٢).

قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا)

في المجمع : في تفسير أهل البيت : ولو شاء الله أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتى كان لا يعصيه أحد ، لما كان يحتاج إلى جنة ولا إلى نار ، ولكنّه أمرهم ونهاهم وامتحنهم وأعطاءهم ما له به عليهم الحجة من الآلة والاستطاعة ليستحقّوا الثواب والعقاب (٣).

قوله : (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)

الفرق بين الحفيظ والوكيل أن الحفيظ يحفظ أمر الغير حينما يكون الغير هو القائم بأمر نفسه ، بخلاف الوكيل ، فإن له القيام بأمر الغير وحفظه معا ، ولذا كان الحفيظ بمعنى الرقيب ، فكأنّه يحفظ الواقعة على ما وقعت ، ولا يخلّيها تزول أو تتبدّل عن وجهها.

قوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ)

في تفسير القمّي : عن مسعدة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «سئل عن قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة

__________________

(١). التوبة (٩) : ٥.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢١١.

(٣). مجمع البيان ٤ : ١٢١.

١٣٠

سوداء في ليلة ظلماء ، فقال : كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله ، فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون ، فنهى الله المؤمنين عن سب آلتهم لكي لا يسبّ الكفّار إله المؤمنين ، فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون ، فقال : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١).

أقول : والعدو بالفتح فالسكون ، والعدوّ بضمّتين وتشديد الواو ، والعدوان جميعا بمعنى الظلم.

وفي تفسير العياشي : عن عمر الطيالسي (٢) ، عن أبي عبد الله ، قال : سألته عن قول الله : (وَلا تَسُبُّوا) الآية فقال : يا عمر أرأيت أحدا يسبّ الله؟ فقلت : جعلني الله فداك فكيف؟ قال : من سبّ ولي الله فقد سب الله (٣).

وفي الاعتقادات : عنه ـ عليه‌السلام ـ إنّه قيل : إنّا نرى في المسجد رجلا يعلن بسب أعدائكم ويسبهم فقال : «ما له ـ لعنه الله ـ تعرّض بنا ، قال الله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ).

قال : وقال الصادق ـ عليه‌السلام ـ في تفسير هذه الآية : «لا تسبّوهم فإنّهم يسبّوان عليكم ، وقال : من سبّ ولي الله فقد سبّ الله ، وقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لعلي ـ عليه‌السلام ـ : من سبّك فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله ومن سبّ الله فقد كبّه الله على منخريه في نار جهنم» (٤).

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢١٣.

(٢). ذكره البرقي في أصحاب الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، معجم رجال الحديث : ١٣ : ٦٦.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٧٣ ، الحديث : ٨٠.

(٤). الإعتقادات للمفيد : ١٠٧ ـ ١٠٨ ؛ عيون الأخبار الرضا (ع) ٢ : ٦٧ ، الحديث : ٣٠٨ ؛ أمالي الصدوق : ٨٧ ، الحديث : ٢.

١٣١

أقول : والأخبار في هذه المعاني كثيرة.

قوله : (وَما يُشْعِرُكُمْ) استفهام إنكار يعني أنّكم لا تدرون ، ونحن نعلم (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ).

قوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ)

المراد بالفؤاد هو القلب ، وهو الجوهر العاقل من الإنسان ، والبصر حيثيّة إدراكه ، وتقليبه جعل أعلاه أسفله وبالعكس ، فيرى العالى سافلا والسافل عاليا والحق باطلا وبالعكس.

وفي تفسير القمّي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) ، يقول : [ننكّس] قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها ونعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدى (١).

أقول : وهذا عود بعد عود إلى ما يهيئه الكفر والشرك والجحود في سرائرهم من الآثار وسيعود إليه أيضا في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٢).

قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

أي في أول البعثة والدعوة ، أو في عالم الذر قبل هذا العالم ، ولكلّ من الوجهين وجه.

قوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

فليسوا مستقلين قادرين على ما شاءوا إلّا أن يشاء الله ذلك ، فيملّكهم القدرة

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢١٣.

(٢). الأنعام (٦) : ١٢٢.

١٣٢

والمشيئة ولكنّ الله لا يفعل ذلك لفسقهم وطغيانهم السابق ، وهو يضلّهم ويقلّب أفئدتهم وأبصارهم ، قال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١).

وقال سبحانه : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) (٢) ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٣).

وعلى هذا فالمشيئة في الآية مشيئة اختيار لا مشيئة إجبار واضطرار كما ذكره بعض المفسرين ، ويشعر بما ذكرنا قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ).

أي يجهلون أنّهم ليسوا مطلقي العنان ، وأنّ الأمر بيد الله تعالى.

قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ)

الشيطان هو العاتي المارد الشرير من كلّ شيء ، ولذا سمّيت به الحيّة ، وغلب استعماله في إبليس ، والوحي هو التكليم بنحو الإيماء وزخرف القول : القول المزيّن المموّه ، وزخرفه أي زيّنة.

وفي الخصال : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الأنس على ثلاثة أجزاء : فجزء تحت ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ، وجزء عليهم الحساب والعذاب ، وجزء وجوههم وجوه الآدمييّن وقلوبهم قلوب الشياطين» (٤).

أقول : يريد ـ عليه‌السلام ـ تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف : الكاملين في جانب الخير ، والكاملين في جانب الشر ، والمتوسطين بين القبيلين ، إلّا أنّ

__________________

(١). التكوير (٨١) : ٢٩.

(٢). النحل (١٦) : ٣٧.

(٣). المنافقون (٦٣) : ٦.

(٤). الخصال ١ : ١٥٤ ، الحديث : ١٩٢.

١٣٣

الاشقياء صورتهم في الباطن غير صورتهم في الظاهر ، بل هي صورة شيطان ، والمتوسطون أمرهم معلّق ، فالصورة الإنسانية الدنيوية ليس لها حكم خاص معيّن ، وإنّما الأمور بعواقبها.

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «من لم يجعله الله من أهل صفة الحق فأولئك شياطين الأنس والجن» (١).

قوله : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ)

الصّغوّ كدنوّ : الميل ، ومنه الاصغاء بمعنى الاستماع إذ حقيقته إمالة السمع نحو الكلام لإستماعه ، والاقتراف : الاكتساب.

*

__________________

(١). الكافي ٨ : ١١ ، الحديث : ١.

١٣٤

[أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)]

١٣٥

قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً)

هو كقوله : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) (١) ، وارد على لسان النبيّ ، ثم قوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ) عود إلى السياق السابق.

قوله (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)

تمام الكلمة إنفاذها في الخارج وإخراجها إلى موطن الفعل بعد ما كان قولا وإذا ضمّت الآية إلى الآية السابقة وهو قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) (٢) ظهر أنّ تمام الكلمة بإنزال القرآن مفصّلا ، فكأنّ الكلمة كانت قد سبقت ، والذي سبق على ما يصرّح به القرآن الوعد ببعثة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما في قوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٣) ، وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) (٤) وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا) (٥).

فتمام الكلمة هو بعثة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الكلمة التامّة ويؤيّد ما ذكرناه ما قد ورد في عدّة من الروايات كما في الكافي وغيره أنّ الإمام يكتب بعد ولادته بين عينيه : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ..) (٦) ، وفي بعضها : على عضده الأيمن (٧) ، وفي بعضها

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٠٤.

(٢). الأنعام (٦) : ١١٤.

(٣). الأعراف (٧) : ١٥٧.

(٤). الأنعام (٦) : ٢٠.

(٥). البقرة (٢) : ٨٩.

(٦). الكافي ١ : ٣٨٧ ، الحديث : ٢ ؛ ١ : ٣٨٨ ، الحديث : ٦.

(٧). الكافي ١ : ٣٨٦ ، الحديث : ١ ؛ ١ : ٣٨٧ ، الحديث : ٣.

١٣٦

بين كتفيه (١) ، وهو كناية عن مقام الإمامة ، ففي وجهه وبوجهه يطلع نور الإمامة ، وبعضده يديرها ويدبّر أمرها ، وبما بين كتفية يحمل أثقالها.

قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)

الأخبار في ذيل هذه الآية والآيتين التّالييتن على اختلافها كثيرة فليرجع إلى كتاب الذبائح من الفقه (٢).

قوله سبحانه : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ)

في تفسير القمّي : قال : قال : الظاهر من الإثم : المعاصي ، والباطن : الشرك ، والشك في القلب (٣).

*

__________________

(١). الكافي ١ : ٣٨٧ ، الحديث : ٤.

(٢). الكافي ٦ : ٢٣٧ ؛ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣١٤ ؛ تهذيب الأحكام ٩ : ٧٢ ؛ الإستبصار ٤ : ٨٦.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢١٥.

١٣٧

[أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧)]

قوله سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)

تعقيب لأمر الهداية والضلالة ، وقد مثّل الهداية بأن الذي هداه الله مثله مثل

١٣٨

الميّت الذي أعطاه الله روحا يحييه بها ، ثم أعطاه نورا يمشي به في الناس ، والمشي في الناس كناية عن استيفاء مزايا الحياة الشخصية والإجتماعية ، حيث لا يتحصّل شيء منها للإنسان إلّا مع المشاركة للناس في اجتماعهم ، حتى يكون أحدهم ، ويعيش كما يعيشون جمعا لا فرادى ، وذلك إنّما يتمّ بالنور ، فالبصير إنّما تتمّ له الحياة ببصره ، والأعمى إنّما تتمّ له الحياة ببصر غيره ، ولو فرض إنسان لا بصر له ولا يستفيد ببصر غيره ، لم يبق له إلّا الهلاك ، ولم ينفعه بقية الإحساسات التي غير البصر ، ومثل الكافر مثل من هو فاقد للحياة والنور جميعا ، وقد بيّنه سبحانه بقوله : (فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) ، فلا يشعر بنفسه إذ لا حياة له ولا بمزايا حياته إذ لا نور له ، كما قال سبحانه :

(إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١).

فالمؤمن في نور على نور ، والكافر في ظلمة على ظلمة ، فهو في الظلمات والجمع للتكثير ، وقد قيد الظلمات بقوله : (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) ؛ إذ فرض الخروج سابقا على الظلمة يعطي بصيرة ما قبله ربّما يدبّر لنفسه فيها بعض التدبير ، وفرض الخروج لا حقا يعطي رجاءا ما يوجب قوة في النفس ومقاومة وصبرا على شدة ما ابتلي به نفي فرض الخروج بعض الإنجلاء ، وأمّا من ليس له إلّا الظلمة فليس له إلّا الهلاك ، ويحتمل أن يكون إسقاط المبتدأ في قوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) ، والتقدير : هو في الظلمات للإشارة إلى ذلك.

فهذا ما مثّل الله سبحانه به حال الفريقين وقد بيّنا في أوائل الكتاب أن لهذه الإستعارات في كلامه سبحانه سمة حقيقة ، وبذلك يظهر :

__________________

(١). الزمر (٣٩) : ١٥ ؛ الشورى (٤٢) : ٤٥.

١٣٩

أولا : أنّ المؤمن له حياة وراء الحياة التي للإنسان الطبيعي فله روح أخرى سوى ما يشارك الكافر فيه من الروح ، وسيجيء إن شاء الله بيانه في قوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (١) من سورة الفتح.

وثانيا : إنّ الناس في هذه الآية هم المهتدون من المؤمنين ، وهو ظاهر ، حيث كان المراد من المشي في الناس اللحوق بهم والعيش معهم والحياة فيه ، وقد مرّ نظير هذا المعنى في قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٢) من سورة النساء.

وسيجيء إن شاء الله قريب منه في قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٣) من سورة الشورى.

وثالثا : إنّ الكفر ظلمة وبطلان حياة لا حياة باطلة.

وفي المجمع : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الآية نزلت في عمّار بن ياسر وأبي جهل» (٤).

وفي الكافي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : (مَيْتاً) لا يعرف شيئا ، (نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) إماما يؤتمّ به (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) قال : الذي لا يعرف الإمام» (٥).

أقول : وروى هذا المعنى العيّاشي والقمّي في تفسيريهما بعدّة طرق ، والرواية

__________________

(١). الفتح (٤٨) : ٢٦.

(٢). النساء (٤) : ٥٤.

(٣). الشورى (٤٢) : ٥.

(٤). مجمع البيان ٤ : ١٥١.

(٥). الكافي ١ : ١٨٥ ، الحديث : ١٣.

١٤٠