تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

في أنّ كونه مؤلفا من الحروف أو مفرقا إلى ثلاث وسبعين حرفا لا يوجب كونه من حروف الهجاء ، إذ من الواضح أنّ هذه الحروف التي هي انحاء من الصوت لا يمكن تصرّفها في شيء من الأمور الخارجية ، فضلا عن نحو إحياء الموتى وإحضار سرير بلقيس والأمور العظام وأقسام التصرف في نظام الوجود ، بل المراد بالإسم حقيقة هذه الأسماء ، وبالإسم الأعظم الحقيقة المنتهية إليها جميع هذه الحقائق ، والمراد بإعطائه لأحد ، جعله متّصلا بذلك الوجه من وجوه الأسماء كما أنّ المضطرّ المنقطع في الدعاء يستجاب له باتّصاله بما دعاه من أسماء الله تعالى.

وفي التوحيد : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في خطبة له ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ ربّي لطيف اللطافة ، فلا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، قبل كلّ شيء لا يقال شيء قبله ، وبعد كل شيء لا يقال له بعد ، شاء الأشياء لا بهمّة ، درّاك لا بخديعة ، هو في الأشياء كلّها غير متمازج بها ولا بائن عنها ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، متجدّ لا باستهلال روية ، بائن لا بمسافة ، قريب لا بمداناة ، لطيف لا بتجسم ، موجود لا بعد عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدّر لا بحركة ، مريد لا بهمامة ، سميع لا بآلة ، بصير لا بأداة» (١).

أقول : هو ـ عليه‌السلام ـ كما ترى يثبت أصل المعنى وينفي خصوصيات المصداق ونواقص المادّة ، وهو الذي قدّمنا بيانه سابقا.

وهذه المعاني واردة في أحاديث كثيرة جدّا مرويّة عن علي والحسن

__________________

(١). التوحيد : ٣٠٨ ، الحديث : ٢.

٣٨١

والحسين والباقر والصادق والكاظم والرضا ـ عليهم‌السلام ـ في خطب كثيرة وغيرها لم ننقلها اختصارا ، من أرادها فليرجع إلى جوامع الأخبار والله الهادي.

قوله سبحانه : (فَادْعُوهُ بِها)

الدعاء بها : هو التوجه إليه سبحانه بما يختصّ به منها ، وليس مجرّد النداء بحرف النداء فهو مساوق لمطلق العبادة والخضوع كما يلوح من قوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (١) ، فذكر الدعاء أولا ، ثمّ وضع موضعه العبادة إيماءا إلى اتّحادهما ، وكذا قوله سبحانه : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢) ، والدين : العبادة.

ومن موارد اطلاق الدعاء بمعنى العبادة قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ* وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٣).

قوله سبحانه : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ)

الإلحاد : هو الميل عن الوسط إلى جانب ، ومنه اللحد في القبر ، سمّي به ؛ لأنه ألحد به وميل عن وسط القبر إلى جانب منه ، وظاهر إضافة الأسماء إلى الضمير أنّ الإلحاد إنّما هو في الأسماء التي له واقعا لا في تسميته بما لا يليق بساحة قدسه.

__________________

(١). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٢). غافر (٤٠) : ٦٥.

(٣). الأحقاف (٤٦) : ٥ ـ ٦.

٣٨٢

فالإلحاد هو تسمية غيره تعالى بأسمائه الحسنى المختصة به ، كتسميتهم الأصنام والأوثان آلهة وأربابا ومصادر للخلق والرزق ، وكذا تسمية غيره تعالى وتوصيفه بما يختصّ به سبحانه كالخلق والرزق والملك والنفع والضرّ والأخذ والإعطاء فكل ذلك من قبيل الالحاد.

ويؤيّد ذلك تذييل الكلام بقوله تعالى : (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، حيث يدلّ على أنّ الإلحاد عمل منهم ، ولو كان مجرّد التسمية لكان حق الكلام أن يقال : ما كانوا يصفون ، كما قال في مورد آخر : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (١).

وفي التوحيد : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «وله الأسماء الحسنى التي لا يسمّى بها غيره ، وهي التي وصفها في الكتاب فقال : (فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) جهلا بغير علم ، فالذي يلحد في أسمائه بغير علم يشرك وهو لا يعلم ، ويكفر به وهو يظنّ أنّه يحسن ، ولذلك قال : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢) ، وهم الذين يلحدون في أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها (٣).

وفي الكافي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه ، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ عن أن تدركه والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه والأبصار عن الإحاطة به ، جلّ عمّا يصفه الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون» (٤) ، الحديث.

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٣٩.

(٢). يوسف (١٢) : ١٠٦.

(٣). التوحيد : ٣٢٤ ، الحديث : ١.

(٤). الكافي ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، الحديث : ٣.

٣٨٣

أقول : ظاهر الحديث أنّ الله سبحانه حيث لا يحاط به علما فلا يوصف بشيء يدركه العقل من أوصافه إلّا بما وصف به نفسه ، وهذه هي المسأله المعروفة أنّ أسماء الله تعالى توقيفيّة ويمكن تفسيرها ب : أحد وجهين :

أحدهما : إنّ عامة العقول حيث إنّها قاصرة عن نيل المعارف الإلهيّة الحقّة ـ على ما هي عليها تفصيلا ـ إلّا النادر من العقول السليمة عن غواشي الأوهام المتدرّبة بالمعارف الحقيقيّة لم يؤمن من توصيفه تعالى بها بما لا يليق بساحة قدسه وكبرياء ذاته ، فكان القول فيه بما تدركه هذه العقول قولا بغير علم الممنوع عقلا وشرعا كما قال سبحانه : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١) ، ولهذا ورد التوقيف الشرعي.

إلّا أنّ التوصيف الكلامي لا يخلو نوعا عن قرائن تصحّح المعنى وتجرّده عمّا لا يليق بجلاله تعالى ، بخلاف التسمية فإنّها مطلقة لا قرينة معها ، ففرق بين أن نسمّيه تعالى : (مضّلا) كما يسمّى : (بالرحمان) ، وبين أن يقال : يهدي به من يشاء ويضل من يشاء (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢).

وكذا فرق بين أن يسمّى بالرامي وأن يقال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣) وأن يسمّى مهلكا وأن يقال : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (٤) ، وهكذا.

ولهذا حكم الشرع حكما كليّا بتوقيفيّة الأسماء دون التوصيفات على قرائن التنزيه.

__________________

(١). النحل (١٦) : ٧٤.

(٢). البقرة (٢) : ٢٦.

(٣). الأنفال (٨) : ١٧.

(٤). الأنعام (٦) : ٦.

٣٨٤

وثانيهما : إنّ الذات المقدّسة ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ أعلى وأرفع من أن يحيط به مفهوم اسم أو يتقيّد بمفهوم وصف ، وكلّ ما يناله فيه العقل فهو دون الذات حتى هذا التوصيف والبيان ، ومقتضى هذا أن لا يوصف بوصف ولا يسمّى باسم ، غير أنّه سبحانه وصف نفسه بأوصاف رحمة منه وفضلا ، فالواجب أن يقتصر عليه ولا يتعدّى عنه.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ في الرواية : «أنّى تدرك الذي تعجز الحواس» (١) ، إشارة إلى هذا المعنى ، وإليه يشير عدّة من الروايات السابقة.

كما في التوحيد : من رواية عبد الأعلى عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : تسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه (٢) ، والموصوف غير الواصف (٣) ، الحديث.

وما في النهج في خطبة له ـ عليه‌السلام ـ : «وكمال توحيده نفي الصفات عنه» (٤) ، الخطبة.

*

__________________

(١). هكذا في المخلوط لكن عبارة الحديث : على مامر ـ هكذا : «أنّى يوصف الذى تعجز الحواس ان تدركه».

(٢). في المصدر : + «والأسماء غيره».

(٣). التوحيد : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، الحديث : ٧.

(٤). نهج البلاغة : ٣٩ ، الخطبة : ١٠.

٣٨٥

[وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)]

قوله سبحانه : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ)

في المجمع : عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «هذه لكم وقد أعطي قوم موسى مثلها».

٣٨٦

أقول : يشير ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) (٢).

وفي تفسير القمي : هذه الآية لآل محمد وأتباعهم (٣).

أقول : وفي معنى الروايتين بعض روايات أخر.

قوله سبحانه : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)

الإستدراج هو الإستصعاد ، أو الإستنزال درجة فدرجة ، وكون الإستدراج من حيث لا يشعرون ، وكونه كيدا بإمهال يشعر بأنّ هذا التقريب خفيّا غير ظاهر لهم ، بل مستبطنا فيما يشتغلون به من اللهو والمعاصي فهو تجديد نعمة بعد نعمة حتى لا يتفرّغوا للتأمّل في وبال أمرهم ، كما قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ* ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٤).

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «هو العبد يذنب الذنب فتجدّد له النعمة تلهيه تلك النعمة عن الإستغفار من ذلك الذنب» (٥).

وفي الكافي ـ أيضا ـ : عنه ـ عليه‌السلام ـ : «إذا أراد الله بعبد خيرا فأذنب ذنبا

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٥٩.

(٢). مجمع البيان ٤ : ٣٧٨.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٤٩.

(٤). الأعراف (٧) : ٩٤ ـ ٩٥.

(٥). الكافي ٢ : ٢٥٣ ، الحديث : ٣.

٣٨٧

أتبعه بنقمة ويذكّره الإستغفار ، وإذا أراد بعبد شرّا فأذنب ذنبا فأتبعه (١) بنعمة لينسيه الإستغفار ويتمادى بها ، وهو قول الله عزوجل : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بالنعم عند المعاصي» (٢).

أقول : والإستدراج مثل الكيد نوع من الإضلال المنسوب إليه تعالى ، وقد تقدم الكلام فيه في سورة البقرة وغيرها.

قوله سبحانه : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)

الإملاء : هو الإمهال ، والكيد : إيصال الشرّ في صورة الخير.

فإن قلت : ما وجه الإلتفات من التكلم في قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) إلى ما في قوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)؟

قلت : الإملاء إمهالهم حتى يتمتعوا إلى أجل مسمّى فيؤخذوا عنده ، فيكون الكلام في معنى قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (٣) ، وهذه الكلمة هي قوله سبحانه حين إحباط آدم إلى الدنيا : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٤) ، وهو القضاء الإلهي ، والقضاء مختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره ، وهذا بخلاف الإستدراج الذي هو إيصال النعمة بعد النعمة وتجديدها ، فإنّها نعم مفاضة بالوسائط من الملائكة والأمر.

فلهذا أتى في الإستدراج بصيغة المتكلم مع الغير ، وبدّله في الإملاء وما فيه

__________________

(١). في نسختي : «أتبعه» ، «منه ـ رحمه‌الله ـ».

(٢). الكافي ٢ : ٢٤٥ ، الحديث : ١.

(٣). الشورى (٤٢) : ١٤.

(٤). البقرة (٢) : ٣٦.

٣٨٨

من الكيد إلى صيغة المتكلم وحده.

قوله سبحانه : (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

وقد مرّ وسيجيء معنى الملكوت.

وفي الآية دلالة على أنّ مشاهدة الملكوت ممّا يمكن أن يناله الإنسان ، وقد مرّ استيفاء القول في ذلك في قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (١) ، الآية من سورة المائدة ، وقد روى الفريقان عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السموات والأرض» (٢).

قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها)

الإرساء : الإثبات ، فالمرسي المستّقر ، والتجلية : الإظهار ، وعلم الساعة ممّا استأثر الله به في علمه.

وقوله تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

يعنى به أنّ هذه الموجودات لا تطيق حمل علمه ، وبذلك يظهر أنّ العلم بها من غير جنس هذه العلوم الذهنيّة ، وإنّ العلم الحصولّى الذهني لا يتعلّق بها وهو

__________________

(١). المائدة (٥) : ١٠٥.

(٢). تفسير نور الثقلين ١ : ٧٣٥ ، الحديث : ١٤٤ ؛ نور البراهين ١ : ١٨٦ ؛ الرسائل ، للشهيد الثاني : ١٣٨ ؛ عوالي اللثالي ٤ : ١١٣ ، الحديث : ١٧٤ ؛ المحجة البيضاء ٢ : ١٢٥ ؛ مسند أحمد بن حنبل ٢ : ٣٥٣ ؛ في مصادر العامة : «هذه الشياطين على أعين بني آدم ، لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض ، ولو لا ذلك لرأوا العجائب».

٣٨٩

كذلك ، وبه يشهد قوله ثانيا : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، حيث إنّ ظاهره أنّ الناس لو علموا أنّ الساعة لا يعلم بها غير الله لم يلحّوا في السؤال عن وقتها ولكن أكثرهم لا يعلمون.

فالساعة وإن كان العلم بها مختصا به تعالى لكنّ العلم باختصاص علمه به غير مختص ، بل يمكن أن يوجد عند القليل من الناس.

قوله سبحانه : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)

لمّا أجاب سبحانه بقوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ، لم يقنعهم ذلك جوابا وكأنّهم تخيّلوا أنّه وإن كان العلم بها عند الله لكن يمكن أن يعلّمه رسوله لمكان القرب ، ويكون حال العلم بها حال العلم بالغيب المختصّ به تعالى وقد قال سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١) ، ولذلك عادوا للسؤال بعد السؤال فكرّر ثانيا وقيل : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) ، والحفيّ : العالم الذى يتعلم الشيء باستقصاء.

وقوله : (عَنْها) ، كأنّه متعلق بقوله : (يَسْئَلُونَكَ) ، والمعنى يسألونك عنها كأنك عالم بها مع أنّك أجبتهم بالأياس والحرمان ، وبيّنت لهم السبب في ذلك بأنّها ممّا لا يطيق علمه السموات والأرض ثم أمر بالجواب ثانيا فقيل : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، لوجه اختصاصه بالله تعالى ، يعني أن الجواب هو الجواب الأوّل وليس أمر العلم بالساعة مما يختلف بالقرب والبعد من الله حتّى يمكن للمقربين تعلّمه ، ولذلك بدّل اسم الربّ باسم الجلالة

__________________

(١). الجنّ (٧٢) : ٢٦ ـ ٢٧.

٣٩٠

لما في اسم الرب من الدلالة على الرحمة والتربية والشفقة ، فسبيل البيان في الآية نظير ما إذا سأل المريض الطبيب عن مسألة غامضة رياضيّة ، فيجيبه بأنّها خارجة عن صناعتي لأنّها غير مربوطة بمزاج الأبدان ، ثم يعيد السؤال ثانيا لحسن ظنّه بحذاقة الطبيب فيقول الطبيب : إنّها خارجة عن صناعتي وغير مرتبط بحذاقتي لكنك لا تعلم.

قوله سبحانه : (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ)

في المعاني وتفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «يعني الفقر» (١).

وفي تفسير القمّي : قال ـ عليه‌السلام ـ : «كنت اختار لنفسي الصحّة والسلامة» (٢).

أقول : وهي مصاديق والكلمة أعمّ.

*

__________________

(١). معاني الاخبار : ١٧٢ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٤٣ ، الحديث : ١٢٤.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢٤٩.

٣٩١

[هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)]

٣٩٢

قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)

القصّة قابلة الإنطباق لآدم وحواء وعلى هذا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ، خطاب للبشر من نفس واحدة وهو (آدم) ، (وَجَعَلَ مِنْها) ، أي من جنسها زوجها (حواء) (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ، ويتمّ أمر التقدير بما قدّر الله من الذريّة ، (فَلَمَّا تَغَشَّاها) ، أي جامعها ، (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) بالنطفة ، (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) ، بالحمل لنموّ الجنين في بطنها (دَعَوَا) معا (اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) ، سليما قابلا للبقاء بريئا عن النقص والعاهة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، لا نعتمد على سبب دونك ، ولا نركن إلى شيء سواك ، ولا نغفل من جهته عنك.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) ، أوجب الاهتمام في شأنه والعناية في تشبّثهما بالأسباب العاديّة في حفظه وتربيته أن غفلا عن الله بعض الغفلة ، فاشتغل قلباهما بأشياء غير الله ، وجعلا هذه الامور شركاء لله فيما آتيهما من الولد الصالح (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، آدم وحواء وسائر بني آدم.

هذا ويشهد بما ذكرناه من المعنى ما مرّ في أوائل السورة : أنّ الشاكرين هم المخلصون الذين لا سبيل لإبليس عليهم.

وفي تفسيرى العيّاشي والقمّي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما كان شركهما شرك طاعة لا شرك عبادة» (١).

أقول : قد تبيّن معناها بما مرّ من البيان ، وأمّا ما روته العامّة من قصّة شركهما فممّا لا يليق بساحة الأنبياء ، وقد نصّ القرآن على هداية آدم ولا يجتمع الشرك مع الهداية ، قال تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢).

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ٤٣ ، الحديث : ١٢٥ ؛ تفسير القمّي ١ : ٢٥٣.

(٢). طه (٢٠) : ١٢٢.

٣٩٣

وربّما قيل : إن الخطاب في الآية لقريش والنفس الواحدة أبوهم قصيّ ، والشرك شركهم ، ولا دليل عليه.

قوله سبحانه : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)

لم يتقيّد بشيء فهو الصلاح المطلق ، وهذا صريح في كون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من الصالحين.

*

٣٩٤

[خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)]

قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ)

العفو : ضد الجهد ، اي خذ ما يسهل أخذه من أفعالهم وأخلاقهم وغير ذلك.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله أدّب رسوله بذلك ،

٣٩٥

أي خذ منهم ما طهر وما تيسّر قال : (والعفو) الوسط» (١).

قوله سبحانه : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)

العرف : ما يعرفه الناس ولا ينكرونه من الفعل الجميل والخلق الحميد.

وفي العيون : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله أمر نبيّه بمداراة الناس فقال :(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)» (٢).

وفي الجوامع : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «أمر الله نبيّه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن [آية] ، أجمع لمكارم الأخلاق منها» (٣).

قوله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ)

النزغ : الوسوسة ، قال الزمخشري : النزغ والنسغ والنخس والغرز بمعنى واحد (٤).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا)

في مقام التعليل للأمر بالإستعاذة ، ومنه يظهر أنّ الاستعاذة هو ما للقلب ، واللفظ ذريعة يحفظ بها المعنى ويثبّت به ما في القلب.

وفي الكافي وتفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «هو العبد يهمّ به الذنب ثم يتذكّر فيمسك» (٥).

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ٤٣ ، الحديث : ١٢٦.

(٢). عيون الأخبار ١ : ٢٥٦ ، الحديث : ٩.

(٣). جوامع الجامع ١ : ٧٣٢.

(٤). الكشاف ٢ : ١٩٠.

(٥). الكافي ٢ : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ ، الحديث : ٧ ؛ تفسير العياشي ٢ : ٤٤ ، الحديث : ١٣٠ ، وفيه : «يتذكر فيدعه».

٣٩٦

وفي تفسير القمّي : قال : إذا ذكّرهم الشيطان المعاصي وحملهم عليها يذكرون اسم الله (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (١).

قوله سبحانه : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)

يمكن أن يكون ضمير الجمع للمشركين المدلول عليه سابقا بقوله : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢) ، والمراد بالإخوان الشياطين ، فيكون الآيات الثلاث أعني من قوله : (خُذِ الْعَفْوَ) إلى قوله (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) ، معترضة ، وعدم الإقصار : التمادي وعدم الرجوع.

قوله سبحانه : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها)

اجتبى الشيء : أي جباه وجمعه لنفسه ، فمعنى (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) ، لو لا افتعلتها وجمعتها لنفسك ، فإنّهم كانوا يقولون : إنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يختلق القرآن من غير وحي من الله سبحانه!.

قوله سبحانه : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)

في الفقيه : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إن كنت خلف إمام فلا تقرأنّ شيئا في الأولتين وأنصت لقرائته ولا تقرأنّ شيئا في الأخيرتين ، فإن الله يقول للمؤمنين :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ، يعني في الفريضة خلف الإمام (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)» (٣).

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٥٣.

(٢). الأعراف (٧) : ١٩١.

(٣). من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٩٢ ، الحديث : ١١٦٢.

٣٩٧

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «يجب الإنصات للقرآن في الصلاة و [في] غيرها ، وإذا قرأ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والإستماع» (١).

أقول : ظاهر الآية مطلق يشمل الصلاة وغيرها ، وأمّا استفادة الوجوب الإصطلاحّى ، فراجع إلى الفقه.

قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)

الضراعة : هي التملّق وكأنّها نوع خاص من التملّق ، وهو الذي يكون عن خشوع وذلّة من النفس ، وهو يستلزم نوع حركة وميل إلى المطلوب.

والخيفة : بناء نوع من الخوف ، وهو حال وجداني يوجب الحذر من المخوف منه ، وهو يستلزم نوع حركة وميل عن المحذور ، فيكون حال النفس مع التضرع والخيفة (٢) حال الفارّ من الشيء إليه.

وصفاته تعالى حيث تنقسم إلى صفات الجمال وصفات الجلال فهو الإنفعال عن كلّ من صفتي الجمال والجلال بحسب ما يقتضيه والعياذ من غضبه إلى رحمته.

وبوجه آخر الخوف إنّما يكون من شرّ محتمل ولا شرّ في ناحيته سبحانه ، وإنّما ينشأ الشرّ من ناحيتنا ، ثم يكون سببا للعقوبة الإلهيّة عن محض العدل ، فالخوف من الله واتّقاء سخطه في الحقيقة خوف من النفس ، فيكون مآل الذكر تضرعا وخيفة إلى الفرار من النفس إلى الله ، قال تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ٤٤ ، الحديث : ١٣٢.

(٢). في الاصل : «والخفية» والصحيح ما أثبتناه في المتن.

٣٩٨

جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (١).

وقوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)

يدلّ على أنّ المراد بذكره في النفس غير الذكر القولي.

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «من ذكرني سرّا ذكرته علانية (٢).

وفي الكافي أيضا : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «من ذكر الله في السرّ فقد ذكر الله كثيرا ، [إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية و] لا يذكرونه في السرّ فقال الله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٣) (٤).

أقول : وهي استفادة لطيفة.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي : عن أحدهما ـ عليه‌السلام ـ : «لا يكتب الملك إلا ما يسمع» (٥).

وقال الله عزوجل : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) ، فلا يعلم ثواب ذلك الذكر في نفس الرجل غير الله (٦) [عزوجل] لعظمته (٧).

أقول : وقد مرّ عدّة من روايات الذكر في قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٨) ، من سورة البقرة.

__________________

(١). النور (٢٤) : ٣١.

(٢). الكافي ٢ : ٥٠١ ، الحديث : ١.

(٣). النساء (٤) : ١٤٢.

(٤). الكافي ٢ : ٥٠١ ، الحديث : ٢.

(٥). في الكافي : «سمع» ؛ في تفسير العياشي : «أسمع نفسه»

(٦). في تفسير العياشي : «في نفس العبد لعظمته إلا الله»

(٧). الكافي ٢ : ٥٠٢ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٤٤ ، الحديث : ١٣٤.

(٨). البقرة (٢) : ١٥٢.

٣٩٩

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)

في مورد التعليل للحكم في الآية السابقة ، فيكون المعنى واذكر ربّك حتى تدخل في زمرة الذين عند ربّك.

ومن هنا يظهر أنّ الكون عند الله سبحانه لا يختصّ بالملائكة وهو ظاهر لمنافاته التعليل ، وبذلك يتأيّد ما في تفسير القمّي : يعني الأنبياء والرسل والأئمّة (١).

أقول : وقد تقدّم ما يتعلّق بالمقام في قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢) ، من سورة البقرة ، وسيأتي بقية ما يتعلّق بها في سورتي (الفرقان) و (حم السجدة).

وفي الآية دلالة على أنّ الذكر المذكور عبادة ، وأنّها تسبيح ، وأنّها سجدة والله العالم وله الحمد ، وعلى رسوله وآله الصلاة والسلام.

تم ليلة الأربعاء العاشر من شهر جمادى الثانية من شهور سنة ١٣٦٩.

*

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٥٣.

(٢). البقرة (٢) : ١٥٢.

٤٠٠