تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)]

قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ)

ستأتي قصته ـ عليه‌السلام ـ في سورة هود ـ إن شاء الله ـ.

قوله : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً)

ستأتي قصته ـ عليه‌السلام ـ في سورة (هود) إن شاء الله.

قوله : (قالَ يا قَوْمِ)

فإن قلت : لم حذف العاطف من قوله : (قالَ يا قَوْمِ) ، ولم يقل (فقال) كما في قصة نوح؟

قلت : هو على تقدير سؤال سائل.

قال : فما قال هود؟

فقيل : (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) ، وكذلك : (قالَ الْمَلَأُ) ، كذا قاله الزمخشري (١) ، ولا يجري الكلام في قصة نوح ؛ لأنّها أوّل قصّة ، وأمّا قصة هود فهي قصّة بعد قصة تهيّئ ذهن المخاطب لذلك السؤال.

__________________

(١). تفسير الكشاف ٢ : ١١٦.

٢٨١

قوله سبحانه : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

لما كان في هذا الملأ من يؤمن بالله ويستر إيمانه كما سيأتي في القصة ، بخلاف الملأ من قوم نوح ، قال هاهنا في قصة هود : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) ، وقال في قصة نوح : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) ، كذا ذكره الزمخشري (١).

قوله : (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا)

كأنّه كناية عن قطع الأصل ، فإنّ الدابر هو الذي يأتي في آخر القوم ودبرهم ، سمّى به الأصل لأنّه آخر ما ينتهي إليه الشجرة ، شبّه إهلاكهم بقطع الشجرة ، ثم شبّه اصل الشجرة بدابر القوم فهي كناية مركبة.

*

__________________

(١). تفسير الكشاف ٢ : ١١٦.

٢٨٢

[وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ

٢٨٣

مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)]

قوله سبحانه : (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً)

ستأتي قصته ـ عليه‌السلام ـ في سورة (هود) إن شاء الله.

قوله سبحانه : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)

بوّأه : نزّله وأسكنه.

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا)

من عثا يعثو ، بمعنى فسد و (آلاءَ) جمع ألى بمعنى النعمة.

وقوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)

يمكن أن يكون بدل الكل من الكلّ ، وضمير منهم راجع إلى قومه فيفيد إيمان المستضعفين جميعا ويمكن أن يكون بدل البعض ، والضمير راجعا إلى الذين استضعفوا.

قوله سبحانه : (الرَّجْفَةُ)

الرجفة : الإضطراب الشديد في الأرض والصيحة مع الزلزلة ، والجثوم : القعود والهمود من غير حراك.

قوله سبحانه : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ)

ستأتي قصته في سورة هود ـ إن شاء الله تعالى ـ.

٢٨٤

[وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً

٢٨٥

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)]

قوله سبحانه : (أَخاهُمْ شُعَيْباً)

ستأتي قصته في سورة (هود) إن شاء الله تعالى.

قوله سبحانه : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)

غنى بالمكان ـ من باب علم ـ : إذا أقام فيه.

٢٨٦

وقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) مقابلة لقول الملأ من قومه : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

والقصر للقلب.

قوله : (فَكَيْفَ آسى)

الأسى : شدة الحزن.

قوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ)

بيان لمعنى الإستدراج ، وسيأتي في أواخر السورة.

وقوله : (فَاعْفُوا)

أي كثروا من عفا النبات وعفا الشعر والشحم إذا كثر.

قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ)

من آيات الذر ، وسيأتي بيانها جملة في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (١) ، الآيات في أواخر السورة.

قوله سبحانه : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)

في الكافي : عن موسى بن جعفر ـ عليهما‌السلام ـ : «إنّها نزلت في الشاكّ» (٢).

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٧٢.

(٢). الكافي ٢ : ٣٩٩ ، الحديث : ١.

٢٨٧

وفيه أيضا : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال لأبي بصير : يا أبا بصير! «إنكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا ، وإنكم لم تبدلّوا بنا غيرنا ولو لم تفعلوا لعيّركم الله ، كما عيّر غيركم ، حيث يقول جلّ ذكره : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ)» (١).

*

__________________

(١). الكافي ٨ : ٣٥ ، الحديث : ٦.

٢٨٨

[ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ

٢٨٩

ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)]

قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ)

فرعون لقب كان يقع لمن ملك مصر كخديو.

قوله : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ)

قرء «على» حرف جر و «عليّ» بالتشديد جارا ومجرورا ، والظاهر أنّ الحقيق بمعنى اللائق ، والكلام مسوق للحصر ، والمعنى : أنا حقيق بقول الحق فقط ، أو أنّ قول الحق حقيق بي فقط ، وجيء ب (على) دون (الباء) اشعارا باستعلاء الحق تعظيما لأمر الله سبحانه والقول فيه.

قوله : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)

وكان هذا من عمدة رسالته إليهم ، فإنّه بعث لنجاة بني إسرائيل كما قال سبحانه : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) (١).

وفي الإكمال : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «إنّ الله أرسل الأسباط

__________________

(١). القصص (٢٨) : ٥.

٢٩٠

إثني عشر بعد يوسف ، ثم موسى وهرون إلى فرعون وملائه إلى مصر وحدها» (١).

أقول : والرواية لا تنافي كون موسى ـ عليه‌السلام ـ من أولي العزم المبعوثين إلى جميع الدنيا على ما ينطق به روايات أخر ؛ لإمكان عموم نبوّته لجميع الدنيا واختصاص أحكامه الخاصة بمصر وبني اسرائيل ، وسيجيء تمام الكلام المتعلق بالمقام إن شاء الله.

قوله : (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها)

الإتيان بالآية إظهارها ، فلا يلزم اتحاد الشرط والجزاء.

قوله : (فَأَلْقى عَصاهُ)

في تفسير العياشي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «كانت عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب ، ثم صارت إلى موسى بن عمران ، وإنّها لتروع وتلقف ما يأفكون وتصنع ما تؤمر» (٢) ، الحديث.

أقول : وروى نظيره المفيد في الإختصاص (٣).

قوله : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ)

من الإرجاء بمعنى التأخير.

وقوله : (حاشِرِينَ)

من الحشر بمعنى الجمع.

__________________

(١). اكمال الدين : ٢٢٠ ، الحديث : ١.

(٢). تفسير العياشي ٢ : ٢٤ ـ ٢٥ ، الحديث : ٦٤.

(٣). الإختصاص : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، مع اختلاف يسير.

٢٩١

[وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ

٢٩٢

فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)]

قوله : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)

في تفسير القمي قال : كان فرعون يعبد الأصنام ، ثمّ ادّعى بعد ذلك الربوبية (١).

أقول : والتاريخ يشهد به.

وفي المجمع : نسب إلى علي قراءة : إلهتك بكسر الهمزة مصدر على وزن فعالة بكسر الفاء بمعنى العبادة (٢).

قوله سبحانه : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ)

المراد بهذه الملكيّة بقرينة السياق الملك الحقيقي من سنخ ملكه لجميع الخلق ، فإيراث الملك لمن يشاء تمليكه لغيره تمليكا مجازيا ، (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، وبذلك استدلّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لخروج الأمر من فرعون والقبط ورجوعه إلى قومه لمظلوميتهم وتقويهم ان اتّقوا لكن بنحو العموم فأدّوا إليه ببثّ الشكوى تفصيلا (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) ، كالآيس من النجاة فسلّاهم ـ عليه‌السلام ـ بالتصريح فقال : (عَسى رَبُّكُمْ).

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢). مجمع البيان ٤ : ٣٣٤.

٢٩٣

وفي تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ، قال : «فما كان لله فهو لرسوله ، وما كان لرسول الله فهو للإمام بعد رسول الله» (١).

أقول : وفي معناه غيره من الروايات ، والرواية من قبيل استنتاج التشريع من التكوين.

قوله سبحانه : (بِالسِّنِينَ)

جمع سنة بمعنى الجدب والقحط ، وأصله السنة بمعنى العام غلب في عام الجدب لكثرة ذكره والتاريخ به ، وبهذا المعنى اشتق منه فقيل أسنت القوم إذا مسهّم القحط والجدب.

قوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ)

في تفسير القمي : قال : الحسنة : ـ هاهنا ـ : الصحة والسلامة والأمن والسعة ، والسيئة ـ هنا ـ الجوع والخوف والمرض (٢).

قوله : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ)

أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله سبحانه من المشيئة والحكمة ، وأصل الطائر : أنّهم كانوا يتشأمون وربما يتفاءّلون بالطائر ، فسمّي سبب الشأمة طائرا ثم اشتق منه تصاريف مثل الطيرة والتطيّر ونحو ذلك.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ٢ : ٢٥ ، الحديث : ٦٥.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢٣٥.

٢٩٤

قوله سبحانه : (الطُّوفانَ)

في تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّه سئل عن الطوفان فقال : «هو طوفان الماء والطاعون» (١).

قوله : (الرِّجْزُ)

وهو العذاب وفي تفسير العياشي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «الرجز هو الثلج» (٢).

أقول : وروى نظيره في المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٣).

قوله سبحانه : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ)

في المجمع : عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : «لما سجد السحرة وآمن به الناس ، قال هامان لفرعون : إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه ، فحبس كلّ من آمن به من بني اسرائيل ، فجاء إليه موسى ، فقال له : خلّ عن بني إسرائيل ، فلم يفعل ، فأنزل الله عليهم في تلك السنة الطوفان فخرب دورهم ومساكنهم حتى خرجوا إلى البريّة وضربوا الخيام ، فقال فرعون لموسى : ادع ربّك حتى يكفّ عنّا الطوفان حتى أخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك ، فدعا موسى ربّه فكفّ عنهم الطوفان ، وهمّ فرعون أن يخلّي عن بني إسرائيل فقال له هامان : إن خلّيت عن بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك ، فقبل منه ولم يخلّ عن بني إسرائيل.

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ٢٥ ، الحديث : ٦٧.

(٢). تفسير العياشي ٢ : ٢٥ ، الحديث : ٦٨.

(٣). مجمع البيان : ٤ : ٢٣٥.

٢٩٥

فأنزل الله عليهم في السنة الثانية الجراد فجردت كل شيء كان لهم من النبت والشجر حتى كانت تجرّد شعرهم ولحيتهم ، فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا وقال : يا موسى ادع لنا ربّك أن يكفّ عنّا الجراد حتى أخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك ، فدعاه موسى ربّه فكفّ عنهم الجراد فلم يدعه هامان أن يخلّي عن بني إسرائيل.

فأنزل الله عليهم في السنة الثالثة القمّل فذهبت زروعهم وأصابتهم المجاعة ، فقال فرعون لموسى : إن رفعت عنّا القمّل كففت عن بني إسرائيل ، فدعا موسى ربّه حتى ذهب القمّل ، وقال : اوّل ما خلق الله القمّل في ذلك الزمان فلم يخلّ عن بني إسرائيل.

فأنزل الله عليهم بعد ذلك الضفادع ، فكانت تكون في طعامهم وشرابهم ، ويقال إنّها تخرج من أدبارهم وآذانهم وآنافهم فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فجاءوا إلى موسى ، فقالوا : ادع الله يذهب عنا الضفادع فإنّا نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ربّه فرفع الله عنهم ذلك ، فلمّا أبوا أن يخلّوا عن بني إسرائيل ، حوّل الله ماء النيل دما ، فكان القبطي يراه دما والإسرائيلي يراه ماءا ، فإذا شربه الإسرائيلي كان ماءا وإذا شربه القبطي يشربه دما ، فكان القبطي يقول للإسرائيلي : خذ الماء في فمك وصبّه في فمي فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دما فجزعوا من ذلك جزعا شديدا.

فقالوا لموسى : لئن رفع عنّا الدم لنرسلنّ معك بني إسرائيل ، فلمّا رفع الله عنهم الدم غدروا ولم يخلّوا عن بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الرجز وهو الثلج ولم يروه قبل ذلك ، فماتوا فيه وجزعوا وأصابهم ما لم يعهدوه قبله.

فقالوا : (يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ

٢٩٦

لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ، فكشف عنهم الثلج فخلّى عن بني إسرائيل ، فلمّا خلّى عنهم اجتمعوا إلى موسى ، وخرج موسى من مصر واجتمع إليه من كان هرب من فرعون ، وبلغ فرعون ذلك فقال له هامان : قد نهيتك أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد استجمعوا إليه ، فجزع فرعون وبعث في المدائن حاشرين وخرج في طلب موسى» (١).

أقول : ورواه القمي في تفسيره مقطوعا (٢).

قوله سبحانه : (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا)

اللام للعهد يعني : الأرض المقدّسة وهي أرض مصر ونواحي الشام ولبنان.

وقوله : (وَدَمَّرْنا)

التدمير : الإهلاك والتخريب.

*

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٢٤٠.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٣٧.

٢٩٧

[وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها

٢٩٨

سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)]

وقوله : (مُتَبَّرٌ)

التتبير : التدمير.

قوله سبحانه : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)

الرؤية البصرية مستحيلة في حقه سبحانه ؛ لاختصاصها بالجسمانيات ونزاهة ساحته سبحانه عن ألواث الجسمانية والإمكان ، فهو محال بالذات ، لكن الاستدراك الواقع في الآية أعني قوله تعالى : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) ، يشهد على أنّ الرؤية التي سألها ـ عليه‌السلام ـ لم تكن محالا ذاتيّا ، بل لعدم استطاعته ـ عليه‌السلام ـ وعدم تحمّله لذلك ؛ حيث إنّ الجبل على عظمته وقوّته لم يستطع ذلك ، ولم يقو عليه ، فكيف بموسى وهو بدن عنصري ضعيف ، ولو لم يكن هذا التجلي الذي يحكيه سبحانه من سنخ ما كان يسأله موسى ـ عليه‌السلام ـ لم يتمّ أمر البيان ، ولكان نظير أن يقال : أنظر إني أريد أن أدكّ الجبل ، فإن لم يندكّ وعصى عن إرادتي فسوف تراني.

ومن المعلوم أنّ هذا لا يفيد وضوحا في بيان عدم الرؤية ، على أنّ المحال

٢٩٩

الذاتي لا يحتاج إلى بيان آخر ، وقوله : (لَنْ تَرانِي) كاف في معناه أحسن كفاية.

وأيضا قوله سبحانه : بعد إفاقة موسى وتوبته حيث قال : (يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، وارد مورد الإمتنان على موسى ـ عليه‌السلام ـ وأمره بأن يقنع بما آتاه الله من الرسالات والتكليم ورزقه من التقرّب ، ولا يستزيد بسؤال ما ليس له ، وهذا لا يصحّ إلّا فيما هو ممكن في نفسه غير ممكن لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

وبالجملة ، كلّ ذلك يدلّ على أنّ المسؤول كان أمرا من سنخ التجلّي الذي وقع للجبل فاندكّ ، فهذا هو المراد بالرؤية ، لا الرؤية البصرية المستحيلة.

ولا دليل على انحصار حقيقة الرؤية والنظر فيما يفهمه العامّة من النظر بالحدقة الباصرة ، فقدأ ثبت الله سبحانه في كلامه أصل معناه قال سبحانه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) ، وفي هذا المعنى أيضا قوله سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٢) ، ـ كما سيجيء ـ ، وقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) (٣).

فكل ذلك يثبت إمكان الرؤية والمشاهدة والوعد بها ، وهي المعرفة ، كمال المعرفة غير المعرفة التي تحصل بنظر العقل وايصال الدليل ، فموسى ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١). القيامة (٧٥) : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢). فصلت (٤١) : ٥٣ ـ ٥٤.

(٣). العنكبوت (٢٩) : ٥.

٣٠٠