تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

الرئيس في ذلك ، والإذن ، وإن كان نقضا للتدبير العامّ ، غير أنّه بإعتبار آخر تدبير آخر من التدابير العامّة حاكم على سائر التدابير ، فهو أيضا كسائر التدابير موجود في عرش المملكة صادر عنه ، فهذا في النظام الإعتباري الذي عندنا بنحو الإعتبار ، والنظام الحقيقي الذي هو موجود في عالم الوجود والتكوين على هذا النحو بحسب الحقيقة دون الإعتبار على ما تفيده وتشرحه هذه الآية وما في مضمونها من الآيات المشتملة على ذكر العرش إجمالا أو تفصيلا.

فقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

يشير إلى ما يحويه العرش ويحيط به ، وهو المملكة.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

يشير إلى مقام في الوجود ، يجتمع عنده التدبير العامّ الإجمالي لنظام الوجود ، ففيه يعلم حقيقة التدبير الذي يدبّر عليه العالم ، ويدور عليه النظام بجزئياته وكليّاته ، وهو بمنزلة الروح لجميع التدابير العامّة المتوسطة بينه وبين الجزئيات التي هي بمنزلة الروح بالنسبة إلى جزئيات الحوادث ، ولذلك عقّب قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) وقال سبحانه في سورة الرعد : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) (١) ، وقال في سورة يونس : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ

__________________

(١). الرعد (١٣) : ٢.

٢٦١

إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (١) ، فعقّب الإستواء بتدبير الأمر وقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ) اشارة إلى دخول الإذن في التخلف عن التدبير في التدبير بوجه آخر كما مرّ بيانه ، وقد مرّ معنى الشفيع في الكلام على آية الكرسي وكان المراد به الأسباب في سببيتها ، وقال في سورة الم السجدة : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) (٢) ، فأنبأ عن رجوع كلّ ولاية أو شفاعة إليه فإنّ ولاية غيره نحو ولاية له سبحانه ، وشفاعة غيره شفاعته ، لأنّه هو المعطي لذلك كلّه بغناه ، والباذل له برحمته ، فالجميع منه وله ، وقال في سورة الحديد : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣) ، فعقب الإستواء بالعلم بالحوادث ، وقد مرّ آنفا بيان أنّه مقام إجتماع الحوادث ، فهو مقام العلم بها إذ ليس العلم بالشيء إلّا حضوره عند العالم ، والحوادث حاضرة بأجمعها في العرش على ما عرفت من البيان.

وقال تعالى في سورة هود : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٤) ، فأشار أنّ هذه الموجودات كانت مسبوقة بالماء ، وكان العرش يومئذ عليه ، وقد قال سبحانه : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (٥) ، فالماء أصل هو أصل هذه الموجودات ، وقد كان عليه العرش ، فهو مقام التدبير الذي مرّ بيانه ، وقال تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (٦) ، وهو

__________________

(١). يونس (١٠) : ٣.

(٢). السجدة (٣٢) : ٤.

(٣). الحديد (٥٧) : ٤.

(٤). هود (١١) : ٧.

(٥). الأنبياء (٢١) : ٣٠.

(٦). الزمر (٣٩) : ٧٥.

٢٦٢

يؤيّد ما ذكرناه من أنّه مقام اجتماع التدابير واتّحاد أزمّتها ، فإنّ الملائكة عاملون بالأمر ، حاملون للتدبير ، وسائط بين المشيّة الربّانية والخلق ، وقال سبحانه : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (١) ، وقال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٢) ، كلّ ذلك يؤيد ما قدّمناه ، وإلى ما ذكرناه يشير عدّة من أخبار أئمة أهل البيت [عليهم‌السلام].

ففي التوحيد : عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي ـ عليه‌السلام ـ الجاثليق فقال علي ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الملائكة تحمل العرش ، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ، ولكنّه شيء محدود مخلوق مدبّر ، وربّك مالكه ، لا أنّه عليه ككون الشيء على الشيء» (٣).

أقول : وقد ظهر معناها بما قدّمناه.

وفي التوحيد : أيضا عن حنّان بن سدير قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن العرش والكرسيّ فقال : «إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وضع في القرآن صفة عليحدة فقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٤) يقول : ربّ (٥) الملك العظيم ، وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٦) يقول : على الملك احتوى ، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء (٧) ، ثمّ العرش في الوصل

__________________

(١). غافر (٤٠) : ٧.

(٢). الحاقّة (٦٩) : ١٧.

(٣). التوحيد : ٣١٦ ، الحديث : ٣.

(٤). التوبة (٩) : ١٢٩.

(٥). في المصدر : ـ «ربّ»

(٦). طه (٢٠) : ٥.

(٧). في المصدر : «ملك الكيفوفية الأشياء»

٢٦٣

متفرد (١) ، عن (٢) الكرسي ؛ لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب ، وهما جميعا غيبان وهما في الغيب مقرونان ؛ لأنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ، ومنها (٣) الاشياء كلّها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والأين والمشيّئة وصفة الإرادة وعلم الالفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء ، فهما في العلم بابان مقرونان ، لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي وعلمه أغيب من علم الكرسي.

فمن ذلك قال : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٤) ، أي صفته أعظم من صفة الكرسي ، وهما في ذلك مقرونان ، قلت : جعلت فداك ، فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال ـ عليه‌السلام ـ : «إنّه صار جاره لأنّ علم الكيفوفيّة فيه ، وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنّيتها ، وحدّ رتقها وفتقها ، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف وبمثل صرف العلماء وليستدلّوا على صدق دعواهما ، لأنّه يختصّ برحمته من يشاء وهو القوىّ العزيز (٥) ، [الحديث].

أقول : قوله : إنّ للعرش صفات كثيرة إلى آخره ، يؤيّده ما ذكرناه أنّ العرش مثل مضروب لبيان اجتماع أزمّة تدابير الموجودات ، ويؤيّده ما في آخره من قوله : «وبمثل صرف العلماء» ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وهذا علم الكيفوفية في الأشياء» ، المراد به علم العلل العالية والأسباب القصوى للموجودات ، فإنّ لفظ (كيف) كما يسئل به عرفا عن العرض المسمى اصطلاحا ب : الكيف ، كذلك يسئل

__________________

(١). في نسخة : «مفرد»

(٢). في المصدر : «من»

(٣). في المصدر : «منه»

(٤). التوبة (٩) : ١٢٩.

(٥). التوحيد : ٣٢١ ـ ٣٢٣ ، الحديث : ١.

٢٦٤

به عن السبب واللمّ ، يقال : كيف وجد كذا ، وكيف خلق كذا ، وقد عرفت أن تفاصيل الأشياء تنتهي إلى الكرسي ، وإجمالها ينتهي إلى العرش ، ولذلك قال ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الكرسي : هو الباب الظاهر من الغيب ، والعرش : هو الباب الباطن منه».

فقوله : «منه مطلع البدع» أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال وصدورها ، ومنه الأشياء كلّها أي تفاصيلها ومفرداتها.

وقوله : «يوجد فيه علم الكيف والكون» إلى آخره ، أي علم جميع هذه الأشياء بحيث ينتهي إليه جميعها كانتهاء التفصيل إلى الإجمال.

وقوله : «الكيف» إلى آخره ، كأن المراد بالكيف وصف الأشياء بحسب حالاتها ، والمراد من الكون تمام وجودها ، والمراد بالعود والبدا أوّل وجوداتها وآخرها.

والمراد بالقدر والحدّ واحد وهو الكميّة ، غير أنّ القدر حال الكم بحسب نفسه كالعدد والصغر والكبر ، والحدّ حال الكمّ بحسب إضافته إلى غيره وانفصاله عنه والمراد بالأين هو المكان.

والمراد بالمشيئة ، تعلق المشيئة بوجودها وعدمه.

والمراد بصفة الإرادة ، خصوصية المشيئة المتعلقة وكيفيّتها وحدّها.

والمراد بعلم الألفاظ ، كأنّه كشف الألفاظ عن المعاني بحسب الخارج ، وهذا غير الدلالة الثانية بحسب الوضع اللغوي ، لأنّه أمر اعتباري ، إلّا أنّه يمكن أن يكون المراد بمجموع قوله : «وعلم الألفاظ والحركات والترك» ، العلم بكيفيّة انتشاء الإعتبارات من الأفعال والتروك واللّغات من حقائقها المنتهية إلى منشأ واحد.

والمراد ب : «الترك» هو السكون النسبي في مقابل الحركات.

٢٦٥

وقوله : «لأن علم الكيفوفية فيه» ، الضمير راجع إلى العرش.

وقوله : «وفيه الظاهر من أبواب البداء» الضمير راجع إلى الكرسي ، والبداء إبطال سبب تأثير سبب آخر ، وهو ـ كما سيجيء ان شاء [الله] ـ يعمّ جميع آثار الأسباب ، فإنّ عالم الأجسام عالم التزاحم لا يؤثر فيه سبب إلّا بإبطال أثر سبب آخر والبداء شامل للجميع.

وقوله : «فهذان جاران ، أحدهما حمل صاحبه في الصرف» ، المراد به على ما ينتجه البيان المتقدّم ، أنّ العرش والكرسي جاران ومتناسبان ، بل حقيقة واحدة مختلفة باعتباري الإجمال والتفصيل ، وقد نسب إلى أحدهما أنّه حامل لصاحبه بحسب صرف الكلام وضرب المثل ، وبالأمثال تبيّن المعارف الدقيقة للعلماء.

وقوله : «وليستدلّوا على صدق دعواهما» ، أي دعوى العرش والكرسيّ ، أي جعل هذا المثل ذريعة لأن يستدلّ العلماء بهما على صدق المعارف الملقاة إليهم في كيفية انتشاء تدبير الإيجاد عن مقامي التفصيل والإجمال.

وفي الكافي : عن البرقي رفعه قال : سأل الجاثليق عليا ـ عليه‌السلام ـ فقال : أخبرني عن الله عزوجل يحمل العرش او (١) العرش يحمله؟ فقال علي ـ عليه‌السلام ـ : الله عزوجل حامل العرش والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وذلك قول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٢).

قال : فأخبرني عن قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٣) ، فكيف

__________________

(١). في المصدر : «أم»

(٢). فاطر (٣٥) : ٤١.

(٣). الحاقة (٦٩) : ١٧.

٢٦٦

ذاك (١) وقلت : إنّه يحمل العرش والسموات والأرض؟ فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : إنّ العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة : نور أحمر منه احمرّت الحمرة ، ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة ، نور أصفر منه اصفرّت الصفرة ، ونور ابيض منه أبيضّ البياض ، وهو العلم الذي حمّله الله الحملة ، وذلك نور من نور (٢) عظمته فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداة الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السموات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المتشتّتة ، فكلّ شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته ، لا يستطيع لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكلّ شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء ، وهو حياة كل شيء ، ونور كل شيء سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

قال له : فأخبرني عن الله عزوجل أين هو؟ فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : هو هاهنا وهاهنا ، وفوق وتحت ، ومحيط بنا ومعنا ، وهو قوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) (٣) ، فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٤) ، وذلك قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُ

__________________

(١). في المصدر : «فكيف قال ذلك»

(٢). في المصدر : ـ «من نور»

(٣). المجادلة (٥٨) : ٧.

(٤). طه (٢٠) : ٧.

٢٦٧

الْعَظِيمُ) (١) ، فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه ، وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته ، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفيائه وأراه خليفه ، فقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٢) وكيف يحمل حملة العرش ، الله! وبحياته حييت قلوبهم ، وبنوره اهتدوا إلى معرفته ، الخبر (٣).

أقول : قوله : «أخبرني عن الله عزوجل يحمل العرش أو العرش يحمله» ، ظاهره أنّه أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : الله حامل العرش والسماوات إلى آخره ، تفسير للحمل بمعنى حمل الوجود ، وهو قيام وجودها به سبحانه قياما تبعيّا محضا غير استقلالي ، فينتج أنّه تعالى هو الحامل دون العكس ، ولذلك لمّا سمع الجاثليق ذلك سأله عن قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) (٤) ، فإنّ حمل الوجود يختص به سبحانه لا يشاركه فيه غيره ، مع أنّه نسبه إلى غيره تعالى ففسّر ـ عليه‌السلام ـ الحمل ثانيا بحمل العلم والعرش بالعلم ، غير أنّ ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين ، زاد في توضيح ما ذكره ـ أن العرش هو العلم ـ بأنّ هذا العلم غير ما هو المتبادر من العلم الحصولي بواسطة الصور النفسانية ، بل هو نور عظمته وقدرته حضرت لهؤلاء الحملة فسمّى ذلك حملا ، وهو مع ذلك محمول له تعالى ولا منافاة ، كما أنّ وجود أفعالنا حاضر عندنا محمول لنا وهو مع ذلك حاضر عند الله ومحمول له

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٥٥.

(٢). الأنعام (٦) : ٧٥.

(٣). الكافي ١ : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، الحديث : ١.

(٤). الحاقه (٦٩) : ١٧.

٢٦٨

تعالى ، ولذلك تراه ـ عليه‌السلام ـ في طيّ هذا البيان تارة ينسب الحمل إلى الحملة وتارة ينسبه إليه سبحانه : إنّ كلّ شيء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته ، فلجميع الأشياء وجهان :

وجه إلى الله سبحانه وهو أنّها فعله وأمره الواحد ، وهو بهذا الإعتبار نوره وعظمته وقدرته الفعلية.

ووجه إلى الخلق وهو تفاصيل الموجودات والأشياء ، وهي بهذا الوجه الثاني محمولة للوجه الأوّل أو لله سبحانه بالوجه الأول ، وكذا محمولة للحملة ، الذين أخضر الله عندهم نوره وعظمته وقدرته وكشف لهم عنها ، فالعرش في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، بمعنى الملك ، وفي قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ) (١) ، بمعنى العلم ، وهما مع ذلك شيء (٢) واحد ، وهو المقام الذي يحفظ عنده الأشياء ، وهو محمول له سبحانه لذاته ، ولغيره من الحملة بتحميله تعالى إيّاه لهم.

قوله ـ عليه‌السلام ـ «فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، ـ يريد ـ عليه‌السلام ـ : أنّ هذا المقام مقام ينشأ ، عنه تدبير نظام السعادة في سير السعداء في عالمهم ، وهكذا تدبير نظام الشقاء والعدوان في سير الأشقياء والجهلاء في عالمهم ، بل ينشأ عنه نظام قافلة الوجود جميعا في سيرهم منذ ابتدأوا منه إلى أن ينتهوا إليه ويقفوا دونه ، وهذا هو الذي استظهرناه سابقا في معنى العرش.

وقوله : «وهو حياة كلّ شيء ، ونور كل شيء» ، تأكيد لما بيّنه من معنى إحاطته وحمله ، إنّ الله سبحانه به حياة كل شيء وهو ما به وجوده ، ونور كلّ

__________________

(١). الحاقة (٦٩) : ١٧.

(٢). الأصل غير مقروء ولعلّه «معنى».

٢٦٩

شيء وهو ما به سير وجوده ، فهي لا تملك لنفسه شيئا ابدا بل المالك والحامل هو سبحانه ، وهي مملوكة صرفة ومحمولة محضة من غير استقلال.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «هو هاهنا وهاهنا» ، يريد ـ عليه‌السلام ـ : أنّه سبحانه لمّا كان مقوّما لوجود كلّ شيء وحاملا له فمعنى كونه في مكان أو مع شيء ذي مكان هو أنّه محيط به حافظ لوجوده ، ووجود كل شيء حاضر عنده محاط له ، فيؤول إلى علمه الفعلي بالأشياء ، ولذلك قال ـ عليه‌السلام ـ : أولا «فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى» ، فأشار إلى الإحاطة ثم عقّبه بقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (١) ، فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أنّ الكرسي ـ ويعنى ـ عليه‌السلام ـ به العرش ـ مقام الإحاطة والتدبير والحفظ ، وأنّه مقام العلم والحضور بعينه ، ثم طبّقه على قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٢).

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وليس يخرج من هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته ، كأنّه أشار به الألوان الأربعة المذكورة في أوّل الكلام وسيجيء إن شاء الله الكلام فيها فيما سيجيء.

قوله [ـ عليه‌السلام ـ] : «وهو الملكوت الذي أراه الله أصفيائه» ، يستفاد ذلك من ذيل آية السخرة (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، كما سيأتي ، فالعرش هو الملكوت ، غير أن الملكوت قسمان : أعلى وأسفل ، والعرش لكونه مقام الإجمال وباطن البابين من الغيب كما سبق ذكره في الرواية السابقة ينبغي أن يكون هو الملكوت الأعلى.

__________________

(١). طه (٢٠) : ٧.

(٢). البقرة (٢) : ٢٥٥.

٢٧٠

وقوله [ـ عليه‌السلام ـ] : «وكيف يحمل حملة العرش ، الله!» ، تأكيد لأوّل الكلام ، إنّ العرش هو مقام حمل الوجود وإقامته ، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون ، كيف ووجودهم وسير وجودهم به سبحانه ، ولاعتباره ـ عليه‌السلام ـ هذا المقام الوجودي علما عبّر ـ عليه‌السلام ـ عن وجودهم وكمال وجودهم بالقلوب ونور الإهتداء إلى معرفة الله سبحانه ، والمآل واحد ، فافهم.

وفي التوحيد : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أنه سئل عن قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١) فقال ـ عليه‌السلام ـ : «ما يقولون [في ذلك]؟ قيل : يقولون : إنّ العرش كان على الماء والربّ فوقه ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «كذبوا من زعم هذا ، فقد صيّر الله محمولا ووصفه بصفة المخلوقين ولزمه أنّ الشيء الذي يحمله هو أقوى منه.

ثم قال : إنّ الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون سماء أو أرض أو جنّ أو إنس أو شمس أو قمر» (٢).

أقول : وهو كسابقه في الدلالة على أنّ العرش هو العلم.

وفي الإحتجاج : في جملة ما احتجّ به أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن بعد ما بين الأرض والعرش فقال ـ عليه‌السلام ـ : «قول العبد مخلصا لا إله إلّا الله» (٣).

أقول : نفي الألوهيّة عن غيره تعالى حقيقة وقصره فيه تعالى بنحو الإخلاص يوجب نسيان العبد المخلص غيره والتوجه إلى مقام استناد كلّ شيء إليه تعالى ،

__________________

(١). هود (١١) : ٧.

(٢). التوحيد : ٣١٩ ، الحديث : ١.

(٣). الإحتجاج ١ : ٣٨٦.

٢٧١

وهذا هو مقام العرش على ما مرّ ونظيره الخبر الآتي.

وفي الفقيه والعلل والمجالس للصدوق : روى [الصدوق] عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أنّه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال : «لأنها مربعة» ، فقيل له : ولم صارت مربعة؟ قال : «لأنّها بحذاء البيت المعمور وهو مربع» ، فقيل له : ولم صار البيت المعمور مربعا؟ قال : «لأنّه بحذاء العرش وهو مربع» ، فقيل له : ولم صار العرش مربعا؟ قال : «لأنّ الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر» (١) ، الحديث.

أقول : وهذه الكلمات الأربع :

أوّلها : يتضمّن مرحلة التقديس والتنزيه ؛

والثانية : مرحلة الثناء والتشبيه ؛

والثالثة : مرحلة التوحيد ؛

والرابعة : التوحيد الأعظم ، وهو أنه سبحانه أكبر من أن يوصف ، إذ كل وصف تقييد ، وكيف كان فيرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مرّ ، والأخبار المختلفة في هذا المعنى كثيرة ، كما ورد : أنّ آية الكرسي وآخر البقرة وسورة محمّد ـ [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ـ من كنوز العرش (٢).

وفي بعض الروايات : أنّ (صاد) نهر يخرج من ساق العرش (٣).

__________________

(١). من لا يحضره الفقيه ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١ ؛ علل الشرائع ٢ : ٣٩٨ ، الحديث : ٢ ؛ الامالي الصدوق : ٢٥٥ ، المجلس : ٣٥ ، مع تفاوة.

(٢). مستدرك الوسائل ٤ : ٣٣٦ ، الحديث : ٤٨٢٤ ؛ تفسير أبي الفتوح الرازي ١ : ٤٣٩ ؛ عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٧٠ ، الحديث : ٦٠.

(٣). راجع : الكافي ٣ : ٤٨٥ ، الحديث : ١ ؛ المختصر ، حسن سليمان الحلي : ١٧ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٧٤ ، الحديث : ٥ ؛ الميزان في تفسير القرآن ٨ : ١٦٩.

٢٧٢

وفي بعض الروايات أنّ الأفق المبين قاع بين يدي العرش ، فيه أنهار تطّرد ، فيه من القدحان عدد النجوم (١).

وفي تفسير القمّي : عن عبد الرحيم القصير (٢) عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن (ن وَالْقَلَمِ) (٣) قال : «إنّ الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ، ثم قال لنهر في الجنة : كن مدادا فجمد النهر وكان أشدّ بياضا من الثلج وأحلى من الشهد ، ثم قال للقلم : اكتب ، قال : يا ربّ ما أكتب؟ قال : اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فكتب القلم في رقّ أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت ، ثم طواه فجعله في ركن العرش ، ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ولا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلّها الحديث (٤) ، وسيجيء تمامه في سورة «ن».

أقول : والأخبار في تأييد كون العرش هو مقام العلم الفعلي الإجمالى كثيرة ، وهناك روايات أخر لا تأبى عمّا مرّ.

ففي كتاب روضة الواعظين : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، عن أبيه ، عن جدّه في حديث قال ـ عليه‌السلام ـ : «وإنّ بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفتان الطير المسرع مسير (٥) ألف عام ، والعرش يكسي كلّ يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله ، والأشياء كلّها في

__________________

(١). مصباح المجتهد : ٨٢٩ ؛ الخصال : ٥٨٢ ؛ ثواب الأعمال : ١٦٥.

(٢). في الأصل : «الأقصر»

(٣). القلم (٦٨) : ١.

(٤). تفسير القمي ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٥). في المصدر : «المسيرة»

٢٧٣

العرش كحلقة في فلاة (١).

أقول : يشير ـ عليه‌السلام ـ إلى عظمة العرش وإحاطته بالعالم ، والوصف الذي ذكره ـ عليه‌السلام ـ تمثيل ، نظائره كثيرة في رواياتهم ـ عليهم‌السلام ـ.

وفي العلل : عن علل ابن سنان عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «علّة الطواف بالبيت أنّ الله تبارك وتعالى قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (٣) ، فردّوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب فعلموا أنّهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا ، فأحبّ الله عزوجل أن يتعبّد بمثل ذلك العباد ، فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى الضراح ، ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى البيت المعمور بحذاء الضراح ، ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ، ثم أمر آدم فطاف به ، فجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة» (٤).

أقول : لواذ الملائكة بالعرش كناية عن اعترافهم بالجهل وإرجاع العلم إليه سبحانه حين قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٥).

وقد مرّ الكلام في هذه القصة في سورة البقرة.

وأمّا الضراح والبيت المعمور ، فالأخبار فيهما مختلفة ، بعضها يحكي عن بيت واحد في السماء الرابعة يسمّى البيت المعمور ، وبعضها عن بيتين وهما : الضراح والبيت المعمور كما في هذا الخبر ، وأمّا كون الكعبة بحذاء البيت

__________________

(١). روضة الواعظين : ٤٧.

(٢). البقرة (٢) : ٣٠.

(٣). البقرة (٢) : ٣٠.

(٤). علل الشرائع ٢ : ٤٠٦ ، الحديث : ٧.

(٥). البقرة (٢) : ٣٢.

٢٧٤

المعمور فهي محاذاة معنوية لا جسمانية ، والشاهد عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ : فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمّى الضراح وهو ظاهر.

وفي الخصال : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ حملة العرش أحدهم : على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم ، والثاني : على صورة الديك يسترزق الله للطير ، والثالث : على صورة الأسد يسترزق الله للسباع ، والرابع : على صورة الثور يسترزق الله للبهائم ، ونكّس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل ، فاذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية» (١) ، الخبر.

أقول : والأخبار فيما يقرب هذا المعنى كثيرة متظافرة ، وفي بعضها عدّ الأربع حملة للكرسي.

وفي حديث آخر : حملة العرش ثمانية ؛ أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين ، فأمّا الأربعة من الأوّلين : فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأمّا الأربعة من الآخرين : فمحمد ـ [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] ـ وعلي والحسن والحسين (٢) ـ عليهم‌السلام ـ.

أقول : لا بعد بعد ما تحقق أنّ العرش هو مقام العلم أن يعدّ عدّة من الملائكة حملة له ، ثم يعدّ عدّة من غيرهم حملته.

وفي كتاب روضة الواعظين : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن أبيه عن جدّه قال : في العرش تمثال ما خلق الله في البرّ والبحر ، قال : وهذا تأويل قوله [تعالى] : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)» (٣) (٤).

__________________

(١). الخصال : ٤٠٧ ، الحديث : ٥.

(٢). تفسير القمي ٢ : ٢٨٤ ؛ تفسير الصافي ٥ : ٢١٩ ؛ تفسير نور الثقلين ٥ : ٤٠٦ ، الحديث : ٢٩.

(٣). الحجر (١٥) : ٢١.

(٤). روضة الواعظين : ٤٧.

٢٧٥

أقول : وقد اتّضح معنى الحديث بالبيان السابق ، والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والجميع يؤيّد ما مرّ من البيان في معناه ، وأمّا العرش بمعنى جسم كهيئة السرير ، فالروايات يكذبه ، كما مرّ في ما رواه في التوحيد عن سلمان عن علي ـ عليه‌السلام ـ.

قوله سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)

لمّا بيّن سبحانه إحاطة تدبيره على جميع الخلق وحضورها جميعا عند تدبيره ، ولا يكون هذا الحضور والتدبير إلّا بأن يكون أمرها جميعا إليه سبحانه ، فالأمر هو المدبّر لها جميعا وهو واسطة بينه وبينها ، وهذا معنى يحتاج تصوره إلى لطف قريحة ، فإنّك إذا قلت : هذا المال لي وحدي لم يصحّ ذلك إلّا بعد أن يكون أمره إليك ، فهذا الأمر معنى متصوّر متوسّط بينك وبين المال يربطه بك ، كأنّك تتصرف فيه بواسطته ، وإذا كان العالم مخلوقا لله بجميع ما فيه لا يشاركه في ذلك غيره اصلا ، كان أمره إليه سبحانه وتوسط الأمر بينه وبين العالم ، ولهذا المعنى علّل سبحانه الكلام بقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، وللطف هذه العلّة صدّر الكلام بكلمة (أَلا) التنبيهيّة استيقاظا للسامع لينتقل ذهنه إلى مغايرة الخلق والأمر على ما فيه من اللطف ، على أنّ عطف الأمر والخلق بالواو يقضي بمغايرة ما بينهما في الجملة.

فان قلت : العطف لا يقتضي التغاير النوعي ، ولو كان كذلك لاقتضى قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) (٥) ، أن لا يكون جبرئيل من

__________________

(٥). البقرة (٢) : ٩٨.

٢٧٦

الملائكة لمكان العطف بالواو.

قلت : اقتضاء العطف مغايرة ما بين المعطوف والمعطوف عليه ، ممّا لا ينبغي الإرتياب فيه لقبح قولنا : جائني زيد وزيد ، وجائني زيد وابن عمر وإذا كان المعطوف والمعطوف عليه واحدا.

نعم ، المغايرة أعمّ من المغايرة النوعيّة بحسب الماهيّة ، والذي يستدل بقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، على مغايرة الخلق والأمر لا يريد مغايرة أزيد ممّا يقتضيه اعتبار الكلام.

ثم يتمّ البيان بآيات أخر فإنّ قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، أفادت الآية أنّ أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له : (كُنْ) ، ومن المعلوم أنّ هذا القول ليس بنحو التلفظ وإيجاد الصوت ، بل هو وجود الشيء لا بأن ينفصل عنه تعالى وجود وينتهي إلى الشيء المراد كحركة الشعاع من المنير إلى المستنير ، بل إنّما هو وجود الشيء في نفسه ، وقال سبحانه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٢) ، فأفاد أنّ الأمر واحد كاللمح بالبصر ، وهذه كلمة يراد بها نفي التدريج والتأنّي ، فأفاد أنّ الأمر وهو وجود الشيء غير تدريجي فهو غير زماني ولا مكاني ، فإنّ الزماني والمكاني لا ينفك عن التدريج ، فهذا الوجود الذي هو أمره تعالى شيء خارج عن المكان والزمان وهو وجود الشيء ، فلوجود كلّ شيء مراد وجهان :

وجه الأمر : وهو بهذا الوجه خارج عن الزمان والمكان ، تتساوى نسبته إلى كلّ زمان ومكان.

__________________

(١). يس (٣٦) : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢). القمر (٥٤) : ٥٠.

٢٧٧

وجه الخلق : وهو بهذا الوجه تدريجيّ الوجود تحت سيطرة الزمان والمكان ودون تأثير المادّة والقوّة وهذان الوجهان متحدّان بوجه مختلفان بوجه ، غير أنّ الوجه الخلقي تابع للوجه الأمري.

ثم قوله سبحانه : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، بعد قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) (٢) ، يعطي أنّ الملكوت هو الأمر ، فالعرش وهو مرحلة اجتماع أزمّة الأشياء هو الأمر وهو الملكوت ، والملك والملكوت خاضعان للربوبيّة ، ولذلك عقّب قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) ، بقوله : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ، فتبارك الله ربّ العالمين.

قوله سبحانه : (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)

نصب على الحال ، أي ذوي تضرّع وخفية ، وكذلك خوفا وطمعا كذا قيل ، والظاهر أنّهما من المفعول المطلق النوعي ، والتقدير : ادعوا ربّكم دعاء تضرّع وخفية ، وكذلك قوله : (خَوْفاً وَطَمَعاً) ، والتقدير : وادعوه دعاء خوف وطمع ، والتضرّع من الضراعة بمعنى التذلّل.

وفي تفسير القمّي : قال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، أي علانية وسرا (٣).

أقول : وكان وجه الإستفادة المقابلة بين التضرّع والخفية ، فالتضرّع هو العلانية ، وفي وضع التضرّع مكان العلانية ما لا يخفى من الإشعار بوجه حسن

__________________

(١). يس (٣٦) : ٨٣.

(٢). يس (٣٦) : ٨٢.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٣٦.

٢٧٨

الدعاء العلني وهو إظهار الذلّ ونشر الضراعة إليه سبحانه.

قوله سبحانه : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

تذكير الخبر لكون الإسم مصدرا جائز الوجهين.

قوله سبحانه : (يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً)

بشرا جمع بشير ، وقرء نشرا بالنون.

وقوله : (أَقَلَّتْ)

من الإقلال بمعنى الحمل ، وكان أصله القلّة لأنّ حامل الشيء الثقيل يعدّه قليلا.

وقوله : (ثِقالاً)

وصف السحاب أورد جمعا لكون السحاب جنسا في معنى الجمع.

قوله : (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى)

في التنظير دلالة على كون البعث ذا نظام تدريجي من التربية نظير إنبات الأرض ، وسيجيء بعض ما يتعلّق بالمقام في سورة الحج.

*

٢٧٩

[لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا

٢٨٠