تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

[وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ

٣٢١

يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)]

قوله [سبحانه] : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)

في التوحيد : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : إنّ السبعين لمّا صاروا معه (١) إلى الجبل قالوا له : إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته ، قال : إنّي لم أره ، فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) (٢) ، فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا فقال : يا ربّ اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرتهم به ، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا فأحياهم الله بعد موتهم» (٣).

أقول : وروى قريبا منه في العيون (٤).

فإن قلت : ظاهر المقام أن يقال بما قال السفهاء منّا ، أو ما يؤدّي معناه ، فإنّ ذنبهم الذي أخذتهم به الصاعقة ، قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (٥) ،

__________________

(١). في المصدر : «... والسبعون الذين أختارهم صاروا معه»

(٢). البقره (٢) : ٥٥.

(٣). التوحيد : ٤٢٣ ، الحديث : ١.

(٤). عيون الأخبار ١ : ١٦٠ ، الحديث : ١.

(٥). البقرة (٢) : ٥٥.

٣٢٢

فما وجه قوله : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ)؟

قلت : إنّما قالوه عنادا واستكبارا ، وإلّا فالآية في معرفة الله كثيرة مفيدة فحصرها في الرؤية والتمادي واللجاج في طلبها كان عنادا واستكبارا ولذلك أهلكوا ، وإلّا فمجرد الطلب ولو جهلا ، لم يكن موجبا للإهلاك ، كما قالوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١) ، إلى غير ذلك من اقتراحاتهم وتهكّماتهم ، ولذلك قال : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) ، ولم يقل بما قاله الجاهلون منّا ، فبدّل القول بالفعل والجهل بالسفاهة.

قوله : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا)

قدّم في دعائه المغفرة على الرحمة ، وكذا في دعائه لنفسه وأخيه حين قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) (٢) ، بخلاف ما في دعاء قومه حين قالوا : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) ، وسيأتي الوجه فيه.

قوله سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)

صفة الرحمة التي فينا رقّة قلب الراحم للمرحوم من حيث إنه المستحق أن يحسن إليه أو أن لا يساء إليه ، وهذا المعنى وإن كان وصفا جسمانيا منبعثا عن انفعال بدني إلّا أنّه متّحد بوصف إدراكي من أجله نسمّيها رحمة ، فإنّ الذي يريد أن يبطش إنسانا ذا ذنب ويقهره إنّما يتصوّره متلبّسا بالذنب ، فهو ما دام يتصوّره

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٣٨.

(٢). الأعراف (٧) : ١٥١.

(٣). الأعراف (٧) : ١٤٩.

٣٢٣

كذلك لا ينحرف عن إرادة الإنتقام أو السياسة ، فإذا تصوّره متلبسا مع الذنب بما يستدعي عدم الإسائة إليه كجهالة مّا بالذنب ، أو عثرة أو صفة أخرى تستدعي عدم السياسة ككونه شابا حدث السنّ أو جميلا أو ضعيفا أو نحو ذلك ، فإن لم يذعن به أخذ انتقامه ، وإن أذعن على وفق هذا الإستدعاء فقد وجده غير مستحق للإسائة إليه أو مستحقا للإحسان من هذه الجهة وان كان مستحقا لذلك من جهة ذنبه وقصوره ، وهذه هي حقيقة الرحمة.

فهي إذعان الراحم أنّ المرحوم على تلبّسه بالذنب أو ما يجري مجراه حقيقة أو دعوى متلبّس بما لا يستحق معه الإسائة أو بما يستحق معه الإحسان ، وإذا نسب هذا المعنى إلى الله ـ جلّت كبريائه ـ بما يناسب ساحة قدسه وعظمته كان ذلك وضعه تعالى كلّ شيء موضع الإحسان والإفاضة على قدر ما يستحقه ، فخلقه الخلق وإيجاده الأشياء وكل ما من قبله تعالى رحمة منه ، وإذ كان إحسانه وإنعامه ذا مراتب ، وكل مرتبة منها مسبوقة بالإستحقاق القبلي للإحسان والإنعام ، فرحمته تعالى مراتب ، كل مرتبة منها مسبوقة بزوال المانع وستر المنافي وهو المغفرة ، غير أنّ نفس المغفرة تحتاج إلى رحمة ، فكلّ مغفرة مسبوقة برحمة ولا عكس ، فإنّ الرحمة الأولى وهي أصل الإيجاد غير مسبوقة بالمغفرة إلّا بحسب ما يعتبره العقل ، حيث يعتبر الأشياء بحسب ماهياتها مستدعية للوجود ومفتقرة إلى إيجاد الموجد عزّت إفاضته.

ومن هنا يظهر أنّ الرحمة تنقسم إلى قسمين :

إحديهما : الرحمة العامّة وهي مساوقة للإيجاد العام ومطلق الوجود المطلق ويشترك فيها جميع الموجودات وتعمّ المؤمن والكافر والدنيا والآخرة والجنّة والنار.

٣٢٤

والثانية : الرحمة الخاصّة وهي الرحمة بعد الرحمة ، وإن شئت قلت : تضاعف الرحمة ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، وهذه هي التي تساوق السعادة على مراتبها ، وتتدرج في مراتب كمراتبها ، وتقابل في بعض مراتبها العذاب وتقابل في بعضها الآخر انحطاط المنزلة وقصور الدرجة.

إذا عرفت هذا تبين لك أنّ قوله سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ، ناظر إلى الرحمة العامّة ، وقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إشارة إلى الرحمة الخاصة في الآخرة ، وقد سبق مقابلها في صدر الكلام عند قوله : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ، وإنّما فصّل بينه وبين قوله : (فَسَأَكْتُبُها) ، لتتّصل الرحمتان ويتمّ بيان حال الرحمة في كلام متصل واحد كما في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢) ، قدّم أصحاب النار ليتّصل أصحاب الجنة بأصحاب الجنة ويخرج الكلام مخرج الإتّصال ، وهو ظاهر.

ومن هنا يظهر وجه تقديم المغفرة على الرحمة في قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) ، وكذا في قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ) (٣) ، فإنّ الأنبياء مختوم عليهم بالسعادة مأمونون من العذاب ، فالذي يتعلّق به همّهم ، هو الرحمة الإلهيّة ، وقد ذكر المغفرة مقدّمة عليها من باب المقدّمة ، ونظير هذا الدعاء دعاء آدم وزوجته حيث قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٢٨.

(٢). الحشر (٥٩) : ٢٠.

(٣). الأعراف (٧) : ١٥١.

٣٢٥

لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) ، وبهذا البيان يتبين أنّ ذنبهم لم يكن ذنبا سائقا إلى العذاب كما مرّ في سورة البقرة.

وأمّا قوم موسى في قولهم : (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢) ، فإنّهم لمّا لم يكونوا مأمونين من العذاب والنقمة ، كان همّهم متعلقا بمغفرة ذنبهم ومعصيتهم في عبادة العجل ، وقد ذكروا الرحمة مقدّمة عليها إستشفاعا بها في طلب المغفرة ، فافهم ذلك.

ومن هنا يظهر أنّ المراد بالرحمة في قوله : (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) هي الرحمة الخاصة لكونه مسبوقا باسم الغفور ، والرحمة المسبوقة بالمغفرة الرحمة الخاصة ، وقد تكرّر في إسمي (الغفور الرحيم) بتقديم (الغفور) على (الرحيم) ولم يعكس الأمر في مورد واحد منها.

وتبيّن أيضا وجه ما ورد من الروايات في تفسير البسملة : أنّ الرحمن رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة ، وأنّ الرحمن رحمن بجميع عباده ، والرحيم رحيم بالمؤمنين خاصّة ، وقد سبقت هذه الروايات في تفسير فاتحة الكتاب ، فارجع.

قوله سبحانه : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)

الفاء يوصل الكلام بدعوة موسى فهو إجابة لمسألته ، وقد قال موسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَارْحَمْنا) ، فأطلق الكلام ، فأجابه الله سبحانه بقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٣.

(٢). الأعراف (٧) : ١٤٩.

(٣). الأعراف (٧) : ١٥٣.

٣٢٦

يَتَّقُونَ) ، فقيد بالتقوى.

فهذه استجابة لبعض دعوته من حيث إطلاق كلامه ، وبعبارة أخرى استجابة للدعاء وتأديب بأدب الدعاء أن تطابق الدعاء مع الضمير ، فمساق الكلام مساق ما نقله عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١).

فان قلت : الذين يتقون ويؤتون الزكاة ويؤمنون بآيات الله يستحقون منه سبحانه الرحمة جزاء لأعمالهم الحسنة والعقل حاكم بذلك ، فما معنى استجابة الدعوة بالرحمة في حقهم ، فإنّ ما لا بدّ منه لا يصحّ سؤاله ولا استجابة مسألته إذا سئل وهو ظاهر.

قلت : هو كقوله في آخر آل عمران حكاية لدعاء أولي الألباب : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) (٢) ، إلى أن قال : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (٣).

والوجه في ذلك : أنّ الله سبحانه حيث كان هو المالك على الإطلاق لا يملك أحد منه شيئا في حال من ثواب أو رحمة أو حسنة أو غير ذلك فلا يجب لأحد عليه شيء حتى يلزم به ، فما يحكم العقل بوجوبه وما لا يحكم بوجوده سيّان بالنسبة إليه تعالى يصحّ فيهما المسألة والإستجابة جميعا ، وأمّا حكم العقل بوجوب جزاء الإحسان بالإحسان فإنّما في موارد الأفعال العقلائية التي يملك

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٤.

(٢). آل عمران (٣) : ١٩٣.

(٣). آل عمران (٣) : ١٩٥.

٣٢٧

فيها كلّ طرف من الطرفين على الآخر شيئا ، وأما المورد الذي لا يملك عليه شيء فلا معنى لإيجاب شيء عليه ولا لإلزامه بشيء ، فإن أعطى فبكرمه ورحمته ، وإن منع فهو الغنيّ الحميد.

نعم ، ما وعده سبحانه لعباده وقضى به على نفسه فهو واقع لا محالة وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١) ، وهو مع ذلك لا يخرج عن ملكه ، فإنّ الايجاب وجعل الشيء محقق الوقوع لا بدّ منه هو نحو ملك ونوع تصرف ، فافهم ذلك.

ومن هنا يظهر معنى قوله : (فَسَأَكْتُبُها) ، والكتابة هنا هي القضاء.

قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ)

الرسول : هو الحامل للرسالة وهو والمرسل بمعنى واحد وإنّما يتفاوتان تفاوت الصفة المشبّهة واسم المفعول في الدلالة على الثبوت والتجدّد ، والنبي هو من استقرّ فيه النبأ عن الله تعالى ، ولذا قيل : إنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالنبي هو الذي عنده الخبر عن الله تعالى سواء أمر بالتبليغ أو لم يؤمر ، والرسول خصوص المأمور بالتبليغ منهم.

هذا ، لكن الآية تنافيه ، فقوله : (يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ) ، حينئذ يشتمل على اتباع الوصف الخاصّ بالوصف العام من غير نكتة ظاهرة وبلاغة الكلام تأباه ، وكذا قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٢) ، مع أنّ الكلام مسوق للتجليل ومقتضاه التدرج من العامّ إلى الخاصّ دون

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٩.

(٢). مريم (١٩) : ٥١.

٣٢٨

العكس ، وأصرح منهما في التنافي قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ، فإنّ ظاهر الآية أنّ النبي المذكور فيها غير الرسول وهو مع ذلك مرسل مثل الرسول ، فلا يصحّ الفرق بأنّ الرسول يتميز عن النبي بأنّه المأمور بالتبليغ ، على أنّا لم نعثر فيما بلغنا من قصص الأنبياء على نبي غير مرسل ولا مأمور بالتبليغ.

وكيف كان ، فالنبوّة بحسب المعنى غير الرسالة ، كما أنّ الآية الأخيرة تدلّ على أنّ النبيّ ربما كان غير الرسول ، والرسول بحسب معناه يدلّ على وجود مرسل إليه وعلى امر هو الرسالة وعلى غيبة وحجاب بين المرسل ـ بصيغة الفاعل ـ والمرسل إليه ، فللمرسل بصيغة المفعول مع المرسل بصيغة الفاعل مقام ليس لغيره فإنّه واسطة ، وللواسطة مع كلّ من الطرفين حكم ليس للآخر ، وأما النبيّ بمعنى من استقرّ فيه النبأ الإلهي فمعناه لا يوجب وساطة وارتباطا ، فمن الجائز أن يكون هذا النبأ مما لا نصيب للمرسل إليه فيه ولا لغير النبيّ فيه حظّ.

وهذا المعنى وإن كان من فروق النبوة والرسالة ، لكنّه غير مقصود في مثل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) (٢) ، فإنّ ظاهر الآية هو التفرقة بينهما مع كونهما جميعا مرسلين مبعوثين إلّا أن يكون عطف النبي على الرسول يوجب قصد معنى من الإرسال يناسب الرسول والنبي معا من الكلام.

ولذا فسّر جمع من المفسرين قوله : (أَرْسَلْنا) (٣) ، في الآية بمعنى بعثنا ، فالأولى حينئذ أن يقال : إنّ النبي من استقرّ عنده النبأ الإلهي والخبر الغيبي سواء

__________________

(١). الحج (٢٢) : ٥٢.

(٢). الحج (٢٢) : ٥٢.

(٣). الحج (٢٢) : ٥٢.

٣٢٩

حمل رسالة إلى الناس أو لم يحمل كما يظهر من بعض الروايات أن من الأنبياء من لم يبعث إلى غير نفسه ، والرسول من حمّل رسالة إلى الناس سواء استقر فيه نبأ إلهي غيبي وهو الرسول النبيّ أو لم يكن نبيا بل رسولا فقط كما في رسل عيسى قال : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (١) ، وعلى هذا فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه.

وبهذا يظهر الوجه في غالب الموارد التي وضع فيها لفظ النبي أو الرسول في كلامه سبحانه على ما يوجبه بلاغة الكلام ، كقوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (٢) ، وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٣) ، وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٤) ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) (٥) ، ومثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٦) ، وقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٧) ، وقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) (٨) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وفي البصائر : عن الأحول ، قال سمعت زرارة يسأل أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : أخبرني عن الرسول والنبي والمحدّث. فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١). يس (٣٦) : ١٤.

(٢). البقرة (٢) : ٢١٣.

(٣). الجاثية (٤٥) : ١٦.

(٤). التحريم (٦٦) : ١.

(٥). التوبة (٩) : ٧٣.

(٦). المائدة (٥) : ٦٧.

(٧). الأعراف (٧) : ٦.

(٨). المائدة (٥) : ١٠٩.

٣٣٠

«الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ، فيكلّمه فهذا الرسول ، وأمّا النبي : فإنه يرى في منامه على نحو ما رأى إبراهيم وعلى نحو ما كان رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة وكان محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلّمه بها قبلا ، ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه يأتيه الروح فيكلّمه من غير أن يكون رآه في اليقظة ، وأمّا المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه» (١).

وفي الكافي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ «الفرق بين الرسول والنبي والإمام : أنّ الرسول [الذي] ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزّل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ، والنبي : ربّما يسمع الكلام وربّما رأى الشخص ولم يسمع ، والإمام : هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص» (٢).

أقول : المحصّل من مجموع الروايتين ، أنّ النبي يرى في منامه ويسمع كلام الملك ولا يرى شخصه أو يرى ولا يسمع فهذا هو النبي فقط ، وأمّا الرسول : فهو الذي يعاين الملك ويسمع كلامه وربّما جمع في واحد بين النبوّة والرسالة فيرى في المنام ويسمع ويعاين ويظهر من قوله في الرواية الاولى : «ويرى في منامه يأتيه الروح فيكلّمه» ، أنّ المراد بالمنام ليس هو المنام المعهود عندنا بل نحو ركود للحواس من غير بطلان التعقل وهو الذي يعبّر عنه بنوم القلب ويمكن أن يكون هو المراد بما في البصائر ايضا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال

__________________

(١). بصائر الدرجات : ٣٧٠ ـ ٣٧١ ، الحديث : ٩.

(٢). الكافي ١ : ١٧٦ ، الحديث : ٢.

٣٣١

رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنا معاشر الانبياء تنام عيوننا ولا تنام قلوبنا» (١) ، الخبر.

وفي التوحيد : عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إذا نزل عليه الوحي ، قال فقال : ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلّى الله له ، قال : ثم قال : تلك النبوّة يا زرارة وأقبل بتخشع» (٢).

وفي اكمال الدين : قال : سئل الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن الغشية التي كانت تأخذ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أكانت تكون عند هبوط جبرئيل فقال : «لا إنّ جبرئيل إذا أتى النبي لم يدخل عليه حتى يستأذنه فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد وإنّما ذلك عند مخاطبة الله عزوجل ايّاه بغير ترجمان وواسطة». حدّثنا بذلك ابن ادريس ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن محمد بن الحسين بن زيد ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن ثابت عن الصادق (٣) ـ عليه‌السلام ـ.

أقول : والروايات في هذا المضمون وما يقرب منه كثيرة سننقلها في الكلام على سورة الشورى ان شاء الله تعالى.

وفي البصائر : عنهما ـ عليهما‌السلام ـ قالا : «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات : فنبيّ منبأ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبيّ يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاين في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط

__________________

(١). بصائر الدرجات : ٤٢٠ ، الحديث : ٨.

(٢). التوحيد : ١١٥ ، الحديث : ١٥.

(٣). اكمال الدين ١ : ٨٥ ـ ٨٦.

٣٣٢

ونبيّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كما قال الله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١) ، قال يزيدون ثلاثين الفا ، ونبيّ يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولى العزم» ، الخبر (٢).

أقول : وقوله ـ عليه‌السلام ـ في الطبقة الاولى : «منبأ في نفسه لا يعدو غيرها» أي يؤتى العلم بقذفه في قلبه من غير وساطة ملك أو روح كالصوت والرؤيا في المنام فإنه أيضا تكليم من الروح كما مرّ في الخبر عن البصائر وبهذا تتقابل الطبقة الأولى والثانية وقوله : «مثل ما كان إبراهيم على لوط» ، تمثيل للإمامة والإيتمام فقط والمراد بالإمامة في الرواية ولاية ، العزم دون مطلق الإمامة على ما مرّ من معناه في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٣) من سورة البقرة.

وبالجملة ، فالمحصل في الفرق بين الرسول والنبي من الروايات ما سمعت وهو مع ذلك فرق بحسب المصداق لا بحسب مفهوم لفظي النبي والرسول كما عرفت.

وهناك بعض أخبار لا يوافق ما نقلناه غير أنّها لا تخلو عن تشويش في متنها.

قوله سبحانه : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ)

في الكافي : عن محمد بن علي الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «لمّا أنزلت التوراة على

__________________

(١). الصافات (٣٧) : ١٤٧.

(٢). بصائر الدرجات : ٣٧٣ ـ ٣٧٤ ، الحديث : ٢٠.

(٣). البقرة (٢) ١٢٤.

٣٣٣

موسى ـ عليه‌السلام ـ بشّر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ [إلى أن قال] : فلم تزل الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ تبشّر به حتى بعث الله المسيح ، عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ فبشّر بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وذلك قوله : (يَجِدُونَهُ) ، يعني إليهود والنصارى (مَكْتُوباً) ، يعني صفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (عِنْدَهُمْ) ، يعنى (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ، وهو قول الله عزوجل يخبر عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (١) (٢).

أقول : وفي هذا المعنى بعض روايات أخر (٣).

قوله سبحانه : (إِصْرَهُمْ)

الإصر : الثقل ، كنّى به عن التكاليف الشاقّة.

وقوله : (وَعَزَّرُوهُ)

أي منعوا جانبه ، كنّى به عن التعظيم له والذبّ عنه.

قوله سبحانه : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)

ظاهر السياق أنّه القرآن ، وقد سمّي نورا.

وفي تفسير العياشي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «النور عليّ» (٤).

__________________

(١). الصف (٦١) : ٦.

(٢). الكافي ٨ : ١١٧ ، الحديث : ٩٢.

(٣). راجع : الاختصاص : ٧ ؛ الأمالي للصدوق : ١٩١ ، الحديث : ١ ؛ بصائر الدرجات ٥١٢ ، الحديث : ٢٦ ؛ تفسير القمي ٢ : ٣٦٥ وغيرهم.

(٤). تفسير العياشي ٢ : ٣١ ، الحديث : ٨٨.

٣٣٤

أقول : وكأنّه من الجري والإنطباق ، ولا يأباه إطلاق الإنزال وقد سمّي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نورا إذ قال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً) (١).

قوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)

في المجالس : عن الحسن بن علي ـ عليه‌السلام ـ قال : «جاء نفر من إليهود إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقالوا : يا محمّد! أنت الذي تزعم أنك رسول الله وأنّك الذي يوحى إليه كما يوحى لموسى بن عمران ـ عليه‌السلام ـ؟ فسكت النبيّ ساعة ، ثم قال : نعم ، أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا خاتم النبيّين وإمام المتقين ورسول ربّ العالمين قالوا : إلى من إلى العرب أم إلى العجم أم إلينا؟ فأنزل الله هذه الآية» (٢).

أقول : ومقتضاه دلالة الآية على عموم البعث وهو كذلك بإطلاقها.

قوله سبحانه : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ)

في تفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في هذه الآية : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى) : «هم أهل الإسلام» (٣).

أقول : كأنّه مستفاد عن ظهور قوله : (يَهْدُونَ) في الحال أو في الإستمرار ، واليهود الباقون على التهوّد ضالّون بعد بعثة النبي ، فهذه الأمّة المذكورة ، إمّا

__________________

(١). الطلاق (٦٥) : ١٠ ـ ١١.

(٢). الأمالي ، الصدوق : ١٨٧ ، الحديث : ١.

(٣). تفسير العياشي ٢ : ٣١ ، الحديث : ٨٩.

٣٣٥

اليهود الذين أسلموا وحسن إسلامهم فكانوا مهتدين وهادين بالحق ، وإما جميع أهل الإسلام لكون موسى من أولي العزم عامّا نبوته لجميع الناس غير منسوخ الأصل ، وإن كان بعض أحكام شريعته منسوخا بعد بعثة النبيّ.

فإن قلت : قد ذكرت في ذيل قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (١) ، من سورة البقرة ، إنّ حقيقة الهداية شأن الإمام لا غير ، وهذا ينافي ما هاهنا من جعل الهداية وصفا عامّا لغير الإمام.

قلت : الذي ذكرناه هناك إنّما هو الهداية إلى الحق بأمر الله تعالى لا الهداية بالحقّ مطلقا ، ولا ضير في كون تابع الحق هاديا بالحق الذي تبعه من حيث إنه تبع ، وأما الهداية بالأمر ، فأمر مختص بالإمام على التفصيل السابق.

قوله : (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ)

فضرب فانبجست ، وحذفه للإشارة إلى المطاوعة وعدم التوقف في الحصول والإمتثال نظير قوله تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) (٢) ، ونظائره كثيرة في القرآن ، وقد مرّ الكلام في هذه القصة في سورة البقرة.

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٤.

(٢). النمل (٢٧) : ٤٠.

٣٣٦

[وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ

٣٣٧

وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)]

قوله سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ـ إلى قوله ـ : (قِرَدَةً خاسِئِينَ)

قوله : (حاضِرَةَ الْبَحْرِ)

أي : قريبة منه على الساحل.

قوله : (يَعْدُونَ)

أي يتجاوزون حدود الله.

وقوله : (شُرَّعاً)

جمع الشارع بمعنى المشرف الداني.

وقوله : (خاسِئِينَ)

أي مطرودين.

وفي تفسيري القمي والعياشي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «وجدنا في

٣٣٨

كتاب علي ـ عليه‌السلام ـ : أن قوما من أهل ايلة من قوم ثمود وأن الحيتان كانت سبقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك ، فشرعت إليهم (١) يوم سبتهم في ناديهم وقدّام أبوابهم في أنهارهم وسواقيهم ، فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها (٢) ، فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم عنها الأحبار ولا يمنعهم (٣) العلماء من صيدها ، ثم إنّ الشيطان أوحى إلى طائفة منهم إنّما نهيتم عن أكلها يوم السبت ولم تنهوا عن صيدها ، فاصطادوها يوم السبت وأكلوها فيما سوى ذلك من الأيام.

فقالت طائفة منهم : الآن نصطادها وانحازت طائفة أخرى منهم ذات إليمين.

فقالوا : ننهاكم (٤) عن عقوبة الله أن تتعرضوا (٥) بخلاف أمره ، واعتزلت طائفة منهم ذات الشمال (٦) فسكتت ولم تعظهم (٧) ، فقالت للطائفة التي وعظتهم (٨) (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

فقالت الطائفة التي وعظتهم : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

قال : فقال الله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) ، يعنى لمّا تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة.

__________________

(١). في تفسير العياشي : «لهم»

(٢). في تفسير العياشي : «يأكلونها»

(٣). في تفسير العياشي : «ولا ينهاهم»

(٤). في تفسير العياشي : «الله الله إنّا نهيناكم»

(٥). في تفسير العياشي : «تعرضوا»

(٦). في تفسير العياشي : «إليسار»

(٧). في تفسير العياشي : «فلم يعظهم»

(٨). في تفسير العياشي : «لم تعضهم»

٣٣٩

فقالت الطائفة التي وعظتهم : لا والله لا نبايتكم (١) الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل بكم البلاء فيعمّنا معكم.

قال : فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء (٢) ، فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء ، فلمّا أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله تعالى غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية ، فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت ، فدقّوه فلم يجابوا ولم يسمعوا منها حسّ أحد ، فوضعوا سلّما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم ، فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون.

فقال الرجل لأصحابه : يا قوم أرى والله عجبا ، قالوا : وما ترى؟ قال : أرى القوم وقد صاروا قردة يتعاوون ، لها أذناب ، فكسروا الباب ودخلوا المدينة.

قال : فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم يعرف الإنس أنسابها من القردة.

فقال القوم للقردة : «ألم ننهكم» (٣) ، الحديث.

وفي المجمع : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الثالثة» (٤).

أقول : وروى [ما] في معناه في الكافي وتفسير العياشي (٥) ، وظاهر الآية يساعده ، فإنّ الله سبحانه قسّم القوم قسمين فقال : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، والأمة القائلة : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ)

__________________

(١). في تفسير العياشي : + «لا نجا معكم»

(٢). في تفسير العياشي : ـ «فيجمعنا معكم ، قال فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء»

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٤٤ ؛ تفسير العياشي ٢ : ٣٣ ـ ٣٤ ، الحديث : ٩٢.

(٤). مجمع البيان ٤ : ٣٨٣.

(٥). الكافي ٨ : ١٥٨ ، الحديث : ١٥١ ؛ تفسير العياشي ٢ : ٣٥ ، الحديث : ٩٧.

٣٤٠