تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

وفي تفسير العياشي : عن أبان بن تغلب قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : «أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه ، ومنع من منع من هوان به عليه؟ لا ، ولكنّ المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع ، وجوّز لهم أن يأكلوا قصدا ، ويشربوا قصدا ، ويلبسوا قصدا ، وينكحوا قصدا ، ويركبوا قصدا ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين ، ويلمّوا به شعثهم ، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا ، ويشرب حلالا ، ويركب (١) وينكح حلالا ، ومن عدا ذلك كان عليه حراما ، ثم قال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ، أترى الله ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم ويجزيه فرس بعشرين درهما ويشتري جارية بألف دينار ويجزيه جارية بعشرين دينارا ، وقال : (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٢).

قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ)

كان المراد من إخراجها للعباد تربيتها بإخراجها من الأرض ، كالقطن والصوف والإبريسم ، وأصناف الجواهر.

وفي الكافي مرفوعا : مرّ سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان ، فقال : والله لآتينّه ولأوّبخنّه فدنا منه ، فقال : يا ابن رسول الله والله (٣) ما لبس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثل هذا اللباس ولا علي ـ عليه‌السلام ـ ولا أحد من آبائك ، فقال له أبو عبد الله

__________________

(١). في المصدر : + «حلالا»

(٢). تفسير العياشي ٢ : ١٣ ، الحديث : ٢٣.

(٣). في المصدر : ـ «والله»

٢٤١

ـ عليه‌السلام ـ : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في زمان تتر مقتر وكان يأخذ لقتره وإقتاره ، وإنّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها فأحق أهلها بها أبرارها ، ثم تلى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) ، فنحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه الله ، غير أني يا ثوري ما ترى عليّ من ثوب إنّما لبسته (١) للناس ، ثم اجتذب يد سفيان فجرّها إليه ، ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا ، فقال : هذا لبسته (٢) لنفسي ، وما رأيته للناس ، ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ خشن وداخل ذلك الثوب ثوب ليّن ، فقال لبسته هذا الأعلى للناس ولبسته هذا لنفسك تسرّها» (٣).

وفي الكافي : أيضا ، عنه ـ عليه‌السلام ـ قيل له : أصلحك الله ذكرت أنّ علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ كان يلبس الخشن ، يلبس القميص بأربعة دراهم وما اشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجيّد (٤) ، فقال له : «إن علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر (٥) ، لو لبس مثل ذلك اليوم شهر به ، فخير لباس كل زمان لباس أهله» (٦).

أقول : ترك لباس التجمل بالتحريم بمعنى سدّ الطريق شيء ، وتركه ليتسلّى به قلوب الفقراء ، او ليواسي معهم في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك من العناوين شيء آخر ، وما كان من أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قبل خلافته كان

__________________

(١). في المصدر : «ألبسه»

(٢). في المصدر : «ألبسه»

(٣). الكافي ٦ : ٤٤٢ ـ ٤٤٣ ، الحديث : ٨.

(٤). في المصدر : «الجديد»

(٥). في المصدر : + «عليه»

(٦). الكافي ١ : ٤١١ ، الحديث : ٤.

٢٤٢

مواساة ، وما كان بعد خلافته كان ليتسلّى به قلوب الضعفاء والمساكين من رعيّته ، كما في بعض الروايات عنه ـ عليه‌السلام ـ.

قوله سبحانه : (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)

أي يشارك المؤمنون غيرهم فيها في الدنيا ، ويختصّون بها في الآخرة.

وفي أمالي الشيخ : في كتاب له [عليه‌السلام] إلى أهل مصر : واعلموا يا عباد الله إنّ المتقين حازوا عاجل الخير وآجله ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم ، أباحهم الله في (١) الدنيا ما كفاهم به وأغناهم ، قال الله عزوجل : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل ما أكلت ، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم ، فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون ، وشربوا من طيّبات ما يشربون ، ولبسوا من أفضل ما يلبسون ، وسكنوا من أفضل ما يسكنون ، وتزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون ، وركبوا من أفضل ما يركبون و (٢) أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ، وهم غدا جيران الله تعالى يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون ، لا تردّ لهم دعوة ، ولا ينقص لهم نصيب من اللذّة ، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من (٣) له عقل (٤).

__________________

(١). في المصدر : «من»

(٢). في المصدر : ـ «و»

(٣). في المصدر : «من كان له»

(٤). الامالي ، الطوسي : ٢٦ ـ ٢٧ ، الحديث : ٣١.

٢٤٣

قوله [سبحانه] : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ)

الفاحشة : ما غلظ من الفجور واشتدّ شناعته ، كالزنا وقتل النفس المحترمة ، والإثم : هو الذنب غير أنّ الظاهر من استعمالاته أنّه التفريط فيما يجب رعايته ، ومن استعمالاته : أثمت الناقة ، إذا أبطأت في سيرها ، فكأنّه الذنب غير المتعدّي إلى الغير ، والبغي : هو التعدّي عن الحدّ ، ومنه : البغي بمعنى الظلم ، كأنّه تعدّى الإنسان عن حدّ نفسه إلى الغير ، فعلى هذا فالفواحش هي الذنوب البالغة في القباحة مطلقا ، والإثم : هو ذنب الإنسان بتفريطه في ذات نفسه ، والبغي : هو ذنبه بإفراطه او تعدّيه إلى الغير ، وهذه أصناف ثلاثة كلّها في مقام الفعل ، والشرك والقول بغير علم كلاهما ذنب في القول ، في التوحيد أو غيره.

وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ)

قيد للبغي ، جيء به ـ مع كون البغي دائما بغير حق ـ للإشعار بالعلّية ونظيره قوله [تعالى] : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ، وإنّما لم يؤت بنظيره في الفواحش والإثم لكون لفظيهما بمفهوميهما كافية في ذلك.

وقوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا)

جيء ب : (أن) المصدريّة دون أن يقال : وشرككم ، لأنّ المصدر المضاف إلى الفاعل يشعر بالوقوع ، ولا يناسب ذلك مقام التشريع ، كما في نظائره كقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (١).

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٨٤.

٢٤٤

وفي الكافي والعيّاشي : عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «فأمّا قوله : (ما ظَهَرَ مِنْها) ، يعني الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر الفواحش (١) في الجاهلية ، وأما قوله : (وَما بَطَنَ) يعني ما نكح من أزواج (٢) الآباء ، لأنّ الناس (٣) كانوا قبل أن يبعث النبيّ إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمّه ، فحرّم الله عزوجل ذلك ، وإمّا الإثم ؛ فإنّها الخمر بعينها ، وقد قال الله عزوجل في موضع آخر : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) (٤) ، فأمّا الإثم في كتاب الله فهي : الخمر (٥) ، والميسر فهي : النرد والشطرنج (٦) ، (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ) (٧) كما قال (٨) ، وأما قوله (٩) : (الْبَغْيَ) فهي (١٠) : الزنا سرّا (١١).

أقول : وفي لفظ الرواية تشويش ، وقد مرّ في قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) (١٢) من سورة النساء ، ما يدلّ على أنّ تحريم تزويج الإبن زوجة الأب إنّما نزل بالمدينة ، والسورة مكيّة ـ على ما قالوا ـ ، والظاهر أنّ

__________________

(١). في الكافي : «للفواحش» ، وفي تفسير العياشي : ـ «الفواحش»

(٢). في المصدر : ـ «أزواج»

(٣). في تفسير العياشي : «فإن»

(٤). البقره (٢) : ٢١٩.

(٥). في الكافي : «الخمرة»

(٦). في الكافي : ـ «فهي النرد والشطرنج»

(٧). البقرة (٢) : ٢١٩.

(٨). في المصدر : + «الله تعالى»

(٩). في الكافي : ـ «وأمّا قوله»

(١٠). في تفسير العياشي : «فهو»

(١١). الكافي ٦ : ٤٠٦ ، الحديث : ١.

(١٢). النساء (٤) : ٢٢.

٢٤٥

الرواية من باب عدّ المصاديق المشهورة دون تخصيص الآية بعد ظهورها في العموم.

وفي التهذيب : عن علي بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ قال : (الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ، ما ظهر : نكاح إمرأة الأب ، وما بطن : الزنا» (١).

أقول : فمعنى الظهور كونه دأبا لا ينكر ومعنى البطون استتار الزاني بفعله ، كما أنّ معنى الظهور على ما استفاده الخبر السابق ظهور كونه فاحشة ، ومعنى البطون خفاء كون النكاح المذكور فاحشة لاستقرار عادتهم عليه ، وهذا ممّا يؤيد ما ذكرنا أنّ عدّ هذه المذكورات من باب تطبيق عموم الآية على بعض مصاديقها دون تخصيصها بها.

وفي الخصال عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إيّاك وخصلتين فيهما» (٢) هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس برأيك ، و (٣) تدين بما لا تعلم (٤).

وفي أخرى : أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم (٥).

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ القرآن له ظهر وبطن ، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمّة الجور ، وجميع ما أحلّ الله في الكتاب هو الظاهر ، والباطن من ذلك أئمّة الحق» (٦).

أقول : وقد مرّ الكلام في بيان معنى هذا الخبر ، ونظائره فيما مرّ فلا نعيد.

__________________

(١). تهذيب الاحكام ٧ : ٤٧٢ ، الحديث : ١٠٢.

(٢). في المصدر : «ففيهما»

(٣). في المصدر : «أو»

(٤). الخصال : ٥٢ ، الحديث : ٦٦.

(٥). الخصال : ٥٢ ، الحديث : ٦٥.

(٦). الكافي ١ : ٣٧٤ ، الحديث : ١٠.

٢٤٦

قوله [سبحانه] : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)

يمكن أن يستفاد من الآية أنّ لكلّ أمّة من حيث اجتماعهم أجلا ، كما أنّ لكلّ فرد من أفرادها أجلا ، وقد أثبت سبحانه لكلّ فرد كتابا ، ولكلّ أمة كتابا ، كما أثبت لكلّ أجل كتابا ، قال سبحانه : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١) ، وقال سبحانه : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) (٢) ، وقال سبحانه : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣).

قوله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)

لفظة (ما) و (النون) المشدّدة جيء بهما للتأكيد ، وهو شائع في الإستعمال ، وقد مرّ فيما مرّ ، أنّ هذه الخطابات لجميع البشر ، لا لأمة النبيّ خاصة ، حتى يستدلّ به على كون شريعة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ غير خاتمة للشرائع.

*

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ١٣.

(٢). الجاثية (٤٥) : ٢٨.

(٣). الرعد (١٣) : ٣٨.

٢٤٧

[فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ

٢٤٨

هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)]

٢٤٩

قوله سبحانه : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ)

أي الذي كتب من أجلهم ورزقهم المقضي في حقهم ، والشاهد عليه قوله فيما مرّ : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ) (١) ، قوله في الجملة التالية : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) ، حيث غيّي نيل النصيب بحضور الموت.

قوله سبحانه : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ)

أمّا القادة فبكفرهم وتضليلهم ، وأمّا الأتباع فبكفرهم وتقليدهم ، كذا قيل (٢).

قوله سبحانه : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)

سياق الكلام كالمشعر بأنّ فتح أبواب السماء وسيلة ومقدّمة لدخول الجنّة ، وهو كذلك ، وقد قال سبحانه : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) إلى أن قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٣).

وفي المجمع : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «أما المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها ، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد اهبطوا (٤) إلى سجّين ، وهو واد بحضر موت يقال له : «برهوت» (٥).

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٥.

(٢). بحار الأنوار ٦٦ : ١١٣.

(٣). محمد (٤٧) : ٤ ـ ٨.

(٤). في المصدر : + «به»

(٥). مجمع البيان ٤ : ٣٥٤.

٢٥٠

أقول : والخبر من روايات البرزخ.

لكن الآيات كما ترى من قوله : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) جمع بين القيامة والبرزخ من غير تفصيل بينهما ، وسيجيء الكلام في ذلك في سورة الفرقان وغيرها.

فتبين أنّ الإنسان الصالح سيسير بعمله مهتديا إلى الجنة ، وقد قال سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (١) وفي الجنّة ، فالجنّة في السماء ، والنار في الأرض والحضيض ، كما يشعر به الأوصاف المثبتة لها في الآية من قوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) ، وفي هذا المعنى قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٢).

قوله سبحانه : (مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ)

المهاد : الفراش ، والغواشي : الأغطية التي تغشّي بها.

قوله : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

في المجمع : عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «ما من أحد إلا وله منزل في الجنّة ومنزل في النار ، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة وذلك قوله : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)» (٣).

أقول : الوراثة والإرث والورث أن تملك الشيء وتختص به بعد غيرك ،

__________________

(١). الذاريات (٥١) : ٢٢.

(٢). مريم (١٩) : ٧١ ـ ٧٢.

(٣). مجمع البيان ٤ : ٢٥٧.

٢٥١

فإطلاق الوراثة يقتضي تعلّقا بالغير ، فإرث أهل الجنة إيّاها يوجب تعلّقا ما لها بالغير وهم أهل النار ، فلهم منازل فيها كمنازلهم ، ويلوح هذا المعنى من قوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (١).

وفي معناه آيات أخر ، وفي الآيات لطائف معان يظهر بالتدبّر فيها.

قوله سبحانه : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ)

في المجمع والمعاني : عن علي ـ عليه‌السلام ـ : «أنا ذلك المؤذّن» (٢).

أقول : وروى هذا المعنى في الكافي وتفسير القمّي : عن موسى بن جعفر ـ عليهما‌السلام ـ ، وفي تفسير العياشي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ (٣).

قوله : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ)

الأعراف : أعالي الحجاب وكثبان الرمل ، ويؤيّد المعنى الأوّل وقوع لفظ الحجاب قبل ذلك ، وكان الأصل فيه العرفان ، فأعالي الحجاب أعراف لكونها مشرفة على الجانبين يعرف بها ظهر الحجاب وبطنها ، والكثبان ، والإرتفاعات من الرمل أعراف لكونها يعرف من أعاليها الأطراف والجميع حجاب ، وكيف كان ، فالآيات تدلّ على وجود حجاب بين أهل الجنة وأهل النار يحتجب كلّ من الفريقين به عن الآخر ، وفي أعالي هذا الحجاب رجال لم يسمّهم سبحانه ، وإن كانت الأوصاف التي وصفهم بها يعيّنهم بعض التعيين ، كما لم يسمّ المؤذّن

__________________

(١). الزمر (٣٩) : ٧٤.

(٢). مجمع البيان ٤ : ٢٥٩ ، معاني الأخبار : ٥٩ ، الحديث : ٩.

(٣). الكافي ١ : ٤٢٦ ، الحديث ٧٠ ؛ تفسير القمي ١ : ٢٣١ ؛ تفسير العياشي ٢ : ١٧ ، الحديث ٤١.

٢٥٢

الذي وصفه في الآية السابقة وهم في منزلة مشرفة مطلّة على الفريقين.

وقوله تعالى : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ)

وذلك أن اليوم (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (١) ، (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) (٢) فسيما الإنسان يغني عن السؤال عن شأنه.

وقوله سبحانه : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ)

الضمير للرجال شبيه الإستخدام لما سيجيء أنّهم طائفتان ، وهؤلاء المنادون إحدى الطائفتين وهم طائفة ، فمن هناك (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) ، فلم يصلوا إلى مرتبة السابقين إلى الجنة فيدخلوها كمثلهم ولا هم مثل أصحاب النار فيقنطوا من دخولها فيسلّمون على أصحاب الجنة.

وقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً)

وهم من أئمة الضلال ورؤساء الكفار بقرينة قوله تعالى : (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ، وقوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) ، المشار إليهم هم أصحاب النداء السابق الذين عندهم ، وهذا يدلّ على أن أصحاب الأعراف طائفتان :

إحداهما : الطائفة السابقة ؛

والآخرى : هؤلاء الذين يدخلون الطائفة الأولى في الجنة ويؤمّنونهم

__________________

(١). الطارق (٨٦) : ٩.

(٢). غافر (٤٠) : ١٦.

٢٥٣

الخوف والحزن وهو ظاهر.

وقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

إدخال في الجنة وإعطاء الأمن ، ولم تثبت هاتان الخصلتان في القرآن لأحد غير أصحاب الأعراف ، وهما وإن كانا كالشفاعة غير أنّهما أعلى منزلة من نفس الشفاعة ، إذ قد عرفت سابقا أنّ الشفاعة تقريب للمسبب إلى السبب ، وهذا أنزل مرتبة من السببيّة التامة ، والسببيّة والأمر يومئذ لله سبحانه وحده ، فهذا الأمر والسببيّة منهم هو عين أمر الله وحكمه.

وبما مرّ يظهر معنى ما ورد من الروايات في المقام.

ففي الجوامع : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الأعراف كثبان بين الجنة والنّار يوقف عليها كلّ نبيّ وكلّ خليفة تبّي مع المذنبين من أهل زمانه ، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده ، وقد سبق المحسنون إلى الجنة ، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين والواقفين معه ، انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا إلى الجنة فيسلّم عليهم المذنبون ، وهو قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) ، أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي والإمام ، وينظر هؤلاء (١) إلى أهل النار فيقولون : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، وينادي أصحاب الأعراف وهم الانبياء والخلفاء رجالا من أهل النار ورؤساء الكفار يقولون لهم مقرعين : ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) ، إشارة لهم إلى أهل الجنة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم ويحتقرونهم بفقرهم ويستطيلون عليهم بدنياهم ، ويقسمون أنّ الله لا يدخلهم

__________________

(١). في المصدر : + «المذنبون»

٢٥٤

الجنة ، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) ، يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين عن أمر من أمر الله (١) لهم بذلك : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ، أي لا خائفين ولا محزونين (٢).

وفي تفسير القمّي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الأعراف كثبان بين الجنة والنار ، والرجال الأئمة يقفون على الأعراف مع شيعتهم ، وقد سبق المؤمن (٣) إلى الجنّة (٤) ، فيقول الأئمة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنة قد سبقوا إليها بلا حساب ، وهو قول الله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) ، ثم يقال لهم : انظروا إلى أعدائكم في النار وهو قوله : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) في النار (قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ، ثم يقولون لمن في النار من أعدائهم هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا (٥) لا ينالهم الله برحمة ، ثم يقول الأئمة لشيعتهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (٦).

وفي تفسير العياشي : عن سلمان قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول لعلّي ـ [عليه‌السلام] ـ أكثر من عشر مرّات : «يا علي! إنّك

__________________

(١). في المصدر : «من الله»

(٢). جوامع الجامع ١ : ٦٥٩ ـ ٦٦٠.

(٣). في المصدر : «وقد سيق المؤمنون»

(٤). في المصدر : + «بلا حساب»

(٥). في المصدر : + «ان»

(٦). تفسير القمي ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٢٥٥

والأوصياء من بعدك اعراف بين الجنّة والنّار لا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكركم وأنكرتموه (١).

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخر ، وهي تؤيّد ما مرّ أنّ الأعراف من العرفان ، فإنّ الارتفاع النتوّ من الأرض ، حيث كان يتعرّف به حال ما حوله ، سمّي عرفا ، ثمّ أطلق وسمّى كلّ نتوّ عرفا ، كعرف الدابة وعرف الديك وعرف الحجاب ، وحيث كانت هذه الأعراف مقاما من مقامات الكمال يوم القيامة يتعرّف به حال الفريقين ، كما أنّ الميزان والكتاب كذلك كانت الرجال الذين على الأعراف هم الأعراف باعتبار آخر ، وهو المراد بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أعراف بين الجنة والنار.

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «جاء ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فقال : يا أمير المؤمنين! (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) ، فقال : نحن على الأعراف ، ونحن نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الذين (٢) ، لا يعرف الله عزوجل إلّا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف يوقفنا (٣) الله عزوجل يوم القيامة على الصراط ، فلا يدخل الجنة إلّا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه ، إنّ الله تبارك وتعالى لو شاء عرّف الناس (٤) نفسه حتى يعرفوا حدّه ويأتوه من بابه (٥) ،

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ١٨ ، الحديث : ٤٤.

(٢). في المصدر : «الذي»

(٣). في المصدر : «يعرفنا»

(٤). في المصدر : «لعرف العباد»

(٥). في المصدر : ـ «حتى يعرفوا حدّه ويأتوه من بابه»

٢٥٦

ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه (١) الذي يؤتي منه (٢)» ، (٣) الحديث.

أقول : والحديث كما ترى جمع بين المعنيين حيث يقول ـ عليه‌السلام ـ : «نحن على الأعراف أي نعرف غيرنا ، ونحن الأعراف أي يعرف بنا غيرنا كما يعرف الانسان بالأعراف ما خفي من أطرافها».

وفي الكافي ـ أيضا ـ : عنه ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال الراوي وهو حمزة بن الطيّار قلت : وما أصحاب الأعراف : قال : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته (٤) ، الحديث.

أقول : وفي معناه روايات أخر ، وقد عرفت أن الأعراف كما يشتمل على جمع من كرام الرجال يشتمل على عدّة من ضعفائهم ممّن لم يدخل جنّة ولا نارا ، ودلّ على ذلك الروايتان الأوليان ، فلا منافاة بين الروايات.

قوله سبحانه : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ)

في تفسير العياشي : عن الزهري عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : (يَوْمَ التَّنادِ) (٥) ، يوم ينادي أهل النار أهل الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ ...)» (٦).

أقول : إشارة إلى وجه تسمية يوم القيامة بيوم التناد ، قال تعالى : (إِنِّي أَخافُ

__________________

(١). في المصدر : «والوجه»

(٢). الكافي ١ : ١٨٤ ، الحديث : ٩.

(٣). الكافي ١ : ١٨٤ ، الحديث : ٩.

(٤). الكافي ٢ : ٣٨١ ، الحديث : ١.

(٥). غافر (٤٠) : ٣٢.

(٦). تفسير العياشي ٢ : ١٩ ، الحديث : ٥٠.

٢٥٧

عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (١) ، وذلك لما ورد في هذه الآيات من التنادي بين أصحاب الجنّة وأصحاب النار.

قوله سبحانه : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ)

في تفسير العياشي : عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : «إنّ أهل النار يموتون عطاشا ، ويدخلون قبورهم عطاشا ، ويحشرون عطاشا ، ويدخلون جهنم عطاشا ، فترفع (٢) قراباتهم من الجنة ، فيقولون : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ)» (٣).

قوله : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ)

التفصيل في الأصل ، التفرقة بين أجزاء الشيء بعد إحكامه واجتماع أجزائه ، فهو في الكلام التفرقة بين معانيه غير المتميّزة عند الإجمال ، فتفصيل الكتاب نزوله سورا وآيات مقطعات ، فالمراد بالكتاب مجموع الكتاب ولازمه كون التأويل المذكور تأويل جميع الكتاب لا خصوص الآيات النازلة في شأن القيامة ، وقد مرّ الكلام في معنى التأويل في أوائل سورة آل عمران.

*

__________________

(١). غافر (٤٠) : ٣٢.

(٢). في المصدر : «فيرفع [لهم]»

(٣). تفسير العياشي ٢ : ١٩ ، الحديث : ٤٩.

٢٥٨

[إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)]

قوله سبحانه : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)

سيأتي الكلام فيه في سورة حم السجدة.

قوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ)

٢٥٩

العرش : هو سرير الملك ، والإستواء عليه هو : الإستقرار في الجلوس عليه ، وهو أخص بالملك ، كما أنّ الكرسي أعمّ ، فالإستواء على العرش كناية عن الإستيلاء على الملك والتسلّط على المملكة بأخذ زمام تدبير أمورها.

وأنت إذا تأمّلت مملكة ذات اجتماع مدني ، وجدتها ذات أفراد ونفوس تقوم بهم جزئيات كثيرة غير محصورة أو غير متناهية من أمور وحوادث ترتبط بحياتهم ، وتلك الجزئيات تتحد وتتلائم من جهة روابط تربط ما بينها ، وتجمع كل عدّة منها تحت ناموس نوعي ، ثم تلك النواميس النوعية أنفسها تجتمع عند نواميس أخرى نوعيّة ، وهكذا إلى أن تجتمع جميعا في واحدة هي ملتقى جميع الأزمّة ، ومنها تبدأ الحوادث النوعيّة ، ومن النوعيّة الشخصية ، وإليها تنتهي جميعا ، والفطرة قاضية أنّ الأفراد الكثيرين ، لا تقوم لحفظ النواميس النوعيّة من حيث كثرتهم ، بل يجب جمع الأزمّة في أيّ مرتبة من المراتب المذكورة في مقام وكرسيّ يشغله واحد يسمّى ب : الرئيس أو بالملك ، ينظر في الأمور من حيث روابطها النوعيّة ، ويدبرّها بروح نوعيّة لا بروح شخصيّة ، فإنّ الروح الشخصيّة لا تفي إلّا بتدبير أفعال نفس شخصية لا نوعيّة ، فالجزئيات من أمور المملكة تابعة لأزمّة النوعية ونابعة ومترشّحة منها ، وهي جميعا للزّمام الواحد الذي يجمع الجميع عند عرش المملكة ، فكل سافل منها موجود بكلّه فيما فوقها بنحو الإجمال والإنطواء ، والجميع عند مجمع الجميع بنحو أكثر اندماجا وأدقّ انطواءا وبساطة ، وكذا لو أخذنا من العلوّ إلى السفل وجدنا كلّ عال موجودا في السافل كأنّه هو الذي أخذ في الإنتشار والتفصيل فصار هو الكثير ، ثمّ لو فرضنا تخلّف أمر من هذه الأمور عن مجراه المقررّ له وعن تدبير زمامه النوعي ، احتاج إلى حلّ ربطه بسببه ونوعه وهو المسمّى ب : الإذن ، فيأذن الملك أو

٢٦٠