تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

ليسوا من الذين ينهون عن السوء فهم من الذين ظلموا ، وقد تركوا النهي عن المنكر وهو سبحانه يذمّ التاركين للنهي عن المنكر من إليهود في موارد من كلامه ، فهم من الظالمين.

قوله سبحانه : (عَرَضَ هذَا الْأَدْنى)

المراد به الدنيا ، والعرض : ما يزول من متاعها ، وفي الإشارة تحقير.

قوله : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)

أي هم مع رجائهم المغفرة كلّما عرض لهم عرض لم يستنكفوا منه وأخذوه ، فهم في رجائهم كاذبون ، فالإصرار في إيثار الدنيا يكشف عن استخفافهم بأمر الدين.

قوله سبحانه : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ)

في الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله خصّ عباده بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا حتى يعلموا ، ولا يردّوا ما لم يعلموا ، قال عزوجل : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ، وقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)» (١) (٢).

أقول : وروى قريبا منه العياشي عنه ـ عليه‌السلام ـ وعن أبنه موسى ـ عليه‌السلام ـ (٣) ، والروايات عنهم ـ عليهم‌السلام ـ في النهي عن القول بغير

__________________

(١). يونس (١٠) : ٣٩.

(٢). الكافي ١ : ٤٣ ، الحديث : ٨.

(٣). تفسير العياشي ٢ : ٣٥ ـ ٣٦ ، الحديث : ٩٨ و ٩٩.

٣٤١

علم ، والنهي عن ردّ ما لم يعلم وجهه من الروايات كثيرة ـ جدا.

قوله : (دَرَسُوا ما فِيهِ)

عطف على موضع (أَلَمْ يُؤْخَذْ) أي أخذ منهم ميثاق الكتاب (وَدَرَسُوا ما فِيهِ).

قوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ)

في تفسير القمي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «نزلت في آل محمد وأشياعهم» (١).

*

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٤٦.

٣٤٢

[وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ)

أخذ الشيء من الشيء ، يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه ، فتدلّ الآية على تفريق الذرّية من بني آدم وفصلهم من بني آدم ، وحيث كانت لفظة : (من) نشويّة أريدت زيادة التوضيح ، فقيل : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ليعلم أنّ الأخذ لم يكن من قبيل أخذ المماس الملاصق من مماسه كأخذ اللباس والنعل من الإنسان ، ولا من قبيل أخذ البعض من الكلّ وإبقاء البعض بالقطع ونحوه ، كأخذ الجرعة من ماء القدح وأخذ اللقمة من الطعام ، بل كأخذ المادّة من المادّة بحيث لا ينقص من المأخوذ منه بالأخذ شيء ، ثم الأخذ من المأخوذ ، ثم من المأخوذ من المأخوذ وهكذا ، فيفيد أنّا فصّلنا بني آدم بأن أخذنا كلّ ذريّة من ظهر من

٣٤٣

يلده فلم يبق واحد منهم إلّا انفصل عن والديه ، ولو قال تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم [ذريّتهم] أو نشرهم أو ما يشبهه لم يفد ذلك.

وقوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ)

الاشهاد على الشيء : إحضار الشاهد عنده واراءته حقيقته ليتحمّله ، فإشهادهم على أنفسهم إراءتهم حقيقة أنفسهم.

وقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)

عطف بيان ، وهو الذي أشهد عليه ، فإشهاد على أنفسهم هو إشهاد على أنّه ربّهم ، فمشاهدتهم أنفسهم كانت مشاهدة أنّ الله ربّهم.

وقوله : (قالُوا بَلى شَهِدْنا)

اعتراف منهم بأنّ مشاهدة أنفسهم أوجبت مشاهدة أنّه ربّهم ، أو أنّه هو بنحو من العناية ، ولذا قيل : إنّ الآية تشير إلى ما يشاهده كلّ انسان في حياته الدنيا أنّه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده ، وكلّ ما يرتبط بوجوده من اللوازم.

فيؤول معنى الآية إلى أنّا نشرنا بني آدم وفرّقناهم في هذه الدنيا وجعلناهم مفتقرين محتاجين في جهات الحياة وأوقفناهم على احتياجهم ، وأنّهم مربوبون فاعترفوا بذلك فيكون قولهم : (بَلى شَهِدْنا) ، من قبيل لسان الحال ، أو من قبيل إسناد القول باللازم إلى من يقول بملزومه ، والفرق بين لسان الحال والقول بلازم القول ؛

أنّ الأوّل : إنكشاف المعنى عن القائل لاتّصافه بحال من الأحوال سواء شعر

٣٤٤

به أو لم يشعر كما يدلّ آثار الأبنية الخربة على حال ساكنيها وغرور الدنيا بهم ولعب الدهر بشملهم ، وكما يدلّ سيما المسكين البائس على سؤاله ما يسدّ به فاقته.

والثاني : انكشاف المعنى عن القائل لإذعانه بما يستلزمه او تكلّمه بما يدلّ عليه بالإلتزام.

وكيف كان ، فقوله : (أَنْ تَقُولُوا) ، من باب حذف المضاف ، والتقدير : كراهة أن تقولوا ، وهو شائع ، فيدلّ على أن الأخذ والإشهاد المذكورين كان الغرض منهما إبطال حجتين لكم وهما ما يشتمل عليه قوله : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ، أي كراهة (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) ، أي عن احتياج أنفسنا وإيجاب الإحتياج وجود ربّ محتاج إليه (غافِلِينَ) ، (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً) لهم (مِنْ بَعْدِهِمْ) ، فتبعناهم في شركهم ، فالمبطلون المستقلّون فيه هم آبائنا ، (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ) ، غيرنا.

هذا غاية ما يمكن في تقريب قول المفسرين في الآيتين والآيتان مع ذلك عجيبتا النظم لا يساعد نظمهما على ذلك ، فإنّ الحجّتين إنّما عطفت إحداهما على الأخرى ب (أو) الترديدية ، ومقتضى ذلك كون كلّ واحدة منهما حجة مستقلة دون الأخرى ، مع أنّ الغفلة حجة مستقلة في إسقاط العذاب ، ولكن التبعية في الولادة ليست بحجة وحدها مع فرض عدم الغفلة على أنّ الحجة الثانية لا تستقيم في نفسها أيضا.

بيان ذلك : أنّ التعليل بقوله : (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ).

وإن شئت قلت : سقوط الحجتين إمّا متفرّع على مجموع أخذ الذرّيّة

٣٤٥

وإشهادهم كما هو ظاهر وإمّا متفرّع على الإشهاد.

ويكون المعنى على الأول : إنّا أخذناكم من الظهور وأشهدناكم لتسقط الحجّتان ، فلو لم نفرّق بينكم وبين آبائكم لكانت لكم الحجة علينا ، ومن المعلوم أن لو يفرّق بينهم في الدنيا لم يكن هناك مبطلون حتى يحشروا ويحتجوا على ربّهم بغفلة أو تبعيّة.

ويكون المعنى على الثاني : أن لو نشهدكم في الدنيا على أنفسكم وعلى ربّكم لقلتم يوم القيامة : إنّا كنّا غافلين عن التوحيد ، أو قلتم : إنّا وإن لم نغفل عن التوحيد ، لكن الشرك إنّما فعله آبائنا وكنّا تابعين محضا من غير استقلال ، ومن المعلوم أنّ فرض عدم الإشهاد يناقض فرض عدم الغفلة ، فإذا لم يشهدوا في الدنيا فكيف يتصوّر أن لا يغفلوا.

ولو فرض أنّ الحجتين جميعا على تقدير الغفلة كان ذكر التبعية في الولادة والشرك لغوا ، حاشا كلامه سبحانه عن ذلك ، وذلك أنّ التبعية مع فرض عدم الغفلة لا يوجب معذوريّة عند العقل وهو ظاهر.

وأيضا قوله تعالى : في الآية الثانية : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) ، يعطى أنّ الشرك منحصر حينئذ فيهم من غير وجوده في ذريّتهم مع أنّه خلاف فرض شركهم واحتجاجهم ، وكذا قوله : (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ، يفيد أنّ الفعل فعل آبائهم وليس بفعلهم مع أنّ الضرورة تقتضي بخلافه ، فإنّ الضعيف التابع في الدنيا فاعل مستقل غير مسلوب عنه الفاعلية ، ولا معنى لاحتمال المسامحة في التعبير لمكان التبعيّة ، فإنّ مقام الإحتجاج يأبى عن ذلك وخاصة في يوم لا ينطقون (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (١).

__________________

(١). النبأ (٧٨) : ٣٨.

٣٤٦

فهذا كلّه يوجب أن تكون هذه الواقعة في ظرف وعالم غير عالم الدنيا ، ويكون فيه ذرّيّة بني آدم مجتمعة وجودا وهم أحياء عقلاء ، فلو أخذوا مؤاخذة يوم القيامة توجّه على جميعهم ، ولو وقع منهم شرك كان ذلك فعلا للمتبوع دون التابع ، ويتفرّع على ذلك الأمر في الدنيا.

توضيح ذلك : أنّ الكلام يدلّ على أنّ هلاك المشركين يوم القيامة يدور مدار صحة إحدى الحجّتين وبطلانهما ، وقد أبطل الله سبحانه الحجّتين بهذا الأخذ والإشهاد ، فلكون كلّ واحد (١) من بني آدم موجودا بوجود مستقلّ غير تابع لم يصح أن يحتجّ الذرّيّة في هلاكهم على الله سبحانه بانّا لم نكن موجودين مستقلين في الوجود ، بل كنّا موجودين بتبع وجود آبائنا وهم كانوا موجودين مستقلين والشرك فعلهم لا فعلنا ، إذ الفعل لفاعله المستقل بالوجود لا لما يوجد بتبع وجود الفاعل ، ولكونهم شاهدين للربوبيّة لم يصحّ أن يقولوا : إنّا وإن كنّا موجودين مستقلين ، لكنّا غافلون ولا يصحّ مؤاخذة الغافل وإهلاكه.

ولازم ذلك أن لو لم يتحقق ذلك الأخذ والإشهاد كانوا جميعا موجودين بوجود جامع غير مفرّق بحيث يوجد كلّ ذرّيّة بتبع وجود أبيه ، لكنّهم أحياء عقلاء غافلون عن الربوبيّة ، فلمكان تبعية وجودهم كان الشرك لمتبوعهم ، ولمكان عدم المشاهدة كانوا غافلين لا يصحّ إهلاكهم.

وحيث كان هذا النحو من الوجود غير متحقّق في الدنيا فهو في عالم آخر قبل الدنيا ، كان نفوس بني آدم وأرواحهم موجودين فيه بوجود جامع كل ذرّيّة بتبع وجود متبوعه ، ثم فرّق الله بينهم بعد ذلك الإتصال : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى

__________________

(١). في نسخة : «نفس» ، «منه ـ رحمه‌الله ـ».

٣٤٧

أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، ليصح إهلاك المشرك به يوم القيامة ، وإنّما استقلّ كلّ من بني آدم بالنفس في الدنيا واضطرّوا إلى التوحيد بالفطرة من هناك ، فالسعادة والشقاء يوم القيامة يتفرّع على ذلك إليوم فقد رجع آخر الأمر إلى أوّله.

فالآيتان من سنخ الآيات المبيّنة لأصل الشقاء والسعادة الكاشفة عن عود الأمر إلى ما بدء منه كقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ* فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (١) ، وقد مرّ الكلام فيها ، وقوله سبحانه : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) (٢) ، وقوله سبحانه : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً* لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) (٣).

وسيجيء إشارة إلى وجه دلالتهما عند نقل الروايات.

وبالجملة ، فهذا هو الذي تدلّ عليه هاتان الآيتان ، لا ما فسّرهما به المفسّرون بما عرفت من البيان ، أن المراد بالآيتين أنّ الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمّهاتهم ومنها إلى الدنيا وأشهدهم في الدنيا على أنفسهم وأراهم آثار صنعه ودلائل توحيده ووجوه احتياجاتهم المستغرقة لهم الدالة على وجوده ووحدته ، فكأنّه قال لهم عند ذلك : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) ، وإنّما فعل ذلك كلّه لئلا يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) ، فتبعناهم ونشأنا على شركهم من غير ذنب.

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢). الأعراف (٧) : ١٠١.

(٣). الأحزاب (٣٣) : ٧ ـ ٨.

٣٤٨

هذا ، وقد طرحوا عدّة من الروايات وردت في تفسير الآية بعالم الذرّ بأنها غير تامّة السند مخالفة لظاهر الكتاب ، وقد ذكروا وجوها في إبطال دلالة الآيتين بعالم الذرّ.

منها : إنّ هذه الذرّيّة المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما أن جعلهم الله عقلاء أو لم يجعلهم كذلك ، فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصحّ أن يعرفوا التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى ، وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق فيجب أن يتذكّروا ذلك ولا ينسوه ، لأنّ أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه إلّا أن يكون ذاكرا له ، فيجب أن نذكر نحن الميثاق.

والجواب : إنّ الذي هو حجة إنّما هو معرفة التوحيد لا خصوصيات الموقف ، والمعرفة بالتوحيد محفوظة غير منسيّة وإنّما المنسيّ خصوصيات الموقف وليست بحجّة ، ألا ترى إنّك إذا أردت أخذ عهد من زيد مثلا فأحضرته دارك وأكرمته وأجلسته مجلس الكرامة ، ثمّ خاطبته بالإنذار والتبشير ، ولم تزل به حتى أرضيته فأعطاك العهد ، فهو مأخوذ بعهده ما دام يذكره وإن نسي الموقف وجميع المقارنات التي قارنت إعطائه العهد وهو ظاهر.

ومنها : أنّه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجمّ الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه وميّزوه ، حتى لا يذكره واحد منهم وإن طال العهد ، حتى أنّ أهل الجنّة يذكرون بعض ما وقع لهم في الدنيا على ما حكاه الله تعالى عنهم في مواضع من كلامه ، ولو جاز النسيان مع هذه الكثرة لجاز أن يكون الله تعالى قد كلّف الخلق فيما مضى ، ثم أعادهم إما ليثيبهم وإما ليعاقبهم ونسوا ذلك.

ولازم ذلك صحة قول التناسخية أنّ المعاد إنّما هو خروج النفس من البدن ودخولها في بدن آخر لتجد في الثاني جزاء الأعمال التي عملتها في الأول.

٣٤٩

والجواب : أمّا عن صدر الإحتجاج فبأنّ : مجرد الإستبعاد غير مفيد مع أنّا ذكرنا أنّ الذي يتمّ به الحجة وهو معرفة التوحيد محفوظ غير منسيّ ، وإنّما المنسيّ خصوصيات الموقف ولا مدخل لها في تمام الحجّة.

وأمّا عن ذيله فبأنّ : الطريق إلى إبطال قول التناسخية غير منحصر في ذلك حتى لو لم يمتنع نسيان ما مضى جاز التناسخ وهو ظاهر بالرجوع إلى محلّه ، ولا دليل على امتناع نسيان بعض العوالم في بعض آخر.

ومنها : غير ذلك ممّا أورد على الأخبار الناطقة بأن الله سبحانه أخذ من صلب آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فأخذ منهم الميثاق ، بأنّها مخالفة لظاهر الكتاب ، فإنّه تعالى قال : (مِنْ بَنِي آدَمَ) ، ولم يقل : من آدم ، وقال : (مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، ولم يقل من ظهره ، وقال : (ذُرِّيَّتَهُمْ) ، ولم يقل : ذريّته ، ثم أخبر بأنه فعل ذلك بهم كراهة أن يقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) ، (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) ، وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون ، فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه.

ومن هنا قال بعضهم : بأنّ الآية مخصوصة ببعض بنى آدم لا جميع البشر ، فهى غير شاملة لآدم وولده من صلبه وجميع المؤمنين ، ومن المشركين من ليس له آباء مشركون ، بل يختصّ بالمشركين الذين لهم سلف مشرك ، هذا.

والجواب : أنّ قوله تعالى : (مِنْ بَنِي آدَمَ) ، يدلّ بنفسه على أخذ ولده من ظهره فلا حاجة إلى التصريح معه ، وأمّا الأخبار ، ففي مقام بيان القصة لا شرح الفاظ الآية حتى يورد عليها مخالفة ظاهر وأمّا عدم شمولها لولد آدم من صلبه ، فغير وارد ، لأنّ المراد أنّه تعالى إنّما فعل ذلك لئلّا يقول المشركون : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) ، لا أن يقول كل واحد منهم : إنّما أشرك آبائى ، فالقول قول المجموع من

٣٥٠

حيث المجموع لا قول كلّ واحد ، فيؤول المعنى إلى أنّا لو لم نفعل ذلك لكان كلّ من أردنا إهلاكه يوم القيامة يقول : لم أشرك أنا ، إنّما أشرك من كان قبلى ولم أكن إلّا ذرّيّة وتابعا لا متبوعا إلّا واحد منهم أو بعضهم.

ومنها : إنّ تفسيرها بعالم الذرّ ينافي قولهم : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) ، لدلالته على وجود آباء مشركين ، وهو ينافى وجود الكلّ بوجود واحد جمعي.

والجواب عنه ظاهر بما أجبنا به عن الوجه السابق.

وأمّا الروايات :

ففي الكافي : عن زرارة عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن قول الله عزوجل : (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ) (١) قال ـ عليه‌السلام ـ : «الحنفية من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال : فطرهم على المعرفة به» ، قال زرارة : وسألته عن قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا) ، قال : أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة ، فخرجوا كالذرّ فعرّفهم وأراهم نفسه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه ، وقال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : كل مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة بأنّ الله خالقه ، كذلك قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) (٣).

أقول : والرواية مشهورة مرويّة أيضا في التوحيد وتفسيري القمي والعيّاشي (٤)

__________________

(١). الحج (٢٢) : ٣١.

(٢). لقمان (٣١) : ٢٥.

(٣). الكافي ٢ : ١٢ ، الحديث : ٤.

(٤). التوحيد : ٣٣٠ ، الحديث ٩ ؛ تفسير العياشي ٢ : ٤٠ ، الحديث ١١١ ؛ لم نجده في تفسير القمي.

٣٥١

وروى هذا المعنى عدة من الرواة بطرق مختلفة (١) وهي كما ترى يرجع الميثاق إلى الفطرة كما مرّ سابقا.

وفي الكافي ـ أيضا ـ : عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سألته عن قول الله عزوجل : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (٢) ما تلك الفطرة؟ قال : «هي الإسلام ، فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، وفيهم المؤمن والكافر» (٣).

وفي الكافي ـ أيضا : ـ عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : كان على بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ لا يرى بالعزل بأسا يقرأ هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، فكلّ شيء أخذ الله منه الميثاق فهو خارج وان كان على صخرة صمّاء (٤).

وفي الخصائص للسيد الرضي : عن الأصبغ بن نباتة ، قال : أتى ابن الكوّاء أمير المؤمنين وكان معنّتا في المسائل فقال : يا أمير المؤمنين! خبّرني عن الله عزوجل هل كلّم أحدا من ولد آدم قبل موسى؟ فقال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «قد كلّم الله جميع خلقه برّهم وفاجرهم وردّوا عليه الجواب» قال : فثقل على ابن الكوّاء ولم يعرفه فقال : وكيف كان ذلك فقال : «أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه» : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، فقد أسمعهم كلامه

__________________

(١). الكافي ٢ : ١٢ ـ ١٣ ، الحديث ٤ ؛ تفسير فرات : ١٤٨ ، الحديث ١٨٦ ؛ متشابه القرآن ١ : ١٥١.

(٢). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٣). الكافي ٢ : ١٢ ، الحديث : ٢.

(٤). الكافي ٥ : ٥٠٤ ، الحديث : ٤.

٣٥٢

وردّوا عليه (١) كما تسمع في قول الله يابن الكواء! : (قالُوا بَلى) ، ثم قال : اني أنا الله لا إله إلّا أنا وأنا الرحمن الرحيم ، فأقروا له بالطاعة والربوبية ، وأنه ميّز الرسل والأنبياء والأوصياء وأمر الخلق بطاعتهم فأقرّوا بذلك في الميثاق (٢) وأشهد الملائكة عليهم (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (٣).

أقول : ورواه العيّاشي في تفسيره (٤).

وفي تفسيري العياشي والقمّي : عن رفاعة ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق نعم هكذا وقبض يده» (٥).

وفي الكافي وتفسير العياشي : عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال «جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه» وزاد العياشي : يعني في الميثاق (٦).

أقول : وربّما استشهد بالرواية على كون الميثاق مأخوذا بلسان الحال.

وفيه : أنّ المراد أنه هيّأ فيهم أسباب أخذ الميثاق والعهد في عالم الميثاق لا في الدنيا ، ويشهد به ما في رواية العيّاشي من الزيادة.

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن أبي بصير ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في

__________________

(١). في المصدر : + «الجواب»

(٢). في المصدر : + «واشهدهم على أنفسهم»

(٣). الخصائص ، للسيد الرضي : ٨٧.

(٤). تفسير العياشي ٢ : ٤١ ، الحديث : ١١٦.

(٥). تفسير العياشي ٢ : ٣٧ ، الحديث : ١٠٢ ؛ لم نجده في تفسير القمي.

(٦). الكافي ٢ : ١٢ ؛ الحديث : ١ ، تفسير العياشي ٢ : ٣٧ ، الحديث : ١٠٤ ، وفي الكافي أيضا : «يعني في الميثاق».

٣٥٣

قول الله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، قالوا بالسنتهم؟ قال : «نعم وقالوا بقلوبهم» ، فقلت : «وأين كانوا يومئذ؟ قال : «صنع منهم ما اكتفى به» (١).

أقول : ظاهر الرواية أن الجواب كان باللسان والقلب جميعا أي بكلّهم فيؤول إلى أنّهم يومئذ كانوا ولم يتميز منهم جارحة عن جارحة وهو الروح ، غير أنّ له كلاما كالكلام الذي باللسان لصدق حقيقة الكلام عليه ، ويؤيّد هذا المعنى قوله ـ عليه‌السلام ـ : «صنع منهم ما اكتفى به» ، ومحصل الجميع : أنّ هذه المرحلة مرحلة تفرّق الأرواح وانفصالها بعد اجتماعها واتّصالها بحسب الحقيقة ولها كلام.

وفي تفسير العياشي ـ أيضا ـ : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ بعض قريش قال لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : بأيّ شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال : إني كنت أوّل من أقرّ بربّي ، وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيّين (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، فكنت أوّل من قال : بلى ، فسبقتهم إلى الإقرار بالله» (٢).

أقول : الآية المشتملة على أخذ الميثاق من النبيّين.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا) (٣).

وقد مرّت في سورة البقرة ، ومرّت عدّة من الروايات الواردة فيها هناك.

وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى

__________________

(١). تفسير العياشي ٢ : ٤٠ ، الحديث : ١١.

(٢). تفسير العياشي ٢ : ٣٩ ، الحديث : ١٠٧.

(٣). آل عمران (٣) : ٨١.

٣٥٤

وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (١).

وسيجيء في سورة الأحزاب ، ويأتي ما يتعلّق بها من الكلام وما وردت فيها من الروايات.

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في الرواية : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، يشعر بأنّ الميثاق ميثاق واحد مأخوذ على الأنبياء وغيرهم جميعا أخذا واحدا ، وإنّما تعيّن في كلّ طائفة بحسب حالهم كما مرّ ذلك في سورة البقرة.

وفي تفسير القمي : عن ابن مسكان ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) ، قلت : معاينة كان هذا؟

قال : «نعم ، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ، فمنهم من أقرّ بلسانه [في الذرّ] ولم يؤمن بقلبه فقال الله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ)» (٢) (٣).

أقول : قد مرّ أنّ الغيب والشهادة أمران نسبيّان ، فكلّ غائب مشهود في نفسه غيب بالنسبة إلى غيره ، فالدنيا كانت غيبا في الميثاق ؛ كما أنّ الميثاق غيب بالنسبة إلى الدنيا ، فلو فرض في الميثاق مخالفة بين الظاهر والباطن بأن يظهر أحد الإيمان ويبطن الشرك كان ذلك في الدنيا كفرا ظاهرا واعترافا باطنا ، وهذا هو الذي ذكره ـ عليه‌السلام ـ بقوله : فمنهم من أقر بلسانه ولم يؤمن بقلبه.

والمراد بالإيمان المنفي مطاوعة القلب بمعنى عقده على الإطاعة والخضوع

__________________

(١). الأحزاب (٣٣) : ٧.

(٢). يونس (١٠) : ٧٤.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٤٨.

٣٥٥

دون مجرد المعرفة فإنه فطري شامل موجود في المشرك والمؤمن ، غير منفي عن المشرك ، وأمّا دلالة قوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) (١).

فبيانه أنّ مثل هذا التركيب إنّما يورد فيما كان هناك ترقّب وانتظار ، كالفرق بين أن يقال : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) (٢) ، وبين أن يقال : فلم يؤمنوا بما كذّبوا به من قبل.

فإنّ الأوّل : يفيد أنّهم لم يؤمنوا وكان مترقّبا منهم ذلك ، لكونهم كذّبوا به من قبل.

والثاني : يفيد أنّهم لم يؤمنوا به بعد أن كذّبوا به من غير انتظار ولا اقتضاء من التكذيب السابق لعدم الإيمان اللاحق بخلاف الأوّل فإنّه يثبت اقتضاء الحالة الأولى للحالة الثانية واستلزامها لها ، ولو كان المراد من التكذيب السابق ، التكذيب الدنيوي ، بمعنى أنّهم لم يؤمنوا لا حقا لتكذيبهم بآيات الله سابقا وعدم اعتنائهم بما تدلّ به من المبدء والمعاد وعدم اعتبارهم بما ينبغي أن يعتبر به المعتبرون ، كان ذلك بناء الكلام على الإقتضاء العادي ، والإقتضاءات العاديّة كثيرا ما تتخلّف من غير تأثير ، فإنّا كثيرا ما وجدنا أو سمعنا بالعتاة والطغاة والفجّار البالغين في هتك محارم الله عادوا بعد وتابوا وحسن رجوعهم ونصحت توبتهم فأصلحوا بعد أن كانوا مفسدين ، والإعتماد على امثال هذه الإقتضاءات منّا لمسامحتنا في أمر العلم وركوننا بالظنون والأوهام ، لكنّه لا يصحّ منه سبحانه.

ومن ذلك يظهر أنّ هذا التكذيب السابق منهم لا يتخلّف عن مقتضاه ، وهذا

__________________

(١). يونس (١٠) : ٧٤.

(٢). يونس (١٠) : ٧٤.

٣٥٦

يوجب أن يتحقق منهم تكذيب سابقا لا يتخلف عن عدم الإيمان اللاحق فهو في نشأة قبل نشأة الدنيا وهو الميثاق.

وفي الكافي : عن زرارة ، قال : إنّ رجلا سأل أبا جعفر عن قول الله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ، فقال : ـ وأبوه يسمع ـ «حدثني أبي أنّ الله عزوجل أخذ قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصبّ عليها الماء العذب الفرات ؛ ثم تركها أربعين صباحا ، ثم صبّ عليها الماء المالح الأجاج ، فتركها أربعين صباحا ، فلما اختمرت الطينة أخذها فعركها عركا شديدا فخرجوا كالذرّ من يمينه وشماله ، وأمرهم جميعا أن يقعوا في النار ، فدخل أصحاب إليمين فكانت عليهم بردا وسلاما ، وأبي أصحاب الشمال أن يدخلوها» (١).

أقول : ورواه العيّاشي في تفسيره (٢) والأخبار في هذا المعنى وأمره سبحانه للفريقين بالدخول في النار كثيرة جدّا وكأنّه تمثيل للإيمان فإنّه نار للكافر وسلام على المؤمن ، فكانّ هناك بارزا في صورة النار وأمروا بدخولها فدخلها فريق وأبى آخرون ، ويمكن أن يكون تمثيلا وكناية في كلام الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ.

*

__________________

(١). الكافي ٢ : ٧ ، الحديث : ٢.

(٢). تفسير العياشي ٢ : ٤٠ ، الحديث : ١٠٩.

٣٥٧

[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)]

قوله سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا)

نزلت في بلعم بن باعورا على ما ذكره المفسرون.

وفي تفسير القمي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : إنّه أعطي بلعم بن باعورا

٣٥٨

الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له فمال إلى فرعون ، فلمّا مرّ فرعون في طلب موسى وأصحابه قال فرعون لبلعم : ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا ، فركب حمارته ليمرّ في طلب موسى فامتنعت عليه حمارته ، فأقبل يضربها فأنطقها الله عزوجل فقالت : ويلك على ماذا تضربني أتريد أن أجيء معك لتدعو على نبىّ الله وقوم مؤمنين؟! فلم يزل يضربها حتى قتلها ، فانسلخ الإسم من لسانه وهو قوله : (فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ، وهو مثل ضربه الله» ، الحديث (١).

أقول : قوله ـ عليه‌السلام ـ : «أعطي الإسم الأعظم» يستفاد ذلك من قوله تعالى : (آياتِنا) ، حيث أطلق الآيات ولم يقل من آياتنا ، وسيأتي إن شاء الله معنى الإسم الأعظم ويظهر منه معنى إيتاء الآيات وإعطائها.

وقوله تعالى : (فَانْسَلَخَ)

السلخ : نزع الجلد واللباس ونحوها ، وفيه إشارة عن كونها مستعارة فيه غير راسخة.

وقوله : (فَأَتْبَعَهُ)

من الإتباع وهو الدرك واللحوق ، وفيه إشارة إلى أنّ تسلّط الشيطان عليه إنّما تفرّع على سوء سريرته لا بالعكس كقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٢).

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٤٨.

(٢). الصف (٦١) : ٥.

٣٥٩

وقوله : (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)

الغيّ : خلاف الرشد ، كالضلال خلاف الهدى ، والفرق بين الغيّ والضلال أنّ الضلال فقد المقصد مع قصده ، والغيّ فقد المقصد مطلقا ، فالغاوي هو الخارج عن الطريق من غير مقصد ، والضالّ هو الخارج عنه الواقع فيما لا يوصل إلى المطلوب ، ولذلك يستعمل الغاوي فيمن لا يقدر على تدبير نفسه في السير ولا يحسن السلوك.

وقوله : (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ)

اللهث : شدة تنفس الكلب مع إخراج لسانه لتعب أو عطش ، وهو أخسّ أحواله ، فهو مثل لسوء سريرة الرجل وإنّ سوء السريرة ممّا لا يؤثّر فيه التعرّض وعدمه فهو مؤثّر لا محالة ، والآيتان من جملة آيات الميثاق تدلّ على أنّ السعادة والشقاء راجعتان إلى السريرة ومرحلة الروح.

وقد عرفت في ذيل قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (١) ، إنّ ذلك كلّه راجع إلى الطينة والميثاق فارجع.

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ)

الذرء : الخلق ، والآية تدل على أنّ النار غاية لخلق كثير من الثقلين في بدئه ، فموقعها قبل موقع الميثاق ، فهي من آيات الطينة كالآيتين السابقتين عقّب بها جميعا آيات الميثاق للإتصال الذي بين بدء الخلق وأخذ الميثاق ، ويستنتج من جميع الآيات الستّ أنّ الله سبحانه خلق الخلق حين خلقهم صنفين : سعيد إلى

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٩.

٣٦٠