تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

وفي جوامع الجوامع : قال : وفي حديث أبيّ : «أنزلت عليّ الأنعام جملة واحدة ، يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، فمن قرأها صلّى [عليه اولئك] السبعون ألف ملك بعدد كلّ آية في الأنعام يوما وليلة» (١).

قوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ)

كان الأنسب بحسب مقام الكلام أن يبدأ بالتكلّم مع الغير ، كما سيعود إليه في قوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢) ، لكن حيث كان الكلام سيعود إلى مخاطبة الكافرين المعرضين عن توحيد الله سبحانه والإسلام له ، اجتنب عن تعريف التكلّم معهم بالمشافهة ، فخاطبهم مخاطبة من لا يريد أن يعرف مقامهم ، حفظا عن التهتّك والإزراء ولذا ذكر عند العدول عن مخاطبتهم والإعراض عنهم ، فقال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) (٣) ، ولم يقل : وما نكلّمهم إلّا وهم معرضون. فألبس نفسه لباس الغيبة ، وخاطب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فنسب إليه سبحانه ما عليه مدار هذا العالم في نظامه من السموات والأرض والظلمات والنور ، ولم يضلّ ضال في التوحيد كالدهرية والطبيعية والوثنية والمشركين وأهل التثنية إلّا فيها والكل لله ، ثمّ ذكر أنّ الكفار مع ذلك يعدلون عن الله سبحانه إلى غيره ، وقولنا : مع ذلك مفاد قوله : (ثُمَ) إذ قال : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ؛ وإذ كان عدو لهم بعد ذلك الوضوح من البيان مستعجبا

__________________

(١). جوامع الجامع ١ : ٥٥٠.

(٢). الآية (٦) من السورة.

(٣). الآية (٤) من السورة.

٢١

مستغربا ، عدل عن مخاطبة الرسول إلى مخاطبتهم أنفسهم لعلّهم يتنبّهوا ويستيقظوا عن نومة الغفلة ، فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ، فأنتم ترون أنّكم لستم موجودين من تلقاء أنفسكم ، بل موجودون من الغير مخلوقون له ، وليس مجرد الإيجاد كيفما دام ، بل وجودكم وجود مؤجّل مقدّر ، فهذا الوجود المؤجل المقدّر المحدود هذا ، لمفاض من عنده ، فكما أنّ أصل وجودكم مقصود بالإفاضة فكذا أجله وقدره وحدّه ، وليس الأجل الحقيقي المعيّن عندكم فهو عند غيركم ، فوجودكم من عنده أوله وآخره وجميع جهاته.

ثم إنّكم مع ذلك تمترون في توحيده ، وليس كلّ هذا الإيجاد والتدبير منه سبحانه أمرا اضطراريّا من غير علم وتدبير ، حتى يكون إيمانكم وكفركم به على السواء ، بل هو الله في السموات وفي الأرض ، وفي تكرار «في» تفصيل الكلام (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ، لأنّه الله ـ عزّ اسمه ـ.

ولمّا بلغ الكلام هذا المبلغ واستشعر إعراضهم ، أعرض عنهم وعدل ثانيا عن خطابهم إلى خطاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وعن غيبة نفسه ـ وهو على كلّ شيء شهيد ـ إلى التكلّم بالغير ، فقال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (١).

ثمّ ذكر أنّ ذلك لتكذيب منهم سابق ، وأنّه سيأتيهم أنباء ذلك. فقال : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، فهو وبال ما هو معهم من قبل (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) وهي ما سيشاهدونه من وبال كفرهم.

فهذا ما افتتحت به السورة ، ولا يزال يحوم إلى آخر السورة حول هذا البيان

__________________

(١). الآية (٤) من السورة.

(٢). الآية (٥) من السورة.

٢٢

من توحيده سبحانه وآيات توحيده وشرك المشركين وأنّه وبال ما قدّموه ، وأنّ له وبالا سيشاهدونه في الدنيا وعند الموت والبعث.

فإن قلت : فماذا أفاد الألتفات من الغيبة إلى التكلّم في قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) (١) بعد قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) والإلتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) بعد قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

قلت : أفاد جميعا أنّه سبحانه ذو رحمة على كلّ حال ، لا يرضى لعباده الكفر ، بل يعود إليهم على كفرهم وتمرّدهم ، فيدعوهم إلى ما فيه خيرهم كلّ الخير ، فإن أعرضوا فيذرهم في طغيانهم يعمهون ، فهو المحمود بكل حمد وله كلّ الثناء.

ولذلك افتتحت السورة بالحمد وللتصريح بهذا التلويح أمر رسوله بعد الإعراض عن مخاطبتهم لإعراضهم أن يقرع سمعهم برحمته مرّة بعد مرّة في هذه السورة فقال : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٢) ، وقال : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٣) وقال : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) (٤) وقال : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) (٥).

قوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)

في الكافي : عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله عزوجل خلق الجنّة قبل

__________________

(١). الآية (٦) من السورة.

(٢). الآية (١٢) من السورة.

(٣). الآية (٥٤) من السورة.

(٤). الآية (١٣٣) من السورة.

(٥). الآية (١٤٧) من السورة.

٢٣

أن يخلق النار ، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية» ، [وخلق الرحمة قبل الغضب] وخلق الخير قبل الشر ، وخلق الأرض قبل السماء ، وخلق الحياة قبل الموت ، وخلق الشمس قبل القمر ، وخلق النور قبل الظلمة» (١).

أقول : (٢)

قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً)

فيه إشارة إلى أنّ الحدوث والبقاء كلاهما مستندان إليه سبحانه ، وفي تنكير (طِينٍ) و (أَجَلٌ) إشارة إلى تحقير أمرهما في جنب عظمة قدرته ونفوذ مشيئته ، فيفيد فخامة القدرة ومضيّ الإرادة.

وقوله سبحانه : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)

والأجل المسمّى هو المعين بالتسمية والتحديد كقوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٣) ، وفيه دلالة على أنّ الأجل أجلان : أجل غير مسمّى ولا محدود ، وأجل مسمّى لا يقبل التغيّر والتبدّل ، والدليل على ذلك قوله : (عِنْدَهُ) ، وقد قال سبحانه : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٤) ، فهو من كلمات الله المكتوبة في أمّ الكتاب ، ومن هنا يظهر معنى الأجل المسمّى ، وأنّه أمر خارج عن موجودات هذه النشأة الدنيوية الفانية البائدة ، غير قابل للفناء والتبديل.

وفي تفسير العيّاشي : عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١). الكافي ٨ : ١٤٥ ، الحديث : ١١٦.

(٢). بياض في النسخة.

(٣). البقرة (٢) : ٢٨٢.

(٤). النحل (١٦) : ٩٦.

٢٤

في قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : الأجل الذي غير مسمّى موقوف ، يقدّم منه ما شاء ويؤخّر منه ما شاء ، [قال :] وأمّا الأجل المسمّى فهو الذي ينزّل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل ، قال : وذلك قول الله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١) (٢).

أقول : وروى هذا المعنى بطريقين عن حمران (٣).

وفيه أيضا : عن حصين ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) قال : «الأجل الأول هو ما نبذه الى الملائكة والرسل والأنبياء ، والأجل المسمّى عنده هو الذي ستره الله عن الخلائق» (٤).

أقول : ورجوعه إلى جواز وقوع البداء وعدم جوازه ، وسيجيء الكلام في البداء في آخر سورة الرعد إن شاء الله تعالى.

وفي الكافي : عن حمران ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «هما أجلان : أجل محتوم وأجل موقوف» (٥).

أقول : وفي هذا المعنى بعض روايات أخر ومرجعه إلى معنى الروايات السابقة (٦).

وفي تفسير القمّي : عن الحلبي ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه [الله وحتمه] والمسمّى هو الذي فيه البداء ، يقدّم

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٣٤.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٥٤ ، الحديث : ٥.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٥٤ ، الحديث : ٦ و ٧.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٥٥ ، الحديث : ٩.

(٥). الكافي ١ : ١٤٧ ، الحديث : ٤.

(٦). الغيبة للنعماني : ٣٠١ ، الحديث : ٥ و ٦.

٢٥

ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير» (١).

أقول : الظاهر أنّ في الرواية سهوا من أحد أو بعض الرواة ، والمعنى الصحيح المؤيّد بالكتاب ما تدلّ عليه الروايات السابقة كما مرّ.

قوله سبحانه : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)

معنى كونه سبحانه في السماوات وفي الأرض عموم الوهيّته فيهما ، فإنّ المظروف إذا لم يقبل الحلول في ظرفه ، أفاد التركيب شمول وصفه له ، كقولك : هو الأمير في شرق الأرض وغربها ، وهو المعروف في البرّ والبحر.

وفي [التوحيد] روى الصدوق ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «كذلك هو في كلّ مكان» ، قال الراوي : قلت : بذاته؟ قال : ويحك أنّ الأماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا [وملكا] ، وليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء ، لا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا [وملكا] وإحاطة (٢).

أقول : لما كان الخلق والقضاء المذكوران في الآية السابقة في نفسهما غير كافيين في إيجاب الإسلام والعبودية ، تمّم البرهان بالإبانة عن سعة الوهيّته ، وركنها العلم والقدرة ، والسلطان والإحاطة ، والإبانة عن تعلق العلم بالأعمال وظرفها ، سواء كان هو السرّ أو الجهر وإليه الإشارة بما في الرواية.

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٩٤.

(٢). التوحيد : ١٣٢ ـ ١٣٣ ، الحديث : ١٥.

٢٦

[وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)]

قوله : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ)

تفريع اللمس على التنزيل ؛ لإفادة كونه أبعد من السحر لاجتماع الحاسّتين : البصر واللمس ، ولأنّ الناس يرون اللمس أقرب إلى الحقيقة من البصر.

٢٧

قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ)

لأنّ عادته سبحانه جرت أن لا يمهل قوما بعد إذ سألوا آية فأجيبوا بها ؛ لأنّ الحق إذا ظهر ولم يبق عليه لبس لم ينظر الجاحدون ، لعدم بقاء حاجة إلى وجودهم ، كما قال سبحانه : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (١).

أو لأنّ عالم الملائكة أرفع أفقا وأعلى وجودا من دار ، يعيش فيها الإنسان الدنيوي وهي الدنيا ، فظهور الملائكة لهم ظهورا تامّا لا يكون إلّا بتبديل دارهم بدارهم ، وهو الموت والعذاب ، كما هو ظاهر قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً* يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (٢) ، وحينئذ لم يبق مجال للدعوة النبوية لظهور الحقائق وارتفاع اللبس وانسداد باب الإختيار ، ولذلك عقّبه بقوله سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ).

وأنت إذا تأمّلت وجدت الوجهين جميعا راجعين إلى مرجع واحد.

هذا وربّما يستفاد من قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ، عدم التباين النوعي بين الملك والإنسان لظهوره في إمكان صيرورة الملك إنسانا كما يظهر من قوله أيضا : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) (٣).

ولبيانه محلّ آخر سيجيء إن شاء الله تعالى.

__________________

(١). الحجر (١٥) : ٨.

(٢). الفرقان (٢٥) : ٢١ ـ ٢٢.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٦٠.

٢٨

قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً)

الضمير إلى مطلق الرسول المعلوم من السياق دون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لمنافاته إلى سؤالهم ، فإنّهم قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، ولم يقولوا : لو لا جعله الله ملكا.

وقوله : (وَلَلَبَسْنا)

من اللّبس بفتح اللام نظير الإلتباس بمعنى الريب ، دون اللّبس بضم اللام.

وقوله سبحانه : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)

في مساق قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) ، والمعنى ـ والله العالم ـ :

ولقرّرنا في قلوبهم مع الملك الريب الذي يرتابون به مع الإنسان ، وإليه يرجع ما في تفسير العيّاشي : عن عبد الله بن أبي يعفور (٢) قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ «لبسوا عليهم لبس الله عليهم ، فإنّ الله يقول : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)» (٣).

قوله : (فَحاقَ)

يقال : حاق بالشيء أي أحاط.

__________________

(١). الصف (٦١) : ٥.

(٢). في المصدر : «عبد الله بن يعقوب» وهو تصحيف ، والصحيح : «عبد الله بن ابي يعفور» كما في الأصل ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٣٣ ، الحديث : ٤ ، والطبعة المحقّقة من المصدر ٢ : ٩١ ، الحديث : ١٠.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣٥٥ ، الحديث : ١٠.

٢٩

[قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)]

قوله سبحانه : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا)

شروع في بيان التوحيد ، بيانا تفصيليا بعد الإفتتاح ببيانه الإجمالى ، واختير الخطاب بواسطة الرسول ، فقيل : (قُلْ سِيرُوا قُلْ لِمَنْ) ، (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ) ، إلى آخر الآيات ، جريا على ما يفيده الكلام في أول السورة من الإعراض عن

٣٠

المخاطبة شفاها ، مع الرحمة المقتضية لعدم تركهم وأنفسهم وبذل الشفقة عليهم ، فينتج الخطاب بالواسطة.

وابتدأ بالأمر بالسير والنظر والإعتبار بعاقبة التكذيب لتنبيه السامع بما في هذه البيانات من الأهميّة ، كما أنّ عطف قوله : (ثُمَّ انْظُرُوا) ب : (ثُمَ) لذلك.

قوله : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

الآيتان بمنزلة الشرح لقوله في أول السورة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) ، ثم قوله : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استدلال بالملك ، فله كلّ ما في العالم من كلّ ما يصدق عليه كلمة «ما» من ذات أو صفة أو غير ذلك ، ولا ريب أنّ هذا الملك غير الملك الدائر بيننا في ظرف الإجتماع والمدنية القابل للنقل والإنتقال ، بل هو قيام الأشياء به سبحانه بحيث يكون له التصرف فيما شاء منها كيفما شاء ، غير أنّه سبحانه اختار الرحمة فلا يتصرّف إلّا بالرحمة ، وهو إفاضة الشيء ما يطلبه ويستحقه ويسأله ، فلا جرم يجزي المحسن بإحسانه جزاءا حسنا والمسيء بإساءته جزاءا وفاقا ، وهذا المعنى هو المقتضى لتذئيل قوله : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، بقوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، ثمّ تذئيله بقوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ).

وقوله : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)

كأنّه مبتدأ لخبر محذوف يدلّ عليه قوله : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، ويتفرّع

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١.

٣١

عليه قوله : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وقيل : منصوب على الذم ، أو مرفوع والتقدير : أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.

قوله : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)

محاذاة لقوله في أول السورة ، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) ، وكان تقديم الليل لكون السكون أليق به ، وكان تقديم الظلمات على النور أيضا بتلميح الليل والنهار.

قوله سبحانه : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ)

بيان ثان للتوحيد ، وهو أنه سبحانه هو الولي لا غير ؛ لأنّه : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) كغيره مما يدعي إلها ، والولي هو الذي يلي أمرك وأنت لا تملك التدبير ، وقد مرّ تفصيل معنى الولاية في سورة المائدة.

والدليل على ولايته رجوع أصل الإيجاد إليه سبحانه ، ولذلك أضيف (فاطِرِ) إلى (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولم يضف إلى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ولم يقل أيضا خالق من في السموات والأرض ، إشارة إلى أصل الإيجاد وشقّ العدم وابداع الوجود ، فهو الوليّ في جميع التدبير ، لا يملك غيره شيئا من تدبير نفسه ، ولذلك أيضا عقّب ذلك بقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ) إشارة إلى نفي أهون التدبير عن غيره ، كالصبي الذي لا يقدر حتى على الأكل فيطعمه وليّه.

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١.

٣٢

[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)]

قوله سبحانه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ)

محاذاة ، وكالشرح لقوله : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١) أو لقوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) (٢) والشهادة شهادة تحمل وشهادة اداء ، والمراد به الثاني وإن كانا جميعا واحدا ، وهو المصحّح للحوق قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) ، كأنه قيل شاهدي على صدق ما ادّعيه هو الله حيث أوحى إليّ القرآن لانذركم به ، فصدّق فيه وبه رسالتي ودعوتي ، وإليه يشير ما رواه القمّي في تفسيره : عن الباقر [ـ عليه‌السلام ـ]

__________________

(١). الآية (٥) من السورة.

(٢). الآية (٨) من السورة.

٣٣

أنّ مشركي أهل مكة قالوا : يا محمّد! ما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟ ما نرى أحدا يصدقك بالذي تقول ، وذلك في أول ما دعاهم ـ وهو يومئذ بمكة ـ قالوا : ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك ذكر عندهم فتأتينا بمن يشهد أنّك رسول الله ، قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)» (١).

أقول : وبالرواية يظهر شأن نزول الآيتين.

في هذه الآية [جواز] إطلاق الشيء عليه تعالى.

وفي [التوحيد] روى الصدوق : عن محمد بن عيسى بن عبيد قال : قال لي أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : ما تقول إذا قيل لك أخبرني عن الله عزوجل ، أشىء أم لا شيء (٢)؟ قال : قلت : قد أثبت الله عزوجل نفسه شيئا حيث يقول : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، فأقول : إنّه شيء لا كالأشياء إذ في نفي الشيئية عند نفيه وإبطاله ، قال لي : صدقت وأحسنت (٣) ، ثم قال الرضا ـ عليه‌السلام ـ : للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز [لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء] ، والسبيل في ذلك الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه (٤).

أقول : وفي تفسير العيّاشي : عن هشام ، ما يقرب منه (٥).

وقول الراوي : إذ في نفي الشيئية نفيه وإبطاله ، إشارة إلى الوجه العقلى ، إذ

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٩٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٣٤ ، الحديث : ١.

(٢). في المصدر : «أشيء هو أم لا»

(٣). في المصدر : «أصبت»

(٤). التوحيد : ١٠٧ ، الحديث : ٨ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٣٥.

(٥). تفسير العياشي ١ : ٣٥٦ ، الحديث : ١١.

٣٤

الشيئية منتزعة عن الوجود ومساوقة له ، فنفيها يساوق نفيه ، والطريقة الثالثة التي عبّر عليه‌السلام عنها بقوله : إثبات بغير تشبيه ، يشير إلى ما ذكره الراوي بقوله : أقول : إنّه شيء لا كالأشياء ، وحقيقته إثبات المفاهيم مع نفي خصوصيات المصاديق الممكنة ، فله علم لا كالعلوم ، وبصر لا كالأبصار ، وهكذا.

قوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) في المعاني : روى الصدوق عن الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سئل عن قول الله عزوجل : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) قال : بكل لسان (١).

أقول : مرجعه إلى عطف قوله : (وَمَنْ بَلَغَ) على محل المفعول ويؤيده قوله : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (٢).

وفي الكافي : عن مالك ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قول الله عزوجل : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ، قال : من بلغ أن يكون إماما من آل محمد ، فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (٣).

أقول : وهذا المعنى روي بطرق أخرى (٤) ، ومرجعه إلى عطف قوله : (وَمَنْ بَلَغَ) على محلّ الفاعل ، وقد مرّ ما يؤيده في آية المباهلة في سورة آل عمران.

__________________

(١). لم نعثر عليه في المصدر ، ولكنّه موجود في علل الشرائع ١ : ١٢٥ ، الحديث : ٣ ؛ بصائر الدرجات : ٢٢٦ ، الحديث : ٢ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٣٧ ، الحديث : ٦.

(٢). الكهف (١٤) : ١.

(٣). الكافي ١ : ٤١٦ ، الحديث : ٢١.

(٤). الكافي ١ : ٤٢٤ ، الحديث : ٦١ ؛ بصائر الدرجات : ٥١١ ، الحديث : ١٨ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٥٦ ، الحديث : ١٣.

٣٥

[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى

٣٦

ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)]

قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، ـ إلى آخر الآيات الثلاث ـ

محاذاة لقوله سابقا : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١) ، وكالشرح له ببيان حقيقة حياتهم الدنيا ، وأنّ لهم في باطنه حياة أخرى ، ستنجلي عليهم في يوم يسقط فيه الأوهام وتظهر الحقائق ، فيفقدون هؤلاء الشركاء ويكذبون على أنفسهم رغما من شهادتهم : أنّ مع الله آلهة أخرى ، ثم لا ينفعهم ولن ينفعهم الندم.

هذا وقد كرّر سبحانه في كتابه إنكار المشركين لشركائهم يوم القيامة في كلامه كقوله : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣) وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ* وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) (٤) ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥).

__________________

(١). الآية (٥) من السورة.

(٢). غافر (٤٠) : ٧٣ ـ ٧٤.

(٣). يونس (١٠) : ٣٠.

(٤). فصلت (٤١) : ٤٧ ـ ٤٨.

(٥). القصص (٢٨) : ٧٤ ـ ٧٥.

٣٧

قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) (١) إشارة إلى قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، وقوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) (٢).

والذي يتحصل بالتدبّر أنّهم وإن كذبوا يوم القيامة على أنفسهم إلّا أنّه متفرّع على ضلال شركائهم وفقدهم إيّاها ومزايلة ما بينهم على حضورهم وحضور شركائهم ، وضلال شيء عن شي وخاصة مع حضورهما ليس إلّا بسقوط الرابطة بينهما وزوال التأثير والسعي وبطلان النفع والإنتفاع ، على أنّه سبحانه يقول : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (٣) فنفي الأسباب يومئذ ونفي القدرة مطلقا عن غيره ، وقال سبحانه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤) وقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٥) ، فنفي الملك والأمر عن غيره يومئذ.

وهذه المعاني أعني انتفاء الملك والأمر والقدرة عن غيره سبحانه ، وإن اشترك بين يوم القيامة وغيره كسائر ما عدّ في القرآن من أوصاف يوم القيامة كقوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (٦) وقوله : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) (٧) إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١). المجادلة (٥٨) : ١٨.

(٢). الكهف (١٨) : ٥٢.

(٣). البقرة (٢) : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٤). غافر (٤٠) : ١٦.

(٥). الانفطار (٨٢) : ١٩.

(٦). غافر (٤٠) : ١٦.

(٧). غافر (٤٠) : ٣٣.

٣٨

لكن مزايلة الأسباب تبيّن أنّ هذا اليوم يوم بروز الحقائق وانكشاف الأغطية ، كما قال : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١).

ومن المعلوم أنّ بطلان السببيّة وأصل الملك والقدرة في الأشياء يوجب بطلان استقلالها ، إذ ما من شيء ممّا نشاهده من أقواها ذاتا إلى أضعفها وجودا إلّا وهو يملك نفسه من نفسه ، ويرتبط نوع ارتباط مع غيره ، فإذا بطل منه ذلك عادت الأشياء فاقدة الإستقلال وعادمة الحكم ، فلا يبقى لآمل أمل في شيء ، ولا لشيء نفع في شيء ولا ضرّ في شيء ، فلا يبقى أمر إلّا لله.

واتّضح حينئذ معنى ضلال آلهتهم وشركائهم وإنكارهم لعبادتهم وكذبهم على أنفسهم حيث كانوا في الدنيا يشهدون بألوهيتها وربوبيتها أو شراكتها لله ، ثم يقولون هناك : (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٢) ، ويستفاد هذا الذي ذكرنا من الآيات الناطقة بإنكار شركائهم لعبادتهم كقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)) (٣) حيث تثبت لهم عبادة وتنفيها عن أنفسها ، ولا ينسب إليها كذب وافتراء ، ونظيرها قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ* وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ

__________________

(١). ق (٥٠) : ٢٢.

(٢). فصلت (٤١) : ٤٧.

(٣). يونس (١٠) : ٢٨ ـ ٣٠.

٣٩

كانُوا يَهْتَدُونَ) (١) ، حيث أثبتوا لأنفسهم إغواءا وهو تكلّم بلسان الدنيا ، ثم تبرّءوا إليه وهو تكلّم بلسان الآخرة.

وفي تفسير العياشي : عن أبي معمّر السعدي ، قال : أتى عليّا رجل فقال يا أمير المؤمنين! إنّي شككت في كتاب الله المنزل ، فقال له علي : «ثكلتك أمك ، وكيف شككت في كتاب الله المنزل» ، فقال له الرجل : لأنّي وجدت الكتاب يكذّب بعضه بعضا وينقض بعضه بعضا ، قال : «فهات الذي شككت فيه» فقال : لأنّ الله يقول : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٢) ، ويقول : حيث استنطقوا قال الله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، ويقول : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٣) ، ويقول : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٤) ، ويقول : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) (٥) ، ويقول : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦) ، فمرّة يتكلّمون ومرة لا يتكلّمون ، ومرّة ينطق الجلود والأيدي والأرجل ، ومرّة (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧) قال : فأنّى ذلك يا أمير المؤمنين!؟

فقال له علي عليه‌السلام : «إنّ ذلك ليس في موطن واحد ، وهي في مواطن

__________________

(١). القصص (٢٨) : ٦٢ ـ ٦٤.

(٢). النبأ (٧٨) : ٣٨.

(٣). العنكبوت (٢٩) : ٢٥.

(٤). ص (٣٨) : ٦٤.

(٥). ق (٥٠) : ٢٨.

(٦). يس (٣٦) : ٦٥.

(٧). النبأ (٧٨) : ٣٨.

٤٠