تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

من قبيل الجري والتطبيق.

قوله : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا)

روي من طرق العامة أنّ أبا جهل قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منّا نبي يوحى إليه؟ والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبدا إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت (١).

وفي تفسير القمّي قال : قال الأكابر : لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي الرسل من الوحي والتنزيل ، فقال الله تبارك وتعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢).

قوله سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ)

وهذا تفريع لقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٣) ، فإنّ الهداية إذا كانت بإعطاء روح نوريّة ، والنور يفسح في المكان ويوجب اتّساع الإدراك ويشرحه ، فيعامل الإنسان حينئذ مع كلّ شيء ما يجب معاملته ، وبالمقابلة ، الظلمة كلما زادت إحاطتها أوجبت ضيقا لا يسع للإنسان أن يحفظ مع كل شيء ما يجب ، أو ينبغي حفظه معه ، فلا يؤمن أن يترك ما يجب أخذه ، أو يأخذ ما يجب تركه ، كالمحبوس في مكان ضيّق لا يسعه أن يتحرك فيه أدنى حركة ، سوى أن يبقى على حال من غير مجال.

فالهداية نور في القلب ينشرح معه الصدر ، ولازمه عدم التحرّج من المعارف

__________________

(١). الكشاف ٢ : ٦٣ ؛ تفسير الرازي ٣ : ١٧٣ ؛ معاني القرآن ٢ : ٢٨٨.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢١٥.

(٣). الأنعام (٦) : ١٢٢.

١٤١

الإلهية واستماع الحق فيها.

والضلالة ظلمة توجب كون القلب ضيّقا حرجا كما لو ألزم بما لا يطاق ، الصعود إلى السماء ، ولازمه عدم الأمن وعدم التمييز أي : الشك والإرتياب.

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله عزوجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكلّ به ملكا يسدّده ، وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسدّ مسامع قلبه ووكّل به شيطانا يضلّه» ، ثم تلا هذه الآية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١).

أقول : ورواه الصدوق في التوحيد والعيّاشي في تفسيره (٢).

وفي الكافي : أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ القلب ليتجلجل (٣) في الجوف يطلب الحق فإذا أصابه اطمأنّ وقرّ ، ثمّ تلا : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) (٤) الآية.

أقول : وروي هذا المعنى وما يقرب منه عن الباقر والصادق والرضا ـ عليهم‌السلام ـ بطرق متعددة) (٥).

وفي المعاني : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) فقال ـ عليه‌السلام ـ : «قد

__________________

(١). الكافي ١ : ١٦٦ ، الحديث : ٢.

(٢). التوحيد : ٤١٥ ، الحديث : ١٤ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٢١ ، الحديث : ١١٠ : ٣٧٦ ، الحديث : ٩٤.

(٣). التجلجل : التحرك مع الصوت.

(٤). الكافي ٢ : ٤٢١ ، الحديث : ٥.

(٥). روي هذا المعنى وما يقرب منه عن الصادق آل محمّد ـ عليه‌السلام ـ في تفسير العيّاشي ١ : ٣٧٦ ، الحديث : ٩٢ ؛ عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ١٣١ ، الحديث : ٢٧ ؛ وعن محمد الباقر ـ عليه‌السلام ـ في المحاسن ١ : ٢٠٢ ، الحديث : ٤١.

١٤٢

يكون ضيقا وله منفذ يسمع منه ويبصر ، والحرج [هو] الملتئم الذي لا منفذ له ، يسمع به الصوت ولا يبصر منه (١).

وفي الاختصاص : عن آدم بن الحرّ قال : سأل موسى بن أشيم (٢) أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ وأنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبّره بها ، فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها ، فخبّره بخلاف ما خبّر به موسى بن أشيم ، ثم قال ابن أشيم : فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأنّ قلبي يشرّح بالسكاكين وقلت : تركنا أبا قتادة [بالشام] لا يخطىء في الحرف الواحد : الواو وشبهها وجئت [ثمّ] لمن يخطىء هذا الخطأ كلّه ، فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الآية بعينها ، فخبّره بخلاف ما خبّرني وخلاف الذي خبّر به الذي سأله بعدي فتجلّى عنّي وعلمت أنّ ذلك تعمّد ، فحدّثت نفسي بشي فالتفت إلى أبو عبد الله فقال : «يا بن أشيم لا تفعل كذا وكذا فبان حديثي عن الأمر الذي حدثت به نفسي ، ثم قال : يا بن أشيم إنّ الله فوّض إلى سليمان بن داود فقال : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣) ، وفوّض إلى نبيه ، [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤) فما فوّض الى نبيّه] فقد فوّضه إلينا ، يا بن أشيم (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) ، أتدري ما الحرج»؟ قلت : لا ، فقال بيده وضمّ أصابعه : «هو الشيء المصمت الذي لا يخرج منه شيء

__________________

(١). معاني الأخبار : ١٤٥ ، الحديث : ١.

(٢). في نسخة : «أسمر» ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٣). ص (٣٨) : ٣٩.

(٤). الحشر (٥٩) : ٧.

١٤٣

ولا يدخل فيه شيء» (١).

أقول : ومنه الحرج للمكان الكثير الشجر الذي لا يمكن الرعاة أن يصلوا إليه.

ومنها ما في تفسير القمّي : قال : قال ـ عليه‌السلام ـ : «مثل شجرة حولها اشجار كثيرة فلا يقدر أن يلقي أغصانها يمنة ويسرة فتمرّ في السماء فيستمرّ حرجه» (٢).

وفي تفسير العيّاشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) قال ـ عليه‌السلام ـ : «هو الشك» (٣).

أقول : ويستفاد ممّا مرّ من الروايات :

أوّلا : إنّ الفارق بين الهداية والضلالة هو إطمئنان القلب وقراره عند الهداية ، واضطرابه وقلقه وشكه عند الضلال.

وثانيا : إنّ الفارق بين الخاطر الملكي والشيطاني في خطرات القلب هو القرار والإضطراب أيضا ، وقد مرّ بعض ما يتعلق بالمقام في قوله تعالى : (ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (٤) في قصة زكريا من سورة آل عمران.

قوله : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً)

أي مطّردا لا تخلّف فيه ولا اختلاف ، وقد مرّ في سورة الفاتحة.

قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ)

سيجيء بيان معناه في سورة يونس إن شاء الله.

__________________

(١). الاختصاص : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢١٥.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٧٧ ، الحديث : ٩٦.

(٤). آل عمران (٣) : ١٧٥.

١٤٤

[وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥)]

١٤٥

قوله : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ)

استكثار الجند ضم الآحاد إليه بحيث يجعله كثيرا ، أي قد صرتم كثيرا بانضمام كثير من الإنس إليكم.

قوله : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً)

في تفسير القمّي : قال : قال : نولّي كلّ من يولّي أوليائهم فيكونون معهم يوم القيامة (١).

وفي الكافي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما انتصر الله من ظالم إلّا بظالم ، وذلك قول الله عزوجل : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً)» (٢).

قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)

في العيون : في خبر الشامي سأل أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : هل بعث الله نبيا إلى الجن؟ قال : «نعم ، بعث إليهم نبيا يقال له : يوسف ، فدعاهم إلى الله فقتلوه» (٣).

أقول : وظاهر الآية تحقق البعث في كلّ من القبيلين وإن تأوّل بعضهم الآية ببعض الوجوه البعيدة.

قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ)

المكانة : التمكّن والإستطاعة والحال التي أنت عليها ، أي اعملوا وأنتم على

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢١٥.

(٢). الكافي ٢ : ٣٣٤ ، الحديث : ١٩.

(٣). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٤٢ ، الحديث : ١.

١٤٦

حالكم التي أنتم عليها من الكفر والجحود والظلم

وقوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

كان الظاهر أن يقال : لا يفلح الكافرون ، لكنّه بدّل إلى ما يشعر بالعلّية ، فإنّ الكافر إنّما لا يفلح لظلمه.

*

١٤٧

[وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً

١٤٨

وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠)]

١٤٩

قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ)

روى : أنّهم كانوا يعيّنون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونها لسدنتها ويذبحون عندها ، ثم إن رأوا ما عيّنوا لله أزكى بدّلوه بما لآلهتهم ، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبّا لآلهتهم ، واعتلّوا لذلك بأن الله غني.

في المجمع : عن أهل البيت كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله ردّده ، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه وقالوا : [إنّ] الله غني وإذا انخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدّوه ، وإذا انخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدّوه وقالوا : إنّ الله غني (١).

أقول : وقوله : (مِمَّا ذَرَأَ) فيه من التنبيه على جهالتهم حيث أنّ الخلق لله وهم يجعلون له نصيبا ولما يزعمونه شريكا فضل نصيب عليه كما قيل.

قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

في تفسير القمّي : قال : قال : يعني أسلافهم زيّنوا لهم قتل أولادهم (٢).

أقول : والمراد باسلافهم سدنة الآلهة ومسموعوا الكلمة من سلفهم عدّوا شركائهم لله سبحانه ، لإطاعتهم لهم ، والدليل على أن ليس المراد بالشركاء الآلهة قوله : (لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا) ، والإرداء الإهلاك.

قوله سبحانه : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)

__________________

(١). مجمع البيان ٤ : ٣٧٠.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢١٧.

١٥٠

في تفسير القمّي قال : قال : الحجر المحرّم (١).

أقول : فهو فعل بمعنى المفعول أي الممنوع.

قوله : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ).

تفسير لقولهم حجر.

وفي تفسير القمّي في الآية قال : فكانوا يحرمونها على قوم (٢).

قوله سبحانه : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها)

وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام على ما قيل.

قوله : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ)

في تفسير القمّي : قال : فكانوا يحرّمون الجنين الذي يخرجونه من بطون الأنعام يحرمونه على النساء ، فإذا كان ميتة أكله الرجال والنساء ، فحكى الله قولهم لرسول الله ، فقال : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ) (٣) الآية.

قوله : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا)

يمكن أن يستفاد من السياق ـ حيث لم يقل لرجالنا ولنساءنا وغير ذلك ـ أنّ هذا الحكم كان عندهم من قبيل حق الخالصة على ما قيل ، إمّا بإعتبار كون الموصول جمعا في المعنى أو التاء للمبالغة كراوية الشعر أو هو مصدر كالعافية.

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ٢١٧.

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢١٧.

(٣). تفسير القمّي ١ : ٢١٨.

١٥١

قوله سبحانه : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً)

هؤلاء الذين كانوا يؤودون بناتهم غيرة أو يقتلون أولادهم خوفا من الفقر ، وكان ذلك منهم سفها بغير علم ، اذ باب النكاح والإستيلاد ممّا بني عليه أساس الخلقة ، وانّما الغيرة فيما يخالف مقتضى الفطرة لا يوافقها ـ أيضا ـ أساس الخلقة ينبئ أنّ الخلق مع احتياجهم إلى الرزق وما يديمون به حياتهم غير متروكين سدى ، وأنّ الرزق على الله ، فقتلهم صونا من الجوع افتراء على ما رزقهم الله عزّ أسمه ، وهو مع ذلك كلّه خسران ، فإنّهم ستروا بالغيرة الكاذبة ، أو بالصيانة من الجوع أولادهم ، فخابت مساعيهم ، وخسرت صفقتهم ، وقد بان بذلك مزايا الفاظ الآية كقوله : (خَسِرَ) وقوله : (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، وقوله : (افْتِراءً عَلَى اللهِ) وغيرها ، والآية غير مختصة بقتل البنات.

قوله : (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ)

كالكروم المرفوعة على ما يحمله من العريشة ، والكروم الملقاة على وجه الأرض.

قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ)

هذا ، وإن كان حكما في الصورة ، لكنه غاية في المعنى ، أي هو الذي أنشأ البساتين لتثمر فيحلل لكم أكل ثمره والإرتزاق به والله أعلم ، وهذا هو الوجه في اشتراط الحكم بأكل الثمر بالإثمار.

قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ)

في الكافي وتفسير العياشي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «في الزرع حقّان :

١٥٢

حق تؤخذ به وحق تعطيه ، أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وأمّا الذي تعطيه فقول الله عزوجل : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فالضّغث تعطيه ثم الضّغت حتى تفرغ» (١).

وفي تفسير القمّي : في الآية «الضغث من السنبل والكف من التمر إذا خرص» (٢).

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة وظاهرها : أن هذا الحق المشرّع في هذه الآية غير الزكاة ، ويؤيّده ما قيل : إنّ الآية مكيّة وحكم الزكاة إنّما شرع بالمدينة ، ولا يلزم من ذلك كون الآية منسوخة بآية الزكاة وهو ظاهر ، وتتمة الكلام في الفقه.

قوله : (وَلا تُسْرِفُوا)

في الكافي وتفسير العياشي : عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «كان أبي ـ عليه‌السلام ـ يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ أن يتصدّق الرجل بكفيه جميعا ، وكان أبي إذا حضر شيئا من هذا ؛ فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفّيه ، صاح به أعط بيد واحدة ، القبضة بعد القبضة والضغث بعد الضغث من السنبل» (٣).

وفي الكافي : أيضا عنه عليه‌السلام قال : «كان فلان بن فلان الأنصاري ـ وسمّاه ـ ، كان له حرث وكان إذا أخذه تصدّق به ويبقى هو وعياله بغير شيء

__________________

(١). الكافي ٣ : ٥٦٤ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٧٨ ، الحديث : ١٠١.

(٢). تفسير القمي ١ : ٢١٨ ، يقال : خرص النخلة ، إذا قدّرما عليها.

(٣). الكافي ٣ : ٥٦٦ ، الحديث : ٦ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٧٩ ، الحديث : ١٠٦.

١٥٣

فجعل الله عزوجل ذلك سرفا» (١).

أقول : وروت العامّة أن ثابت بن قيس بن شمّاس صرم خمس مائة نخلة ففرّق ثمرها كلّه ولم يدخل منه شيئا إلى منزله (٢).

قوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً)

عطف على قوله : (جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) ، والحمولة ما يحمل الأثقال من الأنعام ، والفرش ما يتخذ من جلودها بالذبح أو شعرها ووبرها بالنسج فيتخذ فرشا.

قوله : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)

الزوج يطلق على الواحد إذا كان معه آخر ، ويطلق على الإثنين إذا اعتبرا معا ، والظاهر من روايات أهل البيت أنّ المراد بالزوج هو المعنى الأوّل.

ففي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «حمل نوح ـ عليه‌السلام ـ في السفينة الأزواج الثمانية التي قال الله عزوجل : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الآية ، فكان من الضأن [إثنين] زوج داجنة يربّيها الناس ، والزوج الآخر الضأن التي تكون في الجبال الوحشية أحلّ لهم صيدها ، ومن المعز اثنين زوج داجنة يربيها الناس ، والزوج الآخر الظباء التي يكون في المفاوز ، ومن الإبل اثنين البخاتي والعراب ، ومن البقر اثنين زوج داجنة للناس والزوج الآخر البقر الوحشية» (٣) الخبر.

__________________

(١). الكافي ٤ : ٥٥ ، الحديث : ٥.

(٢). تفسير القرطبي ٧ : ١١٠ ؛ الدر المنثور ٣ : ٤٩ ؛ زاد المسير ٢ : ٩٣ ؛ تفسير القرطبي ٧ : ١١٠.

(٣). الكافي ٨ : ٢٨٣ ، الحديث : ٤٢٧.

١٥٤

أقول : وفي معناه روايات أخر ، وفيها : «إنّ البخاتي من الإبل الوحشية» (١).

قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما)

ما حملت الظهور التي علقت بها ، والحوايا ما اشتمل على الأمعاء ، وما اختلط بعظم هو شحم الإلية فإنّه موصول بالعصعص.

قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا)

هذا القول منهم مغالطة ، فإنّهم يريدون بقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) أنّه لم يشأ ذلك ، فقد شاء أن نشرك ما اشركنا ونحرّم ما حرّمنا ، وليس هذا نتيجة ذاك ، وإنّما شاء سبحانه ما شاء من أفعالهم من مجرى اختيارهم وطريق مشيئتهم ، فمشيئته ذلك لا يسلب اختيارهم ولا يوجب بطلان التأثير من إرادتهم حتى ينتج إجبارهم على الفعل وارتفاع المؤاخذة ، ولو صحّ هذا القول منهم لم يصحّ مؤاخذة ظالم في ظلمه ، ولا فاسق في فسقه ، ولا ذمّ سيىء في مساءته ، بل ولم يصح حمد محسن في إحسانه ، ولا مدح حسن في حسنه ، وجميل في جماله فقد أنتجوا من عدم مشيئة الترك مشيئة الفعل ، ووصفوا المشيئة المطلقة الموجبة لسلب الإختيار ؛ مكان المشيئة الخاصة غير المنافية لثبوت الإختيار وصحة الإستناد.

قوله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ)

لم يبطل أصل قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ، لصحّته في نفسه ، وإنّما الغلط في

__________________

(١). الكافي ٤ : ٤٩٢ ، الحديث : ١٧ ؛ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٤٩٠ ، ٣٠٤٩ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٨١ ، الحديث : ١١٦.

١٥٥

كيفية الإستنتاج منه وتشخيص نتيجته ، بل أخذ سبحانه باعترافهم للحق في ضمنه ، فإنّ لازم قولهم أنّ حملهم على التوحيد والهداية منوط بمشيئة الله فهم مشركون لم يهدهم الله إلى توحيده وتركهم في ضلالهم ، ولهذا الذي ذكرنا جييء بفاء التفريع في قوله : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ) ، وقوله : (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ، تكون الحجة بالغة ببلوغها لما يحتجّ له ووصولها إليه ، أى تماميتها في إثبات المطلوب ، أيضا تكون بالغة ببلوغها كلّ من أريد بها من قريب أو بعيد أو عام أو جاهل ، وقد فسرت الكلمة من طرق أهل البيت بكلا المعنيين.

ففي الأمالي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال : «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فان قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت!؟ وإن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة (١).

وفي بعض الروايات عنه عليه‌السلام : «الحجة البالغة التي تبلغ الجاهل من أهل الكتاب فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه» (٢).

*

__________________

(١). الأمالي للطوسي : ٩ ـ ١٠ ، المجلس الأول : الحديث : ١٠ ؛ الأمالي للمفيد : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، المجلس السادس والعشرون ، الحديث : ٦.

(٢). تفسير الصافي ٢ : ١٦٩.

١٥٦

[قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ

١٥٧

يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧)]

قوله : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)

في الكافي وتفسير العياشي : عن السجّاد ـ عليه‌السلام ـ : «ما ظهر نكاح إمرأة الأب ، وما بطن الزنا» (١).

أقول : لفظا : «ما ظهر» «وما بطن» وإن شملا جميع أصناف الفاحشة غير أنّ المشركين كانوا يومئذ يعلنون بنكاح نسوة الآباء ، ويسرّون بالزنا ، وكان شائعا عندهم ، والآية مكيّة ، ولذا فسّره ـ عليه‌السلام ـ بما فسّره.

وفي المجمع : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : انّ ما ظهر هو الزنا ، وما بطن هو المخالّة» (٢).

قوله : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)

هذه الآيات الثلاث التي تبتدئ من قوله : (قُلْ تَعالَوْا) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، محكمات غير منسوخة بشيء ألبتّة.

ففي تفسير العياشي : عن أبي بصير ، قال : كنت جالسا عند أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ وهو متّك على فراشه ، إذ قرأ الآيات المحكمات التي لم ينسخهن شيء من الأنعام ، فقال شيّعهاّ سبعون ألف ملك : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (٣) الآيات.

__________________

(١). الكافي ٥ : ٥٦٧.

(٢). مجمع البيان ٤ : ١٩١ ، والمخالّة : المصادقة.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٨٢ ، الحديث : ١٢٣.

١٥٨

أقول : والآيات الثلاث تشتمل على عشرة أحكام أو تسعة ، باستثناء أتباع السبيل لم يورد منها في صورة [النهي] إلّا خمسة ، وأوردت الباقية في صورة الأمر وهي قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) ، وقوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) ، وقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا).

فإن قلت : ما معنى اختلاف الحكم فإن الموعود تلاوة المحرمات ، وقد ذكر في طيّها الواجبات؟

قلت : ما ذكره في صورة الواجبات في معنى المحرّمات فإنّ معنى (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، أن لا تسيئوا بالوالدين ، وهكذا في البواقي ، والوجه فيه أن المأنوس به في نحو الشرك والقتل وأكل مال إليتيم وقتل الأولاد هو جانب الترك ، بخلاف نحو برّ الوالدين والعدل في القول والوفاء بالعهد ، فالمأنوس به فيها جانب الفعل ، وإن كان جانب الترك محرما بالخصوص.

فإن قلت : الذي وعده سبحانه بيان المحرمات ، والذي ذكره التكاليف المتعلقة بها دون نفسها ، فكان الواجب أن يقال : الشرك وبرّ الوالدين وهكذا ، لا أن يقال : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

قلت : هذه الجمل في المعنى مقول القول ، وتقدير الكلام : قل يقول لكم ربكم : أن لا تشركوا به شيئا إلى آخره ، وسيجيء توضيحه وتوضيح الوجه فيه.

قوله : (مِنْ إِمْلاقٍ)

الإملاق : الفقر ، وكلمة «من» النّشويّة تفيد التعليل ، أي من أجل املاق أو خشية املاق ، كما في قوله في موضع آخر : (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) (١).

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٣١.

١٥٩

قوله سبحانه : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)

إن قلت : ما وجه الإلتفات في هذه الجملة من الغيبة السابقة في قوله : (حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إلى التكلم بقوله : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ) ، ثم إلى الغيبة في قوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ) ، ثم إلى التكلم في قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً). ثم إلى الغيبة في قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) ، ثم إلى التكلم في قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً). ثم إلى الغيبة في قوله : (عَنْ سَبِيلِهِ).

قلت : قوله تعالى : (حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ، في معنى : يقول لكم ربّكم ، وعلى هذا فقوله : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ، وقوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً) ، إنتهى. في معنى مقول القول ، والتقدير يقول لكم ربّكم : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

وبه يظهر أنّ الكلام ليس من الالتفات في شيء ، بل كلام مضاف إلى كلام لتوضيح البيان وإعطاء السبب وتفسير المراد ، وبه يظهر أيضا أن قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

الجملة الاولى إلى قوله : (فَاتَّبِعُوهُ) ، بيان لقوله : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ، بحسب المعنى كما سمعت.

والجملة الثانية إلى قوله : (عَنْ سَبِيلِهِ) ، بيان له بحسب اللفظ ، وعلى هذا ، فتقدير ما يعدّه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بحسب أمره سبحانه : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) ، إلى أن يقال : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) ، (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، إلى آخره.

وبالجملة ، بعض الجمل تابع وبيان لما حرّم لفظا ، وبعضها تتبعه معنى فلا التفات ، غير أنّ النظم عجيب ، فأحسن التدبّر فيه.

١٦٠