تفسير البيان - ج ٤

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٨

ويقابلها الحسنة ، وتشعر بذلك أيضا ذيل الآيات ، حيث يصف أهل الشرك والضلال بقوله : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). والخسران بطلان السعي ، وبقوله في سورة القارعة : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (١) ، والهاوية من الهوى أو الهويّ وهو الهلاك.

ويشعر به أيضا قوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢) ، حيث يفرّع عدم نصب الميزان على حبط الأعمال ، ولو كانت السيئة ذات ثقل لم يبطل الوزن ، كما لم يبطل الوزن في من جملة أعماله حسنات من غير سيئة ، كأهل العصمة من الأنبياء والأولياء ، والآية عامّة غير مقيّدة.

وبالجملة ، فهذا الميزان من شأنه أنّه كلما ألقيت فيه حسنة زاد ثقلا ، وكلّما ألقيت فيه سيئة زاد خفّة على خلاف توزين الأجسام الثقيلة بموازين الثقل المألوفة عندنا ، بل كما يوزن الكمالات المعنوية عندنا فإنّا إذا أردنا توزين أحد في علمه بالطبّ أخذنا ملكة الطبّ بنفسها ميزانا ، ثم نورد عليه مسألة مسألة ، فكلّما علم شيئا زاد ثقلا ، وكلّما جهل شيئا زاد خفّة ، فإن ثقل ميزانا كان طبيبا ذا ملكة الطبّ ، وإن خفّ فليس من أهله وإن كان عنده بعض مسائله ، وعلى هذا ، فلو وزّن عمل واحد منّا أخذ ميزانه الدين أو الكمال الديني الذي تلبّس به النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وحملة الدين من ورثته وأوصيائه ، ميزان ذات اختلاف بحسب اختلاف الأعمال ، فمن ثقلت موازينه فهو مفلح ، ومن خفت موازينه فهو خاسر خالد في جهنم ، كما تصرّح به الآية المنقولة من سورة المؤمنين.

__________________

(١). القارعة (١٠١) : ٩.

(٢). الكهف (١٨) : ١٠٥.

١٨١

ومن هنا يظهر أنّ ها هنا طوائف أخر غير هاتين الطائفتين ، أعني : المفلحين والخاسرين فإنّهما طائفتان خاصتان وهم الذين قال تعالى في حقّهم : (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) ... (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١) ، والذين قال تعالى فيهم : (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢) فهاتان طائفتان استثنى سبحانه إحداهما من الحضور يوم القيامة وهم المخلصون ، والأخرى من إقامة الوزن فقوله سبحانه : (الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ، عام لا يتخصّص إلّا بهاتين الطائفتين وغيرهما يقام له الوزن ، لكن الترديد بين من ثقلت موازينه ومن خفت موازينه غير حاصر بشهادة قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وقوله : (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فإنّهما وصفان غير حاصرين وقد قال تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٣) ، وهم الذين لم يتعيّن لهم من ناحية العمل سعادة أو خسران ، بل أمرهم إلى الله سبحانه.

فقد تحصّل مما مرّ أن وضع الميزان يوم القيامة حقّ ، إلّا أنّه ميزان لا يوزن به الثقل فقط كالموازين المعهودة عندنا لتشخيص ثقل الأجسام في ناموس التجاذب ، بل ميزان يشخّص الثقل والخفّة معا كما عرفت ، وأنّه يستثنى منه طائفتان.

إحداهما : المخلصون.

وثانيتهما : الحابطون عملا وهم الكافرون بآيات الله ولقائه ، والباقي من أهل الجمع ينصب لهم الموازين وهم المفلحون ، وهم : السعداء والخاسرون ، وهم

__________________

(١). الصافات (٣٧) : ١٥٨ ـ ١٦٠.

(٢). الكهف (١٨) : ١٠٥.

(٣). التوبة (٩) : ١٠٦.

١٨٢

الظالمون بآيات الله دون الكافرين بها ، وغير الطائفتين وهم الذين لا تثقل موازينهم ولا تخفّ ، وهم المرجون لأمر الله سبحانه ، وبما مرّ يظهر معنى ما ورد من الروايات في الباب.

ففي الإحتجاج : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل : «أو ليس توزن الأعمال؟ قال : «لا ، لأنّ (١) الأعمال ليست أجساما (٢) ، وإنّما هي صفة ما عملوا ، وإنّما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها (٣) وخفّتها ، وإنّ الله لا يخفى عليه شيء : «قيل : فما معنى الميزان؟ قال ـ عليه‌السلام ـ : «العدل» ، قيل : فما معناه في كتابه : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)؟ قال : «فمن رجّح عمله» (٤) ، الحديث.

أقول : وقد اتضح معنى الحديث ممّا مرّ ، وقد استدلّ ـ عليه‌السلام ـ على ذلك بوجهين :

أحدهما : إنّ الأعمال ليست أجساما مقهورة تحت سيطرة الجذب والثقل.

وثانيهما : إنّ الحاجة إلى الوزن ملاكه الجهل بحقيقة الثقل وهو مستحيل في حقه تعالى ، وهذه حقيقة تظهر ثمرتها في مواضع أخر أيضا.

قال بعض الأجلة : إنّه بناءا على ما هو الحقّ من تجسّم الأعمال في الآخرة ، وإمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه ، وكون الحكمة في الوزن تهويل العاصي وتفضيحه ، وتبشير المطيع وازدياد فرحه ، وإظهار غاية العدل ، في الرواية

__________________

(١). في المصدر : «إنّ»

(٢). في المصدر : «بأجسام»

(٣). في المصدر : «أو»

(٤). الاحتجاج ٢ : ٩٨.

١٨٣

وجوه من الأشكال فلا بدّ من تأويلها إن أمكن ، وإلّا فطرحها أو حملها على التقية (١) ، إنتهى.

أقول : قد عرفت الكلام في معنى تجسم الأعمال في تفسير سورة البقرة وأنّها صور موجودة مع الإنسان في هذه الدنيا في باطن الأمر ، والذي ليوم القيامة إظهار ما في الباطن وكشف الغطاء ، ونظام الباطن غير النظام الذي تقتضيه القوى الطبيعية من جذب ودفع ، وهو الثقل والخفة وتدريج في الكون ، والفساد والفعل والإنفعال ، فلا معنى لاتّصاف كمال معنوي وهو العمل الصالح مثلا بصفة طبيعي كتأثير جاذبة الأرض وغيرها وهو واضح.

وأمّا أنّ فيه إظهار غاية العدل وتهويل العاصي وتبشير المطيع ، ففيه أنّ العدل إنّما يقتضي تقدير كل شيء بما يقتضيه من المقدار بحسب نفسه وحقيقته لا جزافا ، والعمل إذا لم يكن في نفسه مقتضيا لثقل ولا خفة كان تخصيص بعضها بالثقل وبعضها بالخفة تخصيصا جزافيا لا لمقتضى العدل كما عرفت.

فإن قلت : كفى حكمة فيه أن يتفرع عليه تهويل العاصي وتبشير المطيع.

قلت : لا يخرج الأمر بذلك عن الجزاف ، فإنّ الإنذار والتبشير لا يقعان بالخفة والثقل ، بل تكون الخفّة علامة الخسران والثقل علامة الفلاح ، فالجزاف باق بعد ؛ لإمكان أن يجعل الخفة للحسنة ، ثم يجعل خفة الميزان علامة للفلاح والثقل للسيئة ثم يجعل علامة الخسران ، فليس الأمر إلّا دائرا مدار الارتباطات الحقيقية دون الجزافية.

وفي التوحيد : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في الآية : يعني إنّ (٢)

__________________

(١). راجع : الميزان في تفسير القرآن ٨ : ١٦.

(٢). وفي المصدر : ـ «إنّ»

١٨٤

الحسنات ، (١) توزن الحسنات والسيئات ، والحسنات ثقل الميزان ، والسيئات خفّة الميزان (٢).

أقول : وقد اتضح معنى الرواية الشريفة إن الكمال يوزن الكمال فيشخّص ثقله وخفّته معا ، ويؤيد ذلك ما ذكره ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الحسنات ثقل الميزان» إلى آخره ، وبه يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين في قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) ، فذكر : أن الموازين جمع موزون وهو الحسنة ، ففسّر الموازين بالحسنات وثقلها بكثرتها ورجحانها ، وخفّتها بقلّتها ومرجوحيّتها يعني أن يقايس في الميزان بين حسنات أعماله وسيئاتها (٣) ، إنتهى ملخّصا.

وقد عرفت أنّ الظاهر من الآيات خلافه ، وأنّ الموضوع في الميزان الحسنة فقط ، ويشخّص بها ما يستحقّه الإنسان بعمله من سعادة وخسران بظهور الخفّة والثقل كما تصرّح به الرواية.

وفي الكافي والمعاني : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤) ، قال : «هم الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام» (٥).

وفي رواية أخرى عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «نحن الموازين القسط» (٦).

أقول : وقد اتضح معنى الروايتين بما مرّ.

__________________

(١). وفي المصدر : «الحساب»

(٢). التوحيد : ٢٦٨.

(٣). مجمع البيان ٤ : ٦١٦.

(٤). الأنبياء (٢١) : ٤٧.

(٥). الكافي ١ : ٤١٩ ، الحديث : ٣٦ ، معاني الاخبار : ٣١ ـ ٣٢ ، الحديث : ١.

(٦). الكلمات المكنونة : ١٥٨.

١٨٥

وفي الإحتجاج : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : هي قلة الحساب وكثرته (١).

أقول : وكأنّه مستفاد من قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٢) ، فإنّه عللّ الاستقصاء بكون المحاسب هو الله ، فالوزن هو الحساب وهو ظاهر ، فعامّة الآيات الناطقة بالحساب حاكية عن الوزن دالة عليه ، وعلى هذا فيكون ثقل الميزان وخفّته هو قلّة الحساب وكثرته ، فإنّ العمل كلّما كثرت جهات النقص والفساد فيه دقّت المحاسبة وكثرت المناقشة ، وبتبع ذلك لا يزال يسقط عمل بعد عمل عن درجة الاعتبار فيخفّ الوزن ، وكلّما قلّ الحساب بعكس ذلك ثقل الوزن هذا.

وفي تفسير القمّي : في قوله : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «المجازات بالأعمال إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر» (٣).

أقول : وهو تفسير بحسب النتيجة.

وفي المقام عدّة روايات عاميّة أو ضعيفة في وصف الميزان ، فقد روي «أنّ للميزان عمودا طوله خمسون ألف سنة ، وإحدى كفّتيه من نور ، فيوضع فيها الحسنات والأخرى من الظلمة ويوضع فيها السيئات» (٤).

وروي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه سئل عمّا يوزن يوم القيامة فقال : «الصحف» (٥).

__________________

(١). الاحتجاج ١ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

(٢). الأنبياء (٢١) : ٤٧.

(٣). تفسير القمي ١ : ٢٢٤.

(٤). زاد المسير ٣ : ١١٥.

(٥). بحار الأنوار ٧ : ٢٤٤.

١٨٦

وروي عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : «يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ، ويؤتي له بتسعة وتسعين سجلّا ، كلّ سجلّ منها مدّ البصر فيها خطاياه وذنوبه ، فيوضع (١) في كفة الميزان ، ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، فيوضع (٢) في الأخرى فترجّح» (٣) (٤).

وروي أنّه «يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فيوزن (٥) فلا يزن (٦) جناح بعوضة» (٧).

أقول : وهذه إمّا في مقام التمثيل لتفهيم الناس ، وإمّا مردودة إلى رواتها ، ولاختلاف هذه الروايات اختلفت أقوالهم في حقيقة الميزان فقال بعضهم : بأنّه كناية عن العدل ، وقال آخرون : بأنّه من نوع الموازين الحسيّة ذات العود والكفّتين ، ثم اختلف هؤلاء فمن قائل : إنّ الموزون هو الأعمال ، ومن قائل : إنّه صحف الأعمال ومن قائل : إنّه نفس الأشخاص العاملين ، والذي يستظهر من كلامه سبحانه ويستظهر به هو الذي قدّمناه ، وهو وإن وافق القول الأوّل من هذه الأقوال في أنّه العدل ، لكنّه يخالفه في أن تسميته ميزانا ، ونسبة الثقل والخفة إلى الموازين ليست على ما قدمّنا من باب الكناية ، بل الميزان وهو ما يوزن ويقدّر به الشيء يختلف باختلاف الأشياء ، وهو في كلّ شيء بحسبه ، وكذا الثقل والخفة ، فافهم ذلك.

__________________

(١). في المصدر : «فتوضع»

(٢). في نسخة : «يوضع»

(٣). في المصدر : «فيرجح»

(٤). بحار الأنوار ٧ : ٢٤٥.

(٥). في المصدر : ـ «فيوزن»

(٦). في المصدر : + «عند الله»

(٧). تفسير القرطبي ١١ : ٦٦.

١٨٧

قوله : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)

في تفسير القمي : قال ـ عليه‌السلام ـ : «بالأئمة يجحدون» (١).

أقول : وهو من قبيل عدّ المصداق.

وفي الكافي : عن السجاد ـ عليه‌السلام ـ في كلام له في الزهد : واعلموا عباد الله ، إنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ولا ينشر لهم الدواوين ، وإنّما يحشرون إلى جهنم زمرا ، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام ، فاتقوا الله عباد الله» (٢).

أقول : وهو مستفاد من قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٣) ، ومن ذيل الآية في هذه السورة أعني قوله : (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) ، وقد بدّل في سورة المؤمنين بقوله : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٤).

*

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٢٢٤.

(٢). الكافي ٨ : ٧٤ ، الحديث : ٢٩.

(٣). الكهف (١٨) : ١٠٥.

(٤). المؤمنون (٢٣) : ١٠٣.

١٨٨

[وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّ

١٨٩

هُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)]

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

استيناف وصورة قصّة فيه بيان علل الآية السابقة وتنتهي القصة عند قوله تعالى : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) ، فينطبق على الآية السابقة : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) ، ولذلك كلّه ابتدأ بلام القسم في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) ، ولذلك أيضا ضمّ فيها قصة جنّة آدم إلى قصة السجدة ، قصة واحدة من غير فصل ، وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) خطاب لجميع بني آدم ، وهو خطاب في مجرى الامتنان ، أو مجرى العتبى والشكوى بقرينة الآية السابقة ، وعلى هذا فالإنتقال في الخطاب من العموم الى الخصوص في قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، يفيد حقيقتين :

الحقيقة الأولى : إنّ السجدة كانت من الملائكة لجميع بني آدم ، وإنّما كان آدم خصّ بذلك بالنيابة منابهم كالقبلة من بين الجهات والأمكنة ، كما إنّ دخوله الجنة أيضا كان كذلك استقلالا من نفسه ونيابة عن ولده ، ويمكن استفادة ذلك :

أولا : من قصة الخلافة الواقعة في سورة البقرة ، فإنّ المستفاد من الآيات

١٩٠

الواردة هناك أن الأمر بالسجود متفرّع على خلافة آدم ، والخلافة المذكورة فيها ـ كما استفدنا هناك ـ غير مختص بآدم ؛ بل جار في جميع الإنسان ، فالسجدة أيضا للجميع.

وثانيا : إنّ ابليس تعرّض بهم ابتداءا من غير توسيط آدم ولا تخصيصه ـ عليه‌السلام ـ حين قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) ، من غير سبق ذكر لبني آدم ، وقد ورد نظيره في سورة الحجر ، قال تعالى : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (١) ، وفي سورة (ص) قال تعالى : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) ، ولو لا أنّ الجميع مسجودون للملائكة لم يستقم هذه النقمة من إبليس إبتداءا ، كما لا يخفى.

وثالثا : إنّ الخطابات التي خاطب الله سبحانه بها آدم وزوجته عند الأمر بالهبوط في سائر موارد القصّة كسورة البقرة وسورة طه عمّمها بعينها في هذه السورة لجميع بنيه ، قال تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (٣)

والحقيقة الثانية : إنّ خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ كان خلقا للجميع كما يدلّ عليه قوله سبحانه في سورة الم السجدة (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٤) ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) (٥).

__________________

(١). الحجر (١٥) : ٣٩.

(٢). ص (٣٨) : ٨٢.

(٣). البقرة (٢) : ٣٨.

(٤). السجدة (٣٢) : ٧ ـ ٨.

(٥). غافر (٤٠) : ٦٧.

١٩١

ويشعر به قول إبليس أيضا في ضمن القصة على ما نقله سبحانه في سورة الإسراء : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

وسيجيء بهذا إشعار في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (٢).

وقوله سبحانه : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)

قال سبحانه في سورة الكهف : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٣) ، وهذا يدل على أنّه لم يكن من جنس الملائكة ، وقد اعتلّ لعنه الله عن الإمتثال بقوله : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٤). وقد قال تعالى في سورة الحجر : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٥) ، ولذلك اختلفت الأقوال في كيفية هذا الإستثناء : أهو متصل بتغليب الملائكة لكونهم أكثر وأشرف ، أو إنّه استثناء منفصل ولعلّ قوله تعالى : (إِذْ أَمَرْتُكَ) ينافي كلا الإحتمالين من التغليب وانفصال الإستثناء.

والذي يمكن أن يستفاد من ظاهر كلامه سبحانه أنّه كان مع الملائكة من غير تميّز له منهم ، وأنّ المقام الذي كان يجمعهم جميعا كان مقام القدس والطهارة ، وأنّ الأمر إنّما كان متوجّها إلى المقيم بذلك المقام والنازل بتلك المنزلة ، كما يشعر به قوله سبحانه : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) ، حيث قيّد الكلام بقوله : (مِنْها) وقوله : (فِيها) ، ولو كان الخطاب متوجّها إليهم من

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٦٢.

(٢). الأعراف (٧) : ١٧٢.

(٣). الكهف (١٨) : ٥٠.

(٤). ص (٣٨) : ٧٦.

(٥). الحجر (١٥) : ٢٧.

١٩٢

غير دخالة المقام لكان حق الكلام أن يقال : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ) ، وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك ، وعند ذلك تميّز الفريقان وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم والمنزلة التي حلّوا فيها ، وهو مقام الخضوع والإمتثال ، وقد حكى الله سبحانه ذلك بقوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١) ، فهذا حقيقة حياة الملائكة وأعمالهم ، فبقيت الملائكة على ذلك ، وخرج إبليس عنه كما تعبّر عنه الآية في سورة الكهف : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٢) ، والفسق : خروج الثمرة عن قشرها فتميّز عنهم ، فأخذ حياة وعملا لا حقيقة له إلّا الأنانية والمعصية ، والقصّة وإن سيقت بحسب التمثيل مساق القصص المألوفة بيننا وتضمّنت أمرا وامتثالا وتمرّدا واحتجاجا وطردا وغيرها من الأمور التشريعيّة والمولوية ، غير أن الآيات تشعر بأنّها تكوينية ، بمعنى أنّ ابليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الإمتثال فتفرّع عليه المعصية ، ويشعر به قوله : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) ، فظاهره أنّ هذا المقام لا يقبل التكبّر ، فكان تكبّره فيها خروجه وهبوطه منها فالأمر تكويني ويشعر بذلك أيضا أنّه سبحانه لم يجب عمّا ادّعاه إبليس ولم يبطل ، بل طرده بقوله : (فَاهْبِطْ).

وعلى هذا فلو لا أن خلق الله آدم وأمرهم بالسجود كان إبليس على ما كان عليه سائر الملائكة الطاهرين من القرب والمنزلة ، غير أنّ خلقة آدم وما تبعها شقّ الطريق طريقين وهيّأ وعيّن سبيلي السعادة والشقاوة.

__________________

(١). الأنبياء (٢١) : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢). الكهف (١٨) : ٥٠.

١٩٣

وقوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)

يريد ما منعك أن تسجد ، كما وقع في سورة (ص) ، ولذا قيل : إنّ (لا) زائدة للتأكيد ، كما في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) (١) ، ومن المحتمل أن يكون قوله : (مَنَعَكَ). مضمّنا معنى حملك أو معنى دعاك ، أي ما حملك على أن لا تسجد ، أو ما دعاك إلى أن لا تسجد.

وقوله سبحانه : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)

أوّل معصيته لعنه الله ، وهي أول معصية ، وقوله عنوان فعله ، وجميع المعاصي عند التحليل يرجع إلى دعوى الأنانية ، وسيجيء توضيحه ، ولم يأت سبحانه بجواب دعواه الخيرية ، فإنّه مفروغ عنه ، فإنّ ابتداء القصة قوله للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) ، وقد بان في ذلك فضل آدم كلّ البيان والظهور.

وقوله : (مِنَ الصَّاغِرِينَ)

من الصغار وهو الإهانة والمذلّة.

وقوله سبحانه : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)

استنظر إلى يوم القيامة ، فأجيب إلى اصل الفطرة ولم يجب إلى يوم القيامة بدليل قوله تعالى في سورتي الحجر وص : (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣) ويدلّ ذلك على أنّه كان في قوته أن يستمرّ على إغوائه في البرزخ

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٢٩.

(٢). البقرة (٢) : ٣٠.

(٣). الحجر (١٥) : ٣٧ ـ ٣٨.

١٩٤

كالدنيا ، وإنّ عدم استجابته إلى ذلك كان منة منه تعالى لعباده ، فوسوسته ممتدة إلى آخر الدنيا ، وإن كان ربّما صحب الإنسان بعد موته أيضا كما يدلّ عليه قوله سبحانه : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ* حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ* وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (١) (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢) ، وقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ) (٣).

وقوله : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي)

نسب إليه الإغواء ، والغيّ : خلاف الرشد الضلال والخيبة ، أي بسبب إلقائك إيايّ في جانب الضلال ، أو بما خيّبتني وهو الأظهر.

وقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)

وصف لكيفية إضلاله الناس ، وبذلك يظهر كيفية فعله ونوع عمله ، وقد وصف سبحانه كيفية عمله بوجوه من الوصف ، وبيّنها بطرق من البيان فقال هاهنا : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) ، وقال أيضا : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ

__________________

(١). الزخرف (٤٣) : ٣٦ ـ ٣٩.

(٢). ق (٥٠) : ٢٧.

(٣). الصافات (٣٧) : ٢٢ ـ ٢٣.

١٩٥

لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، وقال في سورة الحجر : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢) ، وقال في سورة الاسراء : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً* قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٣) ، وقال في سورة الناس : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (٤) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن الكريم.

ويتحصّل من مجموع هذه الأوصاف أنّ الشيطان موجود يمكنه أن يلي من الإنسان نفسه ، فتكون نفسه للشيطان كما هو لنفسه فتكون نفسه نفسا شيطانية ، وبتبعها جميع أفعاله وأعماله للشيطان كما هي.

ويمكنه أن يتصّرف في جميع جهات الحياة الدنيا بالغرور ، فيبدي الباطل مكان الحقّ ، فلا يرتبط الانسان بشيء إلّا من وجه الباطل وصورته الغارّة ، وهذا هو الاستقلال الذي يعطيه الإنسان للأشياء والأسباب التي يعوّل عليها ، والغايات التي يؤمّلها أو يرجوها فيها ، فيستر وجه الحق وينهى عنه ومن هنا يظهر موقع الشيطان من الدنيا ، وقد قال تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٥) ، وقال : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٧.

(٢). الحجر (١٥) : ٣٩ ـ ٤٠.

(٣). الإسراء (١٧) : ٦٢ ـ ٦٤.

(٤). الناس (١١٤) : ٤ ـ ٥.

(٥). محمد (٤٧) : ٣٦.

١٩٦

بِاللهِ الْغَرُورُ) (١) ، وقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٢) ، وجميع ذلك يرجع إلى العلوم والإعتقادات التي يستعملها الإنسان في أطوار حياته الدنيا ، فهذه العلوم هي التي يربّيها إبليس في نفس الإنسان ، وهو قوله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (٣) ، فأتى بالوسوسة وهو حديث النفس ، والهمس من الصوت ، وقال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٤) ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (٥) ، فأتى بلفظ الوحي وهو الكلام الخفي ، وقال الله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٦) ، فسمّاه همزا وهو كالغمز كلام بالإشارة وقد جمع الجميع في قوله لعنه الله كما حكاه تعالى في سورة إبراهيم قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) (٧).

وأنت إذا تأملت وتدبرت في هذه الآيات ، وإطلاق قوله : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٨) وقوله : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٩) وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١٠) وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا

__________________

(١). فاطر (٣٥) : ٥.

(٢). آل عمران (٣) : ١٨٥.

(٣). الناس (١١٤) : ٥.

(٤). الأنعام (٦) : ١٢١.

(٥). الأنعام (٦) : ١١٢.

(٦). المؤمنون (٢٣) : ٩٧.

(٧). إبراهيم (١٤) : ٢٢.

(٨). الحجر (١٥) : ٣٩.

(٩). الأعراف (٧) : ٢٥.

(١٠). الكهف (١٨) : ٧.

١٩٧

الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، تحصّلت أنّ هذه الحياة الدنيا التي هي متقوّمة بغرور الشيطان ، التي بعينها فتنة وإبتلاء من الله سبحانه لعباده.

ثم إنّ الإنسان بالبداهة لا يرى علمه إلّا لنفسه ، ولا فعله إلّا عن نفسه ، فسنخ فعل الشيطان وعمله سنخ لا يزاحم ما عليه الإنسان من الإستقلال في نفسه ، على خلاف الاعمال والأفعال المألوفة ، حيث إنّ وجود الشريك يسقط الشريك عن الإستقلال والتفرّد بالفعل ، وبهذا الذي ذكرنا يظهر كيفية موقعه من الإنسان وقد قال تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢) ، ولم يقل : إنّه يراكم هو قبيله ولا ترونهم حتى يدلّ على اختلاف في وصف فقط وهو الرؤية وعدمها ، بل أتى بقوله : (مِنْ حَيْثُ) فدلّ على أنّ موقعه موقع لا يمكن للإنسان أن يجده ، أي سنخ وجوده من غير سنخ الأجسام ، حتى يحسّ به بالإنفصال أو السراية والإحتلال ، والقرب والأجتماع والافتراق.

وممّا مرّ يظهر أنّ قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ، لا يعني بها الجهات الأربعة المحسوسة ، على أنّه سبحانه قال قبل ذلك : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وإنّما هو صراط ممدود إلى الله ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٣) ، فما بين أيدي الإنسان ما يتوجّه إليه من الآخرة وما خلفه ما يستدبره ويتخلّفه من الدنيا ، وجانبا اليمين والشمال أسباب الميمنة وأسباب المشأمة ، ومن ذلك

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٧.

(٢). الأعراف (٧) : ٢٧.

(٣). الإنشقاق (٨٤) : ٦.

١٩٨

يظهر أنّ الصراط المستقيم حقيقة الطريق الذي يسلكه الإنسان ويقطعه سائرا إلى ربّه ، لا مجرّد المعارف الدينية الإدراكيّة التي هي صراط بنحو من العناية.

وقوله سبحانه : في ذيل الآيات : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (١) ، مشعر بأنّ له ـ لعنه الله ـ قبيلا ، أي قبيلا ، (٢) وظاهر الآية أنّ نسبة قبيله من بني آدم في إغوائهم نسبة نفس إبليس ، وأنّ الجميع شياطين وأولياء للذين لا يؤمنون ، وقال سبحانه : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (٣) ، فأثبت له ذرية ، والذرية ـ على ما يظهر من اللغة ـ الخلق بالنسل بنحو التجزّي والإنفصال كالتبعيّة ، قال تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) (٤) ، وكلامه سبحانه وإن لم يقصّ كيفية انتشار ذراريه وقبيله منه ، غير أن لفظ الذرية والقبيل يعطي أنّ وجودهم من نوع وجوده ، وفعلهم من نوع فعله ، ومع ذلك فهو آمر في ذريّته ومتبوع مطاع في قبيله ، كما يظهر من قوله تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) (٥) ، والآية مع ذلك تشعر بأنّ فيهم نوعا من الإختلاف وهو الشدّة والضعف وسرعة العمل وبطئه ، فإنّ الفارق بين الخيل والرجل هو سرعة اللحوق وبطئه ، ونوعا آخر من الإختلاف وهو الإجتماع في العمل والإنفراد كما يدلّ عليه أيضا قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (٦) ،

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٧.

(٢). هكذا في الخطوط ولعلّ الصحيح «خيلا» ، والقبيل جمع القبيلة كما يظهر من مراجعة المفردات للراغب الاصفهاني.

(٣). الكهف (١٨) : ٥٠.

(٤). يونس (١٠) : ٨٣.

(٥). الإسراء (١٧) : ٦٤.

(٦). المؤمنون (٢٣) : ٩٧ ـ ٩٨.

١٩٩

وقوله سبحانه (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ* وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (١) ، وقوله سبحانه : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢).

ونوعا آخر من الإختلاف وهو أنّ إلقائهم الوسوسة ربّما كان في المعصية ، وربّما كان في امور أخر ربّما ينجرّ إليها ، كالأخبار والمعارف والعلوم ، وهو ظاهر.

ونوعا آخر من الإختلاف وهو أنّهم ربّما كانوا من الناس دون الجنّ ، قال تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٣) ، ومع هذا كلّه ففعل ذريّته وقبيله هو فعله ، ووسوستهم وإغوائهم عين وسوسته وإغوائه ، كما هو ظاهر قوله : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤) ، فنسبته إليهم في إضلال الإنسان وإلقاء الوسوسة في صدره نسبة عظام الملائكة إلى أعوانهم في ما يجرونه من أمر ربّهم ، قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٥) ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦) ، وقال سبحانه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٧) ، وقال تعالى : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) (٨) ، (بِأَيْدِي

__________________

(١). الشعراء (٢٦) : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢). الشعراء (٢٦) : ٢٢١ ـ ٢٢٣.

(٣). الناس (١١٤) : ٤ ـ ٦.

(٤). ص (٣٨) : ٨٢.

(٥). السجدة (٣٢) : ١١.

(٦). الأنعام (٦) : ٦١.

(٧). الشعراء (٢٦) : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٨). البينة (٩٨) : ٢.

.

٢٠٠