هداية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٣

حيدر علي المدرّسي البهسودي

هداية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٣

المؤلف:

حيدر علي المدرّسي البهسودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٢

قوله نعم لو كان المراد من الموصول فيما لا يعلمون ما اشتبه حاله الخ.

هذا استدراك على قوله : عدم الحاجة الى تقدير المؤاخذة حاصله ان اريد بالموصول ما استظهر الشيخ قدس‌سره من الموضوع الخارجى المشتبه عنوانه كالمائع المردد بين الخل والخمر فلا بد من تقدير احد امور الثلاثة التى ذكرها الشيخ صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغو أى لا بد فى مثل هذا الموضوع الخارجى من تقدير لمؤاخذة أو الحكم لعدم كون الامور المجهولة عناوينها مرفوعة حقيقة.

واشار المصنف الى اشكال آخر على الشيخ فانه جعل دلالة الاقتضاء قرينة على تقدير احد الامور الثلاثة أى قال الشيخ ان المقدر فى الروايات باعتبار دلالة الاقتضاء يحتمل ان يكون جميع الآثار فى كل واحد من التسعة وهو اقرب اعتبارا الى معنى الحقيقى لان نفى جميع الآثار اقرب المجازات الى نفى الحقيقة الممتنع بالفرض : وان يكون فى كل منها ما هو الاثر الظاهر فيه : وان يقدر المؤاخذة فى الكل وهذا اقرب عرفا من الاول واظهر من الثانى ايضا لان الظاهر نسبة الرفع الى مجموع التسعة على نسق واحد.

فظهر ان الشيخ يقدر المؤاخذة فى الجميع فاورد المصنف عليه بان الحاجة الى التقدير فى غير ما لا يعلمون من العناوين التى اسند الرفع اليها كالخطا ونسيان وغيرهما شديدة لما عرفت من عدم صحة اسناد الرفع التشريعى الى الفعل الخارجى التكوينى

٣٠١

الا انه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة فيها اذ المقدر فى بعضها هو الاكراه وعدم الطاقة فعلم ان المقدر فى اكثر هذه الروايات غير المؤاخذة فلا محيص عن ان يكون المقدر هو الاثر الظاهر فى كل منها أو تمام آثارها.

قوله ثم لا يذهب عليك ان المرفوع فيما اضطروا اليه وغيره مما اخذ بعنوانه الثانوى الخ.

والغرض من هذا الكلام ان المرفوع بحديث الرفع هو الاثر الشرعى المترتب على الفعل بعنوانه الاولى الذى يقتضى دليله أى يحتمل ان المرفوع بالخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه هو الوجوه الثلاثة.

الاول ان يكون المرفوع الآثار المترتبة على الفعل بما هو هو وبعنوانه الاولى فانها ترفع عند طرو الخطأ والنسيان والاكراه وغيرها فهذه العناوين رافعة لذلك الحكم وهذا ظاهر كلام المصنف.

الثانى ان يكون المرفوع الآثار المترتبة على الفعل المقيد بالخطإ والنسيان والاضطرار والاكراه وذلك كوجوب الكفارة المترتبة على القتل الخطائى ووجوب الدية فيه على العاقلة ووجوب سجدتى السهو المترتبة على نسيان بعض اجزاء الصلاة.

ولكن اورد عليه بانه لا يعقل ارتفاع الحكم الثابت للفعل للفعل المقيد بعروض النسيان والخطأ عليه توضيحه انه اذا كان الحكم ثابتا للموضوع بعنوانه الثانوى وهو التقييد بالنسيان ونحوه مما ذكر فى حديث الرفع لم يعقل ارتفاعه بحديث الرفع اذ

٣٠٢

المفروض ان عروض هذا العنوان الثانوى اعنى النسيان والخطأ او نحوهما هو علة لثبوت الحكم لموضوعه كوجوب سجدتى السهو المترتب على نسيان الجزء فكيف يكون نفس هذا النسيان علة لرفع وجوب سجدتى السهو والا لزم التناقض وهو كون نسيان علة لوجوب سجدتى السهو وعلة لعدم وجوبهما.

الثالث ان يكون المرفوع الآثار المترتبة على الفعل المقيد بالعمد والذكر والاختيار لا الخطأ والنسيان ونحوهما واما بطلان هذا الوجه الثالث فلان موضوع الحكم اذا كان مقيدا بقيد العمد وانتفى هذا القيد بان وقع لا عن عمد بل عن خطأ ونحوه انتفى الموضوع بانتفاء قيده فينتفى الحكم حينئذ قهرا لان انتفاء الحكم بانتفاء موضعه قهرى اذ الحكم كالمعلول بالنسبة الى موضوعه.

واعلم ان المصنف تبعا للشيخ (قدس‌سرهما) اختار الوجه الاول لبطلان القول الثانى والثالث قد علمت وجه بطلانهما آنفا.

قوله ضرورة ان الظاهر ان هذه العناوين صارت موجبة للرفع والموضوع للاثر مستدع لوضعه.

أى العناوين الثانوية كالنسيان والخطأ ونحوهما صارت موجبة لرفع الآثار المترتبة على الشىء بعنوانه الاولى لكن هذه العناوين الثانوية موضوع للاثر الثانوى فيستدعى هذا الموضوع لوضع هذا الاثر الثانوى.

توضيح ما ذكر ان المرفوع بهذا الحديث هو الاثر على الفعل بعنوانه الاولي لا بعنوانه الثانوى لان الظاهر ان العنوان الثانوى هو الذى اوجب

٣٠٣

رفع الاثر المترتب على الفعل بعنوانه الاولى فلو فرض ترتب اثر على الفعل بعنوانه الثانوى كوجوب الدية على العاقلة على القتل الخطائى ووجوب سجدتى السهو على نسيان بعض اجزاء الصلاة فلم يكن هذا العنوان الثانوى موجبا لرفع هذا الاثر الثانوى لان هذا العنوان هو الذى صار موضوعا للاثر والموضوع يستدعى وضع الاثر وثبوته فلا يكون رافعا له والا لزم كون الشىء رافعا لما يقتضى وضعه.

قوله لا يقال كيف وايجاب الاحتياط فيما لا يعلم وايجاب التحفظ فى الخطأ والنسيان يكون اثرا لهذه العناوين بعينها.

والغرض من هذا الاشكال : ان حديث الرفع يدل على رفع آثار نفس هذه العناوين الثانوية أى كالجهل والخطأ والنسيان لا رفع آثار ذات المعنونات اعنى لا رفع آثار موضوعات بعناوينها الاولية كما هو المدعى توضيح ما ذكر ان ايجاب الاحتياط من آثار الجهل بالتكليف ولا يعقل تشريعه حال العلم به وكذا ايجاب التحفظ فانه من آثار الخطأ والنسيان دون التذكر والظاهر ان مقتضى ما ذكر ثبوت ايجاب الاحتياط والتحفظ لهذه العناوين مع ان حديث الرفع ينفى هذا الايجاب الذى هو من آثار الجهل والخطاء والنسيان فثبت ان المرتفع بحديث الرفع هو آثار العناوين الثانوية.

فانه يقال بل انما يكون باقتضاء الواقع فى موردها الخ.

هذا جواب الاشكال توضيحه ان ايجاب الاحتياط ليس اثرا لما يعلمون بهذا العنوان بل من آثار التكليف الواقعى الناشى عن

٣٠٤

الملاك الذى اهتم به الشارع ولم يرض بتركه حتى فى حال الجهل به اذ لو لم يهتم به لم يوجب الاحتياط فوجوب الاحتياط ليس أثرا للفعل المجهول بما هو مجهول حتى يقال انه اثر للفعل بعنوانه الثانوى فوجوب الاحتياط حقيقة من آثار العناوين الاولية التى هى موضوعات الاحكام الواقعية الناشئة من المصالح الداعية الى تشريعها.

حاصل هذا الجواب منع كون ايجاب الاحتياط مستندا الى عدم العلم بالتكليف بل الى اهمية التكليف الواقعى فى مورد الجهل وكذا الكلام بالنسبة الى ايجاب التحفظ :

قوله : ومنها حديث الحجب وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا فى حديث الرفع الخ.

أى من الروايات المستدل بها على البراءة حديث الحجب وهذا الحديث مروى عن الصادق عليه‌السلام واصل الحديث هكذا ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ووجه الاستدلال بهذا الحديث ان الالزام المجهول مما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ويتوقف هذا الاستدلال على بيان مفردات الحديث وهى الحجب والعلم والوضع.

واما الحجب فهو لغة بمعنى الستر والمحجوب هنا هو الحكم الشرعى الواقعى حيث ان وظيفة الشارع من حيث إنّه شارع بيان الاحكام وحجب الحكم يتحقق بامره حججه عليهم‌السلام بعدم تبليغه الى العباد واخرى باختفائه عن العباد بعد امره حججه عليهم‌السلام بتبليغه.

٣٠٥

واما العلم فالمراد به حيث يطلق هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

واما كلمة (وضع) فان تعدت بعلى دلت على جعل الشىء على الشىء أى اثباته عليه : وان تعددت بعن دلت على معنى الاسقاط والرفع كقوله تعالى وضع عنهم احد هم أى اسقاطها عنهم.

قد ظهر من بيان مذكور تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة حيث انّه يدل على ان الحكم الواقعى المجهول قد وضعه الشارع عن العباد أى رفعه عنهم فعلا فيكون المراد بحجبه عدم وصوله سواء كان بعدم بيانه أو باخفاء الظالمين له ومن الواضح ان المرفوع ليس نفس الحكم الواقعى المجهول بل يكون الموضوع عن العباد ايجاب الاحتياط فتم دلالة الحديث على البراءة.

قوله : الا انه ربما يشكل بمنع ظهوره فى وضع ما لا يعلم الخ.

توضيح الاشكال ان محجوبية الحكم تارة يكون بوجود المصلحة فى اختفائه واخرى فى وجود المفسدة فى اظهاره : وثالثة بواسطة انطماس الادلة الدالة عليه من جهة تقصير المقصرين أى استند اختفاء الحكم الى انطماس وانمحاء ادلة الاحكام من جهة تقصير العصاة اللئام ومحل البحث فى البراءة هو الوجه الثالث وحينئذ فنقول اذا كان الحديث دالا على ان الحكم اذا اختفى علمه عن العباد لاجل طرو الحوادث الخارجية مع بيانه وصدوره عنهم عليهم‌السلام كان ذلك الحكم موضوعا عنهم ولم يكن الوجهان

٣٠٦

الاولان محل البحث اذ هما من الاحكام الانشائية الغير البالغة فى فى مرتبة الفعلية أى لم يؤمر بتبليغه السفراء.

ولا يخفى ان ظاهر حديث الشريف بقرينة نسبة الحجب الى نفسه تعالى يشمل الوجهان الاولان فمعناه ان ما لم يبينه الله تعالى فهو موضوع عنهم فيظهر بالبيان المذكور الاشكال على الوجه الثالث لان ما بينه واختفى علينا بسوء اعمالنا لا يصدق انه تعالى حجب علمه علينا اذ الحاجب حينئذ غيره فلا يكون موضوعا عن العباد فلا يصحّ الرجوع فيه الى هذا الحديث فثبت ظهور حديث الحجب فى الوجهين الاولين.

قوله : ومنها قوله عليه‌السلام كل شىء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه.

أى من الروايات المستدل بها على البراءة قوله عليه‌السلام وتقريب الاستدلال على البراءة بهذا الحديث الشريف انه يقال ان قوله عليه‌السلام حتى تعرف قيد للموضوع وهو شىء ومعناه ان كل شىء مشكوك الحل والحرمة حلال سواء كان منشأ الشك فقد نص أم اجماله ام تعارض نصين ام اشتباه امور الخارجية وعليه فشرب المائع المردد بين الخل والخمر المشكوك حكمه من حيث الحل والحرمة حلال فثبت الاستدلال على البراءة بهذا الحديث الشريف.

وقال صاحب الكفاية حيث دل هذا الحديث على حلية مشكوك الحرمة مطلقا أى سواء كان منشأ الشك فقد النص ام اجماله أو كان من جهة عدم الدليل على الحرمة فتجرى اصالة البراءة فى

٣٠٧

هذا المورد وقال يتم المطلوب بعدم الفصل قطعا بين الشبهة التحريمية والوجوبية هذا اشارة الى التعميم للشبهات الوجوبية ويشمل هذا الحديث الشبهات الوجوبية أيضا.

بعبارة اخرى افاد هذا الحديث التعميم بدعوى عدم الفصل بين الشبهات التحريمية والشبهات الوجوبية فى الحكم وبيان ذلك ان كل من قال بجريان البراءة وعدم وجوب الاحتياط فى الشبهات التحريمية قال بجريانها فى الشبهات الوجوبية أيضا فبضميمة عدم الفصل المعبّر عنه بالاجماع المركّب أيضا الى حديث الحل الدال على البراءة فى الشبهات التحريمية يتم المطلوب وهو عدم وجوب الاحتياط فى مطلق الشبهات.

قوله : مع امكان ان يقال ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال.

هذا هو الوجه الثانى لادراج الشبهة الوجوبية تحت مدلول الحديث من دون الحاجة الى دعوى عدم الفصل.

توضيحه ان الشىء اذا كان واجبا قطعا كان تركه حراما قطعا واذا كان فعله محتمل الوجوب كان تركه محتمل الحرمة فهذا الترك حلال فظهر من هذا البيان ادراج الشبهة الوجوبية تحت مدلول الحديث.

قوله : ومنها قوله عليه‌السلام الناس فى سعة ما لا يعلمون أى

أى قد استدل بهذا الحديث على البراءة مطلقا أى سواء كان فى الشبهة الحكمية أو الموضوعية ووجه الاستدلال ان الحديث يدل على السعة والترخيص من ناحية الحكم الواقعى المجهول سواء جعلنا «ما» موصولة أو ظرفية اما على الاول فلظهوره فى

٣٠٨

التوسعة من قبل الحكم المجهول من الوجوب والحرمة والضمير العائد الى الموصول محذوف وحاصل المعنى الناس فى سعة الحكم الواقعى الذى لا يعلمونه فالضيق الناشئ من التكليف الواقعى المجهول ولو كان لاجل وجوب الاحتياط منفى أى هذا الضيق منفى واما على جعل «ما» ظرفيّة فدلالة الحديث ظاهرة أيضا لدلالته على ان المكلف فى سعة ما دام جاهلا وجه الظهور انه لا بدّ للسعة من متعلق فليس متعلقها الموسع فيه الا الحكم الواقعى المجهول مطلقا أى سواء كان وجوبا أو حرمة فالمكلف فى سعة منه ما دام لم يعلم به فثبت من البيان المذكور الاستدلال بالحديث الشريف على البراءة ولم يكن الاحتياط واجبا كما قال صاحب الكفاية ومن الواضح انه لو كان الاحتياط واجبا فيعارض به ما دل على وجوبه أى فيعارض بحديث السعة ما دل على وجوب الاحتياط مع ان هذا الحديث دليل على البراءة من دون المعارض.

قوله : لا يقال قد علم به وجوب الاحتياط.

هذا اشكال على الاستدلال بهذا الحديث والمستشكل هو الشيخ (قدس‌سره) توضيحه انه اذا كان للمكلف العلم بالحكم وان كان هذا الحكم حكما ظاهريا كوجوب الاحتياط فلا سعة له فاذا لم يعلم المكلف بشىء من الحكم الواقعى والظاهرى فهو فى سعة فموضوع السعة هو الجهل بمطلق الوظيفة واما اذا علم بالوظيفة الفعلية وان كانت هى وجوب الاحتياط فلا سعة له.

قوله : فانه يقال لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد فكيف يقع فى ضيق الاحتياط من اجله

٣٠٩

هذا جواب عن الاشكال المذكور توضيحه ان وجوب الاحتياط إما ان يكون طريقيا واما ان يكون نفسيا والاشكال المذكور انما يرد اذا كان وجوب الاحتياط من القسم الثانى واما اذا كان وجوب الاحتياط من القسم الاول أى اذا كان وجوب الاحتياط طريقيا بمعنى انه يجب الاحتياط لانه طريق الى الحكم الواقعى المجهول فلم يرد الاشكال المذكور فى هذا القسم أى لم يلزم عدم السعة للمكلف ووجه عدم ورود الاشكال ان العلم بوجوب الاحتياط طريقيا لا يستلزم العلم بالوجوب أو الحرمة الواقعيين حتى يقع المكلف فى ضيق منهما وذلك لانه بعد العلم بوجوب الاحتياط من باب الطريقية لا يصير ذو الطريق المجهول من الوجوب أو الحرمة الواقعيين معلوما اذ العلم بوجوب الاحتياط لا يوجب العلم بالواقع أى لم يكن الواقع مما يعلم حتى يقع المكلف فى الضيق من اجله فظهر من البيان المذكور ان ايجاب الاحتياط بناء على الطريقية لا يوجب العلم بالواقع حتى يرفع موضوع حديث السعة والموضوع لهذا الحديث هو الجهل بالحكم الواقعى فهو باق على مجهوليته.

قوله ومنها قوله عليه‌السلام كل شىء مطلق حتى يرد فيه النهى.

وهذه الرواية مما استدل بها على البراءة وظاهر هذا الحديث عدم وجوب الاحتياط لان ارادة ورود النهى فى الشىء ظاهر فى ان المراد بورود النهى وصوله الى المكلف وعلمه به لا مجرد صدوره من الشارع وان لم يصل الى المكلف فالشىء الذى لم يصل اليه النهى فيه من الشارع مطلق ومباح ظاهرا فقد ثبت وجه

٣١٠

الاستدلال بهذا الحديث على البراءة وقد افاد هذا الاستدلال الشيخ (قدس‌سره) وقد ناقش المصنف على هذا الاستدلال بقوله مع أنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه الخ.

توضيح الاشكال ان الورود يصدق على الصدور المقابل للسكوت فمعنى الحديث حينئذ ان ما لم يصدر فيه النهى واقعا بمعنى سكوت الله تعالى عنه فهو حلال ولا تكليف على العباد من جهته فى مقابل ما اذا صدر النهى عنه واقعا فليس حلالا وان لم يعلم المكلف به وعليه فلا يصح الاستدلال به على البراءة حتى تقع به المعارضة بينه وبين ادلة الاحتياط لو تمت بل ادلة الاحتياط مقدمة عليه لورود النهى فى هذا المورد واقعا والحديث المذكور يشمل المورد الذى لم يرد النهى فيه.

والجواب عن الاشكال المذكور ان المقصود اثبات البراءة فى كل ما لم يصل فيه النهى الينا لا فيما لم يصدر النهى فيه واقعا فثبت استدلال بالحديث المذكور على البراءة لان ورود النهى فى هذا المورد لم يصل الى المستدل بهذا الحديث وان وصل الى غير واحد بعبارة اخرى ان صدور النهى عن الشارع فى الواقع لا يضر على استدلال المستدل بالحديث لان النهى الواقعى لم يصل اليه وان فرض وصول هذا النهى الى غير واحد.

قوله لا يقال نعم لكن بضميمة اصالة العدم صح الاستدلال به وتم.

هذا أيضا جواب الاشكال بلفظ لا يقال توضيحه انه يمكن تصحيح الاستدلال بالحديث المذكور على البراءة وذلك لامكان

٣١١

احراز عدم صدور النهى الشارع بالاستصحاب أى يستصحب عدم الصدور النهى عن الشارع فى مورد الشك.

قوله فانه يقال وان الاستدلال به بضميمتها ويحكم باباحة مجهول الحرمة.

هذا جواب عن قوله لا يقال توضيحه ان الاستدلال على البراءة بهذا الحديث بعد استصحاب عدم ورود النهى اليه وان كان هذا الاستدلال تاما بضميمة اصالة العدم لكن لم يكن الحكم بالاباحة فى هذا المورد بعنوان انه مجهول الحرمة شرعا كما هو مورد البحث بل يحكم بالاباحة بعنوان انه مما لم يرد عنه النهى واقعا هذا خارج عن مقام البحث أى اذا استصحب عدم ورود النهى نزل المقام بمنزلة ما علم عدم ورود النهى عنه فالحكم باباحة مجهول الحرمة حينئذ يكون لاجل العلم بعدم حرمته.

ولا يخفى ان هذا خلاف ما يقصد المستدل من الحكم باباحة لاجل كونه مجهول الحكم أى يكون الجهل بالحكم الواقعى مأخوذا فى موضوع اصالة البراءة واما اذا استصحب عدم ورود النهى فينزل المقام منزلة ما علم عدم ورود النهى عنه ولا يثبت الحكم المشكوك فيه الذى هو المقصود.

قوله لا يقال نعم ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالاباحة.

هذا ناظر الى صحة الاستدلال بالحديث المذكور على البراءة توضيحه ان العنوان الذى يثبت بالاستصحاب أى عنوان عدم ورود النهى ينزل منزلة ما علم عدم ورود النهى عنه فهذا العنوان مغاير

٣١٢

لعنوان مجهول الحرمة لكن لا تفاوت بينهما فى الغرض وهو اثبات إباحة مجهول الحرمة كشرب التتن فهذا الفعل مباح ظاهرا سواء كان بعنوان عدم ورود النهى عنه واقعا ولو تعبدا كما هو مقتضى استصحاب عدم ورود النهى عنه أم بعنوان كونه مجهول الحكم.

فثبت بالبيان المذكور صحة الاستدلال بهذا الحديث على البراءة وان كان الحكم بالاباحة بعنوان ما لم يرد النهى لا بعنوان مجهول الحرمة.

قوله فانه يقال حيث إنّه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهى عنه اصلا الخ.

هذا جواب الاستدلال المذكور بلفظة لا يقال توضيحه انه اذا جعل الحكم بالاباحة لمشكوك الحكم بعنوان انه مشكوك الحكم بلا ضم استصحاب عدم ورود النهى اليه شمل جميع موارد الشك فى الحكم حتى صورة فرض العلم الاجمالى بورود النهى عن ذلك الفعل المشكوك الحكم فى زمان واباحته فى زمان آخر اذ المفروض ان الفعل فعلا مجهول الحرمة والحديث دال على اباحته ظاهرا.

واما اذا جعل الحكم بالاباحة لمشكوك الحكم بعنوان انه لم يرد فيه النهى بضم استصحاب عدم وروده فكان الاستدلال بالحديث المذكور اخص من المدعى وذلك ان الاستدلال به يختص حينئذ بما اذا شك فى ورود النهى عنه واحرز عدم وروده بالاستصحاب ولا تشمل ما اذا علم بورود النهى وإباحة فى شيء واشتبه المتقدم منهما وجه عدم الشمول ان استصحاب عدم ورود النهى عنه الذى هو جزء الموضوع الحديث المذكور حسب الفرض لا يجرى حينئذ فى المورد الذى علم ورود النهى فيه اجمالا.

٣١٣

بعبارة اخرى ان هذا الحديث لم يشمل جميع الموارد الشك فى الحكم التى منها تعاقب الحالتين أى لا يشمل هذا الحديث الصورة التى فرض فيها العلم الاجمالى بورود النهى عن ذلك الفعل المشكوك الحكم فى زمان واباحته فى زمان آخر واشتبها من حيث التقدم والتأخر.

قوله لا يقال هذا لو لا عدم الفصل بين افراد ما اشتبهت حرمته.

هذا اشارة الى ان التفاوت بين العنوانين مسلم لو لا عدم الفصل بين افراد ما اشتبهت حرمته والظاهر ان الامة بين من يقول بالاحتياط فى الشبهات التحريمية مطلقا أى سواء كان الفرد المشتبه مما تجرى فيه اصالة عدم ورود النهى عنه أم لا تجرى فيه كمورد تعاقب حالتين اعنى ان المحدثين يقولون بالاحتياط فى الشبهات التحريمية مطلقا ـ وبين من يقول بالبراءة فيها كذلك وهم المجتهدون اى يقولون بالبراءة مطلقا ولم يدع احد التفصيل بين افراد المشتبه بأن يقول بالبراءة فيما تجرى فيه اصالة عدم ورود النهى ويقول بالاحتياط فيما لا تجرى فيه فثبت ان المجتهدين لم يفرقوا بين الموردين فى اصالة البراءة.

والحاصل ان اشكال اخصية الحديث من المدعى يندفع بتعميم دلالته بعدم القول بالفصل فى الحكم بالاباحة بين افراد مشتبه الحكم فما لا تجرى فيه اصالة العدم يلحق بالموارد التى تجرى فيها فببركة عدم الفصل بين الموردين نلتزم بالبراءة فى موارد تعاقب حالتين أيضا.

قوله فانه يقال وان لم يكن بينها الفصل الا انه انما يجدى فيما كان المثبت الحكم بالاباحة الدليل لا الاصل.

٣١٤

هذا نقض لا يقال بعد تسليم عدم الفصل بين افراد ما اشتبهت حرمته.

توضيحه ان التلازم فى الحكم بين افراد ما اشتبهت حرمته وان كان ثابتا الا ان المثبت لاحد المتلازمين لا يجب ان يثبت الملازم الآخر بل انما يثبت المثبت لاحد المتلازمين الملازم الآخر اذا كان هذا المثبت دليلا حيث ان الدليل يثبت اللوازم والملزومات والملازمات : هذا بخلاف الاصل فانه قاصر عن اثبات الملازم الآخر مثلا اذا قلنا بالملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن ضده فان ثبت الامر بالدليل الاجتهادى كالامر بالصلاة الثابت بمثل قوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ثبت ملازمة والنهى عن ضده الصلاة كإزالة النجاسة عن المسجد فيما اذا ضاق وقت الصلاة.

واما اذا ثبت الامر بالاصل العملي كاستصحاب وجوب الصلاة لمن كان عليه الفريضة وشك فى الاتيان بها والوقت باق لم يثبت ملازمة المذكورة لعدم ثبوت اللوازم بالاصول العملية وكذا لو قلنا بثبوت الملازمة بين العصير العنبى بعد الغليان وقبل ذهاب ثلثيه وبين نجاسته فان ثبت الحرمة بالدليل ثبتت نجاسته ايضا وان ثبتت بالاصل كاستصحاب عدم ذهاب ثلثيه لم تثبت النجاسة فيرجع الى انه ان كان مثبت الاباحة فيما لم يرد النهى فيه هو الدليل فلا اشكال فى ثبوت الفرد الآخر الملازم والمراد منه فى مقام البحث هو اثبات الاباحة للافراد المذكورة المجهولة الحرمة واذا كان بين الافراد التلازم صدق عليها اللازم والملزوم باعتبارين فظهر فى مقام البحث التلازم فى الحكم بالاباحة بين الافراد التى استصحب فيها عدم صدور النهى والافراد التى اشتبهت الحرمة فيها.

٣١٥

الاستدلال بالاجماع على البراءة

قوله واما الاجماع فقد قيل على البراءة الا انه موهون الخ.

واعلم ان الاجماع على خمسة أوجه :

الاول هو الاجماع المحصل أى ملاحظة جميع فتاوى العلماء

الثانى الاجماعات المنقولة على البراءة.

الثالث الاجمال العملي الكاشف عن رضا المعصوم عليه‌السلام بجواز ارتكاب المشتبه من حيث هو.

الرابع سيرة اهل الشرع كافة على البراءة فى مشتبه الحكم.

الخامس سيرة كافة العقلاء على عدم مؤاخذة الجاهل.

وغرض المصنف من الاجماع على البراءة هو الوجه الثانى وهو واضح أى استدل بالاجماع المنقول على البراءة ثم ناقش فيه المصنف بوجهين :

الاول ما اشار اليه بقوله موهون أى ان الاجماع المنقول فى مثل مقام ثبت حكمه بالدليل النقلى كالروايات المتقدمة فلا اجماع فى المقام حتى يثبت بالنقل بعبارة اخرى انه لا سبيل الى الجزم بنقل الاجماع لقوة استناد المجمعين الى بعض الوجوه النقلية أو العقلية المستدل بها على البراءة فلا يبقى الاطمينان بكشفه عن رأى المعصوم والظاهر ان شرط حجية الاجماع المنقول هو الكشف عن رأى المعصوم (ع).

الثانى ما اشار اليه بقوله فى الجملة والمراد منه انه لو سلم تحقق الاجماع المنقول فى المقام فهو غير معتبر أيضا لانه على القول باعتباره انما يعتبر فى الجملة أى فيما اذا لم يحتمل كونه

٣١٦

مدركيا وفى المقام يحتمل ذلك لاحتمال استناد المجمعين الى ما ذكر فيه من الادلة العقلية والنقلية فالمعتبر هو المدرك لا نقل الاجماع.

الاستدلال على البراءة بالعقل

قوله واما العقل فانه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول الخ.

أى الرابع من الادلة على البراءة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح المؤاخذة المولى عبده على الفعل الذى اعترف بعدم اعلامه الى المكلف.

توضيح هذا الاستدلال ان التكليف الواقعى ما لم يصل الى العبد لا يكون محركا له بعثا وزجرا بل شرط كون التكليف محركا للعبد تنجزه اليه أى ايصال التكليف الى العبد بالحجة المعتبرة اذ من الواضح ان الانشاء الواقعى غير مؤثر فى انقداح الداعى فى العبد فلا يكون مخالفة التكليف غير الواصل موجبا لاستحقاق العقاب لعدم كونه هتكا للمولى وظلما عليه ولا خروجا عن زى العبودية فلا تصح المؤاخذة مع عدم وصوله الى العبد فلو عاقبه المولى فى حال عدم وصول التكليف اندرجت معاقبته له فى الظلم الذى لا شك فى قبحه عقلا بناء على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ولا فرق فى استقلال العقل بقبح العقاب هنا بين عدم بيان المولى للتكليف اصلا وبين عدم وصول البيان الى العبد واختفائه عليه بعد الفحص

٣١٧

عنه فى مظانه بقدر وسعه فظهر انه اذا يئس المكلف بعد الفحص عن الظفر بما كان حجة على التكليف فان العقوبة والمؤاخذة بدون الحجة عقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

قوله ولا يخفى انه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة فى مخالفته.

هذا دفع توهم حاصل التوهم ان قاعدة قبح عقاب بلا بيان وان كانت من المستقلات العقلية لكن المقام مما يحتمل فيه الشبهة بعد الفحص فيكون هذا الاحتمال صغرى لقاعدة اخرى يستقل بها العقل وهى وجوب دفع الضرر المحتمل وتصير هذه القاعدة بيانا ورافعة لقبح للعقاب والمؤاخذة ودفع المصنف هذا التوهم

بقوله ولا يخفى انه مع استقلاله الخ.

حاصله ان المقام كان من باب ورود قاعدة القبح على قاعدة دفع الضرر أى يرتفع موضوع قاعدة دفع الضرر بسبب القطع بعدم العقاب عقلا بعد الفحص واليأس.

قال المصنف كما انه مع احتماله لا حاجة الى القاعدة قد ذكر انه لا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر فدفع هذه القاعدة أيضا بانه مع احتمال الضرر لا حاجة الى قاعدة دفع الضرر المحتمل وجه عدم الحاجة الى هذه القاعدة ان احتمال الحكم كاف لحسن المؤاخذة بل فى صورة المصادفة استحق العقوبة أى اذا احتمل الضرر الاخروى فى شرب مائع وكان حراما واقعا فانه يستحق العقوبة على مخالفة هذا التكليف الالزامى حتى اذا لم نقل وجوب دفع الضرر المحتمل.

٣١٨

الحاصل انه لا تجرى قاعدة دفع الضرر المحتمل فى المورد الذى تجرى فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

قوله واما ضرر غير العقوبة فهو وان كان محتملا الخ.

هذا معطوف على قوله لا احتمال لضرر العقوبة أى ذكر عدم احتمال العقوبة الاخروية بعد الفحص واليأس واما الضرر الدنيوى فهو محتمل عند ارتكاب الشبهة التحريمية ولا يرتفع احتماله بقبح العقاب بلا بيان لكنه لا يجب دفعه.

بعبارة اخرى ان الضرر الدنيوى اجنبى عن قاعدة قبح عقاب بلا بيان وأيضا وجوب دفع الضرر الدنيوى المحتمل ممنوع بل لا دليل على لزوم التحرز عن الضرر الدنيوى المعلوم فضلا عن محتمله اذ لا قبح عقلا فى تحمل بعض المضار الدنوية لبعض الدواعى العقلائية فان العقلاء مع علمهم بالضرر يصرفون الاموال فى تحصيل العلم أو فى بناء الامور الخيرية واما احتمال الضرر فهو موجود فى كثير من افعال الناس.

قوله : مع ان احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة الخ.

هذا هو الوجه الثانى لدفع الاشكال عن الاستدلال العقلى بيانه سلمنا ان الاحكام تابعة للملاكات الواقعية أى المصالح والمفاسد وكانت هذه الملاكات فى افعال المكلفين والظاهر عدم اناطة ترتب الاحكام الواقعية على هذه الملاكات بالعلم للملازمة بين التكليف وملاكه مطلقا علم به أم لا فاحتمال التكليف الوجوبى أو التحريمى ملازم لاحتمال المصلحة أو المفسدة.

٣١٩

ولكن هذه الملازمة انما تكون بين الحرمة والمفسدة والوجوب والمصلحة ولم تكن الملازمة بين الوجوب أو الحرمة وبين وجوب دفع الضرر المحتمل غير العقوبة لان الاحكام لم تكن تابعة للنفع أو الضرر الدنيويين وانما الثابت تبعيتها للمصالح والمفاسد الواقعية وهى التى توجب حسن الفعل أو قبحه ولا ربط لها بالمنافع والمضار العائدين الى المكلف.

الحاصل ان احتمال الحرمة وان كان ملازما لاحتمال المفسدة لكن هذا الاحتمال لا يلازم الضرر بالفاعل حتى يكون موردا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ويجب ترك محتمل الحرمة تحرزا عن الضرر بل ربما كان ترك الحرام تحرزا عن المفسدة مستلزما للضرر على التارك كما فى ترك البيع الربوى تحرزا عن مفسدته فانه موجب لذهاب المنفعة المالية على المتحرز فقد ثبت ان الاحكام أم يكن تابعة للنفع والضرر الدنيويين ولم يكن دفع الضرر المحتمل واجبا فتجرى البراءة عند الشبهة التحريمية لقبح عقاب بلا بيان.

قوله : نعم ربما يكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.

هذا استدراك على قوله ليست براجعة الى المنافع والمضار توضيح هذا الاستدراك انه قد يتفق كون مناط حكم العقل أو الشرع هو النفع أو الضرر الموجود فى الفعل لكن هذا لم يكن موجبا للملازمة لعدم كونهما غالبا مناطين للحكم حتى يكون احتمال الحرمة مساوقا لاحتمال المفسدة وان سلمنا ان الملاك

٣٢٠