رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

والحرث والغرس ـ إلى الإمام عليه السلام وإلى خلفائه النائبين عنه ، وإن تعذر ذلك فقد روي إخراجها إلى الفقهاء المأمونين ليضعوها في مواضعها ، وإذا تولى إخراجها عند فقد الإمام والنائبين عنه من وجب عليه جاز.

فأما صدقة الفطرة فيخرجها من وجبت عليه بنفسه دون الإمام عليه السلام.

***

وإذا كنا قد انتهينا إلى هذه الغاية فقد وفينا بما شرطنا في صدر هذا الكتاب فمن أراد التزيد في علم أصول الدين والغوص إلى أعماقه تغلغل شعابه فعليه بكتابنا الموسوم ب‍ (الذخيرة) ، فإن آثر الزيادة والاستقصاء فعليه بكتابنا (الملخص) ومن أراد التفريع واستيفاء الشرع وأبوابه فعليه بكتابنا المعروف ب‍ (المصباح) ومن أراد الاقتصار فما أوردنا هنا كاف شاف.

والله تعالى هو الموفق للصواب

٨١
٨٢

(٣١)

اجوبة المسائل القرآنیة

٨٣

٨٤

[وجه استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه]

مسألة : مسألة : قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه‌السلام أنه قال (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ)(١) والذي أخبرنا الله تعالى أنه وعد أباه بالاستغفار دون أمه ، فقال (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)(٢) وقال (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)(٣) وقال (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(٤).

فما وجه استغفاره لوالديه؟ ولأحد أن يقرأ (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) بياء ساكنة غير مشدودة؟ فيكون ذلك موافقا لقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ)(٥) ومحققا لما وعده به من الاستغفار؟.

الجواب : اعلم أنا قد بينا في كتابنا الموسوم ب «تنزيه الأنبياء والأئمة»

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٤١.

(٢) سورة الممتحنة : ٤.

(٣) سورة مريم : ٤٧.

(٤) سورة التوبة : ١١٣.

(٥) سورة الشعراء : ٨٦.

٨٥

القول في استغفار إبراهيم عليه‌السلام لأبيه ، بسطناه وشرحناه وفرعناه ، فمن أراد النهاية وقف عليه من هناك. (١)

وفي قوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وجهان :

أحدهما : أن عند الشيعة الإمامية أن الأب الكافر الذي وعده إبراهيم عليه‌السلام بالاستغفار لما وعده ذلك بالإيمان ، انما كان جده لامه ، ولم يكن والده على الحقيقة ، وأن والده كان مؤمنا. ويجوز أن يكون الإمام أيضا مؤمنة كوالده ، ويجعل دعاء إبراهيم عليه‌السلام لها بالمغفرة دليلا على إيمانها.

والوجه الأحسن : انا لا نجعل ذلك إبراهيم (٢) دعاء لنفسه ، بل تعليما لنا كيف ندعو لنفوسنا وللوالدين المؤمنين منا ، كما تعبد الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا)(٣) وهو عليه‌السلام لا يخطئ للعصمة وانما قال ذلك تعليما لنا.

فأما القراءة بتسكين الياء ، فان كانت مروية وقد روي بها جازت (٤) ، والا فالإبداع غير جائز.

مسألة

[في تفسير آية والسابقون الأولون من المهاجرين إلخ]

سأل الإمامية مخالفونا ، فقالوا : أخبرونا أليس الله تعالى يقول (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا

__________________

(١) تنزيه الأنبياء ص ٣٣.

(٢) الظاهر زيادة كلمة «إبراهيم».

(٣) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٤) في هامش النسخة : وقد قرئ بها جازت القراءة بالتخفيف.

٨٦

عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)(١) مع نظائرها أو ليس هذا اخبار صدق يقطع العذر وضوحه وينفي الشك بيانه ويسقط ان دل عليه ويقوم تبصرة نفسه.

فان قلتم : بلى.

قلنا : عرفونا من هؤلاء؟ وميزوهم لنا من غير توالي وتعادي على بصيرة وتثبت ويكون على يقين. وان افترضتم في هذه المدعوة الجميلة بأمر ، لزمكم مثله فيمن تزعمون أنه وعد بأعداد الجنة وحسن المنقلب في (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ)(٢) ونظائرها قتلو لله (٣) وينسبون معناه الى من أردتم فما الفصل؟.

وقالوا : قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كذا وكذا الصحابي ، أفترى هؤلاء كلهم ضلوا ، وهذه الوعود الحسنة والأقوال الجميلة لهم وفيهم ، فان كانوا ضلوا فمن بعدهم ممن تابعهم أضل وأضل من بعد أولئك أيضا الى اليوم بالظلم الان والبغي والربا وشرب الخمور والمناكرات والفواحش والجنة المنعوتة الى الأمم سكانها ، ومن هذه الأمة؟ مع هذه الصفات القبيحة المظنة أهلها ، فان لم يكن الصدر الأول والا ما عدهم.

الجواب :

قال الشريف الأجل المرتضى علم الهدى : قد بينا في كتابنا المعروف ب «الشافي» الذي نقضنا به على صاحب الكتاب المعروف ب «المغني» كلامه

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٠.

(٢) سورة الإنسان : ١.

(٣) كذا في النسخة.

٨٧

في الإمامة وتعلقه بهذه الآية ، لانه أوردها من جملة ما احتج به ، وحكاه عن أبي على الجبائي واستقصينا الكلام فيها ، ونورد هاهنا جملة كافية مقنعة.

وأول ما نقوله : ان ظاهر هذه الآية لا تقتضي أن السبق المذكور فيها انما هو السبق إلى إظهار الايمان والإسلام واتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لان لفظ «السابقين» مشتركة غير مختصة بالسبق إلى شيء بعينه.

وقد يجوز أن يكون المراد بها السبق الى الطاعات ، فقد يقال لمن تقدم في الفضل والخير : سابق ومتقدم. قال الله تعالى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)(١) فإنما أراد المعنى الذي ذكرناه ، وقال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ)(٢) ويكون معنى قوله تعالى (الْأَوَّلُونَ) التأكيد للسبق والتقدم والتدبير فيه ، كما يقال : سابق بالخيرات أول سابق.

وإذا لم يكن هاهنا دلالة تدل على أن المراد بالسبق في الآية إلى الإسلام فقد بطل غرض المخالفين. وإذا دعوا فيمن يذهبون الى فضله وتقدمه أنه داخل في هذه الآية إذا حملنا على السبق في الخير والدين احتاجوا الى دليل غير ظاهر الآية ، وأنى لهم بذلك.

ثم إذا سلمنا أن المراد بالسبق في الآية السبق إلى الإسلام والايمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا بد من أن يكون الآية مشروطة بالإخلاص وأن يكون الظاهر كالباطن ، فان الله لا يعد بالجنة والرضوان من أظهر الإسلام وأبطن خلافه.

ولا خلاف بيننا وبين مخالفينا في أن هذا الشرط الذي ذكرناه مراعى في

__________________

(١) سورة الواقعة : ١٠.

(٢) سورة فاطر : ٣٢.

٨٨

الآية ، وإذا كان لا بد من مراعاته فمن أين للمخالف أن القوم الذين يذهبون الى تعظيمهم وتفضيلهم ممن أظهر السبق إلى الإسلام كان باطنهم كظاهرهم ، حتى يستحق الدخول تحت الوعد بالجنة والرضا من الله تعالى.

ويختص مخالفونا بشرط آخر يذكرونه على مذاهبهم ، وهو أنهم يشترطون في هذه الآية وفي أمثالها من آيات الوعد بالثواب على الطاعات ، أن لا يأتي هذا المطيع بما يسقط به ثواب طاعته من الأفعال القبيحة. ونحن لا نشترط ذلك لان مذاهبنا أن المؤمن على الحقيقة (١) سرا وعلانية لا يجوز أن يكفر ، ولا يحتاج الى هذا الشرط ، وان شرطنا نحن وهم جميعا في آيات الوعيد بالعقاب ، الا أن يتوب (٢) هذا العاصي فان التوبة يسقط عندنا العقاب تفضلا وعند مخالفينا وجوبا ، فلا بد من اشتراطها في الوعيد بالعقاب.

فمن أين لمخالفينا إذا ثبت لهم دخول من يريدون دخوله في الآية ، مضافا الى ايمانه باطنا وظاهرا أنه ما أتى طول عمره بما يسقط ثواب سبقه إلى الإسلام.

فإن قالوا : فمن أين تعلمون أنتم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو معني بهذه الآية عندكم قد حصل فيه الشرط الذي ذكرتم أنه لا بد من اشتراطه.

قلنا : نحن لا نعتمد في الدلالة على فضل أمير المؤمنين عليه لسلام وتقدمه على الخلق في الثواب بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الآية ، فيلزمنا أن نذكر حصول شرطها فيه ، بل نعتمد في ذلك على ما هو معروف مسطور في الكتب

__________________

(١) في الهامش : كذا.

(٢) ظ : ألا يتوب.

٨٩

مما ليس للمخالف مثله ، وانما يجب على المخالف إذا كان معتمدا في فضل من يذهب الى تفضيله على هذه الأمة (١) أن يدل على أن الشرط المعتبر في هذه الآية حاصلة فيه بعد ، وقد ثبت عصمة أمير المؤمنين عليه‌السلام عندنا وطهارته من القبائح كلها ، وأنه لا يجوز أن يظهر من الطاعات والخيرات خلاف ما يبطن.

وآكد ما دل على ذلك أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نص عليه بالإمامة والاستخلاف بعده على أمته بالأدلة التي ذكرناها في كتبنا وبسطناها ، لا سيما في الكتاب «الشافي».

وإذا ثبت أنه الإمام المستخلف على الأمة ، ثبت أنه معصوم ، لان العقول قد دلت على أن الامام لا بد من أن يكون معصوما لا يجوز تخطيه من الخط ما جاز على رعيته ، فبهذه الدلالة ونظائرها نعلم أن باطن أمير المؤمنين عليه‌السلام كظاهره ، وأنه لا يجوز أن يظهر من الخيرات والطاعات ما يجوز أن يبطن خلافه فنعلم بذلك دخوله قطعا تحت الآية.

وهذا هو الجواب عن الاعتراض بحصول التوابع فيمن عني بسورة «هل أتى». فإن ادعى مخالفونا دخول غيره فيه ، فيجب أن يدلوا على مثل ما دللنا عليه ، والا كانوا حاصلين على الدعوى العارية من برهان.

على أنا نقول : ليس يخلو المراد بالسابقين المذكورين في الآية ، هو السابق الذي لم يتقدمه غيره ، أو يراد به من سبق سواه ، وان كان مسبوقا في نفسه بغيره ، وان كان المراد هو الأول ، فالذين هم بهذه الصفة في السبق إلى الإسلام أمير المؤمنين عليه‌السلام وحمزة وجعفر وخباب بن الأرت وزيد بن حارثة وعمار بن ياسر رحمة الله عليهم ، ومن الأنصار سعد بن معاذ وأبو الهيثم بن

__________________

(١) خ ل : الآية.

٩٠

التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.

فأما أبو بكر ففي تقدم إسلامه خلاف معروف ، وقد ذكر أهل النقل أن إسلام أمير المؤمنين عليه‌السلام وعمر (١) وجعفر وخباب وزيد كان مقدما لإسلامه ، والاخبار بذلك في نقل أصحاب الحديث وأصحاب السير من العامة مشهورة معروفة.

فعلى من ادعى تقدم إسلام أبي بكر وأنه سابق لا متقدم له أن يدل على ذلك ، وهيهات أن يتمكن من ذلك. ثم إذا دل عليه ، وجب أن يدل على نظائره في أن ظاهره كباطنه ، وأن لم يأت في باقي عمرة ما يزول معه الثواب الذي استحقه بإيمانه وإسلامه ، دون ذلك خرط القتاد.

وان كان الأمر على الوجه الثاني الذي قسمناه في كلامنا ، فهو مؤد الى أن يكون جميع المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سابقين في الإسلام إلا الواحد الذي لم يكن بعده إسلام من واحد ، ومعلوم خلاف ذلك.

فقد بان بهذه الجملة مذهبنا في المعني بهذه الآية ، لأنه ان كان المراد بها السبق الى الخيرات والطاعات ، وكل سابق في ذلك ممن ظاهره كباطنه ، داخل تحته. وان كان المراد السبق إلى الإسلام ، وكل سابق إلى الإسلام ممن باطنه فيه كظاهره وعلانيته كسره داخل في الآية. فمن ادعى في بعض ما اختلف في إسلامه أن إسلامه يتقدم له الدليل على ذلك.

ثم عليه بعد ذلك إذا ثبت له تقدم إظهار الإسلام أن يدل على أن الباطن كالظاهر ، ثم على سلامة ثوابه ، ومعلوم تعذر ذلك وتعسره على من يروم من

__________________

(١) ظ : حمزة.

٩١

مخالفينا ، والا فليتعاطوه ليعلموا أعجزهم (١) عن ذلك.

فأما ختم به هذه المسألة من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبض عن كذا وكذا الصحابي أفترى هؤلاء كلهم ضلوا؟

فالجواب عنه : معاذ الله أن يفضل عن الحق جميع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو يعدل الى القول بالباطل على جميع الأئمة في وقت من الأوقات بل لا بدّ للحق في كل زمان من قائل به وذاهب اليه ومقيم عليه ، وان ضل عنه غيره.

والذين ضلوا الضلال الشديد بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعد مخالفته فيمن نصبه للإمامة وارتضاه للخلافة ، وعدل بالأمر عنه وصيره في غيره ، افتتاناً على الرسول ، وتقدماً بين يديه ، وخلاف (٢) ظاهراً عليه ، ثم اتبع هؤلاء الجم والعدد الكثير تقليداً لهم وحسن الظن بهم ، وعجزاً عن الاختبار والاعتبار فضلا أيضاً دون ذلك الضلال.

ونفى أهل الحق الذين علموا أن الإمامة في أمير المؤمنين عليه‌السلام بالنص والتوقيت ، وأنه أوان (٣) أغلب على مقامه ، وحيل بينه وبين حقه ، فهو المستحق للإمامة.

وهؤلاء جماعة بني هاشم ، ومن المهاجرين والأنصار جماعة كثيرة معروفون وهم الذين تأخروا عن بيعة أبي بكر ، واجتمعوا الى أمير المؤمنين «ع» متحاورين

__________________

(١) ظ : عجزهم.

(٢) ظ : خلافاً.

(٣) ظ : وان.

٩٢

اليه وتعمدن (١) ما يصرفهم عليه ويزيدهم به ، فلما رأوا حاله على الاستمرار على المنازعة والمجاذبة.

وهذا الأمر بعد أن قربت الشبهة فيه وكثرت الأعوان عليه. وإذا عدد النصار لما تم من الاختيار علماً منه بما يعقب المخارجة ، وتورث المجاهرة من الفساد العظيم في الدين ، وتفرق الشمل وتشعب الحيل اقتداءً به في الإمساك والمشاركة ، الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

مسألة

[المراد من الصاعقة والرجفة في الآيتين]

ان سأل سائل فقال : أليس قد أخبر الله تعالى أنه أهلك عاداً بالريح ، ثم قال في سورة حم السجدة (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ)» (٢).

وقال عزوجل في قصة ثمود (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ)(٣) فسمى الصاعقة المذكورة في سورة حم رجفة ، ومعلوم أن الريح غير الصاعقة ، والصاعقة غير الرجفة.

الجواب :

انه غير ممتنع أن ينضم الى الريح صاعقة في إهلاك قوم عاد ، فيسوغ أن يخبر في موضع أنه أهلكهم بالريح ، وفي آخر أنه أهلكهم بالصاعقة.

__________________

(١) في الهامش : تعمدت.

(٢) سور فصلت : ١٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧٨ و ٩١.

٩٣

وقد يجوز أن يكون الريح نفسها هي الصاعقة ، لأن كل شيء صعق (١) الناس منه فهو صاعقة.

وكذلك القول في الصاعقة والرجفة أنه غير ممتنع أن يقترن بالصاعقة الرجفة ، فيخبر في موضع بأنهم أهلكوا بالصاعقة وفي آخر بالرجفة.

وقد يمكن أن تكون الرجفة هي الصاعقة ، لأنهم صعقوا عندها.

مسألة

[كيفية نجاة هود عليه من الريح المهلك]

ان سأل سائل فقال : ان الماء في عهد نوح لما يم جميع الأرض لم ينج من الغرق لا أصحاب السفينة ، فالريح المسخرة بم أعظم (٢) منها هود عليه‌السلام ومن اتبعه من المؤمنين ، مع علمنا أن كل ريح تهب من شمال أو جنوب أو صبا أو دبور فإنها تعم الأرض وأكثرنا.

وهذا السؤال وان لم يكن داخلا في علم الكلام ، فإن كثرة العلم وجودة الطبع يوسع للمسئول إذا كانت هذه حالة المقال ويضرب له المثال.

الجواب :

عن الريح المهلكة لعاد المدمرة عليهم ما الوجه في كيفية نجاة هود عليه‌السلام منها ومن نجاة من نجى بنجاته من أهله وأصحابه مع عموم الريح الأماكن كلها.

__________________

(١) كذا والظاهر : يصعق.

(٢) ظ : نجى.

٩٤

فالجواب عندي أنه غير ممتنع أن يكون هود «ع» ومن كان في صحبته بحيث لم تهب فيه هذه الريح المهلكة ، والله تعالى قادر على أن يخص بالريح أرضاً دون أرض ، ويكف عن هود عليه‌السلام ومن معه عند هبوبها وتأثير اعتمادها ، فلا يلحقهم من الضرر بها وان هبت بينهم كما لحق من هلك ، كما أنه تعالى كف إحراق النار عن إبراهيم عليه‌السلام وبردها في جسمه وان كان حاصلا فيها ، وكل ذلك جائز واضح.

مسألة

[الإشكال الوارد في آية «(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) إلخ»]

أجمع أهل العربية على أن «ثم» توجب في العطف الترتيب دالة على التعقيب ، وإذا كان هذا كما وصفوا فما معنى قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)(١).

فيجيء من هذا على قول النحويين أنه تعالى أمر الملائكة اسجدوا لادم بعد خلقه وتصويره قوماً خوطبوا بذلك ، فان كان هؤلاء المخاطبون من ذرية آدم فهنا (٢) من الأمر المستحيل ، وان كان من غير ذرية آدم ، فيحتاج الى دليل.

الجواب :

أما قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا)

__________________

(١) سورة الأعراف : ١١.

(٢) ظ : فهذا.

٩٥

لقسوم ليسوا من نسل آدم عليه‌السلام بل للجن وغيرهم من خلق الله تعالى ، وعلى هذا الجواب تسقط الشبهة ولا يبقى سؤال.

الجواب الأخر : أن يكون قوله تعالى (خَلَقْناكُمْ) لم يرد به الإيجاد والإحدات وان كان الخطاب به لبني آدم ، وانما أراد تعالى التقدير.

وعلى هذا المعنى حمل قوم من العلماء قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(١) بمعنى أنه تعالى قدرها وعلم كيفيتها وأحوالها وسوء (٢) الخلق الإيجاد والاحداث وقد يسمى أحدنا بأنه خالق للأديم وان لم يكن محدثاً ولا موجوداً ، فالشبهة أيضاً ساقطة عن هذا الجواب.

وقد أجاب قوم عن هذا السؤال ، بأن لفظة (ثُمَّ) في قوله تعالى (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) لم يأت لترتيب الجواب الأمر بالسجود على الخلق والتصوير ، لا الأمر هو المرتب عليها.

وهذا الجواب وان كان مسقطاً للشبهة ، فإنه مخالف للظاهر ، لان ظاهر الكلام يقتضي أن الأمر بالسجود هو المرتب لا للاعلام. ألا ترى أن القائل إذا قال : ضربت زيداً ثم عمراً ، فان الظاهر من كلامه يقتضي أن ضرب عمرو هو المرتب على ضرب زيد.

وعلى هذا الجواب الذي حكيناه يجوز أن يكون ضرب عمرو متقدماً على ضرب زيد ، وانما أدخل لفظة «ثم» لإعلام ترتب الضرب على الضرب ومعلوم خلاف ذلك.

فان قيل : فالجواب الذي ذكرتموه المبني على أن قوله تعالى (خَلَقْناكُمْ)

__________________

(١) سورة الصافات : ٩٦.

(٢) كذا في النسخة.

٩٦

لم يعن به البشر وانما عنى به غيرهم مخالف أيضاً للظاهر.

فان قلتم : خالفنا الظاهر بدليل.

قلنا : ونخالفه أيضاً بدليل.

والجواب عن السؤال : أنه ليس الظاهر من قوله تعالى (خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) ينبغي أن يكون متوجهاً الى بنى آدم دون غيرهم من العقلاء.

والظاهر من قوله تعالى (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) يقتضي ترتب القول على الخلق والتصوير.

مسألة

[قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلخ]

ان سأل سائل عن قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(١) وكيف يجوز أن يكون من جملة ما حرم علينا أن لا نشرك شيئاً ، والأمر بالعكس في ذلك.

الجواب :

قيل له : هذا سؤال من لا تأمل عنده لموضوع الآية وترتيب خطابه ، لان التحريم المذكور فيه لا يجوز البتة على مذهب أهل العربية أن يكون متعلقاً بقوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) وانما هو من صلة الجملة الاولى.

ولو تعلق التحريم المذكور بقوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) لم يخل أن يكون

__________________

(١) سورة الانعام : ١٥١.

٩٧

تعلقه به تعلق الفاعل والمفعول ، فكأنه قال : حرم أن لا تشركوا ، أو المبتدأ والخبر ، فكأنه قال : الذي حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا.

والتعلق الأول يمنع منه لفظة «حرم» من صلة لفظة «ما» التي بمعنى الذي ، فلا يعمل فيما بعدها. ألا ترى أنك إذا قلت «حرمت كذا» فالتحريم عامل فيما بعده على الفعل من المفعول ، فإذا قلت : الذي حرمت كذا ، فبطل هذا المعنى.

ولم يجز أن يكون التحريم متعلقاً بما بعده على معنى الفعلية ، بل على سبيل المبتدأ والخبر. ولا يجوز أن يكون في الآية التعلق على هذا الوجه ، لان صدر الكلام يمنع من ذلك.

ألا ترى أنه تعالى قال (تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ف «ما» منصوب لانه مفعول أتل ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون «ما حرم» مبتدأ حتى يكون «ألا تشركوا» خبراً له.

وإذا بطل التعلق بين الكلام من كلا الوجهين ، نظرنا في قوله تعالى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) ، لان ذلك واجب غير محرم ، فوجب أن يضمر اما أوصاكم أن لا تشركوا به (١).

والإضمار الأول يشهد له آخر الآية في قوله تعالى (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٢) والإضمار الثاني يشهد له أول الآية في قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما) أوصانا به فقد أمرنا به وبنينا إليه.

فإن قيل : فما موضع «ان» من الاعراب؟.

__________________

(١) في الهامش : أوصيكم أن لا تشركوا أو أتل عليكم.

(٢) سورة الانعام : ١٥١.

٩٨

قلنا : في ذلك وجوه ثلاثة :

أحدها : الرفع ، ويكون التقدير : ذلك أن لا تشركوا به شيئاً ، فكأنه مبتدأ أو خبر.

والثاني : النصب ، اما على أوصى أن لا تشركوا ، أو على أتل أن لا تشركوا.

والثالث : أن لا يكون لها موضع ، يكون المعنى : ألا تشركوا به شيئا.

فإما موضع «تشركوا» فيمكن فيه وجهان : النصب ب «أن» والجزم ب «لا» على وجه النهي.

فان قيل : كيف يعطف النهي في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ)(١) على الخبر وهو أوصى أن لا تشركوا.

قلنا : ذلك جائز مثل قوله تعالى عزوجل (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٢) ومثل قول الشاعر :

حج وأوصى لسلمى الا عبدا

ألا ترى ولا تكلم أحدا

ولم يزل شرابها مبرداً

فعطف «لا تكلم» وهي نهي على الخبر.

ويمكن في الآية وجه آخر غير مذكور فيها والكلام يحتمله ، وهو أن يكون الكلام انقطع عند قوله تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) والوقف هاهنا ، ثم ابتدأ فقال «عليكم ألا تشركوا به شيئاً» وإذا كان على هذا الوجه ، احتمل «عليكم ألا تشركوا» وجهين :

أحدهما : أن يراد يلزمكم وواجب عليكم ، كما يقال : عليك درهم وعليك

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣١.

(٢) سورة الانعام : ١٤.

٩٩

أن تفعل كذا ، ثم قال (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أوصى (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

والوجه الأخر : أن يريد الإغراء ، كما تقول : عليك زيداً وعليك كذا إذا أمرت بأخذه والبدار اليه.

ولم يبق بعد هذا السؤال (١) واحد ، وهو أن يقال : كيف يجوز أن يقول تعالى (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) ثم يأتي بذكر أشياء غير محرمات ، حتى يقدروا لها الوصية والأمر. وصدر الكلام يقتضي أن الذي يأتي من بعد لا يكون الا محرماً ألا ترى أن القائل إذا قال : أتل عليك ما وهبته لك كذا وكذا ، لا بد أن يكون ما بعده ويذكره من الموهوبات ، والا خرج الكلام من الصحة.

والجواب عن ذلك : أن التحريم لما كان إيجاباً وإلزاماً أتى ما بعده من المذكورات على المعنى دون اللفظ بذكر الأمور الواجبات والمأمورات ، للاشتراك في المعنى. وأيضاً فان في الإيجاب والإلزام تجري (٢). ألا ترى ان الواجب محرم الترك ، وكل شيء ذكر لفظ التحريم على بعض الوجوه تحريم.

فان قيل : ألا حملتم الآية على ما حملها قوم من أن لفظة «لا» زائدة في قوله تعالى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) واستشهدوا على زيادة «لا» بقوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أي أن تسجد ، قال الشاعر :

ألا يا لقومي قد أشطت عواذلي

ويزعمن أن أؤدي بحقي باطل

ويلجئني في اللهو أن لا أحبه

وللهو داع دائب غير غافل

قلنا قد أنكر كثير من أهل العربية زيادة «لا» في مثل هذا الموضع وضعفوه وحملوا قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)(٣) على أنه خارج على المعنى ، والمراد

__________________

(١) ظ : إلا سؤال.

(٢) ظ : تحريم.

(٣) سورة الأعراف : ١٢.

١٠٠