رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

كلام ، وان كان من اطلع على كلامنا فيما كنا أمليناه من مسائل الخلاف هو ما في هذه المسألة ، وما أوردناه أيضا قريبا من الكلام في ذلك.

وأي بحر (١) هذا الكلام الذي وجدناه لهذا الرجل ولغيره في هذه المسألة كالقطرة بالإضافة اليه ، وأمكن من ضبط ذلك أن ينقض منه كل كلام سطر في هذه الآية أو له سطر ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب.

قال صاحب الكلام : قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(٢) المعول في ذلك أن من نصب قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) حمله على الغسل وعطفه على الأيدي ، لما كان المعنى عنده على الغسل دون المسح ، فحمل على النصب الذي يقتضيه قوله (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ليكون على لفظ ما في حكمه في الوجوب من الأيدي التي حملت على الغسل. ولم يجر كما جر من قرأ وأرجلكم لمخالفته في المعنى ، فلذلك خالف بينهما في اللفظ.

الجواب : يقال له : يجب أن نبني المذاهب على الأدلة على الاحكام ، فيجب أن نعتبر وجه دلالته ، فنبني مذاهبنا عليها ويكون اعتقادنا موافقا.

فقولك «ان من نصب الأرجل حمله على الغسل وعطفه على الأيدي لما كان المعنى عنده على الغسل دون المسح» طريق ، ولو لم يكن عند من ذكرت الغسل دون المسح بغير دلالته ، والقرآن يوجب المسح دون الغسل.

وأول ما يجب إذا فرضنا ناظرا منا فلا يحكم بهذه الآية وما يقتضيه من مسح أو غسل، يجب أن لا يكون عنده غسل ولا مسح ، ولا يتضيق إليه أحدهما ، بل

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) سورة المائدة : ٦.

١٦١

ينظر فيما يقتضيه ظاهر الآية وإعرابها ، فيبني على مقتضاها الغسل ان وافقه ، أو المسح ان طابقه. وكلامك هذا يقتضي سبلا من الغسل وأنه حكم الآية حتى يثبت عليه اعراب الأرجل بالنصب ، وهذا هو ضد الواجب.

وقد بينا في مسائل الخلاف أن القراءة بالجر أولى من القراءة بالنصب ، لأنا إذا نصبنا الأرجل فلا بد من عامل في هذا النصب ، فاما أن تكون معطوفة على الأيدي ، أو يقدر لها عامل محذوفا ، أو تكون معطوفة على موضع الجار والمجرور في قوله (بِرُؤُسِكُمْ) ولا يجوز أن تكون معطوفة علي الأيدي ، لبعدها من عامل النصب في الأيدي ، ولأن اعمال العامل الأقرب أولى من اعمال الأبعد.

وذكرنا قوله تعالى (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)(١) وقوله (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(٢) وقوله تعالى (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)(٣).

وذكرنا ما هو أوضح من هذا كله ، وهو أن القائل إذا قال : ضربت عبد الله ، وأكرمت خالدا وبشرا ، ان رد بشرا الى حكم الجملة الماضية التي قد انقطع حكمها ووقع الخروج عنها لحن وخروج عن مقتضى اللغة ، وقوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) جملة مستقلة بنفسها ، وقد انقطع حكمها بالتجاوز لها إلى جملة أخرى ، وهو قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).

ولا يجوز أن تنصب الأرجل بمحذوف مقدر ، لانه لا فرق بين أن تقدر محذوفا هو الغسل ، وبين أن تقدر محذوفا هو المسح ، ولان الحذف لا يصار اليه الا عند الضرورة. وإذا استقل الكلام بنفسه من غير تقدير محذوف ، لم يجز حمله على محذوف.

__________________

(١) سورة الكهف : ٩٦.

(٢) سورة الحاقة : ١٩.

(٣) سورة الجن : ٧.

١٦٢

فأما حمل النصب على موضع الجار والمجرور ، فهو جائز وشائع ، الا أنه موجب للمسح دون الغسل ، لان الرءوس ممسوحة ، فما عطف على موضعها يجب أن يكون ممسوحا مثلها ، الا أنه لما كان إعمال أقرب العاملين أولى وأكثر في القرآن ولغة العرب ، وجب أن يكون جر الآية (١) حتى تكون معطوفة على لفظة الرءوس أولى من نصبها وعطفها على موضع الجار والمجرور ، لأنه أبعد قليلا ، فلهذا ترجحت القراءة بجر الأرجل على القراءة بنصبها.

ومما يبين أن حمل حكم الأرجل على حكم الرءوس في المسح أولى ، أن القراءة بالجر يقتضي المسح ولا يحتمل سواه ، فالواجب حمل القراءة بالنصب على ما يطابق معنى القراءة بالجر ، لان القراءتين المختلفتين تجريان مجرى آيتين في وجوب المطابقة بينهما ، وهذا الوجه يرجح القراءة بالجر للأرجل على القراءة بالنصب لها.

ثم قال صاحب الكلام : فان قال قائل : انه إذا نصب فقال (وَأَرْجُلَكُمْ) جاز أيضا أن يكون محمولا على المسح ، كما قال : مررت بزيد وعمرا. فحملوا عمرا على موضع الجار والمجرور ، حيث كانا في موضع نصب ، فلم لا يقولون : ان الجر أحسن وان المسح أولى من الغسل ، لتجويز القراءتين جميعا بالمسح ، ولان من نصب فقال : «وأرجلكم» يجوز في قوله أن يريد المسح فيها نصب للحمل على الموضع. والذي يجر «وأرجلكم» لا يكون الا على المسح دون الغسل ، وكيف لم يقولوا ان المسح أو (٢) الغسل ، لجوازه في القراءتين جميعا ، وانفراد الجر في قوله «وأرجلكم» بالمسح من غير أن يحتمل

__________________

(١) في الهامش : الأرجل.

(٢) لعله : أولى من.

١٦٣

غيره.

والقول (١) في ذلك : أن حمل نصب «أرجلكم» على موضع الجار والمجرور في الآية لا يستقيم ، لمخالفته ما عليه بغير النبي بل في هذا النحو.

وذلك أنا وجدنا في التنزيل العاملين إذا اجتمعا حمل الكلام على العامل الثاني الأقرب الى المعمول فيه دون الأبعد ، وذلك في نحو قوله (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)(٢) ، حمل على العامل الثاني الأقرب الذي هو «أفرغ» دون الأول الذي هو «آتوني» ، ولو حمل على الأول لكان آتوني أفرغه عليه قطرا ، أي آتوني قطرا أفرغ عليه. وكذلك (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(٣) أعمل «يفتيكم» دون «يستفتونك» ولو أعمل الأول لكان يستفتونك قل الله يفتيكم فيها.

وكذلك قوله تعالى (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(٤) أعمل الأقرب من العاملين ، وهو «أقروا» ولو عمل الأول لكان هاؤم أقروه كتابيه.

فاذن كان حكم العاملين إذا اجتمعا على هذا الذي ذكرت من اعمال الثاني أقرب منهما الى المعمول ، لم يستقم أن يترك حمل «الأرجل» على البناء التي هي أقرب اليه ، ويحمل على الفعل لمخالفته ذلك ما ذكرت من الآي ، وان الأكثر في كلامهم : خشنت بصدره وصدر زيد بجر صدر المعطوف على البناء من حيث كان أقرب اليه ، وهذا مذهب سيبويه.

ثم قال : فان قال قائل : إذا نصب «الأرجل» فقال «وأرجلكم» فقد حمل

__________________

(١) ظ : فالقول.

(٢) سورة الكهف : ٩٦.

(٣) سورة النساء : ١٧٦.

(٤) سورة الحاقة : ١٩.

١٦٤

ذلك على أبعد العاملين ، فكيف لا يجوز لمن نصب أن يتأول ما ذكرناه من حمله على موضع الجار والمجرور ، ويكون تأويله جائزا ، وان لم يحمل على الباء التي هي أقرب الى المعمول من قوله «اغسلوا».

ثم قال : القول في ذلك أنه رأى أن يحمله على الجر لا يستقيم في المعنى ، وانما يحمل على أقرب العاملين إذا كان الحمل عليه لا يفسد معنى ، فإذا أدى ذلك فساد المعنى عنده لم يحمله على الأقرب.

ألا ترى ان ما تلوناه من الآي إنما حمل فيه على الثاني دون الأول ، لأن الحمل على كل واحد منهما في المعنى مثل الحمل على الأخر ، فلما كان كذلك أعمل الأقرب لقربه ، إذا كانوا قد احتملوا لإيثارهم الحمل على الأقرب ما لا يصح في المعنى ، كقوله غزل العنكبوت المزمل (١) ويروى نسج والمزمل من صفة الغزل ، وحمله على العنكبوت من حيث كان أقرب إليه من الغزل ، فإذا صح المعنى مع الأقرب فلا يذهب على ذلك.

الجواب : يقال له : أما صدر هذا الفصل من كلامك ، فهو كله عليك ، لأنك قد نطقت فيه بلسان من نص المسح في الآية ، واستشهدت في اعمال الثاني من العاملين دون الأول ، بما استشهدنا نحن به في نصرة هذه المسألة ، والرد على من أوجب الغسل بها دون المسح ، فكأنك على الحقيقة انما حققت من وجوب اعمال العامل الثاني دون الأول ، لما هو شاهد عليك لا لك.

ولما سألت نفسك عن السؤال الذي فطنت به ما حققته وبسطته لك ، عدلت الى دعوى طريقة .. من أين لك بلوغها ، لأنك قلت انما يعمل الثاني دون الأول بحيث يستقيم المعنى ولا يفسد.

فمن أين قلت : ان القول بمسح الأرجل يئول الى فساد وأنه مما لا يستقيم أو ما كان جائزا على جهة التقدير عند كل عاقل أن يعبر الله سبحانه نصا صريحا

__________________

(١) في الهامش : الزمل.

١٦٥

على أن حكم الأرجل المسح ، كما كان ذلك حكما للرءوس ، وهل يدفع جواز ذلك الا مكابر لنفسه وجه (١).

اللهم الا أن تدعي أنك علمت قبل نظرك في هذه الآية ، وما هو يوجبه في الأرجل من غسل أو مسح أو (٢) حكم الأرجل الغسل دون المسح ، فيثبت الآية على علمك.

هذا فقد كان يجب أن يتبين (٣) من أين علمت ذلك حتى يثبت عليه حكم الآية ومتى ساغ لك أن تقول : انما يعمل العامل الأقرب بحيث يستقيم ولا يفسد؟ وكل هذا إخلال منك بما يلزمك.

فأما البيت الذي أنشدته ، فليس من الباب الذي نحن فيه من ترجيح اعمال الثاني من العاملين دون الأول ، وانما يتعلق به من نص الاعراب بالمجاورة ، كما استشهدوا بقوله : «حجر ضب خرب» وبقوله : «كبير أناس في بجاد مزمل».

وقد بينا في مسائل الخلاف بطلان الاعراب بالمجاورة بكلام كالشمس وضوحا ، وتكلمنا على كل شيء تعلق به أصحاب المجاورة.

على أنه قد خطر لي في قول الشاعر : «كان غزل العنكبوت المزمل» شيء ، وما رأيته لأحد ولا وقع لي متقدما ، وهو أن يكون المزمل صفة العنكبوت لا للغزل ، ويكون من الزمل ، لان العنكبوت ربما ينسج بيته في زمل. وانما حملت العلماء على أنه صفة للغزل من حيث ذهبوا في هذه اللفظة إلى أنها من أزملت الثوب أو الحصير ، وزملته أيضا إذا نسجته ، والنسج لا يليق بالعنكبوت

__________________

(١) كذا.

(٢) ظ : أن.

(٣) ظ : تبين.

١٦٦

نفسه ، وانما يليق بغزله. وهذا التخريج يبطل أيضا تعلق أصحاب المجاورة بهذا البيت.

ثم قال صاحب الكلام : والأوجه في الآية والله أعلم أن يحمل على الباء ، ويقرأ «وأرجلكم» ولا يحمل على «اغسلوا» ويكون المراد بالمسح الغسل لأمرين :

أحدهما : أنه حكي عن أبي زيد أنه قال : المسح أخف الغسل ، ومن ذلك تمسحت للصلاة ، فإذا كان كذلك فجاز الذي أوجبه قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) في من جر الغسل دون المسح.

ويؤكد ذلك أن الثوري يروي عن أبي عبيدة في تأويل قوله تعالى (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)(١) أن المعنى يضرب ، يقال : مسح علاوته أي ضربها بالاعتماد الذي يقع باليد أو غيرها من آلة الضرب بالمضروب ، مثل الاعتماد الذي يقع على المغسول في حال الغسل باليد إذا كان الغسل بها ، وذلك فرق المسح الذي ليس بغسل.

ويؤكد ذلك أيضا أنه موقت بغاية ، كما وقت غسل اليد بها في قوله تعالى (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ).

والأخر : أن يكون قوله أي «امسحوا» الذي يراد به المسح الذي دون الغسل كمسح الرأس ، والمراد به الغسل ، فأجرى الجر على الأرجل في اللفظ والمراد به الغسل ، وحمل ذلك لمقاربة المسح للغسل في المعنى ، ليكون الحمل على أقرب العاملين ، كالآي التي ذكرناها.

أما إذا كان أهل اللغة قد آثروا ذلك فيما لا يصح معناه إيثارا منهم للحمل

__________________

(١) سورة ص : ٣٣.

١٦٧

على الأقرب ، فلما استعملوا ذلك فيما لا يصح في المعنى ، نحو «غزل العنكبوت الزمل» حتى فيما يتقارب فيه المعنيان ، لان المعاني إذا تقاربت وقع ألفاظ بعضها على بعض ، نحو قولهم «أنبأت زيدا عمرا خير الناس» وأنبأت أفعلت من النبإ ، والنبإ الخبر ، فلما كان الإنباء ضربا من الاعلام أجروا «أنبأت» مجرى «أعلمت» فعدوه إلى ثلاثة مفاعيل ، كما عدوا أعلمت إليهم (١) ، وكما جرى قوله تعالى (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ)(٢) مجرى علموا في قوله : ولقد علمت لتأتين منيتي وذلك أن بدا لهم ظهر لهم رأي لم يكونوا رأوه، فهو بمنزلة علموا ما لم يعلموا.

وقد زعم أبو الحسن أنهم قالوا : ما سمعت رائحة أطيب من هذه ، ولا رأيت رائحة أطيب من هذه ، وما رأيت كلاما أصوب من هذا ، فوضع بعض العبارة عن أفعال هذه الحواس مكان بعض ، لاجتماعهن في العلم بها ، وكذلك وضع المسح مكان الغسل ، لاجتماعه في وقوع التطهير بهما في الأعضاء. والمراد بالمسح الغسل كما كان المراد بما سمعت رائحة ما شممت ولا رأيت كلاما ما سمعت ، فوقع كل واحد منهما في الاتساع موضع الأخر، لاجتماعهما في العلم على الوجه الذي علم به ذلك.

الجواب : يقال له : قد صرحت في كلامك أن القراءة في الأرجل بالجر أولى وأرجح من القراءة بالنصب على موجبة العربية. وهذا صحيح مبطل لما يظنه من لا يعرف العربية من الفقهاء ، إلا أنك لما أعيتك الحيل في نصرة غسل الأرجل من طريق الاعراب ، عدلت إلى شيء حكي عن أبي زيد الأنصاري من

__________________

(١) ظ : إليها.

(٢) سورة يوسف : ٣٥.

١٦٨

أن المسح غسل ، وهذا الذي عدلت اليه من أوضح الفساد من وجوه :

منها : أن معنى الغسل وحقيقته يخالف في اللغة وحقيقتها معنى المسح ، لان الغسل هو اجراء الماء على العضو المغسول والمسح هو مس العضو بالماء من غير أن يجريه عليه ، فكأنه قيل للماسح : ند العضو بالماء ولا تسله عليه. وقيل للغاسل : لا تقتصر على هذا القدر بل أسله على العضو وأجره.

فالمعنيان متضادان كما تراه ، وكيف يقال : ان أحدهما هو الأخر؟ بل ولا يصح ما يقوله الفقهاء من أن أحدهما داخل في الأخر ، لأنا قد بينا تنافي المعنيين ، وما يتنافى لا يتداخل.

ولو جاز أن يسمى على الحقيقة الماسح غاسلا ويدعى دخول المسح في الغسل ، لوجب أن يسمى من دفق إيجاد الكثير على بدنه وصبه عليه ورش (١) الماء على بدنه وتقطر الماء عليه ، لان الدفق والصب يزيد على معنى الرش والتقطير ، ويوجب أن يكون من على رأسه عمامة طويلة ، يصح أن يقال : على رأسه تكة أو خرقة ، لان العمامة تشتمل على هذه المعاني ، وقد علمنا أن أحدا لا يطيق ذلك ولا يجيزه.

ومنها : ان لو سلمنا اشتراك ذلك في اللغة ، وان كان غير صحيح على ما بيناه ، لكان الشرع وعرف أهله يمنع من ذلك ، لان أهل الشرع كلهم قد فرقوا بين المسح والغسل وخالفوا بينهما ، ولهذا جعلوا بعض أعضاء الطهارة ممسوحا وبعضها مغسولا ، وفرقوا بين قول القائل فلان يرى أن الفرض في الرجلين المسح وبين قولهم يرى الغسل.

ومنها : أن الرءوس إذا كانت ممسوحة المسح الذي لا يدخل في معنى الغسل

__________________

(١) ظ : أنه.

١٦٩

بلا خلاف بين الأمة عطفت الأرجل عليها ، فواجب أن يكون حكمها مثل حكم الرءوس وكيفيته ، لان من فرق بينهما مع العطف في كيفية المسح ، كمن فرق بينهما في نفس المسح ، وحكم العطف يمنع من الأمرين.

ألا ترى أن القائل إذا قال قوم زيدا وعمرا ، وأراد بلفظ القوم التأديب والتثقيف ، لم يجز أن يريد بالمعطوف عليه الا هذا المعنى ، ولا يجوز أن يحمل قوم في عمرو على الصفة دون التثقيف ، وهو معطوف على ما قاله غير هذا الحكم ..

ومنها : أن المسح لو كان غسلا أو الغسل مسحا ، لسقط أن لا يزال مخالفونا يستدلون ويفزعون اليه من روايتهم عنه عليه‌السلام أنه توضأ وغسل رجليه ، كأنه كان لا ينكر أن يكون الغسل المذكور انما هو مسح ، فصار تأويلهم للاية على هذا يبطل أصل مذهبهم في غسل الرجلين.

فأما ما حكاه عن أبي زيد فهو خطأ بما بيناه وأوضحناه والخطأ يجوز عليه.

فأما استشهاد أبي زيد بقولهم «تمسحت للصلاة» فقد روي عنه أنه استشهد بذلك ، فالأمر بخلاف ما ظنه فيه ، لأن أهل اللسان لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ مختصر ، ولم يجز أن يقولوا : «اغتسلت للصلاة» لأن في الطهارة ما ليس بغسل ، واستطالوا أن يقولوا : اغتسلت وتمسحت ، قالوا بدلا من ذلك تمسحت للصلاة ، لأن الغسل ابتداؤه المسح في الأكثر ، ثم يزيد عليه فيصير غسلا ، فرجحوا لهذا المعنى تمسحت على اغتسلت ، فإنه كان ذلك منهم تجوزا وتوسعا.

وأما الآية التي ذكرها ، فإنها لم يحسن أن يذكر كيفية الاستدلال بها ، على أن المسح قد يكون غسلا وجودته على وجه آخر لا طائل له فيه ، وأي فائدة له في أن ضرب العلاوة يسمى مسحا أو .. في أن المسح غسل.

١٧٠

والذي عن أبي زيد من الاحتجاج بالاية على غير الوجه الذي ظنه ، لأن أبا زيد يحكى عنه أنه حمل قوله تعالى (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أنه غسل أسوقها وأعناقها بالماء ، وقد أوردنا هذه الشبهة عن أبى زيد.

قلنا : ان أكثر المفسرين قالوا : ان المراد غير غسل الأعناق والأسواق. بل قال أكثرهم: أنه أراد مسح يده على أعناقها وأسوقها ، كما يفعل الإنسان ذلك فيما يستحسنه من فرش وثوب وغير ذلك ، وقال قوم : انه أراد ضرب أعناقها وسوقها بالسيف ، وقال قوم: انه أراد غسل سوقها وأعناقها. وحمل الآية على ما هو حقيقة من غير توسع ولا تجوز أولى.

وأما التعلق في أن الأرجل مغسولة بالتحديد الى الكعبين ، وإجراؤها مجرى الأيدي في الغسل لأجل التحديد ، فهو شيء يتعلق به قديما الفقهاء ، وهو ضعيف جدا ، وذلك أن عطف الأرجل في حكم المسح على الرءوس ، لانه يجب أن يكون ضعيفا من حيث كانت الأرجل محدودة إلى غاية ، والرءوس ليس كذلك ولا يجب أن يعطف على الأيدي لأنها محدودة ، وذلك أن الأيدي بغير شك معطوفة على الوجوه ، لها مثل حكمها من الغسل ، وألا جاز أن يعطف محدود من الأرجل على غير محدود من الرءوس.

والذي نقوله أشبه بتقابل الكلام وترتيبه ، لان الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود ثم عطف عليه من الأيدي عضوا مغسولا محدودا ، فالمقابلة تقتضي إذا ذكر عضوا ممسوحا غير محدود أن يعطف عليه بعض ممسوح محدود بأن يعطف محدودا من ارجل على غير محدود من الرءوس ، لتتقابل الجملتان الاولى والأخرى ، وهذا واضح جدا.

فأما الكلام الذي طول بإيراده من تسمية الشيء بما يقارنه ، فهو إذا صح

١٧١

وسلم من كل قدح توسع من القوم وتجوز وتعد للحقيقة بغير شبهة.

وليس لنا أن نحمل ظاهر كتاب الله على المجاز والاتساع من غير ضرورة ، وقد رضي القائلون بالمسح أن يكون حكم من أوجب بالاية غسل الرجلين حكم من قال : ما سمعت رائحة أطيب من كذا ، وحكم من قال : انها توجب المسح حكم القائل : ما شممت رائحة أطيب من كذا ، فما يزيدون زيادة على ذلك.

على أن الذي حكاه عن الأخفش من قولهم «ما سمعت رائحة أطيب من هذه» الاولى أن يكون المراد به ما سمعت خبر رائحة أطيب من كذا وحذف اختصارا. فهذا أحسن وأليق من أن يضع سمعت وقولهم «ما رأيت أطيب من كذا» حمله على الرؤية التي هي العلم، لان [حمل] لفظ الرؤية على معنى مشترك أولى من حمله على ما سمعت ، لان الحمل على ما ذكرناه يفسد حقائق هذه الألفاظ ، ويقتضي خلط بعضها ببعض.

وهذه جملة كافية فيما قصدنا ، والحمد لله رب العالمين.

١٧٢
١٧٣

(٣٥)

مسألة في الحسن والقبح العقلي

١٧٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ان سأل سائل فقال : ألستم تزعمون أن ما كان في عقولنا حسناً فهو عند الله حسن؟ وما كان قبيحاً فهو عند الله تعالى كذلك؟ ولا يجوز أن يكون حسن شيء هو عنده يفيده ولا قبح أمر هو عنده بخلافه.

قلنا : الأمر كذلك.

فان قال : أليس الله تعالى قد قال (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)(١) وقال (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٢) وقد أمر أن يقتل غلام زكي لم يجب عليه أن يقتل ، وقصته في سورة الكهف (٣) ، وذلك الفعل في الظاهر كان عند موسى فظيعاً وعند الله حسناً.

__________________

(١) سورة الانعام : ١٥١.

(٢) سورة المائدة : ٤٥.

(٣) سورة الكهف : ٧٤.

١٧٥

فيقال له : لما تضمن قتل هذه النفس أمرين حسنتين ومصلحتين عظيمتين ، تناسب كل واحد من أبوي الغلام على الايمان ، وبعدهما من الكفر والطغيان حسن قتله.

فيقول هذا السائل : وان كان الأمر كذلك ، فليس بمدخل للغلام في وجوب قتله ، ولا كفر أبويه يلزمه ذنباً ، وقد قال الله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١) وقال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(٢).

ألا ترون هذا الغلام إذا قال يوم القيامة : بأي ذنب قتلت ، لم يكن ذلك ذنباً قد اكتسبه ، وقد كان الله قادراً على إماتة هذا الغلام ، ليكون الغلام بما قضى عليه من منيته داخلا فيما حتمه من الموت على دينه ، ويصير الموت لنفسه مرهقا ، وليس له بالاماتة أن يقول يوم القيامة رب لم أمتني ، وله أن يقول : اني لم قتلت ولا ذنب لي.

ويجيء من هذا أن للسلطان إذا علم أن في قتل من لم يجب قتله مصلحة ، لا بل مصالح كثيرة أن يقتله ، وإذا علم أيضاً أن مع الإنسان ما لا يرهقه الطغيان والاستعلاء على ما هو دونه ، والاستذلال للناس أن يأخذ ما له ، في ذلك من المصلحة ، وليس الأمر كذلك.

فدل هذا على أن الله تعالى فاعل ما يشاء وأراد ، وليس لأحد أن يقول : لم لا؟ وكيف؟ ، ولا يعارض ولا يعجب ، قال الله تعالى (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها)(٣) وقال (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ)(٤) وقال (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ

__________________

(١) سورة فاطر : ١٨.

(٢) سورة الروم : ٤٤.

(٣) سورة الكهف : ٧١.

(٤) سورة الكهف : ٧٤.

١٧٦

اسْتَطْعَما أَهْلَها)(١) فعطف القتل على لقاء الغلام بالفاء ، ولم يدخل في خرق السفينة على الركوب حرف عطف ، ولا في الاستطعام على إتيان أهل القرية عطفاً ، لأي معنى دخلت الفاء في موضع دون موضع؟ فلا بد لذلك في معنى يخصه.

الجواب :

ان العلم بحسن الحسن وقبح القبح لا يختلف بالإضافة إلى العالمين ، ولا فرق في هذا العلم بين القديم تعالى والمحدث.

فأما موسى عليه‌السلام فإنما استقبح على البديهة قتل الغلام ، لانه لم يعرف الوجه الذي هو عليه حسن قتله وقبح تبقيته ، ولو علم ذلك لعلم حسن القتل وقبح التبقية. وانما وجب قتل الغلام ، لأن في تبقيته على ما ذكر الله تعالى في القرآن مفسدة من حيث علم الله تعالى أنه يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبان له ، والمفسدة وجه قبيح ، وليس كل وجوه وجوب القتل لاستحقاق بجناية تقدمت ، بل المفسدة وجه من وجوه القبح. وإذا علم الله تعالى أن في التبقية مفسدة وجب القتل.

فأما ما مضى في السؤال من أنه تعالى كان قادراً على إزالة الحياة بالموت من غير ألم ، فتزول التبقية التي هي المفسدة من غير إدخال إيلام عليه بالقتل. فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن يكون الله تعالى علم أن أبويه لا يثبتان على الايمان ويعدلان عن الكفر، الا بأن يقتل هذا الغلام ، فيكون هذا وجه وجوب القتل خاصة دون غيره.

والوجه الأخر : ان التبقية إذا كانت هي المفسدة ، والله تعالى مخير في

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٧.

١٧٧

إزالتها باتضاد الحياة بالموت من غير المراد بالقتل أيضا ، لأن القتل وان كان فيه ألم يلحق المقتول ، فبازاء ذلك الا لم أعواض عظيمة يوازي الانتفاع بها المضرة بالقتل ، ويزيد عليه أضعاف مضاعفة ، فيصير القتل بالاعواض المستحقة عليه ، كأنه ليس بألم بل هو نفع وإحسان ، ويجري ذلك مجرى من علم الله تعالى أنه يؤمن ان فعل به ألماً ، كما يؤمن إذا فعل به ما ليس بألم.

فالمذهب الصحيح أنه تعالى مخير في استصلاح هذا المكلف ، وفعل ما هو لطف له في الايمان ، بين فعل إلا لأم وفعل ما ليس بألم ، وان كان قد ذهب قوم إلى أنه تعالى والحال هذه لا يفعل به الا ما ليس بألم ، وأخطأوا.

وقد بينا الكلام في هذه المسألة واستقصيناه في مواضع من كتبنا.

فأما الزامنا أن يكون السلطان متى علم أن في قتل بعض الناس مصلحة أن يقتله ، وكذلك في أخذ المال. فغير لازم ، لأن أحداً منا لا يجوز أن يعلم قطعاً المصلحة والمفسدة وانما يظن ذلك والله تعالى يعلمه. ثم ان الله تعالى إذا قتل من ذكرنا حاله أو يأمر بقتله ، لضمن إيصاله إلى الاعواض الزائدة النفع على ما دخل عليه من ضرر القتل ، لانه عالم بذلك وقادر على إيصاله. وأحدنا لا يعلم ذلك ولا يقدر أيضا على إيصاله ، فصادقت حالنا في هذه المسألة حال القديم تعالى.

وأما دخول الفاء في قوله تعالى (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) وسقوطها من قوله تعالى (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) ومن قوله (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) فقد قيل : ان الوجه فيه أن اللقاء لما كان سبباً للقتل أدخلت الفاء اشعاراً بذلك ، ولما لم يكن في السفينة الركوب سبباً للخرق ولا إتيان القرية سبباً للاستطعام لم يدخل الفاء ، وهذا وجه صحيح.

١٧٨
١٧٩

(٣٥)

مسألة في المسح على الخفين

١٨٠