رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

وأنهم إذا عجزوا عن معارضته ومقابلته ، فقد عجزوا عن تجانس كلامهم.

وليس ينبغي أن يعتمد على هذا الجواب الذي ذكرناه مستضعفاً له.

ومما قيل في هذه الحروف أنها منبئة عن أسماء الله تعالى ، فقالوا (الم) أنا الله ، وفي (الر) أنا الباري ، وفي (المص) أنا الله الصادق ، وفي (كهيعص) الكاف من كريم والعين من عليم والصاد من صادق والهاء من هادي ، وهذا حكي عن جماعة من المفسرين.

وهو وجه باطل لا خفاء في بطلانه ، لانه رمز وإلغاز لا يدل ظاهر الكلام عليه ، ولو أن أحدنا نطق بحرف من هذه الحروف وأراد الإشارة به الى .. الحروف ، لعذر أمر ملغز ولكان مذموماً (١).

وبعد فليس المناسب للحروف (٢) المخصوص الى كلمة مخصوصة تشتمل عليه وعلى غيره ، بأولى ممن نسبه الى غير تلك الكلمة مما يشتمل على تلك الحروف ، وهذا يقتضي أن لا يستقر لهذه الحروف معنى من المعاني معقول ، والله تعالى يجل من أن يتكلم بما لا معنى له.

ومما قيل في ذلك أيضاً : أن هذه الحروف تقطيع لاسم الله تعالى.

وهذا أيضاً باطل ، لانه لا يخرج عن أن يكون خطاباً بما لا يعقل ولا يفهم معانيه.

فأما المتشابه فعندنا أن الله تعالى وان علم تأويله والعلماء أيضاً يعلمون مثل ذلك ، والآية التي يتعلق بها في هذا الباب من قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا

__________________

(١) كذا.

(٢) ظ : للحرف.

٣٠١

اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)(١) فنحن نبين تأويلها عند البلوغ إليها ونذكر أن المراد بخلاف ما ظنوه بإذن الله تعالى.

ومما قيل في ذلك أيضاً : أن المشركين كانوا تواصوا بأن لا يصغوا الى القرآن وان يلغوا فيه ويعرضوا عنه ، فافتتح كلامه جل وعز بهذه الحروف المنضمة ليسمعوها فيصغوا إليها ، مستدعين لها متعجبين من ورودها ، فيرد عليهم بعدها من الكلام ما يحتاجون الى استماعه وفهم معانيه ، حتى يصير ما قدمه داعياً الى الاستماع والإصغاء ، داعيين الى الفهم والقبول.

وهذا ليس بشيء ، لأن الخطاب والكلام مما لا يحسن إلا للفائدة التي لا تفهم الا به. ولا يجوز أن يقوم فيه الأغراض المختلفة مقام الإفادة ، فلا يجوز ان يخاطبهم بما لا فائدة فيه ، حتى يحثهم ذلك الى استماع الكلام المفهوم ، لان الكلام مما لا يفيد وجهاً في قبحه.

ولا يجوز أن يخرجه عن هذا الوجه مما فيه من الوجوه المستحسنة ، على أنه إذا كانوا انما يلغون في كلامه ويعرضون عن بيانه عناداً عصبية ، فليس بنافع ان يقوم أمام كلامه هذه الحروف ، إذا أورد عليهم بعدها الكلام المتضمن للأمر والنهي. والاخبار ، عدلوا عن استماعه ولغوا فيه وصارما أورده من المقدمة عاراً أو نقصاً لا يجر نفعاً ، ويجعلونه من أوكد الحجة عليه ، لأنهم كانوا يقولون له : أنت تزعم أن الكتاب الذي جئت به بلساننا ولغتنا ، وقد قدمت فيه ما لا نعرف تألفه ولا نتخاطب بمثله.

وقد قيل أيضاً : ان معنى تقديم هذه الحروف لافتتاح الكلام وابتدائه ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.

٣٠٢

كقول القائل مبتدأً : ألا ذهب ، وكقوله تعالى (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(١).

وكقوله عزوجل (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ)(٢) وقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)(٣) ف «ألا» زائدة بلا إشكال ، لأنها لو حذفت من الكلام لم يتغير فائدته ، وقد قال الشاعر :

ألا زعمت بسياسة القوم اننى

كبرت والا يشهد اللهو أمثالي

ونظائر ذلك كثيرة.

وهذا ليس بشيء ، لأن لفظة «إلا» معروفة في لغة العرب ، وانما هي موضوعة في هذه المواضع للافتتاح ، ولا نعرف أحداً منهم افتتح كلاماً بالحروف المقطعة على وجه من الوجوه.

فكأن هذا القائل يقول : إذا كانت لفظة «ألا» وهي كلمة مبنية مؤلفة على بناء سائر الكلام بما جعلوه للافتتاح ، فألا جاز أن يجعل الحروف المقطوعة التي ليست بهيئة موضوعة هذا الموضع ، ولا شبهة في فساد هذا الضرب من القياس في اللغة ، وأنه لا يعرف فيها وخروج عن حدها.

ومما قيل في ذلك أيضاً : ان الافتتاح بهذه الحروف يجري مجرى المروي من العرب من قولهم :

جارية وعدتني أن يدهن رأسي

ويعلى أو ما ويمسح العنقا حتى بينا

وكقول الأخر :

قلنا لها قفي قالت قاف

لا يحيى انا نسينا الا يخاف

وكقول الأخر

__________________

(١) سورة الشورى : ٥٣.

(٢) سورة فصلت : ٥٤.

(٣) سورة هود : ٥.

٣٠٣

بالخير خيرات وانشرافا ولا أريد الشر إرثا

وهذا أيضاً ليس بشيء.

والذي ذكروه من العرب انما هو على سبيل الا يجاز والاختصار والحذف الذي يغني فيه عن تمام الكلام معروفة القصد والإشارة اليه.

وليس هذا مما كنا فيه بسبيل ، لان قول القائل : «وعدتني إرثا» أي تمسح رأسي.

وأما قوله : «قالت قاف» فمعناه وقفت ، كذلك قوله «وانشرافاً» أي فتيرا.

وقوله «الا ان شاء» فحذف بعض الكلام لدلالة الباقي عليه وعلم المخاطب به ، وكل هذا غير موجود في الحروف المقطعة ، فكيف تجعل شاهداً عليها.

ومما قيل في ذلك أيضاً : ان الله تعالى علم أن سيكون في هذه الأمة مبتدعون يذهبون في القرآن المسموع المقتر (١) ، فإنه ليس بكلام الله تعالى ، وأن كلامه على الحقيقة غيره ، فأراد تعالى بذكر هذه الحروف التنبيه على أن كلامه هذه الحروف ، وان ما ذهبوا اليه من أن كلامه تعالى غير هذا المسموع باطل مضمحل.

وهذا أيضاً ، ليس بشيء ، لأن ما (٢) ذهب الى أن كلامه تعالى ليس حقيقة (٣) في ذاته بما يسمع ويقرأ ، وجعل هذا القرآن عبارة وعلة وحكاية على اختلاف عباراتهم لا بحجة(٤) ويبطل قوله أن يورد عليه هذه الحروف المقطعة ، فإنه إذا جاز أن يقول في المركب من هذه الحروف أنه غير المسموع وأنه في النفس ، جاز

__________________

(١) بأنه مقتر كذا في الهامش ، والظاهر : المقرو.

(٢) ظ : من.

(٣) في الهامش : حقه.

(٤) ظ : لا يحجه.

٣٠٤

أن يقول في المفرد مثل ذلك ، فإن الشبهة في الأمرين قائمة ، وانما يزال إذا أزيلت بغير هذه الطريقة.

وقيل في ذلك : ان الله تعالى أقسم بهذه الحروف لعظمتها وجلالتها وكثرة الانتفاع (١) بها ، وأنها مباني أسمائه الحسنى ، وبها أنزل تحيته على أنبيائه ، وعليها تدور اللغات على اختلافها.

فكأنه تعالى قال : وحروف المعجم فقد بين لكم السبل وأنهج الدلالة ، فحذف جواب القسم لعلم المخاطبين به.

ولان قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) يدل على الجواب ويكفي منه ، ويجري مجرى قوله تعالى (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) في أن جواب القسم محذوف ، والتأويل والنازعات غرقاً لتبعثن أو لتعرضن على الله ، فحذف الجواب ، لان قوله تعالى (إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً)(٢) يدل عليه ، وقوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) و (الشَّمْسِ وَضُحاها) فحذف الجواب إذا كان عليه دال سائغ في اللغة.

وان كان بعض النحويين قد ذهب الى أن جواب (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) قتل أصحاب الأخدود ، معناه التقديم ، وهو الجواب على الحقيقة ، والقدير : قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج.

وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : لا يجوز إضمار اللم في الجواب المتأخر ، لأن القائل إذا قال : والله زيد قائم ، لا يجوز أن يقول : والله زيد قائم .. اللام ، لانه لا دليل عليها.

وهذا الجواب أقرب الى السداد من الأجوبة المتقدمة ، وأشبه بأن يكون وجهاً تالياً للوجه الذي اخترناه قبل. وصلى الله على محمد وآله.

__________________

(١) في الهامش : الانقطاع.

(٢) سورة النازعات : ١١.

٣٠٥
٣٠٦

[(٤٨)

مسألة في إبطال العمل بأخبار الآحاد]

٣٠٧
٣٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أعلم أنه لا يجوز أن يتعبد أصحابنا والحال هذه أن يعملوا في أحكام الشريعة على أخبار الآحاد ، ولا يتم على موجبات أصولهم أن يكون الأخبار التي يروونها في الشريعة معمولا عليها ، وان جاز لخصومهم على مقتضى أصولهم ذلك.

ونحن نبين هذه الجملة ونتجاوز عن الكلام ، على أن العلم الضروري حاصل لكل مخالف الإمامية أو موافق ، بأنهم لا يعملون في الشريعة بخبر لا يوجب العلم ، وأن ذلك صار شعارا لهم يعرفون به ، كما أن نفي القياس في الشريعة من شعارهم الذي يعلمه منهم كل مخالط لهم.

ونتجاوز أيضا عن الاعتماد في إبطال ذلك على نفي دلالة شرعية على وجوب العمل بخبر الواحد ، فإنه لا بد باتفاق بيننا في مثل ذلك من دلالة يقطع بها ، وقد بينا هذا كله وأشبعناه وفرعناه في جواب المسائل التبانيات.

٣٠٩

والذي يختص هذا الموضع مما لم نبينه هناك : أنه لا خلاف بين كل من ذهب الى وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، أنه لا بد من كون مخبره (١) عدلا.

والعدالة عندنا يقتضي أن يكون معتقدا للحق في الأصول والفروع ، وغير ذاهب الى مذهب قد دلت الأدلة على بطلانه ، وأن يكون غير متظاهر بشيء من المعاصي والقبائح.

وهذه الجملة تقتضي تعذر العمل بشيء من الاخبار التي رواها الواقفية (٢) على موسى بن جعفر عليهما‌السلام الذاهبة إلى أنه المهدي عليه‌السلام ، وتكذيب كل من بعده من الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا كفر بغير شبهة ورده ، كالطاطري وابن سماعة وفلان وفلان ، ومن لا يحصى كثرة.

فإن معظم الفقه وجمهوره بل جميعه لا يخلو مستنده ممن يذهب مذهب الواقفة ، اما أن يكون أصلا في الخبر أو فرعا ، راويا عن غيره ومرويا عنه.

والى غلاة ، وخطابية ، ومخمسة ، وأصحاب حلول ، كفلان وفلان ومن لا يحصى أيضا كثرة. والى قمي مشبه مجبر. وأن القميين كلهم من غير استثناء لأحد منهم إلا أبا جعفر بن بابويه (رحمة الله عليه) بالأمس كانوا مشبهة مجبرة ، وكتبهم وتصانيفهم تشهد بذلك وتنطق به.

فليت شعري أي رواية تخلص وتسلم من أن يكون في أصلها وفرعها واقف أو غال ، أو قمي مشبه مجبر ، والاختبار بيننا وبينهم التفتيش.

ثم لو سلم خبر أحدهم من هذه الأمور ، ولم يكن راويه الا مقلد بحت معتقد

__________________

(١) خ ل : راويه.

(٢) ظ : الواقفة.

٣١٠

لمذهبه بغير حجة ودليل.

ومن كانت هذه صفته عند الشيعة جاهل بالله تعالى ، لا يجوز أن يكون عدلا ، ولا ممكن تقبل أخباره في الشريعة.

فإن قيل : ليس كل من لم يكن عالي الطبقة في النظر ، يكون جاهلا بالله تعالى ، أو غير عارف به ، لان فيه أصحاب الجملة من يعرف الله تعالى بطرق مختصرة توجب العلم ، وان لم يكن يقوى على درء الشبهات كلها.

قلنا : ما نعرف من أصحاب حديثنا ورواياتنا من هذه صفته ، وكل من نشير اليه منهم إذا سألته عن سبب اعتقاده التوحيد والعدل أو النبوة أو الإمامة ، أحالك على الروايات وتلي عليك الأحاديث. فلو عرف هذه المعارف بجهة صحيحة لا أحال (١) في اعتقاده إذا سأل عن جهة علمها ، ومعلوم ضرورة خلاف ذلك ، والمدافعة للعيان قبيحة بذوي الدين.

وفي رواتنا ونقلة أحاديثنا من يقول بالقياس ويذهب إليه في الشريعة ، كالفضل ابن شاذان ويونس وجماعة معروفين ، ولا شبهة في أن اعتقاد صحة القياس في الشريعة كفر لا تثبت معه عدالة.

فمن أين يصح لنا خبر واحد يروونه ممن يجوز أن يكون عدلا مع هذه الأقسام التي ذكرناها حتى ندعي أنا تعبدنا بقوله.

وليس يلزم ما ذكرناه على أخبار التواتر ، لأن الأخبار المتواترة لا يشترط فيها عدالة رواتها ، بل قد يثبت التواتر وتجب المعرفة برواية الفاسق بل الكافر ، لان العلم بصحة ما رووه يبتنى على أمور عقلية تشهد بأن مثل تلك الجماعة لا

__________________

(١) ظ : لا حال.

٣١١

يجوز عليها وهي على ما هي عليه.

فلا بد إذا لم يكن خبرها كذبا أن يكون صدقا ، والعمل بأخبار الآحاد عند من يذهب إليه في الشرع يقتضي كون الراوي على صفة تجب مراعاتها ، فإذا لم يتكامل بطل الشرط في وجوب العمل.

وانما قلنا ان مثل الذي ذكرناه لا يعترض به على مذهب مخالفينا الى العمل بأخبار الآحاد ، لأنهم لا يراعون في صفة الناقلين كل الذي نراعيه ، ولا يكفرون بما نكفر به من الخلاف في كل أصل وفرع ، وأكثرهم يعمل على أخبار أهل الأهواء وان كان فسقا كثيرا متى كانوا متنزهين عما يعتقدون أنه معصية وفسق وغير منكر لا يعتقدونه قبحا ، فالأمر عليهم أوسع منه علينا.

فان قيل : إذا سددتم طريق العمل بالاخبار في الشريعة ، فعلى أي شيء تعولون في الفقه كله.

قلنا : قد بينا في مواضع من كلامنا كيف الطريق لنا مع نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد الى ذلك ، وكشفناه وأوضحناه في جواب المسائل التبانيات وفي جواب المسائل الحلبيات ، ونحن نورد هاهنا جملة منه.

واعلم أن معظم الفقه نعلم ضرورة مذاهب أئمتنا فيه بالأخبار المتواترة ، فإن وقع شك في أن الاخبار توجب العلم الضروري فالعلم الذي لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه حاصل ، كالعلم بالأمور الظاهرة كلها التي يدعي قوم أن العلم بها ضروري.

فان الإمامية كلها تعلم أن مذهب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق وآبائه وأبنائه من الأئمة عليهم‌السلام إنكار غسل الرجلين ، وإيجاب مسحهما ، وإنكار المسح على الخفين ، وأن الطلاق الثلاث لا يقع ، وأن كل مسكر حرام ، وما

٣١٢

جرى مجرى ذلك من الأمور التي لا يختلج بشك بأنه مذاهبهم.

وما سوى ذلك لقلته بل الأقل ، نعول فيه على إجماع الإمامية ، لأنا نعلم أن قول امام الزمان المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوالهم ، وكل ما أجمعوا عليه مقطوع على صحته. وقد فرعنا هذه الجملة في مواضع وبسطناها.

فأما ما اختلفت الإمامية فيه ، فهو على ضربين : ضرب يكون الخلاف فيه من الواحد والاثنين ، عرفناهما بأعيانهما وأنسابهما ، وقطعنا على أن امام الزمان ليس بواحد منهما ، فهذا الضرب يكون المعول فيه على أقوال باقي الشيعة الذين هم الجل والجمهور ، ولأنا نقطع على أن قول الإمام في تلك الجهة دون قول الواحد والاثنين.

والضرب الأخر من الخلاف : أن تقول طائفة كثيرة لا تتميز بعدد ولا معرفة إلا الأعيان الأشخاص بمذهب والباقون بخلافه ، فحينئذ لا يمكن الرجوع الى الإجماع والاعتماد عليه ، ويرجع في الحق من ذلك الى نص كتاب أو اعتماد على طريقة تفضي إلى العلم ، كالتمسك بأصل ما في العقل ونفي ما ينقل عنه ، وما أشبه ذلك من الطرق التي قد بيناها في مواضع ، وفي كتاب «نصرة ما انفردت به الإمامية في المسائل الفقهية».

فإن قدرنا أنه لا طريق الى قطع على الحق فيما اختلفوا فيه ، فعند ذلك كنا مخيرين في تلك المسألة بين الأقوال المختلفة ، لفقد دليل التخصيص والتعيين.

وكذلك القول في أحكام الحوادث التي تحدث ولا قول للإمامية على وفاق ولا خلاف.

آخر المسألة صورة النسخة المستنسخة كتبتها من خط الشيخ زين الدين قدس الله نفسه الزكية وأفاض على تربته المراحم الربانية والحمد لله وحده.

٣١٣
٣١٤

(٤٩)

مسألة في علة امتناع علي (ع) عن محاربة

الغاصبين لحقه بعد الرسول (ص)

٣١٥
٣١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشريف الأجل المرتضى (رضي الله عنه) : ان سأل سائل فقال : إذا كان شيوخكم يعتمدون قديما وحديثا في علة امتناع أمير المؤمنين عليه‌السلام من محاربته بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله القوم الخارجين عن طاعته الغاصبين لرتبته النازلين بغير حق في منزلته.

فإنه عليه‌السلام علم أنه لو شرع في ذلك لارتد الناس مع قرب عهدهم بالكفر ، وأنه عليه‌السلام انما كظم وصبر حذرا من الفساد الأعظم.

وعلى هذه الطريقة سؤال صعب ، وهو أن يقال : كيف يجوز أن يكون إمامته وفرض طاعته من المصالح الدينية التي لا عوض عنها ، ويتعلق بها بعينها الفساد والردة ، لأنه عليه‌السلام إذا كان الغرض في إمامته أن يتصرف في الأمر ويدبر أمورهم ، وكان لا سبيل له الى ذلك الا بما هو مفسدة لهم ومؤدية الى

٣١٧

ردتهم ، فقد تعلق الاستفساد بإمامته ، وخرجت من أن تكون واجبة الى أن تكون قبيحة.

وبعد فأي ردة كان يخاف منها وجميع من خالف النص عندكم مرتد بدفعهم له ، فكأنه خاف مما هو واقع حاصل.

الجواب :

اعلم أنه لا صعوبة في الجواب عن هذا السؤال لمن تأمل الأمر ، لأن الله تعالى إذا علم أن المصلحة الدينية بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في إمامته وفرض طاعته ، وقد فعل ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره تعالى.

وإذا كانت المصلحة في تدبيره لأمور الأمة ، انما يتم بتمكينهم له من النظر والتدبير والأمر والنهي والحل والعقد ، وجب أن يأمرهم بتمكينه ويوجب عليهم التخلية بينه وبين تدبيره ، وقد فعل ذلك على أوجه الوجوه ، فخالفوا وعصوا واتبعوا الهوى المردي ، وعدلوا عن الحق المنجي.

فقامت له جل ثناؤه بذلك الحجة عليهم ، لأنه أزاح علتهم فيما به تتم مصلحتهم ، وفعل ما يتم به ذلك من مقدوره ، وهو النص والدلالة والحجة والأمر بالتمكين وإيجاب التخلية ، ونفى ما هو في مقدورهم من التمكين والتخلية اللذين لا يتم التصرف الا بهما ، فهم الملومون المعاتبون على فوت مصلحتهم ، وهو تعالى المشكور على فعله بهم.

وليس يجوز أن يكرههم ويلجأهم الى التمكين ، لان ذلك يبطل التكليف ، ويسقط استحقاق الثواب ، والمجزي بالتكليف اليه.

٣١٨

وأما المحاربة : فإن كان الغرض في تكليفها أن يرجع القوم عن الباطل إلى جهة الحق ، فقد يجوز أو يعلم أو يغلب في الظن في أحوالهم أنه بذلك لا يرجعون ، فلا طائل اذن فيها.

وان كان الغرض في المحاربة ما يجب في جهاد الباغي على الامام الخارج عليه العادل عن طاعته ، فان ذلك كله انما يجب مع التمكين والقدرة والأنصار والأعوان ، ولم يكن شيء من ذلك في تلك الأحوال.

وهذا كاف في سقوط فرض المحاربة ، إلا أنا كنا نريد أن تصرحوا بأن العلة في الكف عن المحاربة الخوف من ارتداد القوم ، فيجب أن نعدل عن الجواب بغيره من أنه غير متمكن من ذلك انعقد (١) الناصر وما جرى مجرى ذلك.

فنقول : إذا كانت المحاربة انما يتكلف لوجوب الجهاد الباغي الشاق للعصى ، فقد يجوز أن نعلم أنها تؤدي الى فساد في الدين من ردة عنه أو ما أشبهها ، فيقبح استعمالها ، لأنها مفسدة ، وليس ذلك بموجب أن يكون نفس الإمامة هي المفسدة ، أو تدبير الإمام أمور الأمة وتعريفه لهم ، لأن المفسدة هاهنا منفصلة عن الإمامة نفسها ، وان عرضت في المجاهدة لمن خالف الإمام الذي هو مصلحة الأمة أما تدبير الامام يتم ، وذلك لا يتم الا بالنص عليه ، وإيجاب فرض طاعته ، والاستفساد الذي ذكرناه غير راجع الى شيء من ذلك، بل هو راجع الى المحاربة من بغى على الامام وخالف طاعته وإمامته ، وذلك منفصل عن نفس الإمامة.

وقد بينا الجهاد المارق عن الدين ومحاربة الباغي عن الإمامة ، انما يجب إذا لم يعرض فيها استفساد يسقط وجوبها بل قبحت ، ولا شيء من الواجبات الا ومتى

__________________

(١) ظ : لفقد.

٣١٩

عرض فيها وجه قبح سقط وجوبها وبل ذا (١) تقررت.

وقيل لنا من بعد : فكيف حارب أهل الجمل وصفين لما بغوا عليه ومرقوا عن طاعته؟ فالجواب : أنه تمكن من ذلك لوجود الأعوان والأنصار والمشايعين والمتابعين ، ولم يحصل في أول الأمر شيء من ذلك.

والجواب الأخر : أنه لم يعلم أن جهادهم يؤدي الى استفساد وعلم في الحال الاولى أن المحاربة تودي الى ذلك.

فأما ظاهر ما مضى في أن الردة حاصلة في كل دافع ، فمن أي شيء خاف في المجاهدة؟.

فالجواب : أنه خاف ارتداد من لم يكن مرتدا قبل الحرب من المستضعفين ، والنافي البصيرة في الدين ، الذين ما كانوا ارتدوا قبل المحاربة ، وتدخل عليهم الشبهات فيها حتى يرجعوا عن الحق إلى الباطل.

وقد دخلت الشبهة على كثير من الضعفاء في قتله عليه‌السلام لأهل الجمل وصفين ، وشككهم ذلك في أحواله ، وليست منزلة من خالف من أهل الجمل وصفين في النفوس ومكانهم من الصدور مكان من خالف في النص وعمل بخلافه بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والا فمن الجائز القوي أن تدخل بمحاربتهم الشبهات.

ووجه آخر : وهو أن الكفر قد يتفاضل ، فيكون بعضه أعظم من بعض ، اما لان العقاب عليه أغلظ الوجوه ولا يظهر لنا ، أو لوقوعه على وجه يطمع في إسلامه وأهل (٢) أعداهما ووقع النص عليه في الأصل ، وان كان كفرا وارتدادا

__________________

(١) كذا.

(٢) كذا الى آخره.

٣٢٠