رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

لذلك أن يقول : انه وكيل على البيع والكنائس والقبائح والمستقلات ، بمعنى انه حافظ لذلك مالك له ، وقد قال الله تعالى (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا يقول لله الصاحبة ولله الولد ولله الأرجل ولله الفروج ، فكذلك ما قلناه. ولا يلزمنا شيء مما ألزمونا.

ومما استدلوا به على أن الله تعالى في السماء دون الأرض قوله تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) قالوا : فالدليل أنه في السماء دون الأرض قوله «يرفعه».

يقال لهم : يجوز هذا القول ، لان لله عزوجل ديوان أعمال العباد في السماء والحفظة من الملائكة فيها ، فيكون ما وقع هناك هل وقع (١) إليه ، لأنه أمر بذلك كما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام من قوله (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) يريد الى الموضع الذي أمرني ربي ان أذهب اليه ، وكقوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) فجعل هجرته عنده الى الموضع الذي أمره بالهجرة اليه ، وهو موضع هجرة رسوله اليه ، وهذا تأويل جائز.

ومما استدلوا به أيضاً : رفع أهل الأرض أبصارهم إلى السماء عند الدعاء كما يرفع الرافع نظره الى الموضع الذي فيه الملك عند مخاطبته.

قالوا : فإذا سئلنا عن السجود؟.

قلنا : ان ذلك لنا لا علينا ، لانه دليل على التذلل والخضوع ، لأنك إذا وقعت بين يدي الملك رميت بطرفك الى دون الجهة التي فيها ونكست رأسك وحملته (٢) أنه قعد.

__________________

(١) ظ : قد رفع.

(٢) ظ : جعلته.

٢٨١

فيقال لهم : ما تنكرون من أن يكون رفع من يرفع يده وطرفه الى السماء ليس فيه حجة على أن الله تعالى في السماء دون الأرض ، كما أن توجه المسلمين نحو البيت بالصلاة لا يوجب أن الله تعالى في الكعبة دون غيرها من البقاع ، وقد قال الناس : الحاج زوار الله.

فان قال : ذلك تعبد.

قلنا : فرفع الأيدي أيضاً تعبد.

حكت جماعة من المعتزلة عن الحسن بن محمد النجار ، أنه زعم أنه يجوز أن يحول الله العين الى القلب ويجعل له قوة ، فيعلم الله تعالى ، فيكون ذلك العلم رؤية بالعين ، أي علماً به.

واحتج من الحديث بأن الله لا يرى بخبر رواه محبوب بن الحسن بإسناده ، عن الشعبي عن المسروق قال : كنت عند عائشة ، فقالت : ثلاث من قالهن فقد أعظم الفرية ، وذكرت الأمرين الآخرين ، قال قلت : يا أم المؤمنين انظري ولا تجعلي ، أرأيت قول الله تعالى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) وقوله (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) قالت : رأى جبرئيل.

وقيس بن أبي حازم راوي خبر الرؤية ، وهو «ترون ربكم» مقدوح في عدالته من وجوه : منها أنه كان يطعن على الصحابة ، فروى عنه ما أنكره أصحاب الأخبار ، كيحيى بن معمر ومن جرى مجراه. قال : استشفعت بعلي على عثمان فقال : استشفع بي على حالة الخطاء بان.

وقال قيس رأيت الزبير وسعداً اقتسما أرضا ، فما افترقا حتى ترابيا بالحجارة.

وروي عن قيس عن ابن مسعود قال : وددت أني وعثمان برمل عالج يحثو علي وأحثو عليه حينئذ حتى يموت الأعجز منا ، وكان قيس قد هرم وتغير عقله.

قال إسماعيل : قال لي يوماً : يا إسماعيل خذ هذين الدرهمين واشتر سوطاً

٢٨٢

أضرب به الكلام.

وروى ابن فضيل عن قطر بن خليفة عن أبي خالد الرافتي عن علي عليه‌السلام أنه على المنبر قال : ان أكذب رجل من أحياء العرب على رسول الله لأبو هريرة الدوسي.

وقال عبد الرحمن بن صالح الأزدي حدثنا خالد بن سعيد الأموي عن أبيه قال قالت عائشة : يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا عنك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما سمعت الا ما سمعنا ، ولا رأيت إلا ما رأينا. فقال : يا أماه كان يشغلك عن رسول الله المرآة والمكحل والتصنع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واني والله ما كان يشغلني عنه شيء (١).

__________________

(١) راجع الأحاديث في ذلك كتاب «أبو هريرة» لأبي رية ص ١٣٥.

٢٨٣
٢٨٤

(٤٧)

تفسير الآيات المتشابهة من القرآن

تفسير سورة الحمد

٢٨٥
٢٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مسائل

سألتم أيدكم الله وأحسن توفيقكم إملاء كتاب في متشابه القرآن والكلام على شبه سائر المبطلين الذين تعلقوا بآياته ، كالمجبرة والمشبهة والملحدة ، ومن عداهم من أعداء الإسلام الطاعنين فيه.

وذكر أن ما صنف من الكتب في هذا الباب لا يحيط به المعاني أجمع ، لأن أكثر من تكلم على متشابه القرآن انما تشاغل بالمجبرة والمشبهة ولم يعرض لمن عداهم.

والتفاسير الكاملة ربما لم يستوف مصنفوها الكلام على هذه الأغراض ومن استوفى شيئاً منها ، فهو من خلال كلام طويل وبحر عميق يتعذر على المستفيد إدراكه ويتعذر عليه اصابته.

وأنا أجيب الى ما التمسوه مستعيناً بالله تعالى ومستمداً منه توفيقه وتأييده ،

٢٨٧

وهو حسبي ونعم الوكيل.

(متشابه فاتحة الكتاب)

ان سأل سائل فقال : ما الوجه في تكرير قوله تعالى (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وكلاهما يفيد معنى واحد ، واشتقاقهما من الرحمة ، وقد كان في ذكر أحدهما كفاية عن الأخر.

الجواب :

قلنا : في ذلك وجوه :

أولها : أن قولنا «الرحمن» أبلغ في المعنى وأشد قوة نم قولنا «الرحيم» وهذا المثال مما وضعه أهل اللغة للمبالغة والقوة ، ألا ترى أنهم يقولون سكران وغضبان وعطشان [وجوعان] لمن امتلأ سكراً وغضباً وعطشاً واشتد جوعه ، وهذا الوجه ذكره المبرد.

وثانيها : أن «الرحمن» يفيد عموم الرحمة بالعباد في الدنيا ، و «الرحيم» يختص بالمؤمنين في الآخرة ، يقوى هذا الوجه تعالى (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) ، فإذا كان بينهما هذا الفرق فذكرهما واجب.

وثالثها : أن قولنا «رحمان» يشترك فيه اللغة العربية والعبرانية والسريانية ، وقولنا «رحيم» يختص بالعربية ، فأراد تعالى أن يصف ، فعبر بالرحمة بالوصف الخاص والمشترك حتى لا تبقى شبهة.

ورابعها : أن «الرحمن» من الأوصاف التي يختص بها القديم تعالى ، ولا يجوز أن يسمى بها غيره ، و «الرحيم» يختص به وبغيره يشترك بينه وبين

٢٨٨

غيره ، فأراد تعالى أن يصف نفسه بما يختص به ، ويشارك فيه من أوصاف الرحمة. وهذا يرجع معناه الى الجواب الأول ، لأنه لما اختص «الرحمن» به تعالى لقوته ومبالغته.

وخامسها : أن يكون المعنى وان كان واحداً ، فالمراد به التوكيد ، والشيء قد يؤكد على مذاهب العرب ، بأن يعاد لفظه بعينه ، كقول الشاعر :

ألا سألت جموع كندة إذ تولوا

 .. ابن ابنا

وقد تؤكد أيضاً بأن يخالف بين اللفظين وان كان المعنى واحداً ، كقول الشاعر :

وهند أتى من دونها النائي والبعد

وهذا التأكيد المختلف اللفظ أحسن عندهم ، ونظائره وشواهده أكثر من أن تحصى ، والتأكيد في قوله تعالى (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أحسن وجهي التأكيد وأبلغهما.

وهذا الجواب على مذهب من يقول : ان التأكيد لا يفيد الا معنى المؤكد ، وفي هذا خلاف ليس هذا موضع ذكره.

مسألة

فإن قال قائل : فما الوجه في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا الكلام لا يخلو من أن يكون خبراً وتحميداً منه تعالى لنفسه أو أمراً ، فإن كان خيراً فأي فائدة في أن يحمد هو تعالى لنفسه ويشكرها ، وان كان أمراً فليس بلفظ الأمر.

٢٨٩

الجواب :

قلنا قد قيل في ذلك : أنه أمر ، وأن المعنى فيه قولوا «الحمد لله» وروي أن جبرائيل لما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه السورة ، قال له قل : يا محمد وأمر أمتك بأن يقولوا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحذف القول.

وفي القرآن واللغة أمثاله كثيرة ، قال الله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ)(١) وقال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)(٢) والمعنى : أنهم قالوا كذلك.

وقال الشاعر :

وقفت يوماً به أسائله

والدمع ملي الحبيب تستبق

بأربع ان تقول لهم سلكوا

أم أي وجه تراهم انصفقوا

وانما أراد : أقول بأربع. فحذف.

وجواب آخر : وهو أن يكون الكلام مستقلا بنفسه لا حذف فيه ، والغرض به أن يخبرنا أن الحمد كله له ، وأنه يستحق له بكل نعمة ينالها الحمد والشكر.

ألا ترى أن كل نعمة وصلت إلينا من قبل العباد ، فهي مضافة اليه وواصلة من جهته، لانه تعالى جعلنا على الصفات التي لو لم يجعلنا عليها لما انتفعنا بتلك النعمة ، كالحياة والشهوة وضروب الا الآلات وغير ذلك.

ولو لم يجعل لنا أيضاً تلك الأجسام التي نتناولها وننتفع بها على ما هي عليه من الطعوم والصفات لما كانت نعمة ، فقال : ان المرجع بالنعم كلها إليه

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٣.

(٢) سورة الزمر : ٣.

٢٩٠

والحمد كله يستحقه.

مسألة

فإن قال : فما الوجه في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يقل : الحمد لي ، وهو أخصر وأقرب وأولى في الاختصاص.

الجواب :

قلنا : للخطاب موافق يتفق في المعنى ، ويختلف في الفخامة والتعظيم والجلالة والنباهة ، فيكون العدول الى ما اقتضى التفخيم أولى ، وان كان المعنى واحداً وجدناهم يفرقون بين خطاب الوالد لابنه والرئيس لرعيته ، وبين خطاب النظيرين ، فيقول الوالد لابنه يجب أن تطيع أباك فلأبيك عليك الحق ، ويكون هذا أولى في خطابه الدال على تقدمه عليه ، من أن يقول له يجب أن تطيعني ولا تعصيني.

ويكتب الخليفة في الكتب النافذة عنه أمير المؤمنين يقول كذا وكذا وما يرتكب كذا وكذا ، وربما شافهه بمثل هذا الخطاب.

وكل هذا يقتضي جلالة هذه السورة وفخامة موضعها.

وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ، فالعدول عن القول الذي ذكروه أولى ، وما اختاره الله في كتابه هو الواجب.

مسألة

فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو تعالى مالك ليوم الدين ولغير يوم الدين ولكل شيء من المملوكات؟

٢٩١

وما السبب في هذا الاختصاص في الموضع الذي يقتضي العموم والشمول.

الجواب :

أحد ما قيل في هذا الموضع : ان وجه اختصاص الملك ليوم الدين من حيث كانت الشبهات في ذلك اليوم زائلة عن تفرده بالملك ، لان من يدعى أن الملك في الدنيا لغيره ويدعو من دونه أضداداً وأنداداً تزول هناك شبهته وتحصل معرفته على وجه لا يدخله الشك ولا يعترضه الريب ، فكأنه أضاف الملك الى يوم الدين لزوال الريب فيه وانحسار الشبهات عنه.

ووجه آخر : وهو أن يوم الدين إذا كان أعظم المملوكات وأجلها خطراً وقدراً ، فالاختصار (١) عليه يغني عن ذكر غيره ، لان ملك العظيم الجليل يملك الحقير الصغير أولى ، ومن عادة العرب إذا أرادوا التعظيم والمبالغة أن يعلقوا الكلام بأعظم الأمور وأظهرها ، ويكتفون بذلك عن ذكر غيره شمولا أو عمومه (٢).

ألا ترى أنهم إذا أرادوا أن يصفوا رجلا بالجود ويبالغوا في ذلك ، قلوا : هو واهب الألوف والقناطير ، ولم يفتقروا أن يقولوا : هو واهب الدوانيق والقراريط للاستغناء عنه ولدلالة الكلام عليه.

ووجه آخر : وهو أن يكون في الكلام حذف ، ويكون تقديره : مالك يوم الدين وغيره ، كما قال تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والبرد (٣) فحذف اختصاراً.

وهذا الجواب يضعف وان كان قوم من المفسرين قد اعتمدوه في هذا الموضع ،

__________________

(١) خ ل : فالاقتصار.

(٢) ظ : عموماً.

(٣) سورة النحل : ٨١.

٢٩٢

لان الحذف انما يحتاج اليه عند الضرورة بتعذر التأويل ، فأما مع إمكانه وتسبله (١) فلا وجه لذكر الحذف.

والمثال الذي مثلوا به غير صحيح ، لان قوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ما يرد(٢) والبرد ، ثم حذفه.

بل الوجه فيه أنه خاطب قوماً لا يمسهم الا الحر ، ولا مجال للبرد عليهم ، لان بلادهم يقتضي ذلك ، فنفى الأذى يعتادونه.

ويمكن أن يكون إرادته نفي الأمرين ، فدل على نفي أضعفهما ، كما ذكرناه قبل.

مسألة

فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وما الفائدة في هذا التكرار؟ ويغني أن يقول : إياك نعبد ونستعين.

الجواب :

قلنا : قد قيل في ذلك : ان الكناية لو تأخرت عن القائل فيها لتكررت ، فكذلك يجب إذا تقدمت. ألا ترى أنه لو قال : نعبدك ونستعينك ، لكان يجب من تكرار الكناية ما يجب مثله إذا تقدمت.

وهذا ليس بشيء ، لأنه يجوز أن يقول القائل : نعبدك ونستعين ، ويقول : أما زيد فاني أحبه وأكرم ، فلا تكرر الكناية ، فسقط هذا الوجه.

__________________

(١) ظ : وتسيره.

(٢) ظ : ما أراد.

٢٩٣

وقيل أيضاً في جواب هذه الشبهة : ان الفائدة في تكرار لفظ «إياك» التأكيد ، وان كان المعنى واحداً.

وهذا الجواب انما يتم على مذهب من يقول بالتأكيد ، ومعناه معنى المؤكد في اللغة.

وأصح ما أجيب عن هذه الشبهة أنه تعالى لو قال : إياك نعبد ونستعين ، لكان الكلام موهماً ، لان الاستعانة تكون لغيره ، لانه لم يعلقها في الكلام به تعليقاً يمنع من هذا التوهم والاحتمال ، فإذا قال : وإياك نستعين ، زال الاحتمال وتخصص الكلام.

مسألة :

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون أمره لنا بأن نعبد دليلا على أنه ما فعل المعونة ، وانه يجوز ن لا يفعلها ، ومنها (١) على ان القدرة مع الفعل حتى يصح أن يدعوه بأن يجددها في كل حال.

الجواب :

قلنا : ليس الأمر على ما توهموه في معنى الآية ، لانه يجوز بأن يكون قد أعاننا ...(٢).

ورابعها : أن يكون الصراط هاهنا معناه الطريق إلى الجنة ، لأن الأصل في تسمية الصراط بأن الصراط هو الطريق ، قال الشاعر :

__________________

(١) كذا.

(٢) قال في الهامش : هذا المقام فيه سقط.

٢٩٤

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم

فكان دعوناه تعالى بأن يدخلنا الجنة ان يهدينا الى طريق الثواب ، وهذا أمر مرجو مستقبل ما تقدم مثله ، ويكون التماسه باطلا ، وقد سمى الله تعالى الإيصال إلى الثواب والى العقاب بأنه هداية إليهما ، فقال تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ)(١) ونحن نعلم أن الهداية التي تكون في الآخرة بعد انقطاع التكليف لا يليق الا بالثواب وطريقه دون غيره.

وقال تعالى (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)(٢) وقال عزمن قائل في موضع آخر (وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)(٣).

وهذا كله يوضح ما ذكرناه ، من ان الهداية قد تكون الى الثواب والى العقاب ، فسقطت الشبهة من كل وجه.

مسألة

فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وهو يعني المؤمنين لا محالة ، وليس هذا (٤) يقتضي أن يكون منعماً عليهم بالايمان والدين.

لانه لو أراد غير ذلك لما كان فيه تخصيص للمؤمنين من الكافرين الضالين ، لان نعم الدنيا تشتمل الجميع ، وكذلك النعمة بالتكليف ، والتعريض شاملة

__________________

(١) سورة محمد : ٥.

(٢) سورة الصافات : ٢٣.

(٣) سورة النساء : ١٦٨.

(٤) وهذا.

٢٩٥

للجميع ، فلم يبق ما يختص به المؤمنون إلا الايمان ، وإذا كان منعماً بالايمان وجب أن يكون من فعله تعالى ، لان المنعم لا يكون منعماً الا بما يفعله.

الجواب :

قلنا : غير مسلم لكم أن المراد بالانعام هاهنا الايمان والدين ، لانه تعالى قد ينعم على المؤمنين بأشياء يخصهم دون الكافر بالخواطر والبواعث السهلة الشارحة للصدور ، ولهذا قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً)(١) فبين أنه قد خصهم لمكان هداهم وايمانهم بما لم يعم به الكافرين.

ثم يجوز أن يريد بالنعمة هاهنا الثواب ، لان الثواب من فعله ، وإذا كان انما استحق بتعريضه وتكليفه كان نعمة منه تعالى ومنسوباً الى تفضله ورحمته.

ثم لو سلمنا أن المراد بالاية (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالايمان حسب ما اقترحوا لم تكن فيه دلالة على أن الايمان من فعله عز اسمه ، لأنه إذا كان بتفويضه وتكليفه وتوفيقه وألطافه ومعونته ، فهو نعمة منه.

ألا ترى ان أحدنا إذا دفع الى غيره ما لا عظيماً تفضلا عليه ، فصرفه ذلك الغير في ضروب المنافع وابتياع العبيد والضياع ، لم يمتنع أحد من ان ينسب تلك الضياع أنها (٢) نعمة من دافع المال من حيث وصل إليها بنعمته ومعونته ، وهذا واضح لا شبهة فيه.

__________________

(١) سورة محمد : ١٧.

(٢) ظ : بأنها.

٢٩٦

سورة البقرة

فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى الله تعالى السور بهذه الأسماء؟ ولم تجر عادة العرب أن يسموا بمثلها ، والقرآن بلغتهم.

قلنا : ليس في الأسماء حطة ، ولا يجب فيه الاتباع والاقتداء ، ولهذا جاز أن يحدث أهل كل صناعة لما عرفوه من الآلات والأدوات أسماء ، وان لم تكن تلك الأسماء في اللغة أسماء لتلك المسميات ، وقد يجوز أن يسمي أحدنا ولده ما لم يسبق اليه ، ولا يكون بذلك معيباً.

فان قيل : كيف يجوز أن تكون هذه الحروف أسماء للسور مع اشتراك جماعة من السور في بعضها وخلو كثير من السور من شيء منها؟

قلنا : أما الاشتراك فغير ممتنع أسماء الألقاب ، وان كان الألقاب في الأصل (١) إذا كانت للتميز ألا يقع فيها الاشتراك ، ثم عند وقوع الاشتراك فيها فزعوا الى الصفات ، ولهذا قالوا : زيد الطويل العاقل ، وألحقوا الصفة لما وقع الاشتراك في الاسم ، ولو لم يكن في العالم الأزيد واحد ، لما احتاجوا إلى الصفة.

وهكذا السور ، لما وقع الاشتراك في أسمائها ألحقوا بها ما بينه على التمييز ، فقالوا : الدخان والزخرف وما أشبه ذلك ، ولم يحتاجوا الى ذلك فيما ينفرد بلقبه ، كصاد وقاف وطه وما جرى مجراهن.

فأما خلو بعض السور من اسم ، لان وضع الأسماء في الأصل غير واجب ، وإذا كان جاز (٢) أن يختص مسمى دون غيره.

__________________

(١) ظ : وان كان الأصل في الألقاب.

(٢) ظ : واذن جاز.

٢٩٧

[تفسير (الم)]

فان قيل : فما الوجه فيما افتتح هذه السورة من قوله (الم) وهو كلام لا يعرف معناه ولا يعلم فحواه؟ وكيف يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفونه ولا يقولونه.

الجواب :

قلنا : قد ذكر الناس في معنى الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور وجوهاً كثيرة ، فبعضها صحيح وبعضها فاسد ، ونحن نذكر الصحيح الذي نختاره وننبه على ما فيه اختلاف وفساد.

فمن أصح ما ذكر في ذلك وأبعده من الفساد أن يكون هذه الحروف أسماء للسور وشعاراً لها ، والأسماء إذا كانت على سبيل التلقيب (١) الذي ذكرناه والتمييز ، لأن الألقاب جارية مجرى الإشارة ، ولا يفيد في اللقب أكثر من الإشارة اليه ، وإمكان الاخبار عنه عند الغيبة باللقب ، كما أمكنت الإشارة مع الحضور.

ألا ترى ان قولنا زيد وعمرو لا يفيدان أكثر من التلقب الذي ذكرناه ، ولا يجريان مجرى طويل وقصير وما أشبهها من الصفات. ومن امارة كون الاسم لقباً أن يجوز تبديله وتغييره واللغة على ما هي عليه ، والاسم المفيد لا يجوز تغييره الا بتغير اللغة.

ألا ترى أنه لو سمينا رجلا ب «زيد» ثم بدا لنا في ذلك فسميناه ب «عمرو»

__________________

(١) في الهامش : التغليب.

٢٩٨

لساغ ذلك واللغة على ما كانت عليه ، وإذا وصفناه بأنه طويل لم يجز أن نصفه بالقصير ، ونرجع عن وصفه بالطويل الا مع تغير اللغة وانقلابها.

وهذا الوجه الذي ذكرناه في هذه الفواتح ، قد روي عن الشيوخ الثقات الذين لا أرباب لهم ، وما لا اسم له من السور قد يعرف ويميز بما يقوم مقام الاسم من الصفات ، كسورة النساء وسورة المائدة وما أشبههما.

وقد طعن أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني على هذا الجواب وضعفه وأورد عليه كلاماً طويلا جملته ان قال : الاسم غير المسمى ، فلو كانت هذه الفواتح أسماء للسور ، لوجب أن تكون غيرها ولا تكون منها.

وقد أجمع المسلمون قراؤهم وغير قرائهم على أن هذه الفواتح من السور ومعدودة في جملة آيها ، وهذا يوجب مع القول بالاسم غير المسمى أنها ليست بأسماء.

والجواب عن ذلك : ان هذه الأسماء ليست غير السور ، وهي منها على وجه ، وان كانت خارجة من جملتها على وجه آخر ، فهي من حيث كانت أسماء لها وألقاباً عليها خارجة عنها ، لان الاسم لا بد من أن يكون في حكم الغير المسمى ، وهي من حيث كانت قرآناً منزلا متعبداً بتلاوته من جملة السور ، لأنا أمرنا أن نتلوها في جملتها ونبتدئ بها ثم نتبعها بالسورة ، ولا يمتنع في الاسم أن يكون بينه وبين المسمى مشاركة من وجه ، وان كان يدخل معه في جهة أخرى.

ألا ترى أن هذا الاسم محدث وفعل من الافعال وموجود ومدرك ، وكل هذا قائم في المسمى ، وليس لأحد أن يقول : قد جعلتم داخلا مع المسمى وغير متميز منه ، لأنا لم نفعل ذلك من حيث كان اسماً ، وانما جمعنا بينه وبين المسمى من وجه لم يكن فيه اسماً للمسمى ، فكذلك القول في هذه الفواتح.

ومن عجيب أمر أبي مسلم أنه أعرض عن هذا الجواب وتغلغل فيه الى ما حكيناه عنه، ورد أيضاً غيره من الأجوبة المردودة لعمري في أنفسها.

٢٩٩

ثم اختار جواباً ظاهر الضعف بين الفساد ، ونحن نبتدئ بالكلام عليه قبل غيره مما نريد أن نبين فساده.

قال أبو مسلم بعد ان اعترض أجوبة غيره كما في معنى هذه الحروف : والذي عندنا في هذه الحروف أن حروف المعجم لما كانت أصل كلام العرب الذي منها يبنى ويؤلف افتتح الله تعالى السورة بهذه الحروف المقطعة التي هي حروف العرب المبني منها كلامه أوردها في أوائلها تسكيناً للعرب بما لزمهم من الحجة وظهر منهم من المعجز.

كأنهم خوطبوا فقيل لهم : يا أيها الكافرون بما أنزل على محمد هذا الذي زعمتم أن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله .. (١) الله كلام بني من حروفكم وكتابكم وبلغتكم المتداولة بينكم لا .. ومعانيه وطرقه وبيانه معاني كلامكم وطرائقكم ومذاهبكم ، قد دعيتم إلى الإتيان بمثله ومثل أقل سورة منه فعجزتم ، فلو كان كما تزعمون لكنتم قادرين على مثله. وأطنب في هذا الكلام وأسهب وذهب كل مذهب.

وهذا الوجه غير سديد ولا مرضي ، لان القوم كانوا يعرفون أن القرآن مبني من حروف المعجم ومركب منها ضرورة عند سماعه وإدراكه ، ولا يحتاجون الى أن يقدم لهم في أوائل السور حروف تدل على أن الكلام الذي أنزلها (٢) مبني منها.

فان كان المراد بتقديم هذه الحروف الدلالة على أن القرآن مركب منها ، فذلك مستغنى عنه بما ذكرناه ، وان كان للتبكيت والتقريع من حيث عجزوا عن الإتيان بمثله وهو مركب منه ، فهذا التقريع أيضاً ليتم مع إلقاء هذه الحروف ، لان المعلوم الذي لا اشكال فيه أن القرآن من هذه الحروف مركب ،

__________________

(١) كذا ، والظاهر : افترى على.

(٢) كذا ، والظاهر : افترى على.

٣٠٠