رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

ما دعاك الى أن لا تسجد؟ وما أمران لا تسجد؟ لان من منع من شيء فقد دعا الى أن يفعل.

ومتى حملنا قوله تعالى (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) على أن لفظة «لا» زائدة على تضعيف قوم لذلك ، فلا بد فيما اتصل به هذا الكلام من تقدير فعل آخر ، وهو قوله تعالى (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) لأن ذلك لا يجوز أن يكون معطوفاً على المحرم ، فلا بد من إضمار وأوصينا (١)(بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

وإذا احتجنا الى هذا الإضمار ولم يغننا عنه ما ارتكبناه من زيادة لفظة «لا» فالأولى أن نكتفي بهذا الإضمار في صدر الكتاب ، ويبقى الكلام على حاله من غير إلقاء شيء منه ونقدر ما تقدم بيانه ، فكأنه قال : وصى أن لا تشركوا به شيئاً (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، ويشهد لذلك وبقوله آخر الآية.

مسألة

[قوله تعالى (كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً)]

وسئل (قدس الله روحه) عن تأويل قوله تعالى (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً)(٢) فقال فقد قيل فيها أقوال :

منها أن يحشر الظالمون مع أوليائهم فيدخلون النار الى بيتهم في العقاب. وقيل : يخلي الفراعنة ويوليهم على الظالمين ويمكنهم منه.

وقيل وجه آخر وهو أحسن : وهو ما بينه تعالى في موضع آخر بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ

__________________

(١) خ ل : وأوحينا.

(٢) سورة الانعام : ١٢٩.

١٠١

بَعْضٍ) (١) فحكم أن الكفار بعضهم يتولى بعضاً وينصره ومنع المؤمنين من ذلك فكان حاكماً عادلا من حيث حكم بما ذكرناه ، والله تعالى أعلم.

[قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) إلخ]

وقال (رحمة الله عليه) في تفسير قول الله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ)(٢) فقيل : كيف أورثهم الكتاب وقد وصفهم بالظلم.

وقال أبو علي الجبائي : ظالم لنفسه أي أنه يحمل عليها في العبادة ويضربها كما يقول القائل : فلان ظالم لنفسه ، لفرط صومه وكثرة صلاته ، وهذه صفة مدح.

وقال آخرون : ظالم لنفسه بفعل الصغائر.

قال (رضي الله عنه) : والذي اعتمده وأعول عليه ، أن يكون (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) من صفة «عبادنا» أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ، أي فليس كل عبادنا ظالماً لنفسه ، ولا كلهم مقتصداً ولا كلهم سابقاً بالخيرات ، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما.

وقال (رضي الله عنه) : علمت (٣) به لما كانت في معنى أحطت ، وأحطت أعم وآكد.

ومثله قوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها)(٤) لما كانت في معنى كفروا. لان جحودهم بآيات الله كفر فقال (جَحَدُوا بِها) فعداه بالباء.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥١.

(٢) سورة فاطر : ٣٢.

(٣) لعل هنا وقع سقط.

(٤) سورة النمل : ١٤.

١٠٢

وقوله تعالى (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ)(١) لما كانت الرفث بمعنى الإفضاء.

وقال في قوله تعالى (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)(٢) يجوز لا يؤذن لهم ولا يعتذرون ، ليكون معطوفاً على «يؤذن لهم» ولا يكون جواباً ، ويجوز لا يؤذن لا يؤذن لهم فكيف يعتذرون.

[قوله تعالى (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)]

وسأله (قدس الله روحه) أبو القاسم بن علي بن عبد الله بن شيبة العلوي الحسني عن قول الله تبارك وتعالى في قصة زكريا عليه‌السلام (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)(٣).

فكأنه سأل أمراً يستحيل كونه ، وقد علمنا لا محالة أن زكريا عليه‌السلام لا محالة يعلم أن الله تعالى لا يعجزه بما يريد ، فما وجه الكلام فيه.

فأجاب عن ذلك وقال : انه غير ممتنع أن يكون زكريا لم يمثل الذرية في حال كبره وهرمة ، بل قبل هذا الحال ، فلما رزقه الله ولداً على الكبر ومع كون امرأته عاقراً قال (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) من غير إنكار منه لقدرته تعالى على ذلك ، بل ليرد من الجواب ما يزداد به بصيرة ويقيناً.

ويجوز أن يكون سأل الولد مع الكبر وعقم امرأته ، ليفعل الله تعالى ذلك على سبيل الآية وخرقاً للعادة من أجله ، فلما رزقه الله الولد عجب من ذلك وأنكره بعض من ضعفت بصيرته من أمته فقال عليه‌السلام (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) ليرد من الجواب ما يزول به شك غيره ، فكأنه سأل في الحقيقة لغيره لا لنفسه

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢) سورة المرسلات : ٣٦.

(٣) سورة آل عمران : ٤٠.

١٠٣

ويجري ذلك مجرى موسى عليه‌السلام أن يريه الله تعالى نفسه لما شك قومه في ذلك ، فسأل لهم لا لنفسه.

[قوله تعالى (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) إلخ]

وسأل أيضاً عن قول الله عزوجل (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ)(١) فقال : أي شيء استحياء النساء من سوء العذاب، وانما العذاب في ذبح الأبناء.

فقال (رضوان الله عليه) : أما قتل الذكور واستحياء الإناث فهو ضرب من العذاب والإضرار ، لأن الرجال هم الذين يزعمون الناس عما .. به من الشر ، وهو واقع منهن في الأكثر مع الردع ، فإذا انفردن وقع الشر بلا راع ولا مانع ، وهذه مضرة عظيمة.

ووجه آخر : وهو أن الراجع الى قوله تعالى (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) هو قتل الأبناء دون استحياء النساء ، وانما ذكر استحياء النساء لشرح كيفية الحال لا لان ذلك من جملة العذاب ، كما يقول أحدنا : فلان عذبني بأن أدخلني داره وعليه ثياب فلانية وضربني بالمقارع وفلان حاضر. وليس كل ما ذكره من جملة العذاب ، وانما ذكر العذاب هو الضرب دون غيره ، وذكر الباقي على سبيل الشرح.

ووجه آخر : وهو أنه روي أنهم كانوا يقتلون الأبناء ويدخلون أيديهم في فروج النساء لاستخراج الأجنة من بطون الحوامل ، فقيل : يستحيون من لفظ الحياء وهو الفرج وهو عذاب ، ففي مثله ضرر شديد لا محالة.

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٩.

١٠٤

[قوله تعالى (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)]

وسأله أيضاً فقال : أليس قد وعد الله تعالى المؤمنين في عدة مواضع من كتابه المجيد بالجنة والخلود في النعيم ، فما معنى قوله لنبيه (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ)(١) الثواب أو العقاب ، أدخول الجنة أو النار ، لانه عليه‌السلام عالم بأن الجنة مأواه وأن الموات (٢) عاقبته. ولا يجوز أن يشك في أنه ليس من أهل النار ، وان شك في ذاك من حال غيره.

والمراد بالاية : أنني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم من المنافع والمضار الدنيوية كالصحة والمرض والغنى والفقر والخصب والجدب ، وهذا وجه صحيح واضح لا شبهه فيه.

ويجوز أيضا أن يريد أنني لا أدري ما يحدثه الله من العبادات ويأمرني به وإياكم من الشرعيات وما ينسخ من الشرعيات وما يقر منه ويستدام ، لان ذلك كله مغيب عنه ، وهذا يليق بقوله تعالى في أول الآية (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) وفي آخرها (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

[قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) إلخ]

وسأل أيضاً عن قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)(٣).

كيف يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شك مما أوحى إليه؟ كيف يسأل

__________________

(١) سورة الأحقاف : ٩.

(٢) ظ : الثواب.

(٣) سورة يونس : ٩٤.

١٠٥

صحة ما أنزل إليه الذين يقرءون الكتاب من قبله وهم اليهود والنصارى المكذبون؟.

فقال : ان قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ظاهر الخطاب له والمعنى لغيره ، كما قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)(١) فكأنه تعالى قال : فان كنت أيها السامع للقرآن في شك مما أنزلنا على نبينا فاسأل الذين يقرءون الكتاب.

وليس يمتنع عند من أمعن النظر أن يكون الخطاب متوجهاً الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحقيقة ، وليس إذا كانت الشك لا يجوز عليه لم يحسن أن يقال له : ان شككت فافعل كذا ، كما قال الله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(٢) ومعلوم أن الشرك لا يجوز عليه ، ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله داخل في ظاهر آيات الوعيد والوعد وان كان مما لا يشك.

ووجدت بعض المفسرين يجعل «ان» هاهنا بمعنى «ما» التي للجحد ، ويكون تقدير الكلام : ما كنت في شك مما أنزلنا إليك. واستشهد على قوله (٣) تعالى (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٤) أي ما نحن ، وقوله تعالى (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا نذير.

ولا شك في أن لفظة «ان» قد يكون بمعنى «ما» في بعض المواضع ، الا أنه لا يليق بهذا الموضع أن يكون «ان» بمعنى «ما» لانه لا يجوز أن يقول تعالى : ما أنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب ، لان العالم لا حاجة به الى المسألة ، وانما يحتاج أن يسأل الشاك.

__________________

(١) سورة الإطلاق : ١.

(٢) سورة الزمر : ٦٥.

(٣) ظ : عليه بقوله.

(٤) سورة إبراهيم : ١١.

١٠٦

غير أنه يمكن نصرة هذا الجواب ، لانه تعالى لو أمره بسؤال أهل الكتاب من غير أن يبقى شكه ولا وهم (١) أمره بالسؤال أنه يشك في صدقه وصحة ما أنزل عليه ، فقدم كلاماً يقتضي نفي الشك عنه فيما أنزل عليه ليعلم أن أمره بالسؤال يزول الشك من غيره لا عنه.

فأما الذين أمره بمساءلتهم ، فقد قيل : إنهم المؤمنون من أهل الكتاب الراجعون إلى الحق ، ككعب الأحبار ومن جرى مجراه ممن أسلم بعد اليهودية لأن هؤلاء يصدقون عما شاهدوه في كتبهم من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والبشارة به ، وان كان غيرهم على الكفر والباطل لا يصدق على ذلك.

وقال قوم آخرون : ان المراد ب (الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) جماعة اليهود ممن آمن وممن لا يؤمن ، فإنهم يصدقون مما وجدوه في كتابهم من البشارة بنبي موصوف يدعون أنه غيرك ، فإنك إذا قابلت بتلك الصفات صفاتك علمت أنت وكل من أنصف أن المبشر بنبوته أنت.

وقال آخرون : وما أمره بأن يسألهم عن البشارة ، لأنهم يصدقون عن ذلك بل أمرهعليه‌السلام بأن يسألهم عما تقدم ذكره بغير فصل من قوله تعالى (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢).

ثم قال الله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ)(٣) أي في شك مما تضمنه هذه الآية من النعمة على بني إسرائيل وما كانت اليهود تجحد ذلك بل تقربه وتفخر بمكانه ، وهذا الوجه يروى

__________________

(١) ظ : ينفى شكه لا وهم.

(٢) سورة يونس : ٩٣.

(٣) سورة يونس : ٩٤.

١٠٧

عن الحسن البصري ، وكل ذلك واضح لمن تأمله.

مسألة

[قوله تعالى (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ)

إلخ] وقالوا : الدليل على صحة اختيارنا وتوقيفنا في فعلنا ووقوعه أحمد موقع عند الله قوله تعالى (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)(١).

وهذا اخبار عن أمر سيكون ، فيخبرهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيتجدد من هذه الحال ، كما أخبرهم بما يكون من سواها في الحوادث بعده ، وهذه كلها من دلائله عليه‌السلام.

ووجدنا صاحبنا المتولي لغزاة الروم ، كما تولى قتال أهل الردة خالد بن الوليد العزيز ، أو ليس هذه الأمور منتظمة على المأثور ، جارية على المحجوب ، مثمرة للخيرات ، مؤكدة لأسباب الإسلام ، قامعة للمخالفة ، عرفونا ما عندكم في هذا؟

الجواب وبالله التوفيق :

قال الأجل المرتضى علم الهدى ذو المجدين (قدس الله روحه) اعلم أن هذه المسألة قد بناها هذا السائل على أن الداعي لهؤلاء الإعراب هو غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا منازع فيه غير مسلم ، والدعوى بغير برهان لا يقتصر عليها منصف.

__________________

(١) سورة الفتح : ١٦.

١٠٨

ثم لو سلمنا تطوعاً وتبرعاً أن الداعي هو غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجب أن يكون هو من عنده ، بل جاز أن يكون غيره.

ونحن نبين كلا الوجهين وان كنا قد ذكرنا في الكتاب «الشافي» ما هو الغاية القصوى :

أما ظاهر قوله تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فغير دال على تعيين الداعي ، بل هو فيهم مشترك ، فعلى من ادعى أنه داع بعينه الدلالة.

ولا خلاف بين أهل النقل والرواية في قوله تعالى (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(١) انما أراد به الذين تخلفوا عن الحديبية.

ثم قال تعالى (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(٢).

وانما طلب هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر ، فمنعهم الله من ذلك وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول لهم (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) يريد الى هذه الغزاة ، لأنه تعالى حكم من قبل بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، وأنه لا حظ فيها لمن لم يشهدها.

وهذا هو تأويل قوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) ثم قال جل اسمه

__________________

(١) سورة الفتح : ١١ ١٢.

(٢) سورة الفتح : ١٥.

١٠٩

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) وانما أراد تبارك اسمه أن الرسول سيدعون فيما بعد الى قتال قوم أولى بأس شديد ، كموتة وحنين وتبوك ، فمن أين وللمخالفين أن الداعي لهؤلاء الإعراب هو غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما بيناه من الحروب التي كانت بعد خيبر.

وليس لأحد أن يدعي أن المعني بقوله «ستدعون الى قوم أولي بأس شديد» هو أبو بكر لما دعا المسلمين الى قتال بني حنيفة ، أو قتال فارس والروم ، ويحتج بإطباق المفسرين على ذلك ، لان المفسرين ما أطبقوا على ما ادعوه ، لان ابن المسيب روى عن أبي روق عن الضحاك في قوله (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : هم ثقيف.

وروي عن سعيد بن جبير قال : هم هوازن.

وروى الواقدي عن قتادة قال : هم هوازن وثقيف.

فلا أطباق لأهل التأويل على ما ادعى ، ولو أطبقوا لم يكن في إطباقهم حجة. وكم استخرج أهل العدل في متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة ما خالف ما ذكره المفسرون.

وأما الوجه الأخر الذي يسلم فيه أن الداعي لهؤلاء الإعراب هو غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فواضح أيضا ، لأنه لا يمتنع أن يعنى بهذا الداعي أمير المؤمنين عليه‌السلام لانه قد قاتل بعده أهل الجمل وأهل صفين وأهل النهروان ، وبشره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه يقاتلهم بقوله علي تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والسارقين وقد كانوا أولى بأس شديد بغير شبهة.

فان قيل : الآية تدل على أن القوم الذين قوتلوا ما كانوا مسلمين ، لقوله تعالى (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ومحاربو أمير المؤمنين عليه‌السلام في المواطن

١١٠

الثلاثة التي ذكرتموها كانوا مسلمين.

قلنا : عندنا أنهم كانوا كفاراً ، والكافر لا يكون مسلماً عند مخالفينا من المعتزلة والخوارج ومن وافقهم ، أن الكبائر تخرج عن الإسلام ، كما تخرج عن الايمان وعندهم أن قتال أمير المؤمنين عليه‌السلام كان كبيرة ومخرجاً عن الايمان والإسلام.

وقد دللنا في كتبنا الشافي وغيره من كتبنا على كفر محاربيه عليه‌السلام بما ليس هاهنا موضع ذكره.

فان قيل : من أين نعلم بقاء هؤلاء المخالفين من الاعراب الى أيام أمير المؤمنين عليه‌السلام كما علمنا بقاءهم الى أيام أبي بكر؟.

فان قلت : أعلم ذلك ، لان حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين الى قتال أولي البأس الشديد.

قلنا : لك مثل ما قلته في بقائهم الى أيام أمير المؤمنين عليه‌السلام فظاهر الآية لا يقتضي وجوب بقاء جميعهم ، وانما يقتضي بقاء أكثرهم أو بعضهم.

مسألة

[قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إلخ]

ما معنى قوله تعالى للملائكة (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) وقوله (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)(٢) أن هذه الهاءات راجعة

__________________

(١) سورة البقرة : ٣١.

(٢) سورة البقرة : ٢٣.

١١١

الى من؟ ومن الذين رجعت الهاءات إليهم؟ وهذا قبل خلق الله تعالى الخلق؟

وما معنى قوله تعالى (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) فقد دل على أنه كان هناك قوم معرضون مشار إليهم ، وهم غير الملائكة ، فمن هؤلاء المبعوثون (١).

الجواب :

أما قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فعند أكثر أهل العلم وأصحاب التفسير أن الإشارة بهذه الأسماء الى جميع الأجناس من العقلاء وغيرهم.

وقال قوم : أراد أسماء الملائكة خاصة.

وقال آخرون : أراد أسماء ذريته.

والصواب القول الأول الذي عليه إجماع أهل التفسير ، والظاهر يشهد به ، لقوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

فأما قوله تعالى (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) فلا يليق الا بالمسميات دون الأسماء ، لأن هذه الكنايات لا تليق بالأسماء ، وانما تليق بالعقلاء من أصحاب الأسماء أو العقلاء إذا انضم إليهم غيرهم مما لا يعقل على سبيل التغليب لما يعقل كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعوا في الكناية ، كما يقول القائل : أصحابك واماؤك جاءوني. ولا يقال : جئتني.

ومما يشهد للتغليب قوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ)(٢).

__________________

(١) ظ : المعنيون.

(٢) سورة النور : ٤٥.

١١٢

وقد روي في قراءة أبي «ثم عرضها» وفي قراءة عبد الله «ثم عرضهن» فهاتان القراءتان يليقان بالكناية عن الأسماء دون المسميات ، وليس هذا العرض والخطاب قبل خلقه تعالى جميع الخلق على ما تضمنه السؤال ، لأن الملائكة بلا شك قد كانت مخلوقة ، والخطاب معها كان في عرض هذه الأسماء ، وغير منكر أن يكون تعالى خلق أصول جميع الأجناس في تلك الحال ، حتى يليق ذلك بقوله تعالى (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ).

والذي يشتبه من هذه الآيات ويجب الكلام عليه والتنقير عنه والإشارة إلى الصحيح منه موضعان :

أحدهما : أن يقال : كيف يأمر الملائكة ويكلفهم أن يخبروا بما لا يعلمون ، وهذا عندكم من تكليف ما لا يطاق بعينه ، أو جار مجراه في القبح.

والموضع الأخر : أن يقال : من أين علمت الملائكة لما أخبرها آدم عليه‌السلام بتلك الأسماء صحة قوله؟ ومطابقة الأسماء المسميات؟ ولم تكن عالمة من قبل ، إذ لو كانت عالمة لأخبرت بالأسماء ولم تعترف بفقد العلم.

والجواب عن الأول : أن قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) ان كان أمراً فهو متعلق بشرط ، وهو كونهم صادقين وعالمين بأنهم إذا أخبروا عن ذلك صدقوا ، وكأنه تعالى قال لهم : خبروا بذلك ان علمتموه. والتكليف على هذا الوجه بهذا الشرط صحيح حسن.

ويمكن أيضاً أن يكون قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) لا يأمر على الحقيقة وان كان له صورة الأمر ، ويكون المعنى فيه التقرير والتنبيه على الحجة.

ويكون تلخيص هذا الكلام : ان الله تعالى لما قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي مطلع على ما لا تطلعون عليه.

١١٣

ثم أراد التنبيه على أنه لا يمتنع أن يكون غير الملائكة مع أنها تسبح وتقدس وتطيع ولا تعصي أولى بالاستخلاف في الأرض ، وان كان في ذريته من يفسد ويسفك الدماء ، فعلم تعالى آدم أسماء الأجناس أو أكثرها.

ثم قال للملائكة (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) مقرراً لهم فيها على ما ذكرناه ، ودالا على اختصاص بما لم يختصوا به ، فلما أجابوا بالاعتراف وتسليم علم الغيب اليه ، قال (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) موقظاً على أنه تعالى المنفرد بعلم المصالح في الدين ، ان الواجب على كل مكلف أنه يسلم لأمره ويعلم أنه لا يختار لعباده الا ما هو أصلح لهم في دينهم ، علموا وجه ذلك أم جهلوه.

وأما الجواب عن الشبهة الثانية التي ذكرناها ، فهو أنه غير ممتنع أن يكون الله تعالى فعل في الملائكة في الحال العلم الضروري بمطابقة الأسماء للمسميات فعلموا بذلك صحته بعد أن كانوا غير عالمين به.

وهذا لا يؤدي الى أن يكون الملائكة عالمة بنبوة آدم ضرورة ، بل لا بد بعد ذلك من مراتب في الاستدلال يفضي الى العلم بالنبوة ، ويجري ذلك مجرى أن يخبر بأحدنا بما فعله مستسراً به عي سبيل التفصيل على وجه يخرق العادة ، فهو وان كان عالماً بصدق خبره ضرورة ، فليس بعالم أنه نبي ، ولا يستغني عن الاستدلال ليعد (١) ذلك بعد ذلك على نبوته.

ووجه آخر : وهو أنه غير ممتنع أن يكون للملائكة لغات مختلفة ، وكل قبيل منها يعرف أسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة ، فلما أراد الله تعالى نبأهم على نبوة آدم ، علمه جميع تلك الأسماء ، فلما أخبرهم بها علم كل

__________________

(١) ظ : ليدل.

١١٤

فريق مطابقة ما خبر له من الأسماء اللغوية.

وهذا لا يحتاج فيه الى الرجوع الى غيره ، وعلم مطابقة ذلك الباقي اللغات بخبر كل قبيل بأن كل قبيل إذا كان كثرة علم بخبرهم صحة ما يجيبون به.

وهذا الجواب يقتضي أن يكون معنى قوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) ليخبرني كل قبيل منكم بمعاني جميع الأسماء ، لأن ذلك هو الذي أفرد الله تعالى به آدم وميزه به ، وهذا بين أنعم تأمله. والسلام.

مسألة

[قوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)

إلخ] ما معنى قوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(١)؟

الجواب :

أما قوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) فالتلقي هاهنا هو القبول والتناول على سبيل الطاعة ، وليس كل ما سمعه واحد من غيره يكون له متلقياً حتى يكون متقبلا ، فيوصف بهذه السمة.

وأغنى قوله تعالى (فَتَلَقَّى) عن أن يقول : فرغت الى الله لهن أو سألته عقبهن(٢) ، لان معنى التلقي يفيد ذلك وينبئ عما حذف من الكلام اختصاراً ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٧.

(٢) ظ : فزع الى الله بهن أو سأله عقبهن.

١١٥

ولهذا قال تعالى (فَتابَ عَلَيْهِ) ولا يتوب عليه الإبان سأل ورغب ويفزع بتلك الكلمات.

وقد قرأ ابن كثير وأهل مكة وابن عباس ومجاهد «فتلقى آدم من ربه كلمات» بالنصب [«من ربه» (١)] وبرفع «كلمات» ، وعلى هذه القراءة لا يكون معنى التلقي القبول ، بل يكون المعنى ان الكلمات تداركته بالنجاة والرحمة.

فأما الكلمات فقد قيل انها : «ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين».

وقيل : بل هي «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر».

وقيل : بل الكلمات ان آدم عليه‌السلام قال : يا رب أرأيت ان تبت وأصلحت قال الله تعالى : اذن أرجعك إلى الجنة.

وقيل وهذه رواية تختص أهل البيت : ان آدم رأى مكنوناً على العرش أسماء معظمة مكرمة ، فسأل عنها؟ فقيل له هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى ، وأمكنهم مكانة ذلك بأعظم الثناء والتفخيم والتعظيم ، أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ، فحينئذ سأل آدم عليه‌السلام ربه تعالى وجعلهم الوسيلة في قبول توبته ورفع منزلته.

فان قيل : على هذا الوجه الأخير كيف يطابق هذا الوجه قوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) وما الذي تلقاه؟ وكيف يسمى من ذكرتهم كلمات؟ وهذه انما يتم في الوجوه الأول ، لأنها متضمنة ذكر كلمات وألفاظ على كل حال.

قلنا : قد يسمى الكتابة كلمات على ضرب من التوسع والتجوز ، وإذا كنا

__________________

(١) الظاهر زيادة الجملة ، لأن المراد نصب آدم.

١١٦

قد ذكرنا أن آدم عليه‌السلام رأى كتاباً يتضمن أسماء قوم ، فجائز أن يقال : انها كلمات تلقاها ورغب الى الله بها.

ويجوز أيضاً أن يكون آدم لما رأى تلك الكتابة سأل عنها ، قال الله تعالى : هذه أسماء من أكرمته وعظمته. وأجللته ورفعت منزلته ، ومن لا أسأل به الا أعطيت وكانت هذه الكلمات التي تلقاها وانتفع بها.

فأما التوبة من آدم عليه‌السلام وقبول الله تعالى توبته ، وهو على مذهبنا الصحيح لم يوقع ذنباً ولا قارف قبيحاً ولا عصى بأن خالف واجباً ، بل بأن ترك مندوباً ، فقد بينا معناها مستقصى مستوفى في كتاب «تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام» وأزلنا الشبهة المعترضة عن هذا المعنى ، فمن أراد ذلك أخذ من موضعه.

ومن الله نستمد المعونة والتوفيق ، وإياه نستهدي سبيل الرشاد ، والحمد لله رب العالمين.

مسألة

[قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي)

إلخ] سأل الشريف أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن القاسم العلوي المحمدي النقيب السيد الأجل المرتضى.

فقال : ان رأى (دام علوه) أن يشرح لنا معنى قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)(١).

__________________

(١) سورة الحج : ٢٦.

١١٧

هل خص بالنداء أمة دون أمة ، أم عم الأمم كلها؟ وهل بلغهم نداوة ودخلت فيه أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. ان رأى أجاب بشرح وبيان منعماً إن شاء الله.

الجواب :

أما قوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) فمعناه جعلناه منزلا ووطئناه ومهدناه ، والمباءة المنزل.

وقال قوم : ان أصل اشتقاق هذه الكلمة من الرجوع ، ومنه قوله تعالى (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجعوا منه وقول الحارث بن جواد بوأ ... فعل كليب أي ارجع بذلك. فلما جعل الله تعالى البيت منزلا ومزيلا وملاذاً ومرجعاً لإبراهيم ، جاز أن يقول : «بوأه».

فأما قوله تعالى (لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) قال قوم : معناه وقلنا له لا تشرك بي شيئاً ، وأجرى مجرى قوله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(١) والمعنى : قائلين سلام عليكم.

والكلام مفتقر بلا شك الى محذوف ، وهذا الذي ذكرناه من حذف لفظة «وقلنا» يضعف [من يضعف (٢)] من جهة أن ظاهر الآية تدل على تعلق الكلام بعضه ببعض ، وان الغرض في تبوئة إبراهيم البيت ألا تشرك وأن تطهر البيت للطائفين والقائمين.

وإذا كان هذا المعنى هو لم يطابقه أن يقدر لفظة «وقلنا» ثم يحذفها ، لان هذا التقدير يقع (٣) الكلام الثاني عن حكم الأول ويجعله أجنبياً منه. والظاهر أنه

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٣.

(٢) الظاهر الزيادة.

(٣) ظ : يرفع.

١١٨

متعلق به.

فالأولى أن يكون تقدير الكلام : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، لان نقول له لا يشرك بي شيئاً ، فيصح معنى البيت ومطابقة البيت فيه ، وهو تبوئة البيت.

فأما قوله تعالى (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) فقيل انه أراد من عبادة الأوثان. وقيل : من ذبائح المشركين وسائر الأدناس ، والكلام يحتمل لكل ذلك.

فأما قوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) فمعناه أعلمهم وأشعرهم بوجوبه وأعلمت وأذنت هاهنا بمعنى واحد ، والأذان بالصلاة هو الاعلام بدخول وقتها.

وقال قوم : ان أذان إبراهيم هو إذ وقف في المقام ، فنادى : أيها الناس أجيبوا داعي الله يا عباد الله أطيعوا الله. فاستمع من بين السماء والأرض ، فأجابه من في الأصلاب ، فمن كتب له الحج وكل من حج ، فهو من أجاب إبراهيم عليه‌السلام.

وقال قوم آخرون : ان المخاطب والمأمور به بقوله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يلزمهم شريعة فكيف يدعوهم الى الحج وهو غير مرسل إليهم؟

وأخبار الآحاد في هذا الباب غير معتمد ، فلا يجوز على هذا أن يحمل قوله تعالى (فِي النَّاسِ) على كل من يأتي إلى يوم القيامة ، لأنه عليه‌السلام كان مبعوثاً الى جميع الأمم المستقبلة ، فجعلناه متوجهاً الى أمته ومن تلزمهم شريعته.

فأما الوجه الثاني الذي حكيناه من توجه تكليف الأذان بالحج الى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فجائز غير ممتنع ، ولا يضعفه أنه معطوف على الأوامر المتوجهة إلى إبراهيم عليه‌السلام من قوله ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي لأنه غير ممتنع

١١٩

أن ينفصل هذا التكليف من الأول وان كان له مجاوراً ومقارناً ، ويتوجه الى غير من توجه التكليف الأول اليه.

فأما قوله تعالى (يَأْتُوكَ رِجالاً) فمعناه على أرجلهم ، وهو في مقابلة من يأتي راكباً على كل ضامر.

ومعنى (كُلِّ ضامِرٍ) أي على كل جمل ضامر أو ناقة ضامرة ، ولهذا قال تعالى (يَأْتِينَ) ولم يقل يأتون ، كناية عن الركاب دون الركب. وقد قرئت : «ويأتون» على أنه كناية عن الركبان.

وهذا القدر كاف في الجواب عن المسألة.

تمت المسائل والحمد لله رب العالمين.

١٢٠