رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨
١٨١

مسألة وردت من خراسان

[في المسح على الخفين]

الشيعة الإمامية تنكر المسح على الخفين ، وخالف فقهاء العامة في ذلك فأجازوا المسح عليهما ، أو فرقوا بين رخصة المقيم فيه والمسافر ، الا ما روي عن مالك ، فإنه كان يبطل التوقيت في مسح الخفين ، فلا يضرب له غاية.

وقد حكى بعض أصحابه عنه أنه كان يضعف المسح على الخفين على الجملة.

الجواب :

والذي يدل على صحة مذهبنا في بطلان المسح على الخفين قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)(١) فأمر بغسل ومسح أعضاء

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

١٨٢

مخصوصة بأسماء لها مخصوصة.

وقد علمنا أن الخف غير متطهر ولا فمثل (١) الحكم الآية تدل على مسح الرجل والخف لا يستحق هذه التسمية.

فإن قيل : قد تسمى الخف رجلا في بعض المواضع ، لأنهم يقولون وطأته برجلي وان كان فيه خف.

قلنا : هذا مجاز والمجاز لا يقاس عليه ، ولا يترك ظاهر الكتاب له ، والكلام محمول على حقيقته وظاهره ، الا إذا دل دليل على العدول عن الظاهر ، ولا نعرف هاهنا دليلا غير الظاهر يعدل اليه فيعد (٢).

فيجوز أن يريدوا بقولهم «وطأته برجلي» أي اعتمدت بها اعتمادا أفضى ذلك الى ذلك الجسم الذي قيل انه موطوء ، والاعتماد بالرجل التي عليها خف إنما يبتدأ من الرجل في الحقيقة ، ثم ينتهي إلى الخف الى ما جاوره وماسة.

فإن قيل : فمن أين لكم وجه الآية الى كل محدث ، وما ينكرون أن يكون خاصة في غير لابس الخف خارجا عنه.

قلنا : قد أجمع المسلمون على أن آية الطهارة متوجهة الى كل محدث يجد الماء ، ولا يتعذر عليه استعماله. ولا فرق في ذلك بين لابس الخف وغيره ، على أن من جعلها خاصة لا بد له من ترك الظاهر ، لانه تعالى قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فعم بخطابه جميع المؤمنين، ولابسوا الخفاف من المحدثين يتناولهم هذا

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) كذا في النسخة.

١٨٣

الاسم.

ويدل على ذلك أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ مرة مرة وطهر رجليه ، اما (١) بالمسح على روايتهم ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.

وقد علمنا أن المسح على الخفين يخالف ذلك الوضوء الذي بينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : انه لا يقبل الصلاة إلا به.

فكذلك ماسح الخف ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أشار الى وضوء بالماء له كيفية وقع في أعضاء مخصوصة بين أن الصلاة لا تقبل الا بها. فالظاهر من كلامه أن كل ما يسمى وضوءا متى لم يجعل على تلك الصفة والكيفية ، فالصلاة به غير مقبولة ، والتيمم ليس بوضوء. ولا خلاف أن وضوء الماسح على خفيه كوضوء غاسل رجليه أو ماسحهما في أن العموم يتناوله.

ويدل أيضا على إنكار المسح على الخفين إجماع الإمامية ، وهي عندنا الفرقة المحقة التي في جملتها الامام المعصوم وقولها حجة لا يجوز العدول عنه.

__________________

(١) كذا والظاهر زيادة «اما».

١٨٤
١٨٥

(٣٧)

مسألة في خلق الافعال

١٨٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

اعلم أن الافعال التي تظهر في أجسام العباد على ضربين :

أحدهما : أجمع المسلمون على أنه فعل الله تعالى لا صفة للعبد فيه ، مثل ألواننا وهيئاتنا وطولنا وقصرنا وسمننا وهزالنا وحركة عروقنا.

والضرب الأخر : مثل قيامنا وقعودنا وحركتنا وسكوننا وأكلنا وشربنا وما أشبه ذلك من تصرفنا. واختلف الناس في ذلك :

فقال أهل الحق : كل هذا التصرف فعل العباد انفرودا به لا صنع لله تعالى فيه وان كان هو المقدور لهم (١) عليه.

وقالت المجبرة : هذا الضرب أيضاً من فعل الله تعالى ، وذهبوا الى أن جميع الأفعال التي تظهر في العالم الله تعالى أوجدها وفعلها ولا فاعل سواه ،

__________________

(١) ظ : مقدرهم.

١٨٧

وأنه لا فعل للعبد من طاعة ولا معصية ولا خير ولا شر.

والذي يدل على أن العباد يفعلون ويوجدون بخلافه (١) ما ذهب إليه المجبرة انا وجدنا من الأفعال الظاهرة فيها ما يصح بحسب تصورهم ودواعيهم وأحوالهم ويرتفع بحسب صوارفهم وكراهتهم وأحوالهم.

ألا ترى أن أحدنا [إذا] قصد إلى الأكل وأراد وعزم عليه ، وقع منه إذا كان صحيحاً غير ممنوع. وقد يقصد غيره إلى الأكل ، فلا يجب أن يأكل هو وكذلك متى جاع واحتاج الى الطعام وحضر الطعام ، أكل إذا كان على ذلك قادراً غير ممنوع. ولا يجب أن يأكل هو متى جاع غيره فلو لا أنه محدث الأكل وموجدة ما تعلق بقصده وداعيه وحاجته ، ويجرى مجرى أكل غيره ، لما لم يكن فاعلا له لم يقصد تصوره وحاجاته.

ولو لا أن هذه الأفعال التي أشير إليها أفعالنا ، لم يجب أن يقع بحسب حاجاتنا وأحوالنا ويقف على دواعينا ، كما لم يجب ذلك في ألواننا وهيئاتنا وحركة عروقنا.

ألا ترى أن أحدنا [يريد أن يكون على هيئة ، فيجب على خلافها و (٢)] يريد أن يكون على هيئة ، فيجد نفسه على خلافها. ويريد أن يكون طويلا وهو قصير وشاباً وهو شيخ ، وصحيحاً وهو مريض. فلو كان القيام والقعود مثل الطول والهرم والصحة والمرض ، لكانت أحكام الجميع واحدة في الحصول بحسب دواعينا [أو خلاف ذلك (٣)] فلما اختلف حكم الجميع علمنا اختلاف حكمها في الإضافة إلينا.

__________________

(١) ظ : بخلاف.

(٢) كذا في النسخة والظاهر أنه تكرار.

(٣) كذا والظاهر زيادة العبارة.

١٨٨

دليل آخر : ومما يدل أيضاً على ذلك أن الله تعالى قد أمر العباد بأفعال كثيرة ، كالايمان والطاعة من الصلاة والصوم وسائر العبادات ، فلو لا أن هذه الافعال لهم وواقعة من جهتهم وليست بأفعال الله تعالى ، لما جاز أن یؤمرا بها.

ألا ترى أنه لا يحسن أن يأمره بطوله وقصره ولا اسوداده ولا بياضه ، لما لم يكن ذلك أيضاً فعلاله. والقول في دلالة النهي كالقول في دلالة الأمر ، لان الله تعالى قد نهاهم عن المعاصي والكفر وضروب القبائح ، ولا يجوز أن ينهاهم عن فعله تعالى وعما ليس بفعل لهم.

دليل آخر : ويدل أيضاً على ذلك ، أنا وجدنا العباد يحمدون ببعض الأفعال التي يظهر منهم ، ويذمون ببعض آخر. ألا ترى أنهم يمدحون بفعل الطاعات وأداء الواجبات ، يمدحون على الإحسان والانعام والإفضال ، ويذمون بالمعاصي والقبائح.

فلو لا لا أن ذلك من أفعالهم لما توجه إليهم مدح ولا ذم ، كما لا يحسن ان يمدحوا ويذموا بألوانهم وهيئاتهم وخلقهم ، ولا على ما يقع من غيرهم من الافعال.

دليل آخر : ويدل على بطلان قول المجبرة في إضافتهم جميع الأفعال الى الله تعالى ، أن أفعال العباد ما هو كفر وظلم وقبيح وكذب ، فلو كان الله تعالى هو الفاعل لذلك ، لوجب أن يكون من حيث فعل الظلم ظالماً ، وبفعل الكفر كاذباً (١) ، وبفعل القبيح مقبحاً. لأن اللغة تقتضي هذا الاشتقاق للفاعل.

ألا ترى أنه تعالى من حيث فعل العدل يسمى عادلا ، وبفعل الإحسان والانعام يستحق محسناً أو منعماً. ولا وجه لتسميته بأنه منعم وعادل الا أنه فعل هذه الافعال

__________________

(١) ظ : كافراً.

١٨٩

فلو كان فاعلا لما سواها لاشتق له منها اسم الفاعل على ما ذكرناه.

واجتمعت الأمة على أنه تعالى لا يستحق الوصف بأنه ظالم ولا كاذب ولا كافر ، [و] أن من وصفه بذلك وسماه به كان خارجاً عن الدين ، وإجماع المسلمين حجة ان ينفي كونه فاعلا لما يوجب هذا الاشتقاق ويقتضيه.

دليل آخر : ومما يدل أيضا على ذلك وان كان معناه داخلا فيما تقدم أن الأمة مجمعة على أن الله تعالى يثبت المؤمنين ويعاقب الكافرين ، فلو لا أن الايمان والكفر من فعل المؤمن والكافر ، لم يحسن الثواب ولا القبيح ، لانه قبيح أن يثاب أو يعاقب أحد.

ألا ترى أن أحدنا لو فعل في عبده فعلا من الافعال ، لما حسن أن يعاقبه عليه ويؤاخذه به ، ومن فعل ذلك عد ظالماً سفيهاً.

دليل آخر : ويدل على ذلك أنه تعالى لو فعل الظلم والكذب وسائر القبائح ، لم يكن ذلك منه قبيحاً على ما يقوله مخالفونا ، لانه لأنا من أن يقع منه تصديق الكذابين ، وان (١) لم يكن ذلك منه قبيحاً ، لانه لأنا من أن يفعل بعض القبائح ، لما لم نأمن أن يفعل سائرها. وإذا أجزنا منه تعالى البعض ، جاز الكل ، وهذا يبطل الثقة بصدق الأنبياء عليهم‌السلام ويقتضي الشك في جميع الشرائع والخروج من دين الإسلام ، بل من سائر الأديان.

دليل آخر : ويدل على ما ذكرنا أن القول بأن الله تعالى هو الفاعل للأفعال الظاهرة من العباد ، يقتضي أنه لا نعمة له تعالى على الكافر ، وإذا لم تكن له عليه نعمة ، لم تجب عبادته على الكافر ، لأن العبادة كيفية في الشكر فإنما يجب بالنعم العظيمة ، ومن لا نعمة له فلا شكر يستحقه ولا عبادة.

__________________

(١) الظاهر زيادة «و».

١٩٠

وانما أنه لا نعمة له على الكافر ، لانه خلق على مذاهبهم فيه الكفر الذي يستحق به الخلود في النار والعقاب الدائم ، فهو بأن يكون مسيئاً إليه أولى من أن يكون منعماً عليه.

وليس لهم أن يقولوا أن له عليه نعمة دنياوية ، كخلق الحياة فيه والشهوات المؤدية إلى ضروب اللذات والمنافع العاجلة ، وذلك أن خلق الحياة والشهوة إذا كان الغرض الاستدراج الى الكفر لم يكن نعمة ، وانما يكون نعمة إذا كان الغرض فيه النفع ، ويجري مجرى من سمن عنزة وغذاه بضروب الأطعمة الملذة ليأكله في أنه لا يكون منعماً عليه بذلك وأن النفع به في العاجل.

وأيضاً فلو سلم أن ذلك نفع لما عادل ولا قارب الاستقراء والعقاب والخلود في النيران المضرمة ، فلا يستحق عليه شيء من الشكر والحال هذه ، ويكون وجوده كعدمه ، ويجري مجرى من نقص ثواباً عن ثواب غيره وابتسم في وجهه ، ثم قرن ذلك بقتل أولاده وأحبائه وأخذ أمواله وانتهاك حرمه ، في أنه لا يستحق منه شكراً.

وإذا تأملنا القرآن وجدنا أكثره دالا على أن العباد يفعلون ويعملون ، وأنهم انما يجازون بثواب أو عقاب على أفعالهم ، لا على أفعال غيرهم فيهم ، فيقول تعالى (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١) وفي مواضع أخر (يَصْنَعُونَ)(٢) و (يَفْعَلُونَ)(٣) و (يَكْسِبُونَ)(٤) ، فلو كانت الافعال كلها له بطلت هذه الإضافات إلينا وكانت كذباً.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٢٤.

(٢) سورة المائدة : ١٤ وغيرها.

(٣) سورة المائدة : ٧٩ وغيرها.

(٤) سورة البقرة : ٧٩ وغيرها.

١٩١

ويدل أيضاً على ما ذكرناه قوله تعالى (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(١) وهذا صريح بأن السيئة منا لا منه.

وليس لهم أن يقولوا في الحسنات والطاعات ، وهي عندكم فعل العباد ، فكيف أضافها الله تعالى الى نفسه. لأن الطاعة وان كانت من فعلنا ، فقد يصح أن يضيفها الله من حيث التمكين فيها والتعريض لها والدعاء إليها فيها ، وهذه أمور تحسن هذه الإضافة. ولا يجوز ذلك في السيئة ، لأنه تعالى نهى عنها ومنع من فعلها وفعل كل شيء يصرف (٢) عن فعلها.

فأما قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(٣) فلا يعارض ما ذكرناه ، لان المراد بالسيئة هاهنا الأمراض والمصائب والقحط ، لان قريشاً كانت إذا نزل بها خصب وخفض قالوا : هذا من عند الله ، وإذا نزل بهم شدة ومجاعة قالوا : هذا شؤم محمد حاشا له من ذلك فبين تعالى أن ذلك من الله تعالى.

وقوله تعالى (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٤) ولو كان من خلق الله لكان من عنده على آكد الوجوه.

وقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٥) يدل على صحة ما نذهب اليه من وجهين

__________________

(١) سورة النساء : ٧٩.

(٢) ظ : يوجب فعلها.

(٣) سورة النساء : ٧٨.

(٤) سورة آل عمران : ٧٨.

(٥) سورة الذاريات : ٥٦.

١٩٢

أحدهما : أنه تعالى أضاف العبادة إليهم ، فلو كانت مخلوقة فيهم لاضافها اليه تعالى لا إليهم.

ومن الوجه الأخر : أن هذا القول يقتضي أن غرضه في خلقهم أن يعبدوه ، لان اللام في قوله تعالى (لِيَعْبُدُونِ) هي لام الغرض ، بدلالة قولهم جئتك لتكرمني وقصدتك لتنفعني أي غرضي في قصدك الإكرام والنفع.

وليس يجري هذا الكلام مجرى قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)(١) لأن تلك اللام لام عاقبة ، وجارية مجرى قوله تعالى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٢) ونحن نعلم أنهم انما التقطوه ليكون لهم صديقاً سئا (٣) ، وأخبر أن العاقبة لما كانت هي العداوة أدخلت هذه اللام فيه ، ويجري ذلك مجرى قول الشاعر :

فللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدهر تبنى المساكن

وقوله :

لدوا للموت وابنوا للخراب

ولا يجوز أن يكون اللام في قوله «ليعبدون» لام عاقبة لا لام غرض ، لانه لو كانت كذلك لكانت العبادة شاملة للجن والانس وواقعة من جميعهم ، إذ كانت اللام منبئة عن عاقبتهم. ومعلوم أن في الجن والانس كثيراً من لا يعبد الله ويجحده ولم يقر به ، فعلمنا أنه لام غرض.

فان قالوا : كيف يجوز أن يقع من العباد ما لم يقضه الله تعالى والمسلمون

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٩.

(٢) سورة القصص : ٨.

(٣) ظ : أنيساً.

١٩٣

يأبون ذلك ويطلقون أنه لا يخرج من قضاء الله شيء.

قلنا : القضاء في لغة العربية على وجوه :

أحدها : أن يكون بمعنى الاعلام العلم ، كقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)(١) وانما أراد الله تعالى الاعلام بغير شبهة.

فعلى هذا الوجه لا يخرج شيء من قضاء الله ، كما لا يخرج من معلومه ، وأنت إذا وصفت على من أطلق من أهل الحمد والسلامة لم يقسر (٢) إلا بالعلم دون غيره.

وقد يكون القضاء بمعنى الأمر ، قال الله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(٣) ومعلوم عند جميع المسلمين أن المعاصي والكفر ليسا مما أمر الله تعالى ، بل نهى عنه وحذر وزجر. وأحد من المسلمين لا يقول ان الله تعالى أمر بالمعاصي والقبائح. ولا شبهة في أن الله تعالى ما قضى بجميع الكائنات على هذا الوجه ، لانه تعالى ما أمر بجميعها.

ومن وجوه القضاء الحكم والإلزام ، من قولهم «قضى وبكذا وكذا» إذا ألزمه ، ومعلوم أن الله تعالى ما حكم بالظلم ولا ألزمه. وهذا الوجه غير عام من وجوه القضاء (٤) هو العلم.

فان قيل : كيف يجوز أن يكون العبد فاعلا والله فاعل ، وهذا يقتضي الشركة.

قلنا : العبد وان كان فاعلا ، فبأقدار الله تعالى على الافعال وتمكينه منه ،

__________________

(١) سورة الإسراء : ٤.

(٢) ظ : لم يفسر ، وبعده بياض في النسخة.

(٣) سورة الإسراء : ٢٣.

(٤) في الهامش : وبرة القضاة.

١٩٤

وفعله تعالى فيه القدرة والآلات وجميع ما يحتاج إليه في الافعال ، والله تعالى قادر على أفعاله بنفسه من غير مقدور (١) ولا ممكن بلا تشابه. ولو وجب بهذا القدر التشابه ، لوجب إذا كان أحدنا موجوداً وحياً وعالماً ، وكان الله تعالى بهذه الصفات أن يكون متشبهاً ونظيراً. تعالى الله عن ذلك.

وإذا فرقوا بين الأمرين بما يرجع الى كيفية استحقاق أحدنا لهذه الصفات وأنه يخالف كيفية استحقاقه تعالى لها ، رجعنا الى مثل ذلك في كون أحدنا صرفا رقته (٢) لكونه تعالى.

وهذه جملة كافية إن شاء الله ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) ظ : مقدر.

(٢) كذا.

١٩٥
١٩٦

(٣٨)

مسألة في الاجماع

١٩٧

بسم الله الرحمن الرحيم

ان قال قائل : إذا كنتم تعتمدون في حال الأحكام الشرعية جمهورها بأنه الصحيح وما عداه باطل على إجماع الشيعة الإمامية الذين تدعون أنه لا يكون الا حقا ، من حيث كان قول الامام المعصوم من جملته ، فلا بد لكم من أن تقطعوا على أنه ما في بر وبحر وسهل وجبل من يقول بخلافه ، لأنكم متى جوزتم أن يكون في الإمامية من يخالف في ذلك ولو كان واحدا ، جاز أن يكون هو الامام فلا تحصل الثقة بذلك القول الشائع الذائع ، لتجويز ان يكون قول من هو الحجة في الحقيقة خارجا عنه.

وإذا كنتم انما تعتمدون في العلم بالغائبات عن إدراكهم (١) من الأمور على النقل ، وتقولون : انه لو كان لعالم من علماء الإمامية مذهب في الشريعة بخلاف

__________________

(١) ظ : إدراككم.

١٩٨

ما عرفناه وسطرناه لذكر ونقل ، فإذا فقدنا النقل والعلم علمنا نفي ذلك ، وهذا انما يتميز في الأمر الذي إذا كان وجب ظهوره وجب نقله ، لأن أحدا من العلماء لا يقول في كل شيء وقع أنه لا بد من العلم به ونقله ، وانما يقال ذلك في أشياء مخصوصة.

ويلزم على هذا أن يقال لكم : جوزوا فيما ادعيتم انه إجماع الإمامية ، أن يكون في أقاصي الصين واحد في الإمامية يخالف في ذلك ، وان لم ينقل إلينا في الاخبار.

ومع تجويز ذلك سقط التعويل على إجماع الإمامية ، والقطع على أنه ليس بحجة ، لأنه يجوز أن يكون ذلك الذي جوزنا قوله بخلاف أقوال الإمامية هو الامام نفسه ، فلم يثق بمن عداه.

الجواب :

انا قد بينا في جواب مسائل ابن التبان ما إذا تأمل كان فيه جواب عن هذه الشبهة ، واستوفينا بيان الطريق الى القطع على ثبوت إجماع الإمامية ، وأن قول إمامهم في جملة أقوالهم، وانتهينا في ذلك الى غاية لا مزيد عليها ، غير أنا نقول هاهنا :

ليس يخلو السائل عن هذه المسألة من أن يكون بكلامه هذا طاعنا في إجماع المسلمين وغيرهم ، وشاكا في كل ما يدعى من اتفاق شيء ، فان كان الأول فالطعن الذي أورده لازم فيما عداه.

لأن لقائل أن يقول : كيف تقطع في بعض المسائل أن المسلمين أجمعوا فيها على قول واحد وأجمعوا على أحد قولين لا ثالث لهما ، مع التجويز لان

١٩٩

يكون ببلاد الصين من يخالف في ذلك وأخباره غير متصلة.

وكذلك القول فيما يدعى من إجماع أهل العراق وأهل الحجاز على مسألة ، لأن هذا الطعن يؤثر في ذلك كله ويقتضي في جميعه ، ويوجب أيضا أن لا يقطع على أن أهل العربية أجمعوا على شيء منها لهذه العلة ، ولا نأمن أن يكون في أقاصي البلاد من يخالف في أن إعراب الفاعل الرفع والمفعول به النصب ، وفي كل شيء ادعيناه إجماعا لأهل العربية.

وان كان السائل شاكا في الجميع وطاعنا في كل إجماع ، لكفى بهذا القول فحشا وشناعة وبعدا عن الحق ولحوق قائله بأهل الجهالات من السمنية ومنكري الاخبار ، من حيث ظنوا أن الشك في مذهب رأية (١) على المعروف يجري مجرى الشك في تلك زائد على المقبول المشهور وخادمه عما نقل وسطر ، وهذا لا يلزم ، لان القول الذي إذا كان لم يجب نقله إلينا.

فكمالا نقطع على حوادث أقاصي الصين ، ولا نعلم تفاصيل قولها وبلدانها وانما نحكي عنهم إذا كان العلم بالغائبات كلها ، وأن الاخبار لا يقضي علما وبهم يقينا ، فلزمهم الشك في الحوادث الكبار والبلدان العظام وكل أمر يوجب العادة نقله وتواتر الاخبار به والقطع عليه .. عن الشبهة عن هذا التجويز والتقدير ، ان لنا معاشر الإمامية جوابا يختص به ، ولمن يدعى الإجماع من مخالفينا جوابا عنه يخصهم ، ونحن نبين الجميع.

أما قول الإمامي الذي فرضنا أنه في أقاصي البلاد وبحيث لا يتصل بنا أخباره فليس يخلو هذا الإمامي من أن يكون هو امام الزمان نفسه ، أو يكون غيره. فان كان غيره ، فلا يضر فقد العلم بخلافه ، لأن قول الإمام الذي هو الحجة فيما عداه من الأقوال.

__________________

(١) كذا في النسخة.

٢٠٠