رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

وأما قس بن ساعدة الأيادي ، فهو الذي يقول في بعض مواعظه : كلا ورب هذه الكعبة ليعودن من مات ، ولئن ليعودن يوماً. وأيضاً في بعض مواعظه : كلا بل هو الله واحد، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى واليه المآب غداً. فأقر في هذا الكلام بالإله الواحد، وأثبت الإبداء والإعادة.

وقد دل على ذلك أيضاً بأبيات قالها وهي :

يا ناعي الموت والأموات في جدث

عليهم من بقايا بزهم خرق

دعهم فان لهم يوماً يصاح بهم

كما ينبه من رقداته الصعق

حتى يجيبوا بحال غير حالهم

خلق مضوا ثم ما ذا بعد ذاك لقوا

منهم عراة وموتى في ثيابهم

منها الجديد ومنها الأورق الخلق

وأما عامر بن الظرب العدواني ، فإنه كان من حكماء العرب وخطبائهم ، وله الوصية الطويلة يقول في آخرها : اني ما رأيت شيئاً قط خلق نفسه ولا رأيت موضوعاً الا مصنوعاً ولا جائياً الا ذاهبا ، ولو كان يميت الناس السداء لا عاشهم الدواء.

ثم قال : أرى أموراً شتى وشيء حي ، قيل له : وما حي؟ قال : حتى يرجع الميت حياً ، ويعود لا شيء شيئاً ، وكذلك خلقت السماء والأرض ، فتولوا عنه ذاهبين ، فقال : ويل أمها نصيحة لو كان من يقبلها لقلتها.

ومن هؤلاء زهير بن أبي سلمى ، وكان يميز بالعصا وقد أورقت بعد يئس ، فيقول : لو لا أن تسبني العرب لأنت الذي أحياك سيحيي العظام وهي رميم ، ثم آمن بعد ذلك ، وقال في قصيدته التي أولها :

أمن أم أو في ذمته لم يؤخر فيوضع

في كتاب فيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينتقم

٢٢١

ومنهم زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي ، وهو الذي يقول :

أريد به يوم الجزاء حسابه

لدى حاسب يوم القيامة عالم

في خلق كثير من مشهوريهم يطول ذكرهم.

وكان ممن يقر بالبعث ، منهم قوم يزعمون أن من مات فربطت على قبره راحلة وتركت حتى يموت حشر عليها ، ومن لم يفعل ذلك حشر ماشياً.

ومنهم عمرو بن زيد الكلبي ، وهو يوصي ابنه :

ابني زودني إذا فارقتني في القبر راحلتي

برحل قائد للبعث أركبها

إذا قيل اركبوا مستوثقين ليوم حشر حاشر

من لا يراقبه على غير أنه فالخلق بين مدفع أو عاثر

ومنهم حريث (١) بن أشيم الفقعسي (٢) الأسدي ، وهو الذي يوصي ابنه سعداً

يا سعد أما أهلكن فانني

أوصيك أن أخا الوصية أقرب (٣)

واحمل أباك على بعير صالح

واتق الخطيئة انما هو أصوب

ولعل لي فيما تركت مطية

في الهام (٤) أركبها إذا قيل اركبوا

وكانوا يسمون الناقة التي يفعلون بها ذلك «البلية» وجمعها البلايا ، وكانوا يربطونها يأخذون ولية فيسقون وسطها ، ثم يدخلون عنق الناقة فيها ، فتبقى معلقة في عنقها حتى تموت عند القبر.

وقال بعضهم :

__________________

(١) في الهامش : حربية.

(٢) في الهامش : الفضعيعى.

(٣) في الهامش : الوصاة الأقرب.

(٤) خ ل : في الحشر.

٢٢٢

«كالبلايا أعناقها في الولايا» الولايا جمع ولية ، أعناقها في الولايا» الولايا جمع ولية ، وهي البرذعة التي في ظهر البعير ، قال لبيد :

تأوي الى الاطناب كل ولية

مثل البلية قانصاً أهدامها

شبه الناقة الردية الصعبة بالبلية ، والقانص القصير والاهدام أخلاق الثياب.

وأما الصنف الذي يقولون بالتوحيد والإنشاء لا من شيء ، وينكرون الإعادة والبعث، منهم الجهل والجمهور وقد أخبروا بذلك في أشعارهم ، فقال بعضهم في مرثية أهل بدر من المشركين :

فما ذا بالقليب قليب بدر

من البشرى يكلل بالسنام

يخبرنا الرسول بأن سيحيا

وكيف حياة أصداء وهام

وكان فيهم قوم يعبدون الملائكة ويزعمون أنها بنات فيعبدونها ، زعموا لتقربهم الى الله زلفى وتشفع لهم.

ومنهم من يدعو لله ولداً ويتخذه لها من دونه.

ومنهم من يعبد الأصنام لتقربهم الى الله زلفى ، وقال جل وعز (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)(١) وقال (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(٢) ولم يكن بهذه الصفة الأقوم من مشركي العرب.

وقال جل وعلا (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ)(٣) وقال (وَقالُوا

__________________

(١) سورة الإسراء : ٥٦.

(٢) سورة النحل : ٥٧.

(٣) سورة الزخرف : ١٦.

٢٢٣

اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(١) وقال تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)(٢) وقال تعالى (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)(٣).

وقال في عبادتهم الأصنام (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٤) وقال (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ)(٥) وقال (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)(٦).

وقد عبد الأصنام قوم من الأمم الماضية من أهل الهند والسند وغيرهما ، وقد أخبر الله تعالى عن قوم نوح أنهم عبدوها أيضا ، فقال (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(٧).

وقد حكينا قول الأصنام قبل هذا ، وكان «سواع» لهذيل وكان برهاط وكان بدومة الجندل ، وكان «يغوث» لمذحج ولقبائل اليمن ، وكان «نسر» لذي الكلاع بأرض حمير، وكان «يعوق» لهمدان ، وكان «اللات» لثقيف وكانت بالطائف ، وكانت «العزى» لقريش وجميع بني كنانة وسدنتها من بني سليم ، وكانت «مناة» للأوس والخزرج وغسان وكانت بالمسلك ، وكان «الهبل» أعظم أصنامهم عند

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٧.

(٢) سورة الانعام : ١٠٠.

(٣) سورة الصافات : ١٥٨.

(٤) سورة الأعراف : ١٩٤.

(٥) سورة يونس : ١٨.

(٦) سورة الأنبياء : ٣٦.

(٧) سورة نوح : ٢٣.

٢٢٤

أنفسهم وكان على الكعبة.

وكان إساف ونائلة على الصفا والمروة ، ووضعهما عمرو بن يحيى ، فكان يذبح عليهما تجاه الكعبة ، وزعموا أنهما كانا من خبرهم إساف بن عمرو ونائلة بنت سهيل ، ففجرا في الكعبة فمسخا حجرين ، ويقال : خالهما عمرو بن يحيى وضعهما على الصفا قبل ذلك.

فصل

في ذكر مذاهب أهل الأصنام وذكر بيوت النيران المعظمة

حكى قوم ممن يعرف أمور العالم ويبحث عن قصصهم ، منه جعفر بن محمد المنجم أبو معشر : ان كثيراً من أهل الهند والصين كانوا يعتقدون الربوبية ، ويقرون بأن الله ملائكة ، وكانوا يعتقدون أنه جسم ذو صورة كأحسن الصور وكأتم الأصنام وأن الملائكة أجسام لها ، وأن الله وملائكته محتجبون بالسماء ، فدعاهم ذلك الى أن اتخذوا أصناماً على صورة الله عندهم ، وبعضهم على صورة الملائكة ، فكانوا يعبدونها ويقربون القرابين لها ، لشبهها عندهم بالله ، ويقدرون فيها أنها شفيعهم.

فلم يزالوا كذلك حتى قال لهم بعض من كان عندهم في سبيل الأنبياء : أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام الى الله ، وأنها حية ناطقة ، وان الملائكة يختلف فيما بين الله وبينها ، وأن كل ما يحدث في العالم انما هو على قدر ما يجري به حركات الكواكب من أمر الله ، فعظموها وقربوا لها القرابين لتشفعهم ، فمكثوا على ذلك دهراً.

فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار ، وفي بعض أوقات الليل لما يعرض

٢٢٥

في الهواء من الغيوم ، أشار عليهم بعض رؤسائهم بأن يجعلوا لها أصناماً ليروها في كل وقت ، فجعلوا لها أصناماً على عدد الكواكب الكبار المشهورة ، وهي السبعة المتحيرة ، فكان كل صنف يعظم كوكباً معلوماً ، وينحر له جنساً من القربان خلاف ما للآخر ، واعتقدوا أنهم انما عظموا الأصنام لحرمة الكواكب هم يحتاجون ، وبنو الكل صنم بيتاً وهيكلا مفرداً ، وسموا ذلك البيت باسم الكواكب.

وزعم بعض الناس أن بيت الله الحرام كان بيت زحل ، وانما بقي لأن زحل يدل على البقاء أكثر من سائر الكواكب ، فلما طال عهدهم عبدوا الأصنام على أنهم تقربهم الى الله زلفى ، وألغوا ذكر الكواكب.

فلم يزالوا كذلك حتى ظهر يوذاسف ببلاد الهند وكان هندياً ، وذلك زعموا في أول سنة من ملك طهمورث ملك فارسي يوذاسف النبوة ، وأمرهم بالزهد وجدد عندهم عبادة الأصنام والسجود لها ، ذكر أهل فارس أن جم الملك أول من أعظم النار ، ودعا الناس الى تعظيمها ، قال : لأنها تشبه ضوء الشمس والكواكب. قال : ولان النور أفضل من الظلمة ، ثم اختلف بعد ذلك ، يعظم كل قوم ما يرون تعظيمه من الأسماء تقرباً الى الله تعالى.

ثم نشأ عمرو بن يحيى ، فساد قومه بمكة ، فاستولى على أمر البيت ، ثم صار الى مدينة البلغاء بالشام ، فرأى قوماً يعبدون الأصنام ، فسألهم عنها؟ فقالوا : هذه أرباب نتخذها نستنصر بها فننصر ، ونستقي فنسقى ، فطلب منهم صنماً فدفعوا ليه الهبل ، فصار به إلى مكة والى الكعبة ومعه إساف ونائلة ، ودعا الناس الى تعظيمها وعبادتها ، ففعلوا ذلك. وفيما يزعم أصحاب التاريخ في أول ملك سابور ذي الأكتاف الى أن أظهر الله الإسلام فأخرجت.

وقد قلنا : ان البيت فيما زعم المخبرون كان لزحل ، وقد كذبوا لعنهم الله.

ومن تلك البيوت السبعة التي كانت للكواكب بيت على رأس جبل بأصبهان

٢٢٦

على ثلاث فراسخ من مدينتها ، فكانت فيه أصنام أخرجها كشتاسب الملك الى عجن وجعله بيت نار.

والثاني : البيت الذي بملتان من أرض الهند وبه أصنام.

والبيت الثالث : بيت سدوسان من الهند ، وهما بيتان عظيمان عندهم ، يأتونهما في أوقات من السنة.

والبيت الرابع : هو النوبهار الذي بناه منوشهر بمدينة بلخ من خراسان على اسم القمر، فلما ظهر الإسلام خربة أهل بلخ.

وبيت عمدان الذي بمدينة صنعاء من مدن اليمن ، وكان الضحاك بناه على اسم الزهرة ، وخربة عثمان بن عفان.

وبيت كاووسان بناه كاووس الملك بناه أعجبنا على اسم شهر المدينة ، فرغانة من مدن خراسان ، خربة معتصم.

وأما بيوت النار فهي كثيرة ، وأول من رسم لها بيتاً فيما يزعمون أفريدون وجد ناراً يعظمها أهلها ، فبعث بها الى خراسان ، يسمى كركوا أبحوا.

تم الكتاب والحمد لله رب العالمين.

٢٢٧
٢٢٨

(٤١)

مسألة في قول النبي «ص» : نية المؤمن خير من عمله

٢٢٩
٢٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الأجل المرتضى (قدس الله روحه) جرى بالحضرة السامية الوزيرية العادلة المنصورة أعلى الله شأنهما ومكانها وأدام سلطانها في بعض الكلام فيما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله «نية المؤمن خير من عمله».

فقال : ان على هذا الخبر سؤالا قوياً ، وهو أن يقال : إذا كان الفعل انما يوصف بأنه خير من غيره ، إذا كان ثوابه أكثر من ثوابه ، فكيف يجوز أن يكون النية خيراً من العمل؟ ومعلوم أن النية أخفض ثواباً من العمل ، وأنه لا يجوز أن يلحق ثواب النية بثواب العمل.

ولهذا قال أبو هاشم : ان العزم لا بد أن يكون دون المعزوم عليه في ثواب وعقاب ، ورد على أبي علي قوله : ان العزم على الكفر يجب أن يكون كفراً ،

٢٣١

والعزم على الكبير لا بد أن يكون كبيراً. بأن قال له : لا يجب أن يساوي العزم والمعزوم عليه في ثواب ولا عقاب.

فان كان هاهنا دليل سمعي يدل على أن العزم على الكفر كفر والعزم على الكبير كبير، صرنا اليه ، الا أنه لا بد مع ذلك من أن يكون عقاب العزم دون عقاب المعزوم عليه، وان اجتمعا في الكفر والكبير.

ووقع من بالحضرة السامية العادلة المنصورة من التقرير كذلك والخوض فيه كل دقيق غريب مستفاد ، وهذه عادتها جرى الله تعالى نعمتها في كل فن من فنون العلم والأدب ، لأنها ينتهى من التحقيق والتدقيق إلى غاية من لا يحسن الى (١) ذلك الفن ولا يقوم الا بذلك النوع.

وقال بعض من حضر : قد قيل في تأويل هذا الخبر وجهان حسنان ، فقلت له : أذكرهما فربما كان الذي عندي فيه مما استخرجته فقال :

أحدهما : يجوز أن يكون المعنى : ان نية المؤمن خير من عمله العاري من نية ، فقلت: لفظة «افعل» لا يدخل الا بين شيئين قد اشتركا في الصفة ، وزاد أحدهما فيها على الأخر. ولهذا لا يقول أحد ان العسل أحلى من الخل ، ولا أن النبي أفضل من المتنبي ، والعمل إذا عري من نية لا خير فيه ولا ثواب عليه ، فكيف تفضل النية الجميلة عليه وفيها خير وثواب على كل حال.

وقال الوجه الأخر : أن يكون نية المؤمن في الجميل خير من عمله الذي هو معصية ، فقلت : وهذا يبطل أيضاً بما بطل به الوجه الأول ، لأن المعصية لا خير فيها ، فيفضل غيرها عليها فيه.

وقالت الحضرة السامية تحقيقاً لذلك وتصديقاً هذا هجو لنية المؤمن ، والكلام

__________________

(١) خ ل : الا.

٢٣٢

موضوع على مدحها واطرائها ، وأي فضل لها في أن يكون خيراً من المعاصي وانما الفضل في أن تكون خيراً مما فيه خير.

فسئلت حينئذ ذكر الوجه الذي عندي ، فقلت : لا تحمل لفظه «خير» في الخبر على معنى «افعل» الذي هو للتفضيل والترجيح ، وقد سقطت الشبهة.

ويكون معنى الكلام : ان نية المؤمن من جملة الخير من أفعاله ، حتى لا يقدر مقدر أن النية لا يدخلها الخير والشر ، كما يدخل ذلك في الأعمال.

فاستحسن هذا الوجه الذي لا يحوج الى التعسف والتكلف اللذين يحتاج إليهما إذا جعلنا لفظة «خير» معناها معنى افعل.

وانقطع الكلام لدخول الوقت السعيد المختار لدخول البلد ونهوض الحضرة السامية أدام الله سلطانها للركوب ، وكان في نفسي أن أذكر شواهد لهذا الوجه ، ولواحق تقتضيها الكلام.

وخطر بعد ذلك ببالي (إن شاء الله) وجهان سليمان من الطعن إذا حملنا لفظة «خير» في الخبر على معنى الترجيح والتفضيل ، وأنا أذكر ذلك : أما شواهد ما استخرجته من التأويل من حمل لفظة «خير» على غير معنى التفضيل والترجيح فكثيرة.

وقد ذكرت ذلك في كتابي المعروف ب «الغرر» في تأويل قوله تعالى (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) من الكلام على هذا الوجه ما استوفيته ، وذكرت قول المتنبي :

أبعد بعدت بياضاً لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظلم

وأن الألوان لا يتعجب منها بلفظ «افعل» الموضوع للمبالغة ، وكذلك الخلق كلها ، وانما يقال : ما أشد سواده ، وان معنى البيت ما ذكره أبو الفتح عثمان بن جني من أنه أراد أنك أسود من جملة الظلم ، كما يقال : حر من الأحرار

٢٣٣

ولئيم من اللئام ، فيكون الكلام قد تم عند قوله «من الظلم».

واستشهد ابن جني أيضاً على صحة هذا التأويل بقول الشاعر :

وأبيض من ماء الحديد كأنه

شهاب بدا والليل داج عساكره

كأنه يقول : وأبيض كأن من ماء الحديد ، وقلت أنا :

يا ليتني مثلك في البياض

أبيض من أخت بني أباض

يمكن حمله على ما حملناه عليه بيت المتنبي ، كأنه قال : من جملة أخت بني اباض ومن عشيرتها وقومها ، ولم يرد المبالغة والتفضيل.

وهذا أحسن من قول أبي العباس المبرد لما أنشد هذا البيت وضاق ذرعاً بتأويله على ما يطابق الأصول الصحيحة أن ذلك محمول على الشذوذ والندران.

فان قيل : كيف يكون نية المؤمن من جملة أعماله على هذا التأويل والنية لا يسمى في العرف عملا ، وانما تسمى بالأعمال أفعال الجوارح ، ولهذا لا يقولون عملت بقلبي ، كما يقولون عملت بيدي ولا يصفون أفعال الله بأنها أعمال.

قلنا : ليس يمتنع أن يسمى أفعال القلوب أنها أعمال ، وان قل استعمال ذلك فيها. ألا ترى أنهم لا يكادون يقولون فعلت بقلبي ، كما يقولون فعلت بجوارحي وان كانت أفعال القلوب لا تستحق التسمية بالفعلية حقيقة بلا خلاف.

وانما لا تسمى أفعال الله تعالى بأنها أعمال ، لان هذه اللفظة تختص بالفعل الواقع من قدرة ، والقديم تعالى قادر لنفسه ، كما لا نصفه تعالى بأنه مكتسب ، لاختصاص هذه اللفظة بمن فعل لجر نفع أو دفع ضرر.

ثم لو سلمنا أن اسم الفعل (١) يختص بأفعال (٢) الجوارح ، جاز أن يطلق ذلك

__________________

(١) خ ل : العمل.

(٢) في الهامش : بفعل.

٢٣٤

على النية مجازاً واستعارة ، وباب التجوز أوسع من ذلك.

وأما الوجهان اللذان خطر ببالي ان قدرنا لفظة «خير» في الخبر محمولة على الفاضلة :

فأحدهما : أن يكون المراد نية المؤمن مع عمله خير من عمله العاري عن نية ، وهذا مما لا شبهة في أنه كذلك.

والوجه الثاني : أن يريد به نية المؤمن لبعض أعماله قد تكون خيراً من عمل آخر له لا تتناوله هذه النية. وهذا صحيح ، لأن النية لا تجوز أن تكون خيراً من عملها نفسها ، وغير منكر أن يكون نية بعض الأعمال الشاقة العظيمة الثواب أفضل من عمل آخر ثوابه دون ثوابها ، حتى لا يظن ظان أن ثواب النية لا يجوز أن يتساوى أو يزيد على ثواب بعض الاعمال.

وهذان الوجهان فيهما على كل حال ترك لظاهر الخبر ، لإدخال زيادة ليست في الظاهر ، والتأويل الأول إذا حملنا لفظة «خير» على خلاف المبالغة والتفضيل مطابق للظاهر وغير مخالف له.

وفي هذا كفاية بمشية الله وعونه.

٢٣٥
٢٣٦

(٤٢)

مسألة في علة مبايعة أمير المؤمنين عليه‌السلام أبا بكر

٢٣٧
٢٣٨

مسألة

[علة مبايعة أمير المؤمنين عليه‌السلام أبا بكر]

وسألوا أيضاً فقالوا : ليس يخلو أن يكون الله تعالى لما أمر بنصب أمير المؤمنين عليه‌السلام اماماً قد علم أنه قادر على ذلك أم لا؟

فان كان يعلم أنه قادر ولم (١) يفعل في ذلك ما يلزم محو شيء عندنا من هذه الحال ، وان كان يعلم أنه يعجز عما كلفه القيام به ، فقد كلفه ما لا قدرة له عليه وحمله ما لا يتحمله وحتمه ما لا يتمكن منه ولا يطيقه ، فتعالى الله عن كل قبيح علواً كبيراً.

وهذه النصوص عليه عليه‌السلام ألا دل على نفسه والاقدام مقاماً واحداً يذكرهم النص عليه ، بل روينا ورويتم أنه بائع أبا بكر ، فقلتم مكرهاً وقلنا طائعاً فهاتوا فصلا كشهرة هذه البيعة ووضوحها ، والا فقد أتيتم لنا فصلا لسنا نتبين لكم

__________________

(١) ظ : فلم لم.

٢٣٩

عليه علة.

والحاصل الان في أيدينا إيجابه لبيعه وإقراره بها وإجابته إليها وصحة وقوعها وليس ما أجمعتم عليه معنا كما فيها خالفتموننا ، فتولوا وأنصفوا واعلموا اننا [لا] نقبل منكم الا ما شاكل في الشهرة أمر البيعة.

الجواب وبالله التوفيق :

قال الشريف المرتضى علم الهدى (قدس الله روحه (: اعلم أنا قد بينا في الكتاب «الشافي» في الكلام ، وفي كتابنا المعروف ب «الذخيرة» في باب الإمامة منه الكلام في إظهار أمير المؤمنين عليه‌السلام مبايعة أبي بكر ، وكفه عن منازعته. ولا بد من ذكر جملة هاهنا يستغنى بها.

فنقول في ابتداء ما ذكر في هذه المسألة : من أن الله تعالى نص على أمير المؤمنين عليه‌السلام بالإمامة ، وتقسيم حاله في القدرة على القيام بها والعجز عنها أن الله تعالى ما كلفه القيام من الإمامة إلا بما يطيقه ويستطيعه وتفضل قدرته عليه ويزيد أضعافاً ، غير أن الفاعل وان كان قادراً فلا بد من وقوع الفعل [وان كان قادراً (١)] عليه على ما أوجبه الله واقتضاه الفعل (٢).

والسبب في أنه لا يدبر أمر الأمة ولم يتصرف فيهم كما أوجبه الله تعالى عليه ، أنهم منعوه من ذلك ، لأنهم عقدوا الإمامة لغيره ونقلوها في سواه ، وادعوا أنهم قد أجمعوا على امامة غيره ، وأن من خالفه وعصاه وتأخر عن بيعته مارق ولعصى الدين شارق ، وهذا منع كما تراه له عليه‌السلام من أن يفعل ما

__________________

(١) الظاهر زيادة الجملة.

(٢) خ ل : العقل.

٢٤٠