رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

وان كان هو الامام نفسه ، فلا يجوز من الامام وقوله الحجة في أحكام الشريعة أن يخلي سائر المكلفين من معرفة قوله ، وأن يسلبهم الطريق إلى إصابة الحق الذي لا يوجد إلا في مذهبه ، ويجب عليه إظهار قوله لكل مكلف حتى يتساوى من العلم به سماعا وإدراكا ومنقولا من جهة الخبر كل من يلزمه ذلك الحكم ولهذا القول ، متى علم الامام أن شيئا من الشرع قد انقطع نقله ، وجب عليه أن يظهر لبيانه ، ولا يسع له حينئذ التقية.

ولا فرق بين أن يخفى قوله وهو الحجة عن كثير من أهل التكليف حتى لا يكون لهم اليه طريق ، وبين أن يرتفع عن الجميع. فلا بد على هذا التقدير أن يوصل الامام قوله في الحوادث كلها الى كل مكلف ، ولا يجوز أن يختص بذلك بعض المكلفين دون بعض.

فقد برئنا من عهدة هذه الشبهة ، وصح لنا القطع على إجماع الإمامية والاحتجاج به، ولم يضر أن يكون للإمامي قول يخالف ما نحن فيه ، إذا فرضنا بعد مكانه وانقطاع الاخبار بيننا وبينه.

فأما الجواب عن هذه الشبهة التي يختص بها مخالفونا في الإمامة ، مع تعويلهم على الإجماع والاحتجاج به وحاجتهم الى بيان طريق يوصل اليه ، فهو أن يقولوا : قد علمنا على الجملة ان الإجماع حجة في الشريعة ، وأمرنا الله تعالى في كتابه وسنة نبيه عليه‌السلام بأن نعول عليه ونحتج به ونرجع اليه.

فكل طعن قدح في العلم به وشك في إساره (١) ، لا يجب الالتفات إليه ، لأن الله تعالى لا يوجب علينا الاجتماع بما لا طريق اليه والتعويل على ما لا يصح إقراره وثبوته فان كان قول لقائل ، لم يجب إيصاله بنا ولا نقله إلينا ، إما لبعد مسافة ، أو

__________________

(١) كذا في النسخة.

٢٠١

لغير ذلك ، فهو خارج عن الأقوال المعتبرة في الإجماع.

وانما تعبدنا في الإجماع بما يصح أن نعلمه ولنا طريق اليه ، وما خرج عن ذلك وما عداه فلا حكم له ووجوده كعدمه ، فنحن بين احالة القول يخالف ما عرفناه ورويناه واستقر وظهر ، وبين اجازة لذلك لا يضر في الاحتجاج بالإجماع إذا كان التعويل فيه انما هو على ما الى العلم به طريق وعليه دليل ، دون ما ليس هذه سبيله.

٢٠٢
٢٠٣

(٣٩)

مسألة في علة خذلان أهل البيت «ع» وعدم نصرتهم

٢٠٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الأجل المرتضى علم الهدى ذو المجدين (رضي الله عنه) :

ان سأل سائل فقال : إذا كنتم تزعمون أن علياً والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين عليهم‌السلام صفوة الله بعد نبيه وحجته على خلقه وأميناً على دينه ، فلم تمكن من قتلهم وظلمهم وأسلمهم وخذلهم ، ولا ينصرهم على أعدائهم ، حتى قتلوا بأنواع القتل؟ وظلموا بأفانين الظلم؟

قيل له : هذا سؤال الملحدة في نفي الربوبية وقبح العبادة ، وسؤال البراهمة في نفي النبوة وإبطال الرسالة.

أما الملحدة فنقول : لو كان للعالم خالق خلقه ومحدث أحدثه وابتدعه ، لم يمكن من جحده ومن عصاه ممن أطاعه ولمنعهم من قتلهم ولنصرهم ولم يسلمهم ، فإذا رأينا من يستمسك بطاعته والإقرار بربوبيته ، مخذولا ولا غير

٢٠٥

منظور ، وذليلا غير عزيز ، ومظلوماً مستضاماً ، ومقتولا مستهاناً ، علمنا أنه لا خالق لهم يمنع منهم ، ولا محدث يدفع عنهم.

وأما البراهمة فنقول مثل ذلك في الأنبياء عليهم‌السلام.

قيل : وما بالهم من أمرهم وجد بهم من أعدائهم حرفاً بحرف ، ومن كان ملحداً أو برهمياً فلا يسأل عن الأئمة وخلفاء الأنبياء ، فالرسل دون الأنبياء والرسل وسائر المؤمنين لأن الكل عنده فيما يلحقهم وينزل بهم سواء.

فان زعم هذا السائل أن يكون ملحداً أو برهمياً فلا يسأل الشيعة دون غيرهم من المقرين بالربوبية المثبتين للنبوة والرسالة ، ولا يخص الأئمة دون الأنبياء والرسل والمؤمنين لم يلزمه جواب الشيعة دون غيرهم ممن أقر بالربوبية وأثبت النبوة والرسالة ولم يكن لتخصيصه السؤال على الأئمة وجه ولا فائدة.

وان تبرأ من الملحدة وانتفى من البراهمة وأقر بالربوبية وصدق بالنبوة والرسالة ، قيل له : فخبرنا عن أنبيائه ورسله وأتباعهم من المؤمنين ، لما مكن الله تعالى من قتلهم وظلمهم ، ولما خذلهم ، ولم ينصرهم حتى قتلوا وظلموا.

فإن أجاب إلى الإقرار بذلك والتصريح بأن الله تعالى مكن أعداءه من الكفار والمشركين من قتل أنبيائه ورسله وأهاليهم ، ولم ينصرهم بل نصر أعداءهم عليهم. فارق بهذا الإقرار بذلك والتصريح بأن الله بأن الله تعالى مكن أعداءه من الكفار والمشركين من قتل أنبيائه ورسله وأهاليهم ، ولم ينصرهم بل نصر أعداءهم عليهم. فارق بهذا الإقرار والتصريح ظاهر كتاب الله تعالى ، إذ يقول (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)(١).

وفارق إجماع الأمة ، بل كل من أقر بالنبوة [لا] يقدم على القول بأن الله

__________________

(١) سورة غافر : ٥١.

٢٠٦

تعالى خذل أنبياءه ونصر أعداءه ، بل الكل قائل بأن الله تعالى ناصر بأنبيائه وأوليائه ومانع عنهم وخاذل لعدوهم.

وان امتنع الإقرار بذلك والتصريح به وقال : انهم مع قتلهم والظلم لهم منصورون مؤيدون.

قيل لهم : أفليس قد ثبت بهذا الإقرار منك أن القتل والظلم لا يوجب القول بأن الله مكن من قتل أنبيائه ، وأنه خذل رسله ولم ينصرهم ، وان قتلهم أعداؤهم وظلموهم.

فإذا قال : نعم.

قيل : فهلا سوغت مثل ذلك فيما جرى على الأئمة عليهم‌السلام من القتل والظلم ، وأنه غير مبني عن التمكين منهم والخذلان لهم ، وجعلت ما نالهم من القتل والظلم من أعدائهم كالذي نال الأنبياء والرسل من أعدائهم في أنه غير موجب للتمكين منهم والخذلان لهم.

فان قال : من ذكرتموه من الأنبياء والرسل لما قتلوا أو ظلموا أهلك الله قاتلهم واستأصل ظالمهم ، فعلم بذلك أنه غير متمكن منه وخاذل لهم.

قيل له : أول ما يسقط ما ذكرته أنه تعالى لم يهلك جميع من قتل الأنبياء ، ولا استأصل ظالمهم ، فعلم بذلك أنه غير متمكن منه وخاذل لهم.

قيل له : أول ما يسقط ما ذكرته أنه تعالى لم يهلك جميع من قتل الأنبياء ، ولا استأصل كل من ظلمهم ، بل الذي أهلك منهم قليل من كثير ، لانه لو أثر ذلك لكان ملجئاً ، ولبطل التكليف الذي أو كد شروطه التخيير ، وتردد الدواعي المنافي للإلجاء.

وأيضاً فإن الهلاك والاستيصال لمن أهلكه استأصله ليس يمنع من قتل الأنبياء عن قتلهم ، ولا حيلولة بينهم وبين من ظلمهم ، وكيف يكون الهلاك المتأخر عن القتل والظلم منعاً مما تقدم وجوده وحيلولة بينه وبينه ، والمنع

٢٠٧

والحيلولة من حقهما ان يستحيل (١) لمكانهما ووجود ما هما مانع وحيلولة منه. وبهذا الحكم ينفصل مما ليس بمنع ولا حيلولة ، وانما لمن هو حل بالهلاك والاستيصال بعض ما يستحقه من العقاب على وجه يقتضيه المصلحة ولا ينافي التكليف ، فأما أن يكون منعاً وحيلولة فلا ، وجرى في ذلك مجرى الحدود من أنها تقدم بعض المستحق للمصلحة ، والردع الذي يختلف بحسب المكلفين دواعيهم وصوارفهم.

على أن هذا السائل يجب عليه ان يكف عن إطلاق ما ألزمناه فيمن عوجل قاتله وظالمه من الأنبياء والرسل والمؤمنين ، ويصرح بهم فيما لم يعاجل قاتله وظالمه منهم ، بأن الله تعالى خذله أو سلمه ، ولا فرق بين الكل والبعض في ذلك ، وأن التصريح به خروج عن الإسلام.

على أن الله تعالى لم يستأصل من ظلم خير أنبيائه وأشرف رسله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيجب أن يكون تعالى قد خذله ولم ينصره وأسلمه ولم يمنع منه ، وإطلاق ذلك من أقبح الكفر وأعظم الفرية على الله جل اسمه.

فبان بما ذكرناه أن ما سأل عنه غير متوجه إلى الشيعة ويختص بأعينهم ، بل هو سؤال الملحدة والبراهمة لكل من أقر بالربوبية وصدق بالنبوة والرسالة وهذه عادة من خالفهم في استعارة ما يسأل عنه الملحدة ومن فارق الإسلام والملة إذا أرادوا سؤالهم.

فإن قال قائل : فلم لم يعاجل بالعقاب من قتل أئمتكم وعترة نبيكم ، كما عاجل من تقدم.

قيل له : هذا أيضاً سؤال لا يتوجه إلى الشيعة دون من خالفهم من فرق الأمة ،

__________________

(١) في الهامش : يستحل.

٢٠٨

لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ظلم بأنواع الظلم من اخافة وسب وحصر وقتل أقاربه ، والتنكيل بعمه حمزة عليه‌السلام بعد القتل ، وما تخصه في نفسه من ادماء جبينه وكسر رباعيته ، الى غير ذلك من الأمور التي جرت عليه وعلى أقاربه وأصحابه ، ولم يعاجل أحد منهم بالعقاب.

وقد عوجل عاقر ناقة صالح مع أن قدرها وقدر كل حيوان غير مكلف لا يوازن عند الله قدر أقل المؤمنين ثواباً.

فأي جواب أجاب به جميع المسلمين عما نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونال أقاربه وأصحابه ولم يعاجل من نال منه ومنهم؟ فهو جواب الشيعة عن سؤال من يسألهم عن أئمتهم وقرة عينهم وما نالهم من القتل والظلم.

فان قال : فما الجواب لمن يسأل عما نال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقاربه وأصحابه وما نال خلفاءه من بعده وعترته وهي المعاجلة بالعقاب؟

قيل له : الجواب عن ذلك أن الله تعالى خص نبينا بأمور شرفه بها وكرمه على سائر من تقدم من الأنبياء والرسل ، من جملتها أمان أمته إلى قيام الساعة من المعاجلة بالهلاك والعقاب ، وهذا معلوم من دعوته كما نعلم إكرامه بالشفاعة والحوض والمقام المحمود واللواء ، وانه أول من ينشق عنه الأرض ، وتأييد شرعه ورفع النبوة بعده.

وبمثل هذا أجيب ابن الراوندي وغيره من الملحدة (خذلهم الله) لما سألوا عن قوله تعالى (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)(١) فالآيات هاهنا الاعلام والمعجزات.

قالوا : وهذا القول ينبئ عن المناقضة أو السهو ، لان تكذيب من تقدم لا

__________________

(١) سورة الإسراء : ٥٩.

٢٠٩

يمنع من قيام الحجة علينا والازاحة لعلمنا ، فكيف يعلل بالمنع لنا بما يخش وتكلفنا بأن غيرنا كذب ولم يصدق وخالف ولم يجب ، وهذا بعيد من القول.

على أنه قد ادعى ظهور الاعلام عليه وفعل المعجزات على يده ، كالقرآن وغيره من مجيء الشجرة ، وتسبيح الحصى ، وحنين الجذع ، وإطعام الخلق الكثير حتى شبعوا ، وسقيهم حتى ارتووا من القليل من الطعام واليسير من الشراب ، فلو لم يمنع تكذيب الأولين إظهار ما ادعاه من الاعلام والمعجزات.

قيل لهم : الاعلام التي تظهر على أيدي الأنبياء والرسل ينقسم على ما يظهرها الله تعالى للدلالة على صدقهم حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتوجبه إزاحة العلة كسائر الأدلة التي نصبها والتمكين من النظر فيها ، فالمخالف لها والمعادل عن التكليف الى ما تقترحه الأمم عمن بعث إليهم بعد إظهار ما تقتضيه الحكمة وتوجيه المصلحة من إزاحة العلة، فحكم الله وتعالى في التكذيب بها بعد إظهارها والعدول عن تصديقها المعاجلة ببعض ما يستحق عن العقاب.

فكان تقدير الكلام : وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة الا أن كذب بها الأولون بتعجيل بعض ما يستحقونه من العقاب.

وقد وعدنا رسولنا وشرفنا بأمور :

منها أن تستأصل أمته ولا تعاجلها بالعقاب ، وقد ذكر الله تعالى ما اقترح على رسوله، فقال (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) الى قوله (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)(١).

__________________

(١) سورة الإسراء : ٩٠ ٩٢.

٢١٠

فإن قال : قدمتم الجواب لمن وافقكم في الإقرار بالصانع والتصديق للنبوة ، فما الجواب للملحدة والبراهمة؟

قيل له : الجواب لهم أن التمكين يعتبر فيه قصد الممكن وغرضه دون ما يصلح له ما مكنه به من الافعال ، يبين ذلك أنه لو لم يعتبر فيه ما ذكرنا لم نجد في العالم ممكناً من قتل عدوه دون نفسه ووليه ، لانه لا شيء يتمكن به من سلاح وجند وسائرها يقوى به الا هو يصلح لقتله وقتل وليه ، كما يصلح لقتل عدوه.

وكذلك الحال فيما تمكن به من طاعته وامتثال أوامره من الأموال والآلات ، في أنه لا يصلح لمعصيته وارتكاب ما نهى عنه ، كما يصلح لطاعته وامتثال أمره.

وفي علمنا بأن الممكن منا قد يكون ممكناً من عدوه دون نفسه ووليه من طاعته دون معصيته ، وأن الجاحد لذلك متجاهل دافع لما يعلم بالاضطرار دلالة على وجوب اعتبار قصد الممكن وغرضه ، دون ما يصلح له ما مكن به.

وإذا ثبت هذا وجب اعتبار حال الممكن ، فان كان قصد بما مكن الحسن دون القبيح. قيل له : مكن من الحسن دون القبيح ، وان كان ما مكن به يصلح القبيح وكذلك ان كان قصده بما مكن وغرضه القبيح دون الحسن قيل له : انه مكن من القبيح دون الحسن ، وان كان ما مكن به يصلح للحسن.

ومتى لم يعتبر هذا الاعتبار ، خرج في المعنى من الإطلاق في اللغة والعرف والمعقول ، ولزم أن لا يكون في العالم من يطلق عليه التمكين من الحسن دون القبيح ، والطاعة دون المعصية ، والنصرة دون الخذلان ، وفي هذا ما قدمناه من التجاهل.

وإذا وجب اعتبار القصد والغرض في التمكين ، وجب الرجوع الى حال

٢١١

الممكن ، دون الرجوع الى حال ما تمكن به ، فان علم من قصده وغرضه وان لم يعلم ضرورة استدل بحال الممكن وبما يتبع ما مكن به من أمر ونهي وترغيب ودعاء وحث ووعد ، الى غير ذلك مما ينبئ عن قصده ويوضح عن غرضه ، ويتبع الإطلاق والوصف له.

وقد ثبت أن الله تعالى لا قصد له الى القبيح ، فلا غرض له فيه ، لانه عالم بقبحه ونفيناه عنه ، ولمقارنة الأمر والترغيب والدعاء والحث والزجر والوعد بالثواب للواجبات والمحسنات ، ولمقارنة النهي والتخويف والزجر والوعيد للمقبحات ، علم أنه مكن من الطاعات دون المعصية ، وجب إطلاق ذلك دون غيره.

فان قيل : فهلا مكن تعالى بما يصلح للطاعة دون المعصية والايمان دون الكفر والحسن دون القبح.

قيل له : هذا خلف من القول وتناقض في المعنى ، لان ما مكن به يصلح لجميع ذلك لنفسه وعيد (١) ، ولانه لو اختص بالشيء دون تركه وخلافه ، لكان الممكن مطبوعاً.

ولو كان مطبوعاً لم يصح الوصف لفعله بالحسن والقبح والطاعة والمعصية والايمان والكفر ، كما لا يصح ذلك في إحراق النار وبرد الثلج وهد الحجر وجريان الماء [و] لبطل التكليف والأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب ، لان جميع هذه الاحكام يثبت مع الإيثار والتخير ، ويرتفع مع الطبع والخلقة وزوال التخير.

فلا بد على هذا من تعلق التمكين بالفعل وتركه وخلافه وضده ، ليصح

__________________

(١) كذا.

٢١٢

الإيثار والتخير ويطابق ما يقتضيه الحكم من حسن التكليف وتوجه المدح والثواب الى المطيع واستحقاقه لهما ، فهو الجواب عن التمكين.

وقد بان به أن الله تعالى لم يمكن من قتل أنبيائه ورسله وخلفائهم والمؤمنين من أممهم ، لانه جل اسمه نهى عن ذلك وزجر عنه وتواعد عليه بأليم العقاب وأمرنا باتباعهم وطاعتهم [و] الانقياد لهم والذب عنهم ، فرغب فيه ودعا اليه ووعد عليه بجزيل الثواب.

فأما المنع عنهم والنصرة لهم تسقم (١) أيضاً الى منع ونصرة يزول معها التكليف والأمر والنهي والترغيب والزجر والثواب والعقاب ، وهو ما أدى الى الإلجاء وينافي التخير والإيثار.

فهذا الضرب من المنع والنصرة ، لا يجوز أن يفعله تعالى مع التكليف ، لمنافاته الحكمة ، ومباينته لما تقتضيه المصلحة وحسن التدبير ، والى منع ونصرة يلائم التكليف والأمر والنهي والترغيب والزجر والثواب والعقاب ، ويثبت معه التخيير والإيثار ، وهو النصرة بإقامة الأدلة ونصب البراهين والأمر بنصرتهم والجهاد دونهم والطاعة لهم والذب عنهم والمنع بالنهي عن مخالفتهم والموالاة لأعدائهم ، وهذا مما قد فعل الله تعالى منه الغاية التي لا يبلغها تمن (٢) ولا يدركها طلب.

فان قال : فقد ظهر من أئمتكم الدعاء على من ظلمهم وغصب حقهم وجحدهم مقامهم ، ونال منهم بالقتل والأذى ، فلم يستجب الله لهم ولم يسمع دعاءهم ، وفي ذلك وهن لهم وحط من قدرهم وتنفير عنهم.

__________________

(١) كذا.

(٢) ظ : شيء.

٢١٣

قيل له : ليس الأمر كما ظننت في دعائهم عليهم‌السلام لو اجتهدوا في الدعاء والطلب وسألوا الله تعالى هلاك الأرض ومن عليها لأجيبوا ، بل كانوا عليهم‌السلام عارفين بالدنيا وصغر قدرها بالإضافة الى ما أعد الله لهم في الآخرة ، فلم يكن لها عندهم محل ولا بشيء منها في نفوسم وزن.

وكيف لا يكونوا كذلك؟ مع علمهم بالله جل وعلا ، وما أعد لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب ، وأنهم من أشرف أوليائه الذين اجتباهم واصطفاهم ، وجعلهم الواسطة بينه وبين خلقه ، والأمناء عليهم ، والحفاظ لدينهم ، فهم القدوة ، وإليهم المفزع من سائر البشر ، وأن أعداءهم أعداء الله الذين لعنهم وغضب عليهم وأعد لهم أعظم العقاب وأشد العذاب.

فقلوبهم مملوة بالمعرفة لخالقهم ، وما يقرب اليه ويزلف لديه من الطاعة له والخوف من مخالفته ، والقيام بعباداته. ليس سوى ذلك فيها مكان ، ولا لغير ما يثمر الفوز والنجاة عليها مجال ، ولذلك وجب الحكم بعصمتهم ونزاهتهم وطهارتهم ، حتى قال تعالى فيهم ولقد اصطفيناهم (عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ)(١).

فإذا ثبت هذا من حالهم ، كان الدعاء منهم يحتمل أموراً :

منها : تعليم أممهم ورعاياهم كيف يدعون ويسألون إذا نابتهم النوائب ونزلت بهم الشدائد ، ولا يقصدون بذلك سوى تعليمهم والبيان لهم.

ومنها : الانقطاع الى الله تعالى والخضوع له ، كما ينقطع اليه من لا يستحق العقاب بالتوبة والاستغفار ، ويخضع له بذلك ، وكالدعاء لله تعالى بأن يحكم بالحق وان لم يكن مثله، لمكان اليقين أنه لا يحكم الا بالحق والقطع عليه ، كما لا يحسن المسألة له بأن يطلع الشمس ويغربها لمكان العلم بذلك والقطع

__________________

(١) سورة الدخان : ٣٢ ، والآية (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) إلخ.

٢١٤

عليه.

ومنها : المسألة لأتباعهم وشيعتهم ، إذا اقتضت الحكمة والمسألة لهم ، وتعلق كون ما يفعل بهم صلاحاً إذا فعل لأجل المسألة والدعاء ، ومتى لم تكن المسألة والدعاء لم يكن فعله صلاحاً.

وهذا وجه صحيح في الألطاف والمصالح ، وبذلك وردت الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سعة الرزق عند الدعاء ، وطول العمر عند البر للوالدين ، ودفع البلاء عند الصدقة.

الى غير ذلك مما تكون المصلحة فيه مشروطة بتقديم غيره عليه ، كقوله عليه‌السلام حصنوا أموالكم وداووا أمراضكم بالصدقة ورد البلاء بالدعاء والاستغفار ثابتة والتوبة وجب حمل ما ظهر منهم من الدعاء على هذه الوجوه دون المسألة لهم فيما يتعلق بأمور الدنيا والطلب لمنافعها ودفع مضارها فيما يرجع اليه (١) خاصة ، إذ لا قدر لها عندهم ولا وزن لها في نفوسهم على ما بيناه.

فان قال : فإذا لم يتضمن دعاؤهم المسألة والوصف ، فما معنى الوصف له بأنه يستجاب ولهم بأنهم مستجابو الدعاء؟.

قيل له : عن ذلك أجوبة :

أحدها : أنا قد بينا ان من دعائهم ما هو مسألة وطلب لما يتعلق بمصالح أتباعهم وتدبير شيعتهم ، وأن لم تكن مسألة وطلباً فيما يرجع إليهم ، فلأجل دعائهم.

[وثانيها] : قد يتضمن دعاؤهم المسألة والطلب لثواب الآخرة وعلوا المنازل فيها ، فالاجابة واقعة بإعطاء ما سألوا وتوقع ما طلبوا.

__________________

(١) ظ : إليها.

٢١٥

وثالثها : أن ما لم يكن من دعائهم مسألة وطلب ، وأن الإجابة له الإنابة عليه ، لمكان الانقطاع والخضوع والتعليم والأداء ، فلما كان مثمراً لغاية المنافع وأجلها كان مستجاباً ، لان معنى الإجابة حصول النفع ودفع الضرر لأجل الدعاء.

فقد ثبت بهذه الوجوه الجواب عما تضمنه السؤال والزيادات فيه. والحمد لله رب العالمين.

٢١٦
٢١٧

(٤٠)

أقاويل العرب في الجاهلية

٢١٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

حكى أبو عيسى الوراق في كتابه «كتاب المقالات» أن العرب صنوف شتى :

صنف أقر بالخالق وبالابتداء والإعادة ، وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام ، زعموا لتقربهم الى الله زلفى ومحبراً إليها ، ونحروا لها الهدايا ، ونسكوا لها النسائك ، وأحلوا لها وحرموا.

ومنهم صنف أقروا بالخالق وبابتداء الخلق ، وأنكروا الإعادة والبعث والنشور.

ومنهم صنف أنكروا الخالق والبعث والإعادة ، ومالوا الى التعطيل والقول بالدهر ، وهم الذين أخبر القرآن عن قولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ).

ومنهم صنف مالوا إلى اليهودية ، وآخر إلى النصرانية.

٢١٩

قال : وممن كان يقر بالخالق وابتداء الخلق والإعادة والثواب والعقاب ، عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الأيادي النزاري.

وكان عبد الملك يوصي ولده بترك الظلم ، ويأمرهم بمكارم الأخلاق ، وينهى عن .. وكان بدئياً يقول في وصاياه : انه لم يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه ويصيبه عقوبة ، الى أن هلك رجل ظلوم ومات حتف أنفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب ذلك ، ففكر ثم قال : فو الله ان وراء هذه الدار داراً يجزي المحسن بإحسانه والمسيء يعاقب على إساءته.

ومما دل على إقراره بالإعادة قوله وهو يضرب بالقداح على عبد الله ابنه أبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الإبل :

يا رب أنت الملك المحمود

وأنت ربي المبدئ المعيد

والعبد عبدك الطارف والتليد

في ارجوزة طويلة.

وقد زعم بعض الناس أن عبد المطلب لم يعبد صنماً ، وأنه كان موحداً حنيفاً على ملة إبراهيم ، وكذلك كان أبو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فأما زيد بن عمرو بن نفيل ، فكان يسند ظهره إلى الكعبة ، ثم يقول : أيها الناس هلموا إلى ، فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري. وسمع أمية بن أبي الصلت يوماً ينشد :

كل يوم دين القيامة عند الله لا دين الحنفية دور

فقال : لا صدقت. وقال زيد :

فلن يكون لنفسي منك واقية

يوم الحساب إذا ما يجمع البصر

٢٢٠