شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

تمسك الأولون بوجوه :

أحدها : وهو العمدة ، أن العين جسم صقيل نوراني (١) ، وكل جسم كذلك ، إذا قابله كثيف ملون ، انطبع فيه شبحه كالمرآة. أما الكبرى فظاهرة ، وأما الصغرى فلما يشاهد من النور في الظلمة ، إذا حك المنتبه من النوم عينه ، وكذا عند إمرار اليد على ظهر الهرة السوداء ، ولأن الإنسان إذا نظر نحو أنفه قد يرى عليه دائرة من الضياء ، وإذا انتبه من النوم ، قد يبصر ما قرب منه زمانا ، ثم يفقده ، وذلك لامتلاء العين من النور في ذلك الوقت ، وإذا غمض إحدى العينين ، يتسع ثقبة العين الأخرى ، وما ذاك إلا لأن جوهرا نورانيا يملأه ، ولأنه لو لا انصباب الأرواح النورانية من الدماغ إلى العين ، لما جعلت ثقبتا الإبصار مجوفتين ، وهذا بعد تمامه ، إنما يفيد انطباع الشبح لا يكون الإبصار به.

وثانيها : أن سائر الحواس إنما تدرك بأن يأتي صورة المحسوس إليها ، لا بأن يخرج منها شيء إلى المحسوس ، فكذا الإبصار. وردّ بأنه تمثيل بلا جامع.

وثالثها : أن من نظر إلى الشمس طويلا ، ثم أعرض عنها تبقى صورتها في عينه زمانا ، وردّ بأن الصورة في خياله ، لا عينه ، كما إذا أغمض العين.

ورابعها : أن الشيء بعينه إذا قرب من الرائي يرى أكبر (٢) مما إذا بعد عنه ، وما ذاك إلا لأن الانطباع على مخروط من الهواء المشف ، رأسه متصل بالحدقة وقاعدته سطح المرئي ، حتى أنه وتر لزاوية المخروط ، ومعلوم أن وتر الزاوية كلما

__________________

(١) يقول العلم الحديث : تتألف العين من ثلاث طبقات مرتبة من الخارج للداخل.

١ ـ الصلبة : وهي طبقة مكونة من أنسجة ضامة صلبة بيضاء اللون وتقوم هذه الطبقة على حملة العين ، وتمتد الصلبة إلى الأمام لتكون طبقة رقيقة شفافة تدعى بالقرنية.

٢ ـ المشيمية : طبقة تنتشر فيها الشعيرات الدموية التي تغذي العين ولون هذه الطبقة أسود لا حراء خلاياها على صبغة سوداء وتمتد المشيمية إلى الإمام لتكون القزحية الملونة. ويوجد في وسط القزحية ثقب دائري ينفذ منه الضوء يسمى إنسان العين أو البؤبؤ ٣ ـ الشبكية : تعتبر امتدادا للنسيج العصبي المكون للعصب البصري وتبطن العين من الداخل بشكل غشاء والشبكية طبقة من خلايا عصبية حسية متخصصة لاستقبال الضوء.

(٢) في (ب) اكثر بدلا من (اكبر)

٢٨١

قرب من الزاوية ، كان الساق أصغر (١) ، والزاوية أعظم ـ وكلما بعد فبالعكس ، والشبح الذي في الزاوية الكبرى ، أعظم من الذي في الصغرى ، وهذا إنما يستقيم إذا جعلنا موضع الإبصار هو الزاوية على ما هو رأي الانطباع ، لا القاعدة على ما هو رأي خروج الشعاع فإنها لا تتفاوت.

وردّ بأن لا نسلم أنه لا سبب سوى ذلك. كيف وأصحاب الشعاع أيضا يثبتون سببه ، على أن استلزام عظم زاوية الرؤية ، عظم المرئي. وصغرها صغره محل نظر وإلى ما ذكرنا من وجوه الرد أشار بقوله وهو ضعيف.

تمسك القائلون بالشعاع أيضا بوجوه :

أحدها : أن من قل شعاع بصره ، كان إدراكه للقريب أصح من إدراكه للبعيد ، لتفرق الشعاع في البعيد ، ومن كثر شعاع بصره مع غلظه (٢) ، كان إدراكه للبعيد أصح ، لأن الحركة في المسافة الطويلة تفيده رقة وصفاء ، ولو كان الإبصار بالانطباع لما تفاوت الحال.

وثانيها : أن الأجهر (٣) يبصر بالليل دون النهار ، لأن شعاع بصره لقلته يتحلل نهارا بشعاع الشمس ، فلا يبصر ، ويجتمع ليلا فيقوى على الإبصار ، والأعشى بالعكس ، لأن شعاع بصره لغلظه لا يقوي على الإبصار ، إلا إذا أفادته الشمس رقة وصفاء.

وثالثها : أن الإنسان إذا نظر إلى ورقة قرأها كلها ، لم يظهر له منها إلا السطر الذي يحدق نحوه البصر ، وما ذاك إلا بسبب أن مسقط سهم مخروط الشعاع أصح إدراكا من جوانبه.

ورابعها : أن الإنسان يرى في الظلمة كأن نورا انفصل من عينه ، وأشرق على

__________________

(١) في (ب) أقصر بدلا من (أصغر)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (غلظه)

(٣) الأجهر : الذي لا يبصر في الشمس يقال : كبش أجهر بين الجهر ونعجة جهراء قال أبو العيال الهذلي :

جهراء لا تألو إذا هي أظهرت

بصرا ولا من عيلة تغنيني

وجهرنا الأرض : سلكناها من غير معرفة. وجهرنا بني فلان أي صبحناهم على غرة.

والمجاهرة بالعداوة : المبادأة بها

٢٨٢

أنفه ، وإذا غمض عينيه على السراج ، يرى كأن خطوطا شعاعية ، اتصلت بين عينيه والسراج.

والجواب : عن الكل أنها لا تدل على المطلوب. أعني كون الإبصار بخروج الشعاع ، بل على أن في العين نورا ، ونحن لا ننكر أن في آلات الإبصار أجساما شعاعية مضيئة ، تسمى بالروح الباصرة ، يرتسم منها بين العين والمرئي مخروط وهمي ، يدرك المرئي من جهة زاويته التي عند الجليدية تشتد حركتها عند رؤية البعيد ، فيتحلل لطيفها ، ويفتقر إلى تلطيف إذا غلظ ، وتكثيف إذا ضعف ، ورق فوق ما ينبغي ، ويحدث منها في المقابل ، القابل أشعة وأضواء تكون قوتها فيما يحازي مركز العين الذي هو بمنزلة الزاوية للمخروط الوهمي ، ولشدة استنارته تكون الصورة المطبعة (١) فيه أظهر ، وإدراكه أقوى وأكمل ، ويشبه أن يكون هذا مراد القائلين بخروج الشعاع تجوزا منهم على ما صرح به ابن سينا ، وإلا فهو باطل قطعا. أما إذا أريد حقيقة الشعاع الذي هو من قبيل الأعراض فظاهر ، وإن أريد جسم شعاعي يتحرك من العين إلى المرئي ، فلأنا قاطعون بأنه يمتنع أن يخرج من العين جسم ينبسط في لحظة على نصف كرة العالم ، ثم إذا أطبق (٢) الجفن عاد إليها ، أو انعدم ، ثم إذا فتحه خرج مثله وهكذا ، وإن يتحرك الجسم الشعاعي من غير قاسر ولا إرادة إلى جميع الجهات ، وأن ينفذ في الأفلاك ويخرقها ليرى الكواكب ، وأن لا يتشوش بهبوب الرياح ، ولا يتصل بغير (٣) المقابل ، كما في الأصوات حيث تميلها الرياح إلى الجهات ، ولأنه يلزم أن يرى القمر قبل الثوابت بزمان يناسب تفاوت المسافة بينهما ، وليس كذلك ، بل ترى الأفلاك بما فيها من الكواكب دفعة وأيضا يلزم أن يرى ما في الخزف لكثرة المسام فيه ، بدليل الرشح دون ما في الزجاج أو الماء ، ولو كان رؤية ما فيهما من جهة المسام ، لوجب أن يكون بقدرها من غير أن يرى (٤) الشيء بمجموعه ، وبمثل هذه الأدلة والأمارات

__________________

(١) في (أ) المطبعة بدلا من (المطبقة)

(٢) في (أ) اطلق بدلا من (أطبق)

(٣) في (ب) بعين بدلا من (بغير)

(٤) سقط من (أ) لفظ (يرى)

٢٨٣

يمكن إبطال (١) القول ، بأن الإبصار بتكيف الهواء بشعاع العين واتصاله بالمرئي.

[قال (هذا والقول بخروج الشعاع) :

بمعنى وقوعه من العين على المبصر كما في النيرات مما اختاره كثير من المحققين ، وبنوا عليه رؤية الشيء من القرب ، وفي الماء أعظم ، ورؤية الواحد اثنين ، ورؤية الشجر في الماء منعكسا ، إلى غيره ذلك من التفاصيل المستوفاة في علم المناظر].

يريد أن علم المناظر والمرايا فن على حدة ، اعتنى به كثير من المحققين ، وبنوا الكلام فيه على خروج الشعاع ، بمعنى وقوعه من العين (٢) على المرئي ، كما يقع من الشمس والقمر وسائر الأجسام المضيئة على ما يقابلها على هيئة مخروط رأسه عند المضيء ، وقاعدته عند المرئي ، فيرى الشيء إذا بعد أصغر مما إذا قرب ، لان المخروط يستدق ، فتضيق زواياه التي عند الباصرة (٣) ، وتضيق لذلك (٤) الدائرة التي عند المبصر ، وكلما ازداد الشيء بعدا ، ازدادت الزوايا والدائرة صغرا ، إلى أن ينتهي في البعد إلى حيث لا يمكن الإبصار ، ويرى الشيء في الماء أعظم منه في الهواء ، لان الشعاع ينفذ في الهواء على استقامة ، وأما في الماء فبعضه ينفذ مستقيما ، وبعضه ينعطف على سطح الماء ، فلم ينفذ إلى المبصر ، فيرى بالامتداد الشعاعي النافذ مستقيما ومنعطفا معا من غير تمايز ، وذلك إذا قرب المرئي من سطح الماء ، وأما إذا بعد فيرى في موضعين ، لكون رؤيتهما (٥) بالامتدادين المتمايزين ، وكذا إذا غمزنا إحدى العينين ونظرنا إلى القمر ، نراه قمرين ، لأن الامتداد الشعاعي الخارج منها ، ينحرف عن المحاذاة ، فلا يلتقي مؤدي الامتدادين في الحس المشترك على موضع واحد ، بل موضعين ، فيرى المرئي اثنين ، وهكذا في

__________________

(١) في (أ) بزيادة لفظ (إبطال)

(٢) في (ب) سقط لفظ (من العين)

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (الباصرة)

(٤) سقط من (ب) لفظ (لذلك)

(٥) في (أ) رؤيته بدلا من (رؤيتهما)

٢٨٤

الاحول ، وفيما إذا وضعنا السبابة والوسطى على العين (١) مع الاختلاف في الوضع ، ونظرنا إلى السراج فإنا نراه اثنين ، وكذا إذا نظرنا إلى الماء عند طلوع القمر ، فإنا نرى في الماء قمرا بالشعاع النافذ فيه ، وفي السماء قمرا بالشعاع المنعكس من سطح الماء إلى السماء ، ومن هذا القبيل (٢) رؤية الشيء في المرآة ، وذلك أن الشعاع الممتد من الباصرة إلى الجسم الصقيل (٣) ينعكس منه إلى جسم آخر ، وضعه من ذلك الصقيل كوضع الباصرة منه ، بشرط أن تكون جهته مخالفة لجهة الرائي. وأما السبب في رؤية الشجر على شط النهر منتكسا ، فهو أن الشعاع إذا وقع على سطح الماء ينعكس منه إلى رأس الشجر من موضع أقرب إلى الرائي ، وإلى أسفله من موضع أبعد من الرائي ، إلى أن تتصل قاعدة الشجرة بقاعدة عكسه ، والنفس لا تدرك الانعكاس ، لتعودها برؤية الأشياء على استقامة الشعاع ، فتحسب الشعاع المنعكس نافذا في الماء ، فترى رأس الشجر أكثر نزولا في الماء لكونه أبعد منه ، وباقي أجزائه على الترتيب إلى قاعدة الشجر ، فيرى منتكسا ، وبيان ذلك بالتحقيق في علم المناظر.

[قال (وقد يشترط في الإبصار) :

بعد سلامة الحاسة ، وقصد المبصر ، وحضور المبصر ، كونه كثيفا مضيئا مقابلا ، أو في حكمه من غير حجاب ، ولا إفراط قرب أو بعد أو صغر أو بسبب غلظ ، ويدعى لزوم حصوله عند حصول الشرائط ، وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة. وردّ بأن نفي ذلك من العلوم العادية].

زعمت الفلاسفة وتبعهم المعتزلة أن الإبصار يتوقف على شرائط يمتنع حصوله بدونها ، ويجب حصوله معها.

__________________

(١) في (ب) الملموس بدلا من (العين)

(٢) سقط من (ب) لفظ (القبيل)

(٣) الصقل بالضم : الخاصرة ، والصقلة مثله ، وقلما طالت صقله فرس إلا قصر جنباة وذلك عيب.

وصقل السيف وسقله أيضا صقلا وصقالا أي جلاه فهو صاقل والجمع صقلة.

والصقيل : السيف : والمصقلة : ما يصقل به السيف ونحوه.

٢٨٥

أما الأول : فلأنا نجد بالضرورة انتفاء الرؤية عند انتفاء شيء من تلك الشرائط. وردّ. بأن العدم لا يدل على الامتناع.

وأما الثاني : فلأنه لو جاز عدم الإبصار معها ، لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ، ورياض رائقة ، ونحن لا نراها واللازم باطل قطعا.

وردّ بأنه إن أريد باللازم ، إمكان ذلك في نفسه فلا نسلم (١) بطلانه ، وإن أريد الاحتمال ، والتجويز العقلي بحيث لا يكون انتفاؤه معلوما عند العقل على سبيل القطع ، فلا نسلم (٢) لزومه. فإن ذلك من العلوم العادية على ما سبق تحقيقه.

ومنهم من قال : إن اشتراط هذه الشروط ، إنما هو عند تعلق النفس بالبدن ، هذا التعلق المخصوص ، أو كون الباصرة (٣) على هذا القدر من القوة ، لا على حد آخر فوقه ، كما في الآخرة ، قال ، أو في حكم المقابل ، يعني كما في رؤية الوجه في المرآة.

[قال (وأما الحواس الباطنة)

فمنها الحس المشترك ، وهي القوة التي يجتمع فيها صور المحسوسات بتأديها إليها من طرق الحواس ، يدل عليها الحكم ببعض المحسوسات على البعض ، ومشاهدة النائم والمريض ما ليس في الخارج ، ومشاهدة الكل القطرة النازلة خطا ، والشعلة الجوالة دائرة ، ومبناه على أن صور المحسوسات لا ترتسم في النفس ، وإن كانت هي الحاكمة والمدركة ، وعلى ضرورة أنه لا يرتسم في البصر إلا المقابل ، أو ما هو في حكمه.

فإن قيل : كون اللمس أو الذوق ليس بالدماغ قطعي.

__________________

(١) في (أ) ثم بدلا من (نسلم)

(٢) في (أ) ثم بدلا من (نسلم)

(٣) باصرته : إذا أشرفت تنظر إليه من بعيد ، والبصر : العلم وبصرت بالشيء علمته قال الله تعالى : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) والبصير : العالم ، والتبصر : التأمل والتعرف.

والتبصير : التعريف والايضاح ، والمبصرة : المضيئة ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً). والمبصرة بالفتح الحجة.

٢٨٦

قلنا : نعم. بمعنى أنه ليس الآلية (١) الأولية المختصة].

هي أيضا على حسب ما وجدناه خمس. وإن احتمل إمكان غيرها ، وما يقال إنها إنما مدركة ، وإما معينة على الإدراك (٢) ، والمدركة. إما مدركة للصور أو للمعاني ، والمعينة إما حافظة للصور أو للمعاني ، وإما متصرفة فيها ، فوجه (٣) ضبط ، وجعل الحافظ والمنصرف مدركا باعتبار الإعانة على الإدراك. أما الحس المشترك ويسمى باليونانية «بنطاسيا» أي لوح النفس. فهي القوة التي تجتمع فيها صور المحسوسات الظاهرة ، بالتأدي إليها ، من طرق الحواس ويدل على وجودها وجوه :

الأول : أنا نحكم ببعض المحسوسات الظاهرة على البعض ، كما نحكم بأن هذا الأصفر هو هذا الحار ، أو هذا الحلو هو هذا المشموم ، وكل من الحواس الظاهرة لا يحضر عندها إلا نوع مدركاته ، فلا بد من قوة يحضر عندها جميع الانواع ، ليصح الحكم بينها.

الثاني : إن النائم أو المريض كالمبرسم ، يشاهد صورا جزئية لا تحقق لها في الخارج ، ولا في شيء من الحواس الظاهرة ، فلا بد من قوة بها المشاهدة.

الثالث : إنا نشاهد القطرة النازلة بسرعة خطا مستقيما ، والشعلة الجوالة بسرعة خطا مستديرا ، وما ذاك إلا لأن لنا قوة غير البصر ، يرتسم فيها صورة القطرة والشعلة ، ويبقى قليلا على وجه يتصل به الارتسامات البصرية المتتالية بعضها ببعض ، بحيث يشاهد خطا ، للقطع بأنه لا ارتسام في البصر عند زوال المقابلة ، ومنع ذلك على ما ذكره الإمام مكابرة ، وإلى هذا أشار في المتن ما ذكر من ضرورة

__________________

(١) في (ب) الآلة بدلا من (الآلية)

(٢) الإدراك : اللحوق. يقال : مشيت حتى أدركته ، وعشت حتى أدركت زمانه.

وأدركته ببصري ، أي رأيته.

وأدرك الغلام. وأدرك الثمر ، أي بلغ ، وربما قالوا : أدرك الدقيق بمعنى فني.

وتدارك القوم : أي تلاحقوا أي لحق آخرهم أولهم ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) والدريكة : الطريدة.

(٣) في (ب) فوجد بدلا من (وجه)

٢٨٧

أنه لا يرتسم في البصر إلا المقابل ، أو ما هو في حكمه ، وأما قوله : ومبناه على أن صور المحسوسات لا ترتسم في النفس ، فإشارة الى جواب اعتراض آخر (١) ، وهو أنه لا يلزم من عدم كون الارتسام في الباصرة ، كونه في قوة أخرى (٢) جسمانية ، لجواز أن يكون في النفس ، وكذا الصور التي يشاهدها المريض والنائم (٣) ، وصور المحسوسات المحكوم فيها بالبعض على البعض كهذه الصفرة والحرارة وغيرها ، ألا ترى أنا نحكم بالكلي على الجزئي ، كحكمنا بأن هذه الصفرة لون ، وزيد إنسان ، مع القطع بأن مدرك الكلي هو النفس ، فإذا كان الحكم بين الشيئين مستلزما لحضورهما عند الحاكم (٤) ، كان الجزئي حاضرا عند النفس ، مرتسما فيها كالكلي ، فلا يثبت الحس المشترك ، وتقرير الجواب :

أنا معترفون بأن مدرك الكليات والجزئيات جميعا ، والحاكم بينها هو النفس ، لكن الصور الجزئية لا ترتسم فيها لما سيجيء (٥) ، بل في آلتها ، فلا بدّ في الحكم بين محسوسين من آلة مشتركة. وفيه نظر. لجواز أن يكون حضورهما عند النفس ، وحكمها بينها لارتسامهما في العين (٦) ، كما أن الحكم بين الكلي والجزئي ، يكون لارتسام الكلي في النفس ، والجزئي في الآلة ، فلا تثبت آلة مشتركة. غاية الأمر ، أنه لا يكفي الحواس الظاهرة ليصح الحكم حالتي الغيبة والحضور ، بل يكون (٧) لكل حسن ظاهر ، حسن باطن.

ومن اعتراضات الإمام : أنا نعلم قطعا ، أن الذوق. اعني إدراك المذوقات ، ليس بالدماغ ، كما أنه ليس بالعصب ، وكذا اللمس.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (آخر)

(٢) سقط من (أ) لفظ (أخرى)

(٣) في (ب) والناس بدلا من (النائم) وهو تحريف.

(٤) سقط من (ب) جملة (عند الحاكم) :

(٥) سقط من (أ) كلمة (لما سيجيء)

(٦) في (أ) البين بدلا من (العين).

(٧) سقط من (أ) لفظ (يكون).

٢٨٨

والجواب : أن المعلوم قطعا هو أن الدماغ ليس آلة للذوق أو اللمس ، أو لا على وجه الاختصاص ، وأما أنه لا مدخل له فيه ، فلا كيف ، والآفة في الدماغ ، توجب ، اختلاف الذوق واللمس بخلاف الآفة في العصب ، ومن هاهنا يقال إن ابتداء الذوق في اللسان ، وتمامه (١) في العصب (٢) الآتي إليه من الدماغ ، وكماله عند الحس المشترك ، وكذا في سائر الإحساسات.

[قال (منها الخيال) وهي التي تحفظ صور المحسوسات بعد غيبتها عن الحس المشترك ، ويدل عليها وجهان :

الأول : أن الحفظ غير القبول ، فلا بدّ له من مبدأ خاص ، واجتماعهما في الخيال يجوز أن يستند الى المادة والقوة ، وتنوع إدراكات الحس المشترك يستند إلى كثرة طرق التأدية ، كما أن إدراكات النفس (٣) وأفعالها يستند الى القوى.

الثاني : أن الصورة المرتسمة في الحس المشترك قد تزول لا بالكلية كما في النسيان ، بل مع إمكان الاستحضار بأدنى التفات وهو الذهول ، فلولا أنها مخزونة في قوة أخرى ، لكان الذهول نسيانا وكلاهما ضعيف].

__________________

(١) في (ب) وغايته بدلا من (وتمامه)

(٢) (العصبة) واحد الأعصاب وهي أطناب المفاصل ، وانعصب : اشتد ، والمعصوب : الشديد اكتناز اللحم ، والمعصوب في لغة هذيل الجائع.

وعصبة الرجل : بنوه وقرابته لأبيه وإنما سمو عصبة لأنهم عصبوا به أي أحاطوا به ، والعصبة من الرجال : ما بين العشرة الى الأربعين.

(٣) النفس : الروح يقال : خرجت نفسه. قال أبو خراش :

نجا سالم والنفس منه بشدقه

ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

والنفس : الدم : يقال سالت نفسه وفي الحديث : ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه.

والنفس أيضا الجسد. قال الشاعر :

نبئت أن بني سحيم أدخلوا

أبياتهم تامور نفس المنذر

والتامور : الدم.

والنفس : العين يقال أصابت فلانا نفس ونفسته بنفس إذا أصبته بعين.

والنافس : العائن. والنافس : الخامس من سهام الميسر ويقال هو الرابع.

٢٨٩

استدل على ثبوتها ومغايرتها للحس المشترك بوجهين :

الأول : أن لصور المحسوسات قبولا عندنا وحفظا ، وهما فعلان مختلفان ، فلا بدّ لهما من مبدأين متغايرين ، لما تقرر من أن الواحد لا يكون مصدرا لأثرين ، ومبدأ القبول هو الحس المشترك ، فمبدأ الحفظ هو الخيال ، وإنما احتيج إلى الحفظ لئلا يختل نظام العالم ، فإنا إذا أبصرنا الشيء ثانيا ، فلو لم يعرف أنه هو المبصر أولا لما حصل التمييز بين النافع والضار.

واعترض بأن الحفظ مسبوق بالقبول ومشروط به ضرورة. فقد اجتمعا في قوة واحدة سميتموها الخيال ، وبأن الحس المشترك مبدأ الإدراكات مختلفة هي أنواع الإحساسات ، وبأن النفس تقبل الصور العقلية ، وتتصرف في البدن ، فبطل قولكم الواحد لا يكون مبدأ لأثرين.

وأجيب : بأن الخيال لا بدّ أن يكون في محل جسماني ، فيجوز أن يكون قبوله لأجل المادة ، وحفظه لقوة الخيال ، كالأرض تقبل الشكل بمادتها ، وتحفظه بصورتها وكيفيتها. أعني اليبوسة ، وبأن مبدئية الحس المشترك للإدراكات المختلفة ، إنما هي لاختلاف الجهات ، أعني طرق التأدية من الحواس الظاهرة ، وكذا إدراكات النفس وتصرفاتها من جهة قواها المختلفة ، ولا يخفى أن هذا الجواب يدفع أصل الاستدلال لجواز أن لا تكون إلا قوة واحدة ، لها القبول والحفظ بحسب اختلاف الجهات ، وكذا الجواب بأن القبول والإدراك من قبيل الانفعال دون الفعل. فاجتماع القبول والحفظ وأنواع الإدراكات في شيء واحد ، لا يقدح في قولنا الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

الثاني : أن الصور الحاضرة في الحس المشترك قد تزول بالكلية ، بحيث يحتاج إلى إحساس جديد وهو النسيان ، وقد تزول لا بالكلية ، بل بحيث تحضر بأدنى التفات. وهو الذهول (١) ، فلولا أنها مخزونة حينئذ في قوة أخرى يستحضرها

__________________

(١) ذهلت عن الشيء أذهل ذهلا : نسيته وغفلت عنه ، وأذهلت عنه كذا ، وفيه لغة أخرى : ذهلت بالكسر ذهولا.

قال اللحياني : يقال : جاء بعد ذهل من الليل ، ودهل أي بعد هذه.

٢٩٠

الحس المشترك من جهتها ، لما بقي فرق بين الذهول والنسيان.

واعترض بأنه يجوز أن لا تكون محفوظة إلا في الحس المشترك ، ويكون الحضور والإدراك بالتفات النفس والذهول بعدمه.

وأجيب : بأنه لو كان كذلك لم يبق فرق بين المشاهدة والتخيل ، لأن كلا منهما حضور لصورة المحسوس في الحس المشترك من جهة الحواس بالتفات النفس ، ومعلوم أن تخيل المبصر ليس إبصارا ، ولا تخيل المذوق ذوقا ، وكذا البواقي ، بل المشاهدة ارتسام من جهة الحواس ، والتخيل من جهة الخيال ، وفيه نظر ، لجواز أن يكون الفرق عائدا إلى الحضور عند الحواس ، والغيبة عنها أو إلى الارتسام وضعفه ، ولا يكون الإدراك والحفظ إلا في قوة واحدة.

[قال (وأضعف منهما الابطال)

بامتناع ارتسام الكثير (١) في الصغير ، وازدحام الصور مع بقاء التمييز ، فإن ذلك ، إنما هو في الأعيان دون الصور].

احتج الإمام على إبطال الخيال ، بأن من طاف في العالم ، ورأى البلاد والأشخاص الغير المعدودة ، فلو انطبعت صورها في الروح الدماغي ، فإما أن يحصل جميع تلك الصور في محل واحد ، فيلزم الاختلاط وعدم التمايز ، وإما أن يكون لكل صورة محل ، فيلزم ارتسام صورة في غاية العظم (٢) في جزء في غاية الصغر.

والجواب : أنه قياس للصور على الأعيان وهو باطل. فإنه لا استحالة ، ولا استبعاد في توارد الصور على محل واحد مع تمايزها ، ولا في ارتسام صورة العظيم في المحل الصغير ، وإنما ذلك في الأعيان الحالة في محلها حلول العرض في الموضوع أو الجسم في المكان.

__________________

(١) في (ب) الكبير بدلا من (الكثير)

(٢) في (ب) الكبر بدلا من (العظم)

٢٩١

[قال (ومنها الوهم (١))

وهي التي تدرك بها المعاني الجزئية ، كالعداوة المعينة من زيد ، والمراد بالمعاني ما لا يمكن إدراكه بالحواس الظاهرة ، وبالصور خلافه ، فالمستند إلى الوهم فيما إذا رأينا شيئا فحكمنا بأنه عسل وحلو هو الحكم الجزئي لا الصفرة أو الحلاوة ، ويكون الكل حاضر عند النفس بمعونة الآلات].

هي القوة المدركة للمعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات ، كالعداوة المعينة من زيد ، وقيد بذلك لأن مدركة العداوة الكلية من زيد ، هو النفس ، والمراد بالمعاني ما لا يدرك بالحواس الظاهرة ، فيقابل الصور. أعني ما يدرك بها ، فلا يحتاج إلى تقييد المعاني بغير المحسوسة ، فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة بها إدراكها ، وكونها مما لم يتأد من الحواس ، دليل على مغايرتها للحس المشترك ، وكذا كونها جزئية دليل على مغايرتها للنفس الناطقة ، بناء على أنها لا تدرك الجزئيات بالذات ، هذا مع وجودها في الحيوانات العجم ، كإدراك الشاة معنى في الذئب ، بقي الكلام في أن القوة الواحدة لما جاز أن يكون آلة لإدراك أنواع المحسوسات ، لم لا يجوز أن تكون آلة لإدراك معانيها أيضا ، وأما إثبات ذلك ، بأنهم جعلوا من أحكام الوهم ما إذا رأينا شيئا أصفر ، فحكمنا بأنه عسل وحلو ، فيكون الوهم مدركا للصفرة والحلاوة والعسل جميعا ، ليصح الحكم وبأن مدرك عداوة الشخص مدرك له صرورة فضعيف ، لأن الحاكم حقيقة هو النفس ، فيكون المجموع من الصور والمعاني حاضرا عندها بواسطة الآلات كل منها بآلتها الخاصة ، ولا يلزم

__________________

(١) وهمت في الحساب أوهم وهما ، إذا غلطت فيه وسهوت ، وتوهمت أي ظننت ، وأوهمت غيري إيهاما. والتوهيم مثله.

وأوهمت الشيء إذا تركته كله. والوهم : الجمل الضخم الذلول قال ذو الرمة يصف ناقته :

كأنها جمل وهم وما بقيت

إلا النحيزة والألواح والعصب

والانثى وهمة.

والوهم أيضا الطريق الواسع قال لبيد يصف بعيره وبعير صاحبه

ثم أصدرناهما في وارد

صادر وهم صواه قد مثل

ويقال : لا وهم من كذا أي لا بد منه.

٢٩٢

كون محل الصور والمعاني قوة واحدة ، لكن بشكل هذا (١) ، بأن مثل هذا الحكم قد يكون من الحيوانات العجم ، التي لا تعلم وجود النفس الناطقة لها.

[قال (ومنها الحافظة)

لأحكام الوهم وتسمى الذاكرة باعتبار استرجاعها].

هي للوهم كالخيال للحس المشترك ، ووجه تغايرها أن قوة القبول غير قوة الحفظ ، والحافظة للمعاني غير الحافظ للصور ، ويسميها قوم ذاكرة ، إذ بها الذكر أعني ملاحظة المحفوظ بعد الذهول عنه (٢) ، ومتذكرة إذ بها التذكر. أعني الاحتيال لاستعراض الصور بعد ما اندرست (٣).

[قال (ومنها المتصرفة)

في الصور والمعاني بالتركيب والتفصيل ، وتسمى باعتبار استعمال العقل إياها مفكرة والوهم متخيلة].

أي في الصور المأخوذة عن الحس ، والمعاني المدركة بالوهم بتركيب بعضها مع بعض ، وتفصيل بعضها عن بعض ، كتصور إنسان له رأسان ، أو لا رأس له ، وتصور العدو صديقا ، وبالعكس ، وهي دائما لا تسكن نوما ولا يقظة ، وبها يقتنص الحد الأوسط ، باستعراض ما في الحافظة ، وهي المحاكية للمدركات والهيئات

__________________

(١) في (ب) آخر بدلا من (هذا)

(٢) سقط من (أ) لفظ (عنه).

(٣) درس الرسم يدرس دروسا ، أي عفا ودرسته الريح يتعدى ولا يتعدى.

ودرست المرأة دروسا أي حاضت ، وأبو دراس : فرج المرأة ودرسوا الحنطة دراسا أي داسوها قال ابن ميادة.

هلا اشتريت حنطة بالرستاق

سمراء مما درس ابن مخراق

ويقال : سمي إدريس عليه‌السلام لكثرة دراسته كتاب الله تعالى واسمه اخنوخ.

والدرس : جرب قليل يبقى في البعير قال العجاج :

من عرق النضج عصيم الدرس

والدرس : الطريق الخفي. والدرس بالكسر : الدريس ، وهو الثوب الخلق ، والجمع درسان.

وقد درس الثوب درسا أي أخلق.

٢٩٣

المزاجية ، وينتقل إلى الضد والشبيه ، وليس من شأنها أن يكون عملها منتظما ، بل النفس هي التي تستعملها على أي نظام تريد ، إما بواسطة القوة الوهمية من غير تصرف عقلي ، وحينئذ تسمى متخيلة ، أو بواسطة القوة العقلية وحدها ، أو مع الوهمية. وحينئذ تسمى مفكرة.

[قال (خاتمة)

(خاتمة) مقدم البطن الأول من الدماغ ، محل للحس المشترك ، ومؤخره للخيال ، والأوسط للمتخيلة ، ومقدم الآخر للوهم ، وآخره للحافظة ، والعمدة في تعدد هذه القوى وتعيين محالها ، تعدد الآثار ، واختلافها باختلاف المحال مع القطع ، بأن الإحساس إنما هو للقوى الجسمانية ، وأنه لا معنى لآلتها إلا ما هو محل لها ، وأنها لا تخيل بعضو آخر ، فلا يصح اتحادها ، وعود الكثرة والاختلال إلى آلاتها (١) ، والكل ضعيف].

مما علم بالتشريح ، أن للدماغ تجاويف ثلاثة ، أعظمها البطن الأول ، وأصغرها البطن الأوسط ، وهو كمنفذ من البطن المقدم إلى البطن المؤخر. وقد دلّ اختلال الحس المشترك بآفة تعرض لمقدم البطن الأول من الدماغ دون غيره من أجزاء الدماغ ، على أنه محله. وهكذا الدليل على كون الخيال في مؤخر البطن الأول ، وكون المتخيلة في البطن الأوسط ، وكون الوهم في (٢) مقدم البطن الأخير ، وكون الحافظة في آخره. وأما الدليل على تعدد هذه القوى ، فهو اختلاف الآثار مع ما تقرر عندهم ، من أن الواحد ، لا يكون مبدأ للكثير.

فإن قيل : القاعدة على تقدير ثبوتها ، إنما هي في الواحد من جميع الوجوه ، فلم لا يجوز أن يكون مدرك الكل هو النفس الناطقة ، أو قوة واحدة باعتبار شرائط وآلات مختلفة.

__________________

(١) في (ب) آخرتها بدلا من (آلاتها)

(٢) سقط من (أ) حرف الجر (في)

٢٩٤

قلنا : كون المدرك هي النفس ، والقوى الجسمانية آلات لها مذهب جمع من المحققين. إلا أنه يشكل بوجود الإدراكات للحيوانات العجم ، وأما كون المدرك قوة واحدة جسمانية ، وهذه المحال آلات لها ، فمما لا سبيل إليه ، إذ لا يعقل آلية العضو لقوة جسمانية. لا تكون حالة فيه ، ولا يخفي صعوبة إثبات بعض المقدمات الموردة في المقامين. أعني (١) إثبات تعدد القوى ، وتعيين محالها. وقد يقال في تعيين محالها بطريق الحكمة ، والغاية (٢) أن الحس المشترك ينبغي أن يكون في مقدم الدماغ ، ليكون قريبا من الحواس الظاهرة ، فيكون التأدي إليه سهلا ، والخيال خلفه ، لأن خزانة الشيء ينبغي أن تكون كذلك. ثم ينبغي أن يكون الوهم بقرب (٣) الخيال ، لتكون الصور الجزئية بحذاء معانيها الجزئية ، والحافظة بعده ، لأنها خزانته ، والمتخيلة في الوسط لتكون قريبة من الصور والمعاني ، فيمكنها الأخذ منهما بسهولة.

[قال (وتردد ابن سينا)

في تعدد الوهمية والمتخيلة].

يشير إلى ما قال في الشفاء ، يشبه أن تكون القوة الوهمية هي نفسها (٤) المتذكرة ، والمتخيلة والمفكرة ، وهي نفسها الحاكمة ، فتكون بذاتها حاكمة ، وبحركاتها وأفعالها (٥) متخيلة ومتذكرة ، فتكون متفكرة ، بما تعمل (٦) في الصور والمعاني ، ومتذكرة بما ينتهي إليه عملها ، وله تردد أيضا ، في أن الحافظة مع المتذكرة. أعني المسترجعة لما غاب عن الحفظ من مخزونات الوهم قوتان أم قوة واحدة.

__________________

(١) في (ب) وهو بدلا من (أعني)

(٢) سقط من (أ) لفظ (الغاية)

(٣) في (ب) تقريب بدلا من (بقرب)

(٤) في (ب) بعينها بدلا من (نفسها)

(٥) في (أ) وأقوالها بدلا من (وأفعالها)

(٦) في (أ) تعجل بدلا من (تعمل)

٢٩٥

[قال (واقتصر الأطباء) :

على الخيال والمفكرة والذاكرة].

لما كان نظرهم مقصورا على حفظ صحة القوى ، وإصلاح اختلالها ، ولم يحتاجوا إلى معرفة الفرق بين القوى ، وتحقيق أنواعها ، بل إلى معرفة أفعالها ومواضعها ، وكانت الآفات العارضة لها ، قد تتجانس اقتصروا على قوة في البطن (١) المقدم من الدماغ سموها الحس المشترك والخيال ، وأخرى في البطن (٢) الأوسط سموها المفكرة وهي الوهم ، وأخرى في البطن المؤخر سموها الحافظة والمتذكرة.

[قال (وأما المحركة)

فمنها شوقية باعثة على جذب ما يتصوره نافعا ، وتسمى شهوية ، أو دفع ما يتصوره ضارا ، وتسمى غضبية ، ومنها فاعلة لتمديد الأعصاب إلى جهة مبدأها كما في القبض ، أو إلى خلاف جهته كما في البسط].

لم يبسط الكلام في القوى المحركة بسطه في القوى المدركة ، لأن المباحث الكلامية لا تتعلق بهذه تعلقها بتلك ، والمراد بالمحركة أعم من الفاعلة للحركة ، والباعثة عليها ، وتسمى شوقية ونزوعية ، وتنقسم إلى شهوية وهي الباعثة (٣) على الحركة ، نحو ما يعتقد أو يظن نافعا. وغضبية وهي الباعثة على الحركة نحو ما يعتقد أو يظن ضارا ، وأما الفاعلة فهي قوة من شأنها (٤) أن تبسط العضل بإرخاء الأعصاب إلى خلاف جهة مبدأها لينبسط العضو المتحرك ، أي يزداد طولا ، وينتقص عرضا ، أو تقبضه بتمديد الأعصاب إلى جهة مبدأها ، لينقبض العضو

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (البطن).

(٢) سقط من (ب) لفظ (البطن)

(٣) في (أ) الدافعة بدلا من (الباعثة).

(٤) سقط من (ب) جملة (من شأنها أن).

٢٩٦

المتحرك ، أي يزداد عرضا ، وينتقص طولا ، والعضلة (١) عضو مركب من العصب ، ومن جسم شبيه بالعصب تنبت من أطراف العظام تسمى رباطا وعقبا ، ومن لحم احتشى به الفرج التي بين الأجزاء المنتفشة الحاصلة باشتباك العصب والرباط ، ومن غشاء تخللها. والعصب جسم ينبت من الدماغ أو النخاع أبيض لدن لين في الانعطاف ، صلب في الانفصال.

[قال (وأما مبدأ الشوق)

فمن القوى المدركة].

قد يتوهم أن من القوى المحركة قوة أخرى هي مبدأ قريب للشوقية يعيد للفاعلة كالقوة التي ينبعث عنها شوق الإلف بالشيء إلى مألوفه ، وشوق المحبوس إلى خلاصه ، وشوق النفس إلى الفعل الجميل ، فأشار إلى أن ذلك من قبيل القوى المدركة ، لأن مبدأ الشوق والنزوع تخيل أو تعقل.

[قال (ثم بعض هذه القوى)

قد يفقد في بعض أنواع الحيوان أو أشخاصه بحسب الخلقة أو العارض].

يعني المدركة والمحركة ، وقد تفقد في بعض أنواع الحيوان كالبصر في العقرب ، والخيال في الفراشة أو أشخاصه بحسب الخلقة كالأكمه ، ومن ولد مفقود بعض الحواس أو الحركات ، أو بحسب العارض كمن أصابه آفة ، أخلت ببعض إدراكاته أو حركاته.

__________________

(١) العضل بالتحريك : جمع عضلة الساق ، وكل لحمة مجتمعة مكتنزة في عصبة فهي عضلة.

وقد عضل الرجل بالكسر فهو عضل بين العضل إذا كان كثير العضل والعضلة بالضم : الداهية.

يقال : إنه لعضلة من العضل أي داهية من الدواهي.

وداء عضال وأمر عضال : أي شديد أعيا الأطباء ، وأعضلني فلان أي أعياني أمره ، وقد أعضل الأمر أي اشتد واستغلق وأمر معضل لا يهتدي لوجهه.

والمعضلات : الشدائد من الأمور. والله أعلم.

٢٩٧

[قال (المقالة الثانية فيما يتعلق بالمجردات وفيها فصلان)

الفصل الأول : في النفس وفيه مباحث :

المبحث الأول : أنها تنقسم إلى فلكية وإنسانية ، وقد تطلق على ما ليس بمجرد ، كالنفس النباتية لمبدإ آثار النبات ، والحيوانية لمبدإ آثار الحيوان. فمن هاهنا تفسير بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي. فمن حيث التغذي والنمو نباتية ، ومن حيث الحس والحركة حيوانية ، ومن حيث تعقل الكليات إنسانية ، ومن حيث إرادة الحركة المستديرة فلكية ، إذا جعلنا الكواكب والتداوير ونحوهما بمنزلة الآلات ، ويزاد لتخصيص الأرضية. قيد ذي حياة بالقوة].

أولهما في النفس ، والثاني في العقل (١) ، لما عرفت من أن الجوهر المجرد إن تعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف فنفس ، وإلا فعقل ، وقد يطلق لفظ النفس على ما ليس بمجرد ، بل مادي كالنفس النباتية التي هي مبدأ أفاعيله من التغذية والتنمية ، والتوليد.

والنفس الحيوانية التي هي مبدأ الحس والحركة الإرادية ، وتجعل النفس الأرضية اسما لهما ، أو للنفس الناطقة الإنسانية ، فتفسر بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ، ذي حياة بالقوة ، والمراد بالكمال. ما يكمل به النوع في ذاته ، ويسمى كمالا أولا كهيئة السيف للحديد ، أو في صفاته ويسمى كمالا ثانيا ، كسائر ما يتبع النوع من العوارض ، مثل القطع للسيف ، والحركة للجسم ، والعلم للإنسان فإن قيل : قد سبق أن الحركة كمال أول.

قلنا : نعم بالنظر إلى ما هو بالقوة من حيث هو بالقوة ، فإنه أول ما يحصل له (٢)

__________________

(١) العقل : الحجر والنهي ، ورجل عاقل وعقول. والعقل : الدية ، قال الأصمعي : وإنما سميت بذلك لأن الإبل تعقل بفناء ولى المقتول. ثم كثر استعمالهم هذا الحرف. حتى قالوا عقلت المقتول إذا أعطيت ديته دراهم أو دنانير.

وعقلت عن فلان أي غرمت عنه جناية وذلك إذا لزمته دية فأديتها عنه ، فهذا هو الفرق بين عقلته وعقلت عنه وعقلت له. وفي الحديث «لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا» قال أبو حنيفة رحمه‌الله وهو ان يجني العبد على الحر. وقال ابن أبي ليلى : هو أن يجني الحر على عبد.

(٢) في (ب) لها بدلا من (له).

٢٩٨

بعد ما لم يكن ، وإما بالنظر إلى ذات الجسم فكمال ثان. والمراد بالجسم هاهنا الجنس. أعني. المأخوذ لا بشرط أن يكون وحده أو لا وحده ، بل مع تجويز أن يقارنه غيره ، أو لا يقارنه لأنها الطبيعة الجنسية الناقصة ، التي إنما تتم وتكمل نوعا بانضمام الفصل إليه لا المأخوذ ، بشرط أن يكون وحده ، لأنها مادة متقدمة بالوجود على النوع غير محمولة عليه ، والنفس بالنسبة إليه صورة لا كمال يجعله نوعا بالفعل ، وقد سبق تحقيقها ذلك في بحث الماهية ، وإنما أخذ الجسم في تعريف (١) النفس لأنه اسم لمفهوم إضافي هو مبدأ صدور أفاعيل الحياة عن الجسم من غير نظر إلى كونه جوهرا أو عرضا مجردا أو ماديا ، فلا بد من أخذه في تعريف النفس ، لا من حيث ذاتها ، بل من حيث تلك العلاقة (٢) لها كالبناء في تعريف الباني ، والمراد بالطبيعي ، ما يقابل الصناعي ، وبالآلي ما يكون له قوى ، وآلات مثل الغاذية والنامية ونحو ذلك ، فخرج بالقيود السابقة الكمالات الثانية ، وكمالات المجردات والأعراض ، وهيئات المركبات الصناعية ، وبالآلي صور البسائط والمعدنيات. إذ ليس فعلها بالآلات ، لا يقال قيد ذي حياة بالقوة مغن عن ذلك. لأنا نقول. ليس معناه أن يكون ذلك الجسم حيا ، ولا أن يصدر عنه جميع أفعال الحياة ، وإلا لم يصدق التعريف إلا على النفس الإنسانية ، دون النباتية والحيوانية ، بل أن يكون بحيث يمكن أن يصدر عنه بعض أفعال الأحياء ، وإن لم يتوقف على الحياة ، ولا خفاء في أن البسائط والمعدنيات كذلك.

وفائدة هذا القيد الاحتراز عن النفس السماوية عند من يرى أن النفس إنما هي للفلك الكلي ، وإن ما فيه من الكواكب والأفلاك الجزئية بمنزلة آلات له ، فتكون جسما آليا ، إلا أن ما (٣) يصدر عنه من التعقلات والحركات الإرادية ، التي هي من أفاعيل الحياة تكون دائما ، وبالفعل لا كأفاعيل النبات والحيوان من التغذية والتنمية ، وتوليد المثل ، والإدراك ، والحركة الإرادية والنطق.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (تعريف)

(٢) في (ب) العلامة بدلا من (العلاقة).

(٣) سقط من (أ) حرف (ما).

٢٩٩

أعني. تعقل (١) الكليات ، فإنها ليست دائمة ، بل قد تكون بالقوة ، وأما عند من يرى أن لكل كرة نفسا ، وأنها ليست من الأجسام الآلية ، فلا حاجة إلى هذا القيد ، ولهذا لم يذكره الأكثرون. وذهب أبو البركات إلى أنه إنما يذكر عوض قولهم : آلي فيقال : كمال أول طبيعي لجسم ذي حياة بالقوة. وعبارة القدماء : كمال أول طبيعي لجسم آلي ، واحترز بطبيعي عن الكمالات الصناعية ، كالتشكيلات الحاصلة بفعل الإنسان.

ثم قال : وقد يقال كمال أول لجسم طبيعي آلي بتأخير طبيعي ، وهو إما غلط في النقل ، وإما مقصود به المعنى الذي ذكرنا. فظهر أن ما يقال من أن بعضهم رفع طبيعي صفة لكمال ، ليس معناه أنه يرفع مع التأخير صفة لكمال ، ويخفض بعده آلي صفة لجسم ، فإنه في غاية القبح ، وكذا لو رفع حينئذ (٢) آلي أيضا ، صفة لكمال مع ذكر ذي (٣) حياة صفة لجسم ، بل معناه أنه يقدم فيرفع على ما قال الإمام : أن بعضهم جعل الطبيعي صفة للكمال فقال : كمال أول طبيعي لجسم أول (٤) آلي.

فإن قيل : فعلى ما ذكر من أن قيد ذي حياة بالقوة لإخراج النفس السماوية يكون قولنا : كمال أول لجسم طبيعي آلي معنى شاملا للأرضية والسماوية صالحا لتعريفهما به. وقد صرحوا بأن إطلاق النفس عليهما بمحض اشتراك اللفظ. إذ الاولى باعتبار أفعال مختلفة ، والثانية باعتبار فعل مستمر على نهج واحد ، وأنه لا يتناولهما رسم واحد ، إذ لو اقتصر على مبدئية فعل (٥) ، ما دخلت صور البسائط والعنصريات ، وإن اشترط القصد والإرادة خرجت النفس النباتية. وإن اعتبر اختلاف الأفعال خرجت الفلكية.

قلنا : مبني هذا التصريح على المذهب الصحيح. وهو أن لكل فلك نفسا

__________________

(١) في (ب) تعلق بدلا من (تعقل)

(٢) سقط من (أ) حرف (حينئذ)

(٣) سقط من (أ) حرف (ذي)

(٤) سقط من (أ) لفظ (أول)

(٥) سقط من (ب) لفظ (فعل)

٣٠٠