شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

[قال (المبحث الثاني)

اشتمل النبات على زيادة اعتدال ، شارك الحيوان فيما يجري مجرى بعض الأعضاء ، وفي قوى بها تحفظ الأشخاص ، وتتم كمالاتها المقدارية ، ويحصل الأمثال التي بها بقاء النوع ويسمى قوى طبيعية].

بعد الفراغ من المعادن شرع في النبات ، ترقيا إلى الأكمل فالأكمل ، والأعدل فالأعدل. ولاختصاص النبات بزيادة اعتدال لا يوجد في المعدني ، وتقارب ما يوجد في الحيوان ، صار له شبه بالحيوان ، في بعض الأعضاء والقوى. ذلك أن له مواضع تقوم مقام الرحم والذكر (١) ، كعقد الأغصان والزرع ، وفي البذور مواضع متميزة منها تتوالد الأغصان ، وله عروق بها يتغذى (٢) ، ولحاء به يستحفظ ، وأجزاء كمالية بمنزلة الشعر والظفر ، كالورق والزهر وله فضول تدر كالصموغ والألبان ، وله قوى لحفظ الشخص كالغاذية وخوادمها ، ولتكميل المقدار كالنامية ، ولتحصيل المثل إبقاء للنوع كالمولدة.

__________________

(١) قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ.) سورة الحجر آية رقم ٢٢. أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج.

(٢) تمتاز النباتات عن الحيوانات في أنها ذاتية التغذية ، إذ تقوم بصنع غذائها من مواد بسيطة تحصل عليها من البيئة المحيطة بها فهي تحصل على ثاني اكسيد الكربون من الهواء في حين تحصل على الماء والأملاح المعدنية من التربة ولما كان صنع الغذاء يتم بشكل أساسي في الورقة كان لا بد من وجود أعضاء تقوم بامتصاص الماء والأملاح من التربة أولا ثم نقلها إلى الورقة وهناك أعضاء تقوم بنقل الغذاء من الورقة إلى باقي أجزاء النبات ، وتتم عملية النقل في النبات بواسطة أجهزة متخصصة تعرف بالأوعية الموصلة وهي تنتظم في مجموعات تعرف بالحزم الوعائية ، وتمتد الحزم الوعائية في جميع أعضاء النبات من جذور وسيقان

٢٤١

[قال (فمنها الغاذية)

وهي التي تحيل الغذاء إلى مشاكلة المغتذى ، ويخدمها أربع قوى هي : الجاذبة للغذاء ، والماسكة للمجذوب ريثما ينهضم ، والهاضمة التي تحيل الغذاء إلى ما يليق بجوهر المغتذي ، والدافعة لما لا حاجة إليه ، لأن هذه الحركات والسكنات ليست إرادية لعدم الإرادة للغذاء ، ولا طبيعية لوقوعها على خلاف الطبع ، بل قسرية ، وليس للقاسر إرادة الحيوان ، إذ قد يقع (١) بدونها ولا أمرا من خارج وهو ظاهر فتعين أن تكون قوى فيه] (٢).

المحققون على أنها قوة مغايرة للجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة (٣). وإن كان ظاهر كلام البعض ، يشعر بأنها نفس الهاضمة. والبعض بأنها عبارة عن مجموع الأربع ، وحاصل الفرق أن الهاضمة هي التي تتصرف فيما يرد على البدن من حين المضغ ، إلى أن يحصل له كمال الاستعداد لصيرورته جزءا من المغتذي. وهذا معنى إحالة الغذاء إلى ما يليق بجوهر المغتذي. والغاذية هي التي تتصرف فيما حصل له كمال الاستعداد ، إلى أن تجعله جزءا بالفعل. وهذا معنى إحالة الغذاء إلى مشاكلة المغتذي. ففي تفسير الهاضمة أريد بالغذاء ما هو بالقوة كاللحم والخبز ، وبالإحالة التغير في الكيف ، كتغير الطعام إلى الكيلوس ، أو في الجوهر كتغير الكيلوس إلى الدم ، والدم إلى اللحم. وفي تفسير الغاذية. أريد بالغذاء ما هو بالفعل. أعني حين ما (٤) يصير جزءا من العضو. وبالإحالة التغير في الجوهر ، ومعنى المشاكلة المماثلة في الجوهر واللون ، والقوام ، واللصوق.

ثم هاهنا مقامان : أحدهما : بيان وجود (٥) هذه القوى

وثانيهما : بيان تغايرها.

أما الأول ، فيدل على وجود الجاذبة في المعدة ، حركة الغذاء من الفم إليها

__________________

(١) في (ب) يدفع بدلا من (يقع)

(٢) في (ب) منه بدلا من (فيه)

(٣) سقط من (ب) لفظ (الدافعة)

(٤) سقط من (ب) حرف (ما)

(٥) سقط من (أ) لفظ (وجود)

٢٤٢

حركة صاعدة كما في البهائم والإنسان المعلق برجليه ، فإنها قسرية لكونها على خلاف الطبع وعدم الشعور من المتحرك. أعني الغذاء ، وليس القاسر أمرا من خارج للقطع بانتفائه (١) ، ولا إرادة من الحيوان لوقوعها حيث لا إرادة ، بل من إرادة المنع ، كما إذا كان في الغذاء شعرة أو عظم مثلا ، فينقلب إلى المعدة لفرط شوقها إليه ، وإن كنت تريد إخراجه من الفم ، وأيضا قد نرى المعدة عند شدة شوقها إلى الطعام ، تصعد وتجذبه ، ويظهر ذلك بينا في الحيوان الواسع الفم القصير الرقبة كالتمساح (٢) ، فتعين كونها بقوة من المعدة ، وما ذكر في المواقف من أن هذه الحركة ، ليست إرادية ، إما من الغذاء فلعدم شعوره ، وإما من المغتذي فلوقوعها بلا إرادته ، فمبني على أنه أراد بالإرادية ، ما ينسب إلى الإرادة على ما يعم الواقعة بإرادة المتحرك ، والتابعة لإرادة القاسر نفيا للقسمين بأخصر (٣) عبارة. ويدل على وجودها في الرحم أنه إذا كان خاليا عن الفضول ، بعيد العهد بالجماع يشتد شوقه إلى المني ، حتى يحس المجامع بأنه يجذب الإحليل إلى داخل جذب المحجمة للدم ، وفي باقي الأعضاء أن الكبد يتولد فيه مع الدم الصفراء والسوداء ، ثم نجد كل واحد منها يتميز عن صاحبه ، وينصب إلى عضو مخصوص ، ويجري الدم في طريق العروق ، إلى جميع الأعضاء ، ولا يتصور ذلك إلا بما فيه من الجواذب ، ويدل على وجود الماسكة : أن الغذاء وإن كان في غاية الرقة(٤) والسيلان يبقى في المعدة إلى الانهضام (٥) ، والمني مع اقتضائه الحركة إلى أسفل يبقى في الرحم ، وكذا الدم في سائر الأعضاء ، وعلى وجود الدافعة. أنا نجد المعدة عند القيء ، ودفع ما فيها تتحرك إلى فوق ، بحيث يحس بتزعزعها ، وبحركة الأحشاء تبعا لها ، وكذا الأمعاء عند دفع ما فيها بالإسهال ، والرحم عند دفع الجنين ، وأما في سائر الأعضاء ، فلا شك أن الدم عليها مخلوط بغيره من الأخلاط (٦) ، فلو لم يكن فيها ما

__________________

(١) في (أ) بزيادة (للقطع بانتفائه)

(٢) أو الحيوان الاخر الذي يسمى (بسبع البحر) أو سيد قشطة كما يسميه المصريون.

(٣) سقط من (ب) جملة (بأخصر عبارة)

(٤) في (ب) الميوعة بدلا من (الرقة)

(٥) في (ب) الهضم بدلا من (الانهضام)

(٦) سقط من (أ) لفظ (الأخلاط)

٢٤٣

يدفع غير الملائم ، لما حصل الاغتذاء على ما ينبغي ، ويدل على الهاضمة : تغير الغذاء في المعدة ، وظهور طعم الحموضة (١) في الأحشاء ، ثم تمام الاستحالة ، ثم تبدل الصورة إلى صورة الأخلاط.

وأما الثاني : وهو بيان تغاير هذه القوى فمبني على ما تقرر عندهم من استحالة صدور الأفعال المختلفة عن قمة واحدة طبيعية. ولهذا ترى بعض الأعضاء ضعيفا في بعض هذه الأفعال ، وقويا في الباقي ، ولا يخفي أنه لا يدل على تعدد القوى بالذات ، لجواز أن يكون الاختلاف عائدا إلى اختلاف الآلات ، والاستعدادات.

[قال (وتوجد الأربع)

في كل عضو وقد يتضاعف في البعض].

يعني الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة في كل عضو لأنه يفتقر في البقاء إلى الاغتذاء المفتقر إلى الأفعال المستندة إلى القوى الأربع ، وقد يتضاعف في بعض الأعضاء. أعني التي هي آلات الغذاء كالمعدة ، فإن فيها جاذبة للغذاء من الفم ، وماسكة له فيها ، ومغيرة إلى ما يصلح أن يصير دما في الكبد ، ودافعة للفضلات إلى الأمعاء ، ثم جاذبة للدم الذي يصير غذاء لجوهر المعدة كسائر الأعضاء ، وماسكة له ريثما يغير إلى مشاكلة جوهر المعدة ، وهاضمة تفعل ذلك ، ودافعة لما يخالط ذلك من غير الملائم وكذا الكبد والعروق.

[قال (ولا حصر لمراتب الهضم)

إلا أنها تجعل أربعا إلى الأعضاء وظهور التغيرات. أولها : المعدة (٢)

__________________

(١) الحموضة : طعم الحامض ، وقد حمض الشيء بالضم ، وحمض الشيء أيضا بالفتح يحمض حموضة وحمضا أيضا ، وقولهم فلان حامض الرئتين أي مر النفس.

والحمض : ما ملح وأمر من النبات ، والحمضة : الشهوة للشيء وفي حديث الزهري «الاذن محاجة وللنفس حمضة» وإنما أخذت من شهوة الإبل للحمض لانها إذا ملت الخلة اشتهت الحمضة فتحول إليه والتحميض : الاقلال من الشيء يقال : حمض لنا فلان في القرى أي قلّل ، وأما قول الاعلب العجلي : لا يحسن التحميض إلا سردا فإنه يريد التفخيذ

(٢) المعدة : كيس عضلي يقع في الجانب الايسر من التجويف البطني تحت الحجاب الحاجز ، وتكون المعدة مزودة بحلقات عضلية قوية تعمل كصمامات لتنظيم مرور الطعام ، وتوجد هذه الحلقات عند ـ

٢٤٤

وابتداؤها من الفم ، ثم الكبد ، ثم في العروق ، ثم في الأعضاء. فإن الغذاء يستحيل في المعدة جوهرا شبيها بماء الكشك الثخين يسمى كيلوسا ، فيندفع كثيفه من طريق الأمعاء ، وينجذب لطيفه إلى الكبد من طريق ماساريقا].

يعني أن الغذاء من ابتداء المضغ إلى حين يصير جزءا من العضو يعرض له في كل آن تغير واستحالة ، من غير أن يكون ذلك محصورا في عدد ، إلا أنهم نظروا إلى أعضاء الغذاء والعضو المغتذي ، وإلى ظهور التغيرات في الغاية. فقالوا : هضم الغذاء إما أن لا يلزمه خلع صورته ، وذلك هو الذي به يتغير إلى أن يصير كيلوسا ، وهو هضم المعدة وابتداؤه من الفم ، أو يلزمه خلع صورته ، فإما أن يلزم من كمال ذلك النضج ، حصول الصورة العضوية وهو الهضم الرابع ، ويكون في كل عضو ، أو لا يلزمه حصول الصورة العضوية ، فإما أن يلزمه حصول التشبه بها في المزاج ، وذلك هو الذي به يصير رطوبة ثانية. وهو أن يكون في العروق ، أو لا يلزمه ذلك ، وهو الذي به يصير خلطا ويكون هذا في الكبد. ويستدل على كون ابتداء الهضم المعدي في الفم ، بأن الحنطة الممضوغة تفعل في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المدقوقة المبلولة بالماء ، أو المطبوخة فيه ، وبأن ما يبقى من الطعام بين (١) الأسنان يتغير ، وتنتن رائحته ، ويصير له كيفية مثل كيفية لحم الفم. والسبب في ذلك أن سطح الفم متصل بسطح المعدة ، بل كأنهما سطح واحد بشهادة التشريح (٢) ، ولذلك يجعل ما في الفم والمعدة ، هضما واحدا ، لا كما

__________________

ـ فتحة الفؤاد التي تصل المريء بالمعدة ، وعند فتحة البواب التي تصل المعدة بالاثني عشر.

وعند ما يدخل الطعام إلى المعدة تبدأ سلسلة من الانقباضات للعضلات الدائرية الموجودة في جدار المعدة تشبه الحركة الدورية ، ولهذه الانقباضات أهمية في خلط الطعام مع العصير المعدي الذي يقوم بهضم بعض مكونات الطعام ، ويفرز جدار المعدة لدى الإنسان البالغ حوالي ٣ ليترات يوميا من العصير المعدي. الذي يتألف من :

أ ـ حامض الكور ودريك

ب ـ انزيم الببسين ج ـ انزيم الرينين

(١) في (ب) الأسنان بدلا من (بين الاسنان)

(٢) ولهذا يعتبر الجهاز الهضمي في العلم الحديث يتكون من الفم ، والبلعوم والمريء والمعدة ، والامعاء الدقيقة ، والامعاء الغليظة ، والمستقيم والشرج ـ

٢٤٥

يسبق إلى بعض الأوهام ، من أن أول الهضوم في الفم. والثاني في المعدة ، والثالث في الكبد ، والرابع في العروق ، خطا لما (١) هو العمدة ، والغاية في الهضم. أعني التغيير إلى جوهر هذا (٢) العضو عن درجة الاعتبار ، وأما جعل الهضم الكبدي واحدا ، مع أن ابتداءه في الماساريقا.

أعني العروق الدقيقة الصلبة الواصلة بين الكبد ، وبين أواخر المعدة ، وجميع الأمعاء ، وليس لها اتحاد بالكبد ، فلأنه لا نظير فيها للطيف الكيلوس المنجذب إليها تغير يعتد به ، وحالة متميزة عن الكيلوسية ، التي حصلت في المعدة ، والخلطية التي تحصل في الكبد ، ثم لكل من هذه الهضوم ، فضل تندفع. ضرورة أن الهاضمة لا يمكنها إحالة جميع ما يرد إليها من الغذاء ، إما لكثرته ، وإما لأن من أجزائه ما لا يصلح أن يصير جزءا من المغتذي ، فالهضم الأول له فضل كثير ، لأنه يفعل في الغذاء ، وهو باق على طبيعته وأجزائه الصالحة وغير الصالحة ، وعلى كثرته (٣) الواردة على المعدة ، باختيار من الحيوان ، سيما الإنسان المفتقر باعتدال مزاجه إلى تنويع الأغذية وتكثيرها بالتركيب وغيره ، لا بمجرد انجذاب طبيعي للنافع وحده ، كما في باقي الهضوم (٤) ، وكما في غذاء النبات ، فلذا احتاج إلى منفذ يسع كثرة الفضلات وهو المخرج ، والهضم الثاني تكون فضلاته قليلة لطيفة ، لأن الغذاء يرد إليه بجذب طبيعي ، ومن منافذ ضيقة جدا ، فيخرج أكثرها بالبول ، والباقي من طريق الطحال والمرارة. وأما الهضم الثالث والرابع ، فاندفاع فضولهما إما أن يكون خروجا (٥) طبيعيا أو لا ، والثاني إما أن يكون باقيا على خلطيته من غير

__________________

(١) في (أ) خطا وفي (ب) خطا

(٢) سقط من (أ) لفظ (هذا)

(٣) سقط من (ب) جملة (وعلى كثرته الواردة على المعدة)

(٤) في (ب) الهضم بدلا من (الهضوم)

(٥) لا تشكل عملية الإخراج في النباتات مشكلة هامة بالنسبة لها ويعود ذلك لعدة أسباب منها :

١ ـ أن معدل عمليات الهدم في النبات أقل مما هو عليه في الحيوانات لذلك تتجمع المواد الإخراجية ببطء في النباتات ٢ ـ تعيد النباتات الخضراء استخدام الفضلات الإخراجية لعمليات الهدم في عمليات البناء فالماء ، وثاني أكسيد الكربون الناتجة من عمليات التنفس تستخدم ثانية في عملية التركيب الضوئي ، وكذلك الحال بالنسبة للفضلات النيتروجينية التي يمكن الاستفادة منها في بناء البروتينات.

٢٤٦

تصرف للهضم ، الثالث كدم البواسير ، والدم الفاسد الخارج بالرعاف وغيره ، وإما أن يكون قد استحال استحالة غير تامة. كالصديد والقيح ، أو تامة : إما إلى حالة تصلح للتغذية ، كالثغل (١) النضج الخارج من البول في حالة الصحة ، مما فات الصفرة الغاذية ، أو ، لا ، كالمدة الخارجة من الأورام المتفجرة ، والأول وهو ما يكون خروجه طبيعيا. إما أن يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى أو لا. فالأول إما أن يكون تلك المنفعة توليد جسم متصل بالبدن من جنس الأعضاء ، وهو مادة الظفر أو لا وهو مادة الشعر ، أو غير متصل ، وهو مادة الولد. أعني المني ، أو يكون غير توليد جسم آخر. وحينئذ فتلك المنفعة قد تتعلق بالمني ، كالودي الحافظ لرطوبة المني ، المسهل لخروجه ، وقد يتعلق بالجنين حال تكونه كالطمث ، أو حال خروجه كالرطوبات الكائنة حالة الولادة ، أو بعد ذلك كاللبن ، وقد لا تتعلق بهما ، وذلك إما لدفع ضرر شيء يخرج من البدن كالودي الكاسر بلعابيته لحدة البول ، أو يدخل فيه كوسخ الأذن ، القاتل بمرارته لما يدخل فيها من الذباب ونحوه ، وإما لا لدفع ضرر شيء كاللعاب المعين على الكلام بترطيبه اللسان. والثاني. وهو ما لا يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى إما أن يتكون عنه جسم آخر منفصل كمادة القمل ، (٢) أو غير منفصل كمادة الحصا ، وإما أن لا يتكون ، وهو إما أن لا يكون محسوسا البتة ، كالبخار المتحلل ، أو يكون محسوسا أحيانا كوسخ البدن الكائن من فضل غذائه ، فإنه لا يحس إلا أن يجمع أو دائما (٣) ، وخروجه إما أن يكون من منفذ محسوس كالمخاط أو غير محسوس كالعرق.

[قال (فتصير الأخلاط الأربعة)

ثم يندفع في العروق ، ويتميز ما يليق لكل عضو ، ويرشح عليهم من فوهات (٤) العروق الكثيفة].

__________________

(١) في (ب) كالبقل بدلا من (كالثغل)

(٢) في (ب) العمل بدلا من (القمل)

(٣) سقط من (ب) لفظ (أو دائما)

(٤) في (ب) مسام بدلا من (فوهات)

٢٤٧

يعني الدم والبلغم والصفراء (١) والسوداء ، وذلك بحكم الاستقراء ، فإن الحيوان سواء كان صحيحا أو مريضا ، يجد دمه مخالطا لشيء كالرغوة وهو الصفراء ، أو لشيء كالرسوب وهو السوداء ، أو لشيء كبياض البيض وهو البلغم ، وما هذه الثلاثة فهو الدم ، وقد يقال: إن الكيلوس إذا انطبخ ، فإن كان معتدلا فالدم ، وإن كان قاصرا فالبلغم والسوداء ، وإن كان مفرطا فالصفراء. وأيضا فإن الأخلاط تتكون من الأغذية المركبة من الأسطقسات الأربعة ، فبحسب غلبة قوة واحد واحد منها يوجد خلط خلط. وأيضا الغذاء شبيه بالمغتذي ، وإن في البدن عضوا باردا يابسا كالعظم ، وباردا رطبا كالدماغ ، وحارا رطبا كالكبد ، وحارا يابسا كالقلب ، فيجب أن تكون الأخلاط كذلك ليغتذي كل عضو بما يناسبه ، هذا والحق أن الغاذي بالحقيقة هو الدم ، وباقي الأخلاط كالأبازير المصلحة ، ولهذا كان أفضل الأخلاط ، وأعدلها مزاجا وقواما ، وألذها طعما ، وفسروا الخلط بأنه جسم رطب سيال ، يستحيل إليه الغذاء أولا ، واحترز بالرطب ، أي سهل القبول للتشكل عند عدم مانع من خارج ، عن مثل العظم والغضروف ، وبالسيال أي ما من شأنه أن ينبسط أجزاء متسفلة بالطبع ، حيث لا مانع عن مثل اللحم والشحم ، إن قلنا بكونهما رطبيين ، والمراد بالاستحالة التغير في الجوهر بحرارة البدن ، وتصرف الغاذية بقرينة التعدية بإلى (٢).

إذ يقال في العرف ، استحال الماء إلى الهواء ، وقلما يقال. استحال الماء الحار إلى الباردة ، بل باردا ، وبه احترز عن الكيلوس الذي يستحيل إليه الغذاء أولا في كيفيته ، والمراد بالغذاء ما هو المتعارف من مثل اللحم والخبز ، وسائر ما

__________________

(١) مادة الصفراء التي تفرزها المرارة ، ومرض الصفراء أيضا ، والصفراء : القوس ، والصفراء نبت ، والصفرية بالضم : صنف من الخوارج نسبوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم ، بكسر الصاد والصفار بالضم : اجتماع الماء الاصفر في البطن ، يعالج بقطع النائط ، وهو عرق في الصلب قال الراجز : قضب الطبيب نائط المصفور وقبله : وبجّ كلّ عاند نعور والصفر : فيما تزعم العرب : حية في البطن تعض الإنسان إذا جاع واللذع الذي يجده عند الجوع من عضه قال أعشى باهلة يرثي أخاه

لا يتأرّى لما في القدر يرقبه

ولا يعض على شرسوفه الصفر

وفي الحديث : لا صفر ولا هامة.

(٢) في (ب) التغذية بدلا من (التعدية)

٢٤٨

يرد على البدن فيغذوه. واحترز بقيد الأولية عن الرطوبات الثانية وعن المني ، فإن الغذاء إنما يستحيل إليهما بعد الاستحالة إلى الخلط ، ويرد عليه إشكال بالخلط المتولد من الخلط كالدم من البلغم ،. ويدفع ـ بأن المراد استحالة الغذاء أولا (١) في الجملة. وكل خلط فرض ، فإن من شأنه أن الغذاء يستحيل إليه أولا. ثم لا خفاء في أنه مثل اللحم والعظم ، وجميع ما عدا الخلط يخرج بهذا القيد ، فذكر الرطب والسيال يكون مستدركا ، بل مخلا بالانعكاس (٢) ، إذ يخرج البلغم الجصي ، والسوداء الرمادية ، فإنهما غير سيالين ، بحكم المشاهدة ، والقول بأن عدم السيلان لمانع ليس بقادح ضعيف.

[قال (ثم يتشبه به)

لونا ، وقواما ، ومزاجا ، والتصاقا].

أي يصير ما يليق بالعضو ، ويرشح عليه شبيها به في المزاج والقوام (٣) واللون والالتصاق ، أعني صيرورته جزءا من العضو على النسبة الطبيعية ، من غير أن يبقى متميزا عنه ، مترهلا كما في الاستسقاء اللحمي. فإن ذلك إخلال بفعل الالصاق ، كما أن البرص (٤) والبهق إخلال بالتشبه في اللون. أما الذبول فإخلال بتحصيل جوهر الغذاء ، ومن الإخلال بالفعل ما وقع في المواقف. أن الاستسقاء اللحمي إخلال بالقوام ، والذبول إخلال بالالتصاق ، ولا أدري كيف يقع مثله لمثله. واعلم أنه إذا لم يكمل القوام فهي رطوبة رذاذية طلية ، قد التصقت بالعضو ، وانعقدت ، واستحالت إليه من جهة المزاج ، لكن لقرب عهدها بالانعقاد لم تصلب بعد ، ولم يحصل لها قوام العضو.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (أوّلا)

(٢) في (ب) ومخلا بالانعكاس بحذف (بل)

(٣) سقط من (أ) لفظ (القوام)

(٤) البرص : داء وهو بياض ، وقد برص الرجل فهو أبرص ، وأبرصه الله ، وسام أبرص ، من كبار الوزغ ، وهو معرفة إلا أنه تعريف جنس ، وهما اسمان جعلا اسما واحدا ، إن شئت أعربت الاول ، وأضفته إلى الثاني ، وإن شئت بنيت الاول على الفتح وأعربت الثاني باعراب ما لا ينصرف.

٢٤٩

واعترض (١) بأنها حينئذ لا تكون على مزاج العضو لما فيها من زيادة مائية لا بدّ من(٢) تحللها. وردّ بأنه يجوز أن تكون الاستحالة إلى قوام العضو لا بتحلل المائية ، بل بمجرد الانعقاد ، كاللحم يتولد من منتن الدم ، ويعقده الحر ، والشحم من مائيته ودسميته ، ويعقده البرد.

[قال (والشاكلة المعتبرة بين الغذاء والمغتذى)

في حفظ الصحة ، هي التي تكون حال ما يصير جزءا من العضو ، إذ هو الغذاء بالفعل ، وأما قبله فبالقوة على الاختلاف (٣) في القرب والبعد].

فيه إشارة إلى أمرين : أحدهما : أن الغذاء قد يطلق على ما هو بالفعل. أعني الجسم الذي ورد على البدن ، واستحال إلى الصورة العضوية ، وصارت جزءا منه شبيها به ، لكن لم يحصل له القوام التام الذي للعضو للقطع ، بأنه لا يقال للأجزاء الكاملة من العضو ، أنها غذاء له ، وقد يطلق على ما هو بالقوة البعيدة ، أعني الجسم الذي من شأنه ، إذا ورد على البدن ، وانفعل عن حرارته أن يستحيل إلى الغذاء بالفعل كالخبز واللحم أو القريبة. أعني الجسم المعد في البدن لأن يصير غذاء بالفعل كالأخلاط ، وبعض الرطوبات الثانية (٤) ، أعني التي تستحيل إليها الأخلاط ، وهل تطلق على الكيلوس منعه بعضهم. وثانيهما : أن المراد بالشاكلة في قولهم حفظ الصحة ، تكون بالمشاكل ، كما أن علاج المريض يكون بالمضاد ، موافقة مزاج الغذاء ، حين ما هو غذاء بالفعل لمزاج المغتذى ، حتى أن غذاء صاحب المزاج الحار ينبغي أن يكون باردا ، بحيث إذا تصرف فيه طبيعته ، فصار غذاء بالفعل ، استحال عن البرد ، وصار حارا مشاكلا لجوهر بدنه ، لا أن يكون حارا مثل مزاجه ، وإلا لصار عند الهضم أحر مما ينبغي ، وأسقمه ، وربما صار من

__________________

(١) في (ب) واعترف بدلا من (واعترض)

(٢) سقط من (أ) حرف (من)

(٣) في (ب) التباين بدلا من (الاختلاف)

(٤) سقط من (ب) لفظ (الثانية)

٢٥٠

قبيل الأدوية بل السموم (١) ، وكذا غذاء بارد المزاج ينبغي أن يكون حارا ، ليصير (٢) عند الهضم في بدنه البارد باردا مثله ، وبهذا يندفع الاعتراض ، بأنه لو كان حفظ الصحة بالمشاكل لزم أن يكون غذاء من هو حار المزاج جدا بالمسخنات مثل العسل والفلفل ، وبارد المزاج بالمبردات وبطلانه ظاهر (٣).

[قال (ومنها)

النامية وهي التي تدخل الغذاء بين أجزاء الجسم ، فتزيد في أقطاره بنسبة طبيعته ، وقد يقال إنها الغاذية ، إلا أنها في الابتداء تفي بإيراد البدل والزيادة ، لفرط القوة ، وصغر الجثة(٤) ، وكثرة الرطوبة ، وفي الآخر تعجز عن ذلك].

أي ومن القوى الطبيعية النامية ، وهي التي تزيد في أقطار الجسم ، أعني الطول والعرض والعمق ، على التناسب الطبيعي ، بما تدخل في أجزائه من الغذاء ، فخرج ما يفيد السمن ، لأنه لا يكون زيادة في الطول وفيه نظر ، والورم لأنه لا يكون على التناسب الطبيعي. أي النسبة التي تقتضيها طبيعة ذلك (٥) الشخص ، والتخلخل ، لأنه لا يكون بما يدخل في الجسم ، بل بانبساط جرمه (٦) ، وأما التخلخل بمعنى الانتفاش. أعني مداخلة الأجزاء الهوائية.

فلو سلّم تناول الجنس. أعني القوة الطبيعية لما يفيده ، لخرج بقيد الغذاء ، لظهور أن الأجزاء الهوائية ، ليست غذاء للمتنفس. والأكثرون على أن قيد مداخلة الغذاء في أجزاء الجسم ، يخرج السمن أيضا ، لأنه لا يدخل في جوهر (٧) الأعضاء الأصلية المتولدة من المنى، بل في الأعضاء المتولدة من الدم ، ومائيته كاللحم

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (السموم)

(٢) في (ب) ليصبح بدلا من (ليصير)

(٣) قال الشاعر :

وبعض السم ترياق لبعض

وقد يشفي العضال من العضال

(٤) في (ب) الجسم بدلا من (الجثة)

(٥) في (أ) بزيادة لفظ (دلك)

(٦) في (أ) جرمه بدلا من (جزئه)

(٧) سقط من (ب) لفظ (جوهر)

٢٥١

والشحم والسمن ، وما ذكره الإمام من أن قيد الأقطار يخرج الزيادات الصناعية ، كما إذا أخذت شمعة ، وشكلتها بشكل ، فإنك متى نقصت من طولها ، زدت في عرضها ، كلام قليل الجدوى (١) ، لأن الكلام في القوى الطبيعية ، وفي أن تكون الزيادة بمداخلة الغذاء. وإلا فلا خفاء ، في أنك إذا ضممت ومزجت بالشمعة ، قدرا آخر من الشمع ، حصلت الزيادة في الأقطار (٢) ، وإنما قدمنا في المتن قيد المداخلة نظرا إلى الوجود. وفي الشرح قيد الزيادة نظرا إلى الظهور ، ولا يخفى أن إطلاق النامية على القوة بالنظر إلى الوضع اللغوي من قبيل سيل مفعم على لفظ اسم المفعول ، وذلك لأن فعلها ، إنما هو الإنماء والنامي. إنما هو الجسم قبل الزيادة التي بها يحصل النمو ، وليست في الجسم الأصلي ، ولا الوارد ، لأن كلّا منهما على حاله ، فإذن كل منهما كما كان ، وإنما انضاف جسم إلى جسم ، فصار المجموع أعظم من كل منهما ، وهذا المجموع لم يكن قبل ذلك صغيرا ثم عظم. فإذن ليس هاهنا جسم نام.

وأجيب : بمنع المقدمة الأولى على ما قال له (٣) ابن سينا : إذ (٤) أن القوة النامية تفرق أجزاء الجسم ، بل اتصال العضو ، وتدخل في تلك المسام الأجزاء الغذائية ، ولا يلزمه الإيلام ، لأن ذلك إنما هو في التفريق الغير الطبيعي. وبالجملة. لما كان معنى النمو ، صيرورة الجسم أعظم مما كان بالطريق المخصوص ، كان النامي هو ذلك الجسم ، الذي ورد عليه الغذاء ، وهو في أول الأمر الجسم الأصلي ، ثم الحاصل بالتغذية والتنمية ، وهكذا إلى أن يبلغ كمال النشوء.

__________________

(١) في (ب) الفائدة بدلا من (الجدوى)

(٢) الأقطار جمع قطر. والقطر : بالضم الناحية والجانب والقطر : جمع قطرة ، والقطر : المطر. والقطر والقطر : مثل عسر وعسر : العود الذي يتبخر به قال الشاعر :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامي ونشر القطر

والمفطرة : المجمرة وأنشد أبو عبيد للمرقش الأصغر

في كل يوم لها مقطرة

فيها كباء معد وحميم

أي ماء حار تحمم به.

(٣) سقط من (أ) لفظ (له)

(٤) سقط من (أ) لفظ (إذ)

٢٥٢

قوله وقد يقال : إشارة إلى ما ذكره الإمام من أن فعل النامية إيراد الغذاء إلى العضو ، وتشبيهه به ، وإلصاقه كالغازية ، إلا أن الغازية تفعل هذه الأفعال ، بحيث يكون الوارد مساويا للمتحلل ، والنامية تفعل أزيد من المتحلل (١). ولا شك أن القادر على الشيء ، قادر على مثله ، والجزء الزائد مشابه للأصل ، فإذا قويت الغاذية على تحصيل الأصل ، قويت على تحصيل الزائد ، وتكون هي النامية ، إلا أنها في الابتداء تكون قوية على إيراد بدل الأصل والزائد معا ، لشدة القوة على الفعل ، وكثرة المادة. أعني الرطوبة (٢) وقلة الحاجة بواسطة صغر العضو ، وبعد ذلك يعود الأمر إلى النقصان لضعف في القوة ، وقلة في المادة ، وعظم في العضو.

واعترض بأن التغذية والتنمية فعلان مختلفان ، فلا يستندان إلى مبدأ واحد ، حتى أن أمر التغذية ، لما كان بإيراد البدل والشبيه والإلصاق أسندوه إلى قوى ثلاث ، وهذا ما قال في الشفاء (٣). إن شأن الغازية أن تؤتى (٤) كل عضو من الغذاء بقدر عظمه وصغره ، وتلصق به من الغذاء بمقداره الذي له على السواء. وأما النامية فتسلب جانبا من البدن من الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة في جهة أخرى ، فتلصقه بتلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أخرى. بيان ذلك : أن الغاذية إذا انفردت وقوي فعلها ، وكان ما تورده أكثر مما يتحلل ، فإنها تزيد في عرض الأعضاء وعمقها (٥) زيادة ظاهرة بالتسمين ، ولا تزيد في الطول زيادة يعتد بها ، والنامية تزيد في الطول أكثر كثيرا مما تزيد في العرض.

[قال (ولهذا لما أدى الضعف)

وقلة الرطوبة إلى العجز عن إيراد البدن حل الأجل.

__________________

(١) في (ب) المتخلل بدلا من (المتحلل)

(٢) سقط من (ب) جملة (أعني الرطوبة)

(٣) كتاب الشفاء لابن سينا وقد قام بنشره وتحقيقه مجموعة من الكتاب والمفكرين (الهيئة المصرية للكتاب)

(٤) في (ب) قوى بدلا من (تؤتي)

(٥) في (ب) وعقمها بدلا من (عمقها)

٢٥٣

إشارة إلى ما ذكروا في ضرورة الموت من جهة القوة الفاعلية ، وفسروا الموت. بتعطل القوى عن الأفعال ، لانطفاء الحرارة الغريزية التي هي آلتها.

فإن كان ذلك لانتهاء الرطوبة (١) الغريزية إلى حد لا يفي (٢) ما يقوم بها من الحرارة الغريزية بأمر القوى وأفعالها ، فموت طبيعي ، وإلا فغير طبيعي.

وحاصل الكلام. أن لبطلان الرطوبة الغريزية أسبابا ضرورية ، فيكون ضروريا ، فيكون انطفاء الحرارة ضروريا لبطلان مادته ، فيكون تعطل القوى ضروريا لبطلان آلتها. وتلك الأسباب مثل انتشاق الهواء المحيط للرطوبة من الخارج ، ومعاونة الحرارة الغريزية من الداخل ، ومعاضدة الحركات البدنية والنفسانية الضرورية في ذلك ، مع عجز الطبيعة عن مقاومة تلك المتحللات بإيراد البدل دائما ، لما سبق من تناهي القوى الجسمانية ، على أن هناك أمرا آخر ، يعين على إطفاء الحرارة الغريزية بطريق الغمر (٣) لغلبته في الكم ، وبطريق الغمر (٤) لمضادته في الكيف ، وهو ما يستولى من الرطوبة القريبة الباردة البلغمية بواسطة قصور الهضم.

هذا ولو فرضنا فعل الغاذية. أعني إيراد البدل دائما غير متناه. فليس التحلل دائما على حد واحد ، بل يزداد يوما فيوما لدوام (٥) المؤثر. أعني المحللات المذكورة في متأثر واحد(٦) ، هو الرطوبة الغريزية ، فالبدل لا يقاومه. فبالضرورة يتأدى الأمر إلى افناء التحلل للرطوبة.

بل لو فرضنا البدل دائما على مقدار المتحلل. فلا خفاء في أنه لا يقاومه لقصوره بحسب الكيفية ، لأن الرطوبة الغريزية تخمدت (٧) ونضجت في أوعية

__________________

(١) في (ب) لانتفاء بدلا من (انتهاء)

(٢) في (ب) يبقى بدلا من (يفي)

(٣) في (ب) القهر بدلا من (الغمر)

(٤) في (ب) القهر بدلا من (الغمر)

(٥) في (ب) لعدم بدلا من (لدوام)

(٦) في (ب) مقاومة واحدة بدلا من (متأثر واحد)

(٧) في (ب) تجمدت بدلا من (تخمدت)

٢٥٤

الغذاء ، ثم في أوعية المنى ، ثم في الرحم ، والبدل لم يتجمر إلا في الأولى فيكون إيراده بدلا منها كإيراد الماء بدلا من الدهن في السراج (١).

[قال (ومنها المولدة) :

وهي التي تحصل من الغذاء ما يصلح مبدأ لشخص آخر من نوع المغتذى ، وتفصله إلى أجزاء مختلفة ، ونفيدها الهيئات التي لها يصير مثلا بالفعل ، والجمهور على أن المولدة هي التي تحصل المادة وتفصلها ، ومحصل الهيئات قوة أخرى تسمى بصورة].

وهي قوة شأنها تحصيل البذر وتفصيله إلى أجزاء مختلفة ، وهيئات مناسبة ، وذلك بأن تفرز من الغذاء بعد الهضم التام ، ليصير مبدأ لشخص آخر من نوع المغتذى أو جنسه ، ثم تفصل ما فيه من الكيفيات المزاجية ، فتمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو ، ثم تفيده بعد الاستحالات الصور والقوى والأعراض الحاصلة للنوع ، الذي انفصل عند البذر (٢) أو لجنسه (٣) كما في البغل ، والمحققون على أن هذه الأفعال مستندة إلى قوى ثلاث ، بينوا حالها على ما عرف في الإنسان ، وكثير من الحيوانات الأولى التي تجذب الدم إلى الأنثيين ، وتتصرف فيه إلى أن يصير منيا ، وهي لا تفارق الانثيين ، وتخص باسم المحصلة ، والثانية التي تتصرف في المنى ، فتفصل كيفياتها المزاجية ، وتمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو ، فتعين مثلا للعصب مزاجا خاصا ، وللشريان مزاجا خاصا ، وللعظم مزاجا خاصا. وبالجملة تعد مواد الأعضاء وتخص هذه باسم المفصلة والمغيرة

__________________

(١) السراج : معروف ، وتسمى الشمس سراجا ، والمسرجة بالفتح التي فيها الفتيلة والدهن.

والسّرجوجة : الطبيعة والطريقة قال الأصمعي : إذا استوت أخلاق الناس قيل : هم على سرجوجة واحدة.

وقال الأصمعي : السّريجيات : سيوف منسوبة إلى قين يقال له سريج ، وشبه العجاج بها حسن الأنف في الدقة والاستواء فقال :

وجبهة وحاجبا مزججا

وفاحما ومرسنا مسرّجا

(٢) في (ب) عنه البدن بدلا من (عند البذر)

(٣) في (ب) الجنسية بدلا من (أو لجنسه)

٢٥٥

الأولى ، تمييزا من المغيرة التي هي من جملة الغاذية.

أعني التي تغير الغذاء الوارد على البدن إلى مشاكلة أعضائه. فإنها إنما تكون بعد تصرف المغيرة الأولى وحصول البدن بأعضائه. والثالثة التي تفيد تمييز الأجزاء وتشكيلها على مقاديرها ، وأوضاع بعضها عند بعض ، وكيفياتها ، وسائر ما يتعلق بنهايات مقاديرها.

وبالجملة تلبس كل عضو صورته الخاصة به ، فيكمل وجود الأعضاء ، وهذه تخص باسم المصورة ، ومحلها المنى ، كالمفصلة وفعلها إنما يكون في الرحم ، وكلام القوم متردد ، في أن المولدة اسم للقوى الثلاث جميعا (١) ، أو للمحصلة وحدها ، أو لها وللمفصلة معا. والأول هو المفهوم من الشفاء والإشارات حيث حصر القوى الطبيعية في الغاذية والنامية والمولدة من غير تعرض للمصورة. ولذا قال الشارح (٢) للإشارات. أن المولدة للمثل تنقسم إلى نوعين : مولدة ومصورة ، والمولدة إلى نوعين : محصلة ومفصلة ، فأراد بالمولدة أولا المتصرفة لحفظ النوع ، ليعم الأقسام ، وثانيا المتصرفة لا على وجه التصوير ليكون أخص. بل كلام الشفاء صريح فيما ذكرنا. لأنه قال المولدة قوة تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءا هو شبيه بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تشبه به من التخليق والتمزيج ما يصيره شبيها به بالفعل ، وقال : للمولدة فعلان :

أحدهما : تخليق البذر وتشكيله وتطبيعه. الثانية. صورها من القوى والمقادير والأعداد والأشكال والخشونة والملاسة ، وما يتصل بذلك متسخرة تحت قدرة

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (جميعا)

(٢) هو محمد بن محمد بن الحسن أبو جعفر ، نصير الدين الطوسي فيلسوف كأن رأسا في العلوم العقلية ، علامة بالأرصاد والمجسطي والرياضيات علت منزلته عند هولاكو فكان يطيعه فيما يشير به عليه ، ولد بطوس (قرب نيسابور) وابتنى بمراغة قبة ورصدا عظيما واتخذ خزانة ملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة. من كتبه (شكل القطاع) و (تربيع الدائرة) (تجريد العقائد) و (حل مشكلات الإشارات والتنبيهات لابن سينا ، وشرح قسم الإلهيات من إشارات ابن سينا وغير ذلك كثير. توفي عام ٦٧٢ ه‍ راجع فوات الوفيات ٢ : ١٤٩ والوافي ١ : ١٧٩ ومفتاح السعادة ١ : ٢٦١

٢٥٦

المتفرد بالجبروت عز شأنه ، والثاني : أعني كون المولدة للمحصلة ، مذهب بعض الأقدمين ، وبه يشعر ما نقل عن ابن سينا : أن القوة المولدة يخدمها القوتان اللتان إحداهما المفصلة ، والأخرى المصورة.

والثالث : أعني كونها اسما لما يعم المحصلة والمفصلة. مذهب الجمهور والمصرح به في القانون ، حيث قال : إن القوة المتصرفة لبقاء النوع تنقسم إلى نوعين ، إلى المولدة والمصورة. والمولدة نوعان ، نوع يولد المنى في الذكر والأنثى ، ونوع يفصل القوى التي في المنى ، فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو.

[قال (ونفاها بعضهم) :

للقطع باستحالة صدور مثل هذه الأفعال ، التي هي العمدة في الاستدلال على قدرة الصانع وعلمه وحكمته ، عن قوة بسيطة عديمة الشعور ، حالة في مادة متشابهة الأجزاء أو الالتصاق] (١).

إشارة إلى ما ذكره الإمام ، واختاره بعض الحكماء المتأخرين. وهو أن العقل قاطع بامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة ، والتركيبات العجيبة الدالة على غاية القدرة والحكمة ، على قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا ، مع أنها حالة في جسم متشابه الأجزاء ، أو متشابه الامتزاج على اختلاف الرأيين ، إذ عند أرسطو جزء المنى كالكل في الاسم والحد من غير اختلاف في الحقيقة لكونه منفصلا عن الانثيين فقط ، وعند أبقراط أجزاء المنى مختلفة بالحقائق ، متمايزة في نفس الأمر ، إذ يخرج من اللحم جزء شبيه به ، ومن العظم جزء شبيه به ، وكذا سائر الأعضاء ، غاية الأمر أنها غير متمايزة في الحس ، وهو معنى تشابه الامتزاج ، ولكل من الفريقين احتجاجات مذكورة في موضعها.

__________________

(١) في (ب) الامتزاج بدلا من (الالتصاق)

٢٥٧

فعلى الأول : يلزم أن يكون الشكل الحادث من فعل المصورة في المنى هو الكرة على ما هو شأن فعل القوة الغير الشاعرة في المادة المتشابهة.

وعلى الثاني : يلزم أن يكون الحاصل كرات مضمومة بعضها إلى بعض ، وأن لا يبقى وضع الأعضاء وترتيبها على نسبة واحدة لكون المنى رطوبة سيالة لا يحفظ الوضع والترتيب.

فإن قيل : إنما يمتنع اختلاف آثار القوة العديمة الشعور ، في المادة الواحدة لو لم تفد القوة المفصلة فيها تمييز أجزاء (١) ، واختلاف مواد للأعضاء.

قلنا : فيعود الكلام إلى القوة المفصلة. فإن اعترفوا بأن القوى في مرتبة الوسائط والآلات ، لا الفواعل والمؤثرات. والمؤثر إنما هو خالقها القادر المختار الفعال لما يشاء ، فقد اهتدوا ولم يبق سبيل إلى إثبات القوى. والحاصل أن ما يدرك بعلم التشريح (٢) من الصور والكيفيات والأوضاع في بدن الإنسان يمتنع أن يجعل فعل القوة المصورة في مادة المنى ، إما من جهة الفاعل ، فلكونه عديم الشعور. وإما من جهة القابل ، فلكونه متشابها.

وقد يجاب عن الأول. بأنه استبعاد وإنما يمتنع لو لم يكن ذلك بإذن خالقها ، بمعنى أنه خلقها كذلك ، وأوجدها كذلك. وعن الثاني : بأنه لو سلّم بساطة القوة المصورة ، وتشابه أجزاء المنى ، فلا خفاء في أنه من أجسام مختلفة الطبائع وحينئذ لا يلزم أن يكون الحيوان كرة أو كرات ، إذ لا يلزم أن يكون فعل القوة في المركب فعلها في واحد واحد من الأجزاء (٣).

__________________

(١) في (ب) تميزا آخر بدلا من (تمييز أجزاء)

(٢) علم التشريح هو العلم الذي يبحث عن أعضاء الحيوان والإنسان ليعرف ما بها من داء ويطبب لها الدواء وهو فن لا يتقنه إلا أولى الألباب من صفوة البشر ولقد عرف العرب قديما علم التشريح. ومنه تشريح اللحم قال الراجز :

كم قد أكلت كبدا وإنفحة

ثم ادخرت ألية مشرحة

والقطعة منه تسمى : شريحة ، وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة وشريح.

وشرح الله صدره للإسلام فانشرح وشراحيل : اسم كأنه مضاف إلى إيل ويقال : شراحين أيضا بابدال اللام نونا عن يعقوب.

(٣) في (ب) الأجزام بدلا من (الأجزاء)

٢٥٨

[قال (وأما الاعتراض) :

بأن قوى النفس آلات لها وخوادم ، فيمتنع حدوثها (١) قبل التنفس ، وفعلها بذاتها فإنما يتوجه لو جعل النفس حادثة بعد البدن ، والمصورة عن قوى نفس المولد ، كالغاذية والنامية. ودل على اضطرابهم في ذلك ، اضطرابهم في أن الجامع للأجزاء ، والحافظ لها ما ذا؟ فذكر الإمام. أن الجامع لأجزاء بدن الجنين نفس الأبوين ، ثم يبقى المزاج في تدبير نفس الأم إلى أن يستعد كحدوث نفس تكون هي الحافظة له والجامعة لسائر الأجزاء. ونقل ابن سينا : أن الجامع نفس الأبوين ، والحافظ للاجتماع أولا القوة المصورة لذلك البدن ، ثم نفسه الناطقة. وصرح في الشفاء بأن الجامع للاسطقسات بدن كل حيوان والمؤلف لها على ما يصلح ، والحافظ لنظامه على ما ينبغي هي النفس التي له ، والأشبه ما قيل ، أن المتصرف أولا نفس الأبوين بقواها إلى أن يفرز من الأخلاط ، ما يصلح مادة للمنى ، وبعدها لصورة تحفظ مزاجه ، ثم يتكامل في الرحم إلى أن يستعد لنفس يصدر عنها ، مع حفظ المزاج الأفعال النباتية ، فتجذب الغذاء إلى تلك المادة ، وتعدها لقبول نفس يصدر عنها مع ما سبق الأفعال الحيوانية ، وهكذا إلى الناطقة].

قد يورد هاهنا سؤال. وهو أن الفلاسفة يجعلون المولدة والمصورة وغيرهما ، قوى للنفس ، وآلات لها ، والنفس (٢) حادثة بعد حدوث المزاج (٣) ، وتمام صور الأعضاء

فالقول باستناد صور الأعضاء إلى المصورة ، قول بحدوث الآلة قبل ذي الآلة ، وفعلها بنفسها من غير مستعمل إياها وهو باطل.

وجوابه بعد تسليم أن النفس ليست بقديمة ، كما هو رأي بعض الفلاسفة ، ولا

__________________

(١) في (ب) صدورها بدلا من (حدوثها)

(٢) سقط من (ب) لفظ (النفس)

(٣) مزاج البدن : ما ركب عليه من الطبائع ، ومزاج الشراب ما يمزج به ، والمزج : العسل قال أبو ذؤيب

فجاء بمزج لم ير الناس مثله

هو الضحك إلا أنه عمل النحل

والموزج معرّب وأصله بالفارسية : موزه. والجمع : الموازجة مثال : الجورب والجواربة.

٢٥٩

حادثة قبل حدوث البدن ، كما هو رأي بعض المليين. أن ذلك إنما يرد لو جعلت المصورة من قوى النفس الناطقة للمولود ، وأما لو جعلت من قوى نفسه النباتية ، المغايرة بالذات لنفسه الناطقة ، كما هو رأى البعض ، أو من قوى النفس الناطقة للأم ، فلا إشكال ، إلا أن كلامهم مضطرب في ذلك ، على ما يشعر به اضطرابهم في أن (١) الجامع لأجزاء البدن ، هل هو الحافظ لها أم لا ، وفي أنه نفس المولود أم غيرها ، فذكر الإمام. أن الجامع لأجزاء النطفة نفس الوالدين ، ثم أنه يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الأم إلى أن يستعد لقبول نفس ، ثم إنها تصير بعد حدوثها ، حافظة له ، وجامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء.

ونقل عن ابن سينا أن الجامع لأجزاء بدن الجنين نفس الوالدين ، والحافظ لذلك الاجتماع أولا القوة المصورة لذلك البدن ، ثم نفسه الناطقة ، وتلك القوة ليست واحدة في جميع الأحوال ، بل هي قوى متعاقبة بحسب الاستعدادات المختلفة لمادة الجنين. وذكر في الشفاء أن النفس التي لكل حيوان هي جامعة أسطقسات بدنه ، ومؤلفتها ومركبتها على نحو يصلح معه ان يكون بدنا لها ، وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي ، والأشبه بمقتضى قواعدهم ما ذكر في شرح الإشارات (٢) ، وهي أن نفس الأبوين تجمع بالقوة الجاذبة ، أجزاء غذائية ، ثم تجعلها أخلالها ، وتفرد منها (٣) بالقوة المولدة مادة المنى ، وتجعلها مستعدة لقبول قوة من شأنها إعداد المادة لصيرورتها إنسانا ، فتصير بتلك القوة منيا! وتلك القوة تكون صورة حافظة لمزاج المنى كالصورة المعدنية ، ثم إن المنى يتزايد كمالا في

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (أن)

(٢) سبق الحديث عن شرح الإشارات لنصير الدين الطوسي. والذي يقول عنه ابن القيم الجوزية في (إغاثة اللهفان) ٢ : ٢٦٧ نصير الشرك والكفر الملحد وزير الملاحدة ، النصير الطوسي وزير هولاكو شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه فعرضهم على السيف حتى شفي إخوانه من الملاحدة واشتفى هو. فقتل الخليفة المعتصم والقضاة والفقهاء والمحدثين ، واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة إلى أن يقول : واتخذ للملاحدة مدارس ورام جعل «إشارات» إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك فقال : هي قرآن الخواص ، وذلك قرآن العوام ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتم له الأمر ، وتعلم السحر في آخر الأمر ، فكان ساحرا يعبد الأصنام.

(٣) في (ب) ويقرر أنها بدلا من (تفرد منها)

٢٦٠