شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

ببراهين إبطال التسلسل ، أما وجوه التصرف في السلمى ، فقد سبقت وأما في المسامتة فوجهان :

أحدهما : برهان التخلص وتقريره أنه لو أمكن لا تناهي الأبعاد لأمكن أن نفرض كرة يخرج من مركزها خط غير متناه ملازم له مقاطع لخط آخر غير متناه ، وأن تتحرك تلك الكرة على نفسها ، فبالضرورة يصير الخط الخارج من مركزها بعد المقاطعة مسامتا ثم موازيا ، لكن ذلك محال لتوقفه على تخلص أحد الخطين عن الآخر وهو لا يتصور إلا بنقطة هي طرف من أحد الخطين ، وقد فرضناهما غير متناهيين هذا خلف (١) ويرد عليه منع إمكان حركة الخط الغير المتناهي سيما (٢) بحيث ينتهي من المقاطعة إلى المسامتة إلى الموازاة. وأورد أبو البركات هذا المنع على برهان المسامتة وتبعه صاحب الإشراق في المطارحات (٣) ، ولا يظهر له وجه ، لأن المفروض هناك حركة قطر الكرة وهو متناه.

وثانيهما : برهان الموازاة وهو أن نفرض قطر الكرة مسامتا للخط الغير المتناهي ، ثم موازيا له بحركة الكرة فلانتهاء المسامتة يلزم في الخط الغير المتناهي نقطة هي آخر نقطة المسامتة وهو (٤) محال ، لأن كل نقطة تفرض كذلك. فالمسامتة بما فوقها بعد المسامتة بها ، وأما على برهان التطبيق فمثل أن نفرض البعد الغير المتناهي أذرعا ، ثم نعتبر التطبيق بين عدة الألوف منها. وعدة الآحاد على ما مرّ في التسلسل. أو يقال ما بين المبدأ المحقق أو المفروض ، وبين كل ذراع متناه ، لكونه محصورا بين حاصرين فيتناهى الكل (٥) ، لأنه لا يزيد على ذلك إلا بواحد ، أو يقال إلا ذراع مترتبة في الوضع ، فنطبق بين قبلياتها وبعدياتها ، فإن لم يتساويا [بطل التضايف وإن تساويا] (٦) لزم وجود ذراع له بعدية لا قبلية ، لأن للمبدإ قبلية لا

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (هذا خلف)

(٢) سقط من (ب) لفظ (سيما)

(٣) سقط من (أ) لفظ (المطارحات)

(٤) سقط من (ب) جملة (وهو محال)

(٥) في (ب) الجميع بدلا من (الكل)

(٦) ما بين القوسين سقط من (أ)

١٠١

بعدية ، وأيضا إذا طبقنا وقعت قبلية الأول بإزاء (١) بعدية الثاني ، وقبلية الثاني بإزاء بعدية الثالث وهكذا إلى غير النهاية ، فتبقى قبلية بلا بعدية فيبطل التضايف.

وأيضا للأول قبلية بلا بعدية فلو كان لكل ما عداه قبلية وبعدية معا لزم قبلية بلا بعدية.

[قال (احتج المخالف بوجوه)

الأول : أن ما يلي الجنوب غير ما يلي الشمال ، وما يوازي ربع العالم أقل مما يوازي نصفه فلا يكون عدما محضا. قلنا مجرد (٢) وهم.

والثاني : أن الواقف على طرف العالم إما أن يمكنه مد اليد فثمة بعد ، أو لا فثمة مانع.

قلنا : لا يمكن لعدم الشرط (٣) لا لوجود المانع.

الثالث : أن الجسم كلي لا ينحصر في شخص (٤) ، فلا تتناهى أفراده الممكنة كسائر الكليات (٥) ، بل توجد لعموم الفيض. قلنا : الكلية لا تقتضي سوى إمكان كثرة أفراده المفروضة بالنظر إلى مفهومه ، ولا ينافي امتناع كلها أو بعضها بموجب كلزوم المحالات المذكورة، على أن معنى إمكان افراده الغير المتناهية ليس اجتماعها في الوجود على ما هو المطلوب ، بل عدم انتهائها إلى حد لا يمكن بعده وجود فرد آخر].

__________________

(١) في (ب) بجوار بدلا من (بإزاء)

(٢) سقط من (ب) لفظ (مجرد)

(٣) سقط من (أ) لفظ (الشرط)

(٤) ف (ب) واحد بدلا من (شخص)

(٥) الكليات الخمس : هي : الجنس ، والنوع ، والفصل ، والخاصة ، والعرض العام.

فالجنس هو الكلي المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع في جواب ما هو ، كالحيوان للانسان ، والنوع هو الكلي الذاتي الذي يقال على كثيرين في جواب ما هو ويقال أيضا عليه وعلى غيره في جواب ما هو الشركة مثل الانسان والفرس بالنسبة الى الحيوان. والفصل : هو الكلي الذاتي الذي يقال على نوع تحت جنس في جواب أي شيء هو كالناطق للانسان ، والخاصة : هي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو ، لا بالذات بل بالعرض : كالضاحك للانسان. والعرض العام : هو الكلي المفرد ، والعرض أي غير الذاتي الذي يشترك في معناه أنواع كثيرون كالبياض للثلج.

١٠٢

فإن قيل : الأولان لا يفيدان سوى أن وراء العالم أمرا له تحقق ما من غير دلالة على أنه جسم أو بعد (١) ، ولو سلّم فلا دلالة على أنه غير متناه.

قلنا : يفيد أن بطلان رأى من زعم أنه عدم محض ، ثم يدلان على تمام المطلوب بمعونة مقدمات معلومة (٢) ، مثل أن ما يلاقي طرف العالم لا يكون إلا خلاء ، وهو بعد أو جسم ، وهو ذو بعد بل إذا بين استحالة الخلاء تعين أنه جسم ، ولا يكون متناهيا وإلا لكان له طرف فيعود الكلام ، ويثبت أن ما وراءه ليس عدما محضا (٣).

[قال (خاتمة)

فطرف الامتداد بالنسبة إليه نهاية ، ومن حيث كونه منتهى الإشارة ، ومقصد المتحرك بالحصول فيه جهة ، فتكون موجودة ذات وضع لا (٤) يقبل الانقسام. وإلا لوقعت الحركة فيها فتكون الجهة منتهاها].

جعل بحث الجهة خاتمة بحث تناهي الأبعاد لكونها عبارة عن نهاية الامتداد ، وذلك أن طرف الامتداد بالنسبة إليه طرف ونهاية ، وبالنسبة إلى الحركة والإشارة جهة ، ثم إنها موجودة ، ومن ذوات الأوضاع لأنها مقصد المتحرك بالحصول فيه. ومنتهى الإشارة الحسية ، والمعدوم أو المجرد يمتنع الحصول فيه أو الإشارة إليه. وهذا بخلاف الحركة (٥) في الكيف كحركة الجسم من البياض إلى السواد ، فإن

__________________

(١) سقط من (ب) أو بعد

(٢) سقط من (أ) لفظ (معلومة)

(٣) سقط من (ب) لفظ (محضا)

(٤) في (ب) يقبل بسقوط (لا) وهو تحريف

(٥) الحركة : ضد السكون ، ولها عند القدماء عدة تعريفات ، وهي :

أ ـ الحركة هي الخروج من القوة الى الفعل على سبيل التدريج ومعنى التدريج هو وقوع الشيء في زمان بعد زمان.

ب ـ الحركة هي شغل الشيء حيزا بعد أن كان في حيز آخر وهي كونان في آنين ومكانين بخلاف السكون الذي هو كونان في آنين ومكان واحد.

ج ـ الحركة كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة (ابن سينا رسالة الحدود).

١٠٣

السواد مقصد المتحرك بالتحصيل فلا يجب بل يمتنع أن يكون موجودا لامتناع تحصيل الحاصل ، ثم لا يخفى أن معنى الحصول في الجهة الحصول عندها وصولا وقربا ، كما أن معنى التحرك في جهة كذا التحرك في سمت يتأتى إليها ، وذلك لأن كلا من المتحرك والحركة منقسم ، فلا تقع حقيقة إلا في منقسم ، والجهة لا تقبل الانقسام. أعني في مأخذ الحركة والإشارة إذ لو انقسمت إلى جزءين مثلا ، فالجزء الذي يلي المتحرك ، إما أن لا يتجاوزه المتحرك بحركته إذا وصل إليه فيكون هو الجهة من غير مدخل للجزء الآخر ، وإما أن يتجاوزه فتلك الحركة ، إما حركة عن الجهة ، فالجهة هي الجزء الأول فقط ، وإما إلى الجهة فهي الثاني فقط ، لا يقال بل في جهة لأنا نقول الحركة في الشيء (١) المنقسم لا محالة تكون إما عن جهة ، أو إلى جهة ، ويعود المحذور للقطع بأن الجهة هي مقصد المتحرك لا المسافة التي تقطع بالحركة ، وهذا يدل على أنها لا تقبل الانقسام في مأخذ الحركة والإشارة وهي كاف في إفادة المطلوب. أعني امتناع وقوع الجسم أو الحركة فيها ، ولا يدل على أنها لا تقبل الانقسام أصلا حتى لا تكون إلا نقطة ، بل ربما تكون خطا أو سطحا ، بقي الكلام في أن طرف كل امتداد ، ومنتهى كل إشارة جهة (٢) حتى تكون جهات كل جسم أطراف امتداداته فيكون على سطحه أم الجهة

__________________

د ـ وتقال الحركة على تبدل حالة قارة في الجسم يسيرا يسيرا على سبيل اتجاه نحو شيء ، والوصول بها إليه هو بالقوة لا بالفعل (ابن سينا. النجاة ص ١٦٩)

وللحركة عند القدماء أيضا أقسام مختلفة وهي :

١ ـ الحركة في الكم : وهي انتقال الجسم من كمية الى أخرى كالنمو والذبول.

٢ ـ الحركة في الكيف : وهي انتقال الجسم من كيفية الى أخرى كتسخن الماء وتبرده ، وتسمى استحالة ، والحركة الكيفية النفسانية هي حركة النفس في المعقولات ، وتسمى فكرا أو حركتها في المحسوسات وتسمى تخيلا.

٣ ـ الحركة في الأين ، وهي حركة الجسم من مكان الى آخر وتسمى نقلة والمتكلمون اذا اطلقوا الحركة أرادوا بها الحركة الأينية فقط.

(١) في (ب) الجهة بدلا من (الشيء)

(٢) الجهة في الأصل هي الجانب والناحية والموضع الذي تتوجه إليه وتقصد قال ابن سينا : إننا نعني بالجهة شيئا إليه مأخذ حركة أو إشارة (جامع البدائع ١٥٤) والجهة والحيز متلازمان في الوجود ، لأن كلا منهما مقصد للمتحرك الأين إلا أن الحيز مقصد للمتحرك بالحصول فيه ، والجهة مصدر له بالوصول إليها والقرب منها فالجهة منتهى الحركة لا ما ـ

١٠٤

نهاية جميع الامتدادات ، ومنتهى جميع الإشارات حتى لا يكون إلا على سطح محدد الجهات الحق هو الثاني.

الجهات غير محصورة في عدد

[قال (ثم إنها)

غير محصورة إلا أنه قد يعتبر قيام الامتدادات بعضها على البعض أو يعتبر ما للإنسان من الرأس والقدم والظهر والبطن واليدين الأقوى والأضعف غالبا (١) فتنحصر الجهات في الست].

أي الجهات غير محصورة في عدد لجواز فرض امتدادات غير متناهية العدد في جسم واحد ، بل بالقياس إلى نقطة واحدة ، إلا أن المشهور ، أنها ست. وسبب (٢) الشهرة أمران أحدهما خاصي ، وهو أنه يمكن أن يفرض في كل جسم أبعاد ثلاثة متقاطعة ، ولكل بعد طرفان ، فيكون لكل جسم ست جهات.

وثانيهما : عامي وهو اعتبار حال الإنسان فيما له من الرأس والقدم فبحسبهما له الفوق والتحت ، ومن البطن والظهر فبحسبهما القدام والخلف ، ومن الجنبين اللذين عليهما يد أقوى في الغالب وهي اليمنى ، وأخرى أضعف وهي اليسرى فبحسبهما اليمين واليسار ، ثم اعتبر ذلك في سائر الحيوانات بحسب المقايسة والمناسبة (٣) ، وكان في ذوات الأربع (٤) الفوق والتحت ما يلي الظهر والبطن ، والقدام

__________________

ـ تصح فيه الحركة (راجع كليات أبي البقاء) والجهة نهاية البعد ويمكن أن يفرض في كل جسم أبعاد غير متناهية العدد ، فيكون كل طرف منها جهة الا أن المقرر عند عامة الفلاسفة أن الجسم يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة متقاطعة على زوايا قائمة ولكل منها طرفان فلكل جسم إذن ست جهات وهي : فوق ، وأسفل ، ويمين ، ويسار ، وخلف ؛ وقدام ،.

(١) سقط من (أ) لفظ (غالبا)

(٢) في (ب) ودواعي بدلا من (وسبب)

(٣) في (ب) المقايضة بدلا من (المناسبة) وهو تحريف

(٤) في (أ) الحيوان بدلا من (ذوات الأربع)

١٠٥

والخلف ما يلي الرأس والذنب ، وليس شيء من الاعتبارين بواجب (١) ليصح انحصار الجهات في الست.

أقسام الجهات علو وسفل وأربعة وضعية

[قال (والطبيعي منها)

العلو والسفل ، والبواقي وضعية ، تتبدل كالمواجه للمشرق إذا واجه المغرب ، بخلاف المنكوس].

أي من الجهات جهة العلو وهي ما يلي رأس الإنسان بالطبع (٢) ، والسفل ما يلي قدميه بالطبع (٣) حيث لا تتبدلان أصلا (٤) ، والأربعة الباقية وضعية تتبدل (٥) بتبدل الأوضاع ، كالمتوجه إلى المشرق يكون المشرق قدامه والمغرب خلفه ، والجنوب يمينه والشمال شماله ، ثم إذا توجه إلى المغرب صار المغرب قدامه ، والمشرق خلفه ، والشمال يمينه والجنوب شماله بخلاف ما إذا صار القائم منكوسا ، فإنه لا يصير ما يلي رجله تحتا ، وما يلي رأسه فوقا ، بل يصير رأسه من تحت ، ورجله من فوق ، والفوق والتحت بحالهما ، فالشخصان القائمان على طرفي قطر الأرض يكون رأس كل منهما فوق ورجلهما تحت.

العلو في الجهات لا يلزم أن يكون مضافا إلى السفل

[قال (والعلو لا يلزم أن يكون بالإضافة إلى السفل)

فإن الأرض لا سفل لها إلا بالوهم لأن جميع أطراف امتداداتها الفعلية إلى السماء].

__________________

(١) في (ب) بلازم بدلا من (بواجب)

(٢) سقط من (ب) لفظ (الطبع)

(٣) سقط من (ب) لفظ (الطبع)

(٤) في (أ) في الواقع بدلا من (أصلا)

(٥) في (ب) عند تبدل بدلا من (بتبدل)

١٠٦

يريد دفع ما سبق إلى كثير من الأوهام وهو أن الفوق والتحت متضايفان لا يعقل كل منهما إلا بالقياس إلى الآخر ، وكذا القدام والخلف واليمين والشمال ، والحق أن التضايف إنما هو بين الفوق وذي الفوق ، وكذا البواقي ، وأما الجهتان فقد تنفكان في التعقل ، بل في الوجود كما في الأرض ، فإنه لا تحت (١) لها إلا بالوهم ، فإن جميع (٢) أطراف امتداداتها الفعلية إلى السماء فلها الفوق فقط.

الأجسام محدثة بذواتها وصفاتها عند المليين

[قال (ومنها)

أن الأجسام محدثة بذواتها وصفاتها (٣) كما هو رأى المليين خلافا للمتأخرين من الفلاسفة فيهما حيث زعموا أن الفلكيات قديمة ، سوى الحركات والأوضاع الجزئية ، والعنصريات قديمة بموادها وصورها الجسمية نوعا ، والنوعية جنسا ، وللمتقدمين منهم في الذوات خاصة ، حيث زعموا أن هناك مادة قديمة على اختلاف آرائهم في أنها جسم. وهو العناصر الأربعة ، أو الأرض أو النار أو الماء أو الهواء ، والبواقي تتلطف وتتكشف ، والسماء من دخان يرتفع منه ، أو جوهرة غيرها أو أجسام صغار صلبة كرية أو مختلفة الأشكال أو ليست بجسم ، بل نور وظلمة أو نفس وهيولى ، أو وحدات تحيزت فصارت نقطا واجتمعت النقط خطا ، والخطوط سطحا ، والسطوح جسما].

أي ومن أحكام الجسم أنها محدثة بالزمان والاحتمالات الممكنة هاهنا ثلاثة :

الأول : حدوث الأجسام بذواتها وصفاتها ، وإليه ذهب أرباب الملل من المسلمين وغيرهم.

والثاني : قدمها كذلك وإليه ذهب أرسطو (٤) وشيعته ، ونعني بالصفة ما يعم

__________________

(١) في (ب) يجب بدلا من (لا تحت) وهو تحريف

(٢) سقط من (ب) كلمة (جميع)

(٣) سقط من (أ) لفظ (وصفاتها)

(٤) ارسطو فيلسوف يوناني تتلمذ على افلاطون ، وعلم الاسكندر الاكبر واسس اللوقيون حيث كان ـ

١٠٧

الصور والأعراض وتفصيل مذهبهم أن الأجسام الفلكية قديمة بموادها وصورها وأعراضها من الضوء والشكل وأصل الحركة والوضع بمعنى أنها متحركة حركة واحدة متصلة من الأزل إلى الأبد. إلا أن كل حركة تفرض من حركاتها فهي مسبوقة بأخرى ، فتكون حادثة ، وكذا الوضع والعنصريات قديمة بموادها وصورها الجسمية ، وكذا صورها النوعية بحسب الجنس (١) بمعنى أنها لم تزل عنصرا ما ، لكن خصوصية النارية أو الهوائية أو المائية أو الأرضية ، لا يلزم أن تكون قديمة لما سيجيء من قبول الكون والفساد.

والثالث : قدمها بذواتها دون صفاتها ، وإليه ذهب المتقدمون من الفلاسفة ، واختلفوا في تلك الذات التي ادعوا قدمها أنها جسم أو ليست بجسم ، وعلى تقدير الجسمية أنها العناصر الأربعة جملتها أو واحد منها ، والبواقي بتلطيف أو تكثيف ، والسماء من دخان يرتفع من ذلك الجسم أو جوهره غير العناصر حدثت منها

__________________

ـ يحاضر ماشيا فسمي هو واتباعه بالمشائين ألف (الأورغانون) في المنطق ، وأهم ما في المنطق هو القياس الذي نستنبط به نتيجة يقينية من مقدمات. ولارسطو في العلم الطبيعي مؤلفات منها «السماع الطبيعي» و «السماء» و «الكون» و «الفساد» و «النفس» وله فصول مختلفة في موضوعات مختلفة يطلق عليها اسم ما بعد الطبيعة ، ومبحثها الجوهر والعرض ، والهيولي والصورة والوجود بالقوة ، والوجود بالفعل ، وله كتب في الأخلاق والسياسة والخطابة والشعر ، لقب بالمعلم الأول.

(١) الجنس في اللغة الضرب من كل شيء ، وهو أعم من النوع ، يقال : الحيوان جنس ، والإنسان نوع مثال ذلك اذا كان أحد الصنفين مندرجا في الآخر كان الأول نوعا ، والثاني جنسا وكان الثاني أعم من الأول.

قال ابن سينا : الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع أي بالصور والحقائق الذاتية وهذا يخرج النوع ، والخاصة ، والفصل القريب وقوله (في جواب ما هو) يخرج الفصل البعيد والعرض العام.

والجنس هو المقول على الجنس ويقابله النوعي وهو المقول على النوع والجنس عند الفقهاء هو المقول على كثيرين مختلفين بالأحكام (قول أبي يوسف) أو المقول على كثيرين مختلفين صورة ومعنى (قول أبي حنيفة) والجنس في علم الأحياء جماعة انواع نباتية أو حيوانية لها صفات مشتركة (معجم الألفاظ الزراعية للأمير مصطفى الشهابي) وهو قسم من الفصيلة والجنس إما قريب أو بعيد ، فإن كان الجواب عن الماهية وعن كل ما يشاركها في ذلك الجنس واحد فهو قريب كالحيوان بالنسبة الى الانسان فإنه جواب عن الانسان وعن كل ما يشاركه في الحيوانية ـ وإن كان الجواب عنها وعن جميع مشاركاتها في ذلك الجنس متعددا فهو بعيد كالجسم النامي بالنسبة الى الانسان فإنه جواب عن الانسان وعن بعض ما يشاركه فيه كالنبات.

١٠٨

العناصر ، والسموات ، أو أجسام صغار صلبة لا تقبل الانقسام إلا بحسب الوهم ، واختلفوا في أنها كرات أو مضلعات ، وعلى تقدير عدم الجسمية.

فقيل : هي نور وظلمة ، والعالم من امتزاجهما ، وقيل نفس وهيولى ، تعلقت الأولى بالأخرى فحدثت الكائنات ، وقيل وحدات تحيزت وصارت نقطا ، واجتمعت النقط فصارت خطا ، واجتمعت الخطوط فصارت سطحا ، واجتمعت السطوح فصارت جسما وبالجملة فللقائلين بقدم العالم مذاهب مختلفة مفصلة في كتب الإمام ، والظاهر أنها رموز وإشارات على ما هو دأب المتقدمين من الحكماء ، وأما قدمها لصفاتها دون ذواتها فغير معقول.

الأدلة على أن الأجسام لا تخلو من الحوادث

[قال (لنا وجوه)

الأول : أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث ، لأنها لا تخلو عن الأعراض قطعا (١) ، وهي حادثة لما تقرر من امتناع بقائها على الإطلاق ، ولأنها لا تخلو عن الحركة والسكون ، لأن للجسم كونا في الحيز لا محالة ، فإن كان مسبوقا بكون في ذلك الحيز فسكون ، وإلا فحركة ، وكل منهما حادث. أما الحركة فلاقتضائها المسبوقية بالغير سبقا لا تجامع فيه للمتقدم والمتأخر وهو معنى الحدوث ، ولكونها في معرض الزوال قطعا وهو ينافي القدم (٢) ، وأما السكون فلأنه وجودي لكونه من

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (قطعا)

(٢) القديم في اللغة ما مضى على وجوده زمان طويل ، ويطلق في الفلسفة العربية على الموجود الذي ليس لوجوده ابتداء ويرادفه الأول قال ابن سينا : يقال قديم للشيء اما بحسب ذاته ، وإما بحسب الزمان والقديم بحسب الذات هو الذي ليس لذاته مبدأ هي به موجودة.

والقديم بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمانه (النجاة ٣٥٥) وقال أيضا : القدم يقال على وجوه فيقال : قديم بالقياس ، وهو شيء في زمانه في الماضي اكثر من زمان شيء آخر. وأما القديم المطلق ، فهو أيضا يقال على وجهين بحسب الذات وبحسب الزمان. اما الذي بحسب الزمان فهو الشيء الذي وجد في زمان ماض غير متناه ، وأما القديم بحسب الذات فهو الشيء الذي ليس لوجود ذاته مبدأ به وجب (رسالة الحدود ١٠٢)

١٠٩

الأكوان ، وجائز الزوال لكون كل جسم قابلا للحركة بالاتفاق ، وبدليل أنها متماثلة يجوز على كل ما يجوز على الآخر ، وأنها إما بسائط يصح لكل من أجزائها المتشابهة ما يصح للآخر من الحيز ، وإما مركبات يصح لكل جزء من بسائطها أن يماس الآخر ، وما ذاك إلا بالحركة ، ونوقض إجمالا بالجسم حال الحدوث ، وتفصيلا بأنا لا نسلّم أن الكون إن لم يكن مسبوقا بالكون في ذلك الحيز كان حركة ، وإنما يلزم لو كان مسبوقا يكون في حيز آخر ولا كذلك في الأزل ، لأن أزليته ينافي لمسبوقته.

والجواب : أن الكلام في الكون المسبوق بكون آخر وليس الأزل حالة (١) يتحقق فيها كون لا كون قبله ، بل معنى الأزلية الاستمرار في الأزمنة المقررة الماضية الغير المتناهية.

فإن قيل : امتناع أزلية الحركات الجزئية لا يوجب امتناع أزلية ماهيتها الكلية فيجوز أن يكون كل حركة مسبوقة بحركة لا إلى (٢) بداية ، ويكون الجسم متحركا أزلا وأبدا بمعنى أنه لا يقرر زمان إلا وفيه شيء من جزئيات الحركة ، وبهذا يقع القدح في أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، لأن ذلك إنما هو على تقدير تناهي الحوادث ، فالعمدة الوثقى (٣) في هذا الباب أن تبين امتناع تعاقب حوادث لا نهاية لها.

أجيب : أولا بأن حقيقة الحركة هي التغير من حال إلى (٤) حال. فالمسبوقية المنافية للأزلية من لوازم ماهيتها.

وثانيا : بأن الكلي لا يوجد إلا في (٥) ضمن الجزئي ، فقدم الحركة مع حدوث كل من الجزئيات غير معقول.

وثالثا : بأن تعاقب الحوادث لا إلى بداية سواء كانت حركات أو غيرها باطل

__________________

(١) سقط من (أ) جملة (الأزل حالة)

(٢) سقط من (ب) جملة (لا الى بداية)

(٣) سط من (ب) لفظ (الوثقى)

(٤) سقط من (ب) جملة (من حال الى حال)

(٥) في (ب) مميز بدلا من (في ضمن)

١١٠

بالتطبيق بحسب فرض العقل بين جملة من الآن وجملة من الطوفان كما مرّ ، ولأنا إذا اعتبرنا سلسلة من هذا الحادث المسبوق لزم اشتمالها على سابق غير مسبوق (١) ، تحقيقا لتكافؤ ما يشتمل عليه كل حادث من السابقية والمسبوقية المتضايفين].

المشهور في الاستدلال على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. أما الكبرى فظاهر ، وأما الصغرى فلوجهين :

أحدهما : أن الأجسام لا تخلو عن الأعراض كما (٢) مرّ ، والأعراض كلها حادثة. إذ لو كانت قديمة لكانت باقية بما تقرر من أن القدم ينافي العدم. والأزلية تستلزم الأبدية لكن اللازم باطل لما (٣) سبق من أدلة امتناع بقاء الأعراض على الإطلاق.

وثانيهما : أن الأجسام لا يخلو عن الحركة والسكون لأن الجسم لا يخلو عن الكون في الحيز ، وكل كون في الحيز إما حركة أو سكون لأنه إن كان مسبوقا بكون في غير ذلك الحيز فحركة وإلا فسكون ، لما سبق من أنه لا معنى للحركة والسكون سوى هذا ، ثم كل من الحركة والسكون حادث. أما الحركة فلوجهين :

أحدهما : أنها تقتضي المسبوقية بالغير لكونها تغيرا من حال إلى حال ، وكونا بعد كون وهذا سبق زماني حيث لم يجامع فيه السابق المسبوق ، والمسبوق بالغير سبقا زمانيا مسبوق بالعدم ، لأن معنى عدم مجامعة السابق المسبوق ، أن يوجد السابق ، ولا يوجد المسبوق ، والمسبوقية بالعدم هو معنى الحدوث هاهنا.

وثانيهما : أن الحركة في معرض الزوال قطعا لكونها تغيرا وتقضيا على التعاقب والزوال ، أعني طريان العدم ينافي القدم ، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، فما جاز عدمه انتفى قدمه. وأما السكون فلأنه وجودي جائز الزوال ، ولا شيء من القديم

__________________

(١) سقط من (أ) جملة (غير مسبوق)

(٢) سقط من (أ) جملة (كما مر)

(٣) سقط من (أ) جملة (لما سبق)

١١١

كذلك لما مرّ ، وإنما قيد بالوجودي لأن عدم الحادث قديم يزول إلى الوجود إذ دليل امتناع عدم القديم. وهو أنه إما واجب أو مستند إليه بطريق الإيجاب ، إنما قام في الموجود أما كون السكون وجوديا فلأنه من الأكوان ، وأما كونه جائز الزوال فلأن كل جسم قابل للحركة. أما أولا فلعدم نزاع الخصم في ذلك. وأما ثانيا فلأن الأجسام [متماثلة فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر فإذا جاز الحركة على البعض بحكم المشاهدة جاز على الكل. وأما ثالثا فلأن الأجسام] (١) إما بسائط وإما مركبات. فالبسائط يجوز على كل من أجزائها المتشابهة الحصول في حيز الآخر ، وما ذاك إلا بالحركة والمركبات بجوز على كل من بسائطها المقاسمة (٢) أن يكون تماسها الذي وقع بجزء من هذا يقع بسائر أجزائه المتشابهة وذلك بالحركة.

واعترض على ما ذكر في بيان امتناع خلو الجسم عن الحركة والسكون ، بأنه لو صح لزم أن يكون الجسم في أول السكون متحركا أو ساكنا واللازم باطل قطعا لاقتضاء كل منهما المسبوقية [بكون آخر. وبأنا لا نسلّم أن الكون في حيز إن لم يكن مسبوقا بالكون في ذلك الحيز كان حركة ، وإنما يلزم لو كان مسبوقا بالكون في حيز آخر ، وهذا فى الأزل محال ، لأن الأزلية تنافي المسبوقية] (٣) بحسب الزمان.

وأجيب بأن الكلام في الكون المسبوق بكون آخر للقطع بأن الكون الذي لا كون قبله حادث قطعا وفيه المطلوب ، وعلى هذا فالمنع ساقط لأن معنى الكلام أن الكون إن لم يكن مسبوقا بالكون في ذلك الحيز ، بل في حيز آخر كان حركة ، وما ذكر من أن هذا ينافي الأزلية باطل ، لأن الأزل ليس عبارة عن حالة زمانية لا حالة قبلها ليكون الكون فيه كونا لا كون قبله (٤) ، بل معناه نفي أن يكون الشيء بحيث يكون له أول ، وحقيقته الاستمرار في الأزمنة المقررة الماضية ، بحيث لا يكون له بداية ، كما أن حقيقة الأبدية هو الاستمرار في الأزمنة الآتية لا إلى نهاية.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب)

(٢) في (أ) المتاسة بدلا من (المقاسمة) وهو تحريف

(٣) ما بين القوسين سقط من (ب)

(٤) في (ب) بعده بدلا من (قبله) وهو تحريف

١١٢

فإن قيل : ما ذكرتم من دليل امتناع الأزلية إنما يقوم في كل جزئي من جزئيات (١) الحركة ، ولا يدفع (٢) مذهب الحكماء ، وهو أن كل حركة مسبوقة بحركة أخرى لا إلى بداية ، والفلك متحرك أزلا وأبدا بمعنى أنه لا يقرر زمان إلا وفيه شيء من جزئيات الحركة ، وهذا معنى كون ماهية الحركة أزلية. وحينئذ يرد المنع على الكبرى أيضا ، أي لا نسلم أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، وإنما يلزم لو كانت تلك الحوادث متناهية ، فلا بد من بيان امتناع تعاقب الحوادث من غير بداية ونهاية على ما هو رأيهم (٣) في حركات الأفلاك وأوضاعها.

أجيب : أولا بإقامة البرهان على امتناع أن تكون ماهية الحركة أزلية وذلك من وجهين:

أحدهما : أن الأزلية تنافي المسبوقية ضرورة (٤) ، والمسبوقية من لوازم ماهية الحركة وحقيقتها لكونها عبارة عن التغير من حال إلى حال ومنافي اللازم مناف للملزوم ضرورة.

وثانيهما : بأن ماهية الحركة لو كانت قديمة أي موجودة في الأزل لزم أن يكون شيء من جزئياتها أزليا ، إذ لا تحقق للكلي إلا في ضمن الجزئي لكن اللازم باطل بالاتفاق (٥).

وثانيا : بإقامة البرهان على امتناع تعاقب الحوادث الغير المتناهية وذلك أيضا لوجهين:

أحدهما : طريق التطبيق (٦) وهو أن نفرض جملة من الحوادث المتعاقبة من

__________________

(١) سقط من (أ) جملة (من جزئيات الحركة)

(٢) في (ب) ولا يرد بدلا من (ولا يدفع)

(٣) في (ب) اعتقادهم بدلا من (رأيهم)

(٤) سقط من (ب) للفظ (ضرورة)

(٥) سقط من (أ) لفظ (الاتفاق)

(٦) طريق التطبيق شرحه سعد الدين التفتازاني باسلوبه الرصين وعند رجوعنا الى كتب المتأخرين وجدنا أن ما قدمه السعد من تعريف يكاد يكون هو الأحسن والأمثل وبذلك أغنانا عن الحديث عنه مرة أخرى.

١١٣

الآن ، وأخرى من يوم الطوفان كل منهما لا إلى نهاية ، ثم نطبق بينهما بحسب فرض العقل إجمالا ، بأن تقابل الأول من هذه بالأول من تلك وهكذا ، فإما أن يتطابقا فيتساوى الكل والجزء أو لا فتنقطع الطوفانية ويلزم انتهاء الآنية (١) لأنها لا تزيد عليها إلا بقدر متناه.

وثانيهما : طريق التكافؤ ، وهو أنا نفرض سلسلة من الحادث المعين الذي هو مسبوق بحادث وليس سابقا على حادث آخر بمنزلة المعلول الأخير ، فلضرورة تضايف السابقية والمسبوقية وتكافؤ المتضايفين في الوجود لزم أن تشتمل السلسلة على سابق غير مسبوق ، وهو المنتهى ، وتقرير آخر أنا نفرض سلسلة من المسبوقية ، وأخرى من السابقية ، ثم نطبق بينهما فتقع مسبوقية الأخير بإزاء سابقية ما فوقه ، فيلزم الانتهاء إلى ما له السابقية دون المسبوقية تحقيقا للتضايف.

أدلة امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية ونهاية

[قال (وقد يذكر)

وجوه أخر مثل أن حدوث كل يستلزم حدوث الكل ، وأن قبول الزيادة والنقصان يستلزم التناهي ، وأن عدم تناهي الحركات الماضية يستلزم امتناع انقضائها ، وأن كل جزء من الحركة لزواله يجب أن يكون أثر المختار دون الموجب فيكون حادثة ، وأن الحركة إن كانت مسبوقة بأخرى امتنع أزليتها ، وإلا تحقق أوليتها ، وأن كلا من جزئيات الحركة مسبوق بعدم أزلي فيتقارن عدماها في

__________________

(١) الإنية : اصطلاح فلسفي قديم معناه تحقيق الوجود العيني زعم أبو البقاء : أنه مشتق من (إنّ) التي تفيد في اللغة العربية التأكيد والقوة في الوجود لذاته ، لكونه اكمل الموجودات في تأكيد الوجود ، قال : ولهذا أطلقت الفلاسفة لفظ (الإنية) على واجب الوجود لذاته ، لكونه اكمل الموجودات في تأكيد الوجود وفي قوة الموجود وهذا لفظ محدث ليس من كلام العرب (كليات أبي البقاء) وزعم بعض المحدثين أن الإنية لفظ معرّب عن كلمة (اين) اليونانية التي معناها كان أو وجد ، واختلفوا في ضبط هذه الكلمة فقرأها بعضهم آنية كما في تعريفات الجرجاني وهذا خطأ لأن الآنية نسبة الى الآن وقرأها بعضهم أنية نسبة الى ان المخففة وضبطها آخرون بالأيية والأينية وهذا كله خطأ لأن الأينية نسبة الى الأين والأينية نسب الى أي ونعتقد ان اشتقاق اللفظ من (ان) لا يمنع ان يكون بينه وبين اين اليونانية تشابه.

١١٤

الأزل ضرورة ، أن تأخر البعض ينافي أزليته ، فلو وجد حركة في الأزل لزم اجتماع النقيضين والكل ضعيف].

لبيان امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية ونهاية وجوه أخرى : منها : أنه لما كان كل حادث مسبوقا بالعدم ، كان الكل كذلك ، فإنه إذا كان كل زنجي أسود ، كان الكل أسود ضرورة ، وردّ بمنع كلية هذا الحكم ، ألا ترى أن كل زنجي فرد ، وبعض من المجموع بخلاف الكل. ومنها أن الحوادث الماضية قابلة للزيادة والنقصان للقطع بأن دورات الفلك من الآن إلى ما لا يتناهى أكثر من دوراتها من يوم الطوفان ودورات الشمس أكثر من دورات زحل (١) ، وعدد الأيام أكثر من عدد الشهور والسنين ، وكل ما يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه ، لأن معنى نقصان الشيء من الشيء أن يكون بحيث لا يبقى شيء في مقابلة ما بقي من الزائد ، فيتناهى الناقص ، ويلزم منه تناهي الزائد حيث لم يزد عليه إلا بقدر متناه.

وردّ بعد تسليم المقدمة الأولى بمنع الثانية ، وإنما يصح لو لم تكن الزيادة والنقصان من الجانب المتناهى ، ولا معنى للزيادة والنقصان هاهنا ، إلا أن يحصل في إحدى الجملتين شيء لم يحصل في الأخرى ، وهو لا يجب الانقطاع كما في مراتب الأعداد ، ومنها أنه لو كانت الحركات الماضية غير متناه لامتنع انقضاؤها ، لأن ما لا يتناهى لا ينقضى ضرورة واللازم باطل ، لأن حصول اليوم الذي نحن فيه موقوف على انقضاء ما قبله. وردّ بالمنع فإن غير المتناهي إنما يستحيل انقضاؤه من

__________________

(١) زحل : في الفلك سادس كوكب من الشمس وبعده عنها ١٤٢٥٧٦٧٠٨ كم في المتوسط ويدور حولها في ثلاثين عاما وحجمه ٧٢٤ مرة حجم الأرض وكتلته ٩ ، ٩٤ قدر كتلتها وكثافته ثمن كثافتها ، وقرصه منبعج عند الاستواء حيث قطره ١٢٠٠٠٠ كم دورته حول محوره تتناقص كلما اقتربنا من خط الاستواء (من ١٠ ساعات و ٣٨ دقيقة الى ١٠ ساعات و ١٤ دقيقة) وذلك يشير الى قوام سائل او غازي ، وفي غلافه الجوي غاز الميثان ، والنشادر ، ويدور حوله تسعة أقمار ، التاسع منها حركته تراجعية ، واكبرها يسمى تيتان في حجم عطارد ، وله غلاف جوى ، وحول زحل مجموعة حلقات في مستوى خط الاستواء اكتشفها (جاليليو) وثبت فيما بعد انها ثلاث حلقات يفصل الخارجيتين حاجز مظلم ، وألمعها الحلقة الوسطى ، وقطر الحلقات ٢٧٥٠٠٠ كم وسمكها من ١٦ الى ٨٠ كم وتبدو كل ١٥ سنة كسهم دقيق نظرا لتغيير وضعها بالنسبة للأرض وثبت انها تتكون من عدد كبير من الأجسام الصغيرة تدور حول الكوكب. (راجع الموسوعة الثقافية ص ٥١١)

١١٥

الجانب الغير المتناهي ، ومنها أن الحركة أثر الفاعل المختار ، وكل ما هو كذلك فهو حادث مسبوق بالعدم.

أما الكبرى فلما تقدم. وأما الصغرى فلأن كل جزء يفرض من الحركة فهو على الزوال والانقضاء ضرورة كونها غير متقررة الأجزاء ، ولا شيء من الزائل بأثر للموجب لامتناع انتفاء المعلول مع بقاء علته الموجبة ، وإذا كان كل جزء من الحركة أثرا للفاعل المختار كانت الحركة أثرا له لأن الموجود لكل جزء من أجزاء الشيء موجد له ضرورة ، وقد سبق الكلام على ذلك في بحث استناد الحادث إلى الموجب القديم. وأنه يجوز ذلك بشرط حادث. فغاية الأمر لزوم تعاقب حوادث غير متناهية يكون حدوث اللاحق منها مشروطا بانقضاء السابق ، ومنها أن كل حركة تفرض لا تخلو من أن تكون مسبوقة بحركة أخرى ، فلا تكون أزلية ضرورة سبق العدم عليها ، أو لا تكون مسبوقة بأخرى بل يتحقق حركة لا حركة قبلها ، فتكون للحركة بداية وهو المطلوب.

وردّ بأنا نختار الأول ولا يفيد إلا حدوث كل من جزئيات الحركة ، ولا نزاع فيه ، وإنما النزاع في أن ينتهي إلى حادث لا يكون قبله حادث آخر ، ومنها أنه لو فرضنا تعاقب الحوادث من غير بداية لكان كل منها مسبوقا بعدم أزلي لأن ذلك معنى الحدوث ، ويلزم اجتماع تلك العدمات في الأزل ، إذ لو تأخر شيء منها عن الأزل لما كان أزليا ، وإذا اجتمعت العدمات فى الأزل ، فإن حصل شيء من الوجودات في الأزل لزم مقارنة السابق والمسبوق ، بل اجتماع النقيضين وهو محال ، وإن لم يحصل فهو المطلوب.

واعترض بأن الأزل ليس عبارة عن حالة مخصوصة شبيهة (١) بالظرف يجتمع فيها عدمات الحوادث حتى لو وجد فيها شيء من وجوداتها لزم اجتماع النقيضين ، بل معنى أزلية العدمات أنها ليست مسبوقة بالوجودات (٢) ، وهذا لا يوجب

__________________

(١) في (ب) سنبينه بدلا من (شبيهة) وهو تحريف

(٢) في (ب) بالحوادث بدلا من (بالوجودات)

١١٦

تفاوتها (١) في شيء من الأوقات وما يقال أنها لو لم تكن متقارنة في حين (٢) ما لكان حصول بعضها بعد آخر فلا يكون قديما ، إنما يستقيم فيما يتناهى عدده ، فالعدمات لا تتقارن في حين (٣) ما لعدم تناهيها لا لتعاقبها.

إبطال ما ذهب إليه الفلاسفة من قدم الأفلاك

[قال (ولو لا القصد)

إلى نفي ما ذهب إليه البعض من قدم الفلكيات وسرمدية الحركات ، والبعض من قدم أجسام صغار لا تنقسم فعلا مع سكونها أزلا ، ثم عروض الحركة لها أو بالعكس ، لكفى ما قيل إن ثبوت الكون للجسم ضروري ، فقدمه يستلزم قدم الكون أو تعاقب الأكوان من غير بداية ، وكلاهما محال لما مرّ].

يريد أن القوم حاولوا بهذا الدليل التصريح بنفي ما ذهب إليه الفلاسفة من قدم الأفلاك بحركاتها بمعنى أن كل حركة مسبوقة بأخرى من غير بداية ، وبعضهم من أن مواد العالم أجسام صغار أزلية لا تقبل الانقسام بالفعل ، وهي في الأزل ساكنة تعرض لها الحركة فتتكون المركبات من اجتماعها ، وبعضهم من أنها متحركة تتصادم ، فتسكن فتتكون الأفلاك والعناصر ، وإلا فله تقرير أخصر لا يفتقر إلى بيان أن السكون وجودي ، وأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون ، فإن للحركة أجزاء مسبوقا بعضها بالبعض ، وهو أنه لو كان شيء من الأجسام قديما لزم إما أن كونه قديما (٤) وإما تعاقب (٥) الأكوان من غير بداية وكلاهما محال. أما اللزوم فلأن حصول الكون للجسم ضروري ، فإن العقل إذا تصوره وتصور التحيز جزم بثبوته (٦) له ، فإن كان شيء من أكوانه قديما فذاك (٧) ، وإلا كان كل كون مسبوقا

__________________

(١) في (ب) تقارنها بدلا من (تفاوتها)

(٢) في (ب) حيز بدلا من (حين)

(٣) في (ب) حيز بدلا من (حين)

(٤) في (ب) أن يكون قديما بدلا من (كونه قديما)

(٥) في (ب) توالى بدلا من (تعاقب)

(٦) في (ب) بلزومه بدلا من (بثبوته)

(٧) سقط من (ب) لفظ (فذاك)

١١٧

بكون آخر لا إلى بداية وهو الأمر الثاني ، وأما استحالة الأمرين ، فالأول لما سبق. أن كل جسم قابل للحركة من حيز إلى حيز إما بتمامه كما في الحركة المستقيمة ، أو بأجزائه كما في الحركة المستديرة فيكون كل كون جائز الزوال ولا شيء من جائز الزوال بقديم لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. وينعكس إلى أن ما جاز عدمه انتفى قدمه.

والثاني : لما مرّ من أن (١) طريق التطبيق تضايف السابقية والمسبوقية وغير ذلك.

أدلة أن الجسم محل للحوادث

[قال (الثاني أن الجسم محل للحوادث)

وهو ظاهر فيكون حادثا ، لما سيجيء من امتناع اتصاف القديم بالحادث].

أي متصف بها بحكم المشاهدة ، ولا شيء من القديم كذلك كما سيجيء في الإلهيات (٢).

فإن قيل : إن أخذت الصغرى كلية ، فالمنع ظاهر ، ودعوى الضرورة باطلة ، وإن أخذت جزئية لم يفد (٣) المطلوب. أعني حدوث كل جسم ، فإن حدوث بعض الأجسام كالمركبات العنصرية ، مما لا نزاع فيه.

قلنا : تؤخذ كلية ، وتبين بأن الأفلاك والعناصر كلها تتصف بالحركات والأوضاع (٤) الحادثة ، والعناصر خاصة بالأضواء والأحوال الأخر. ويلزم من حدوث البسائط حدوث المركبات منها ضرورة.

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (أن)

(٢) في المقصد الخامس وهو الخاص بالالهيات

(٣) في (ب) لم يتم المطلوب بدلا من (لم يفد)

(٤) سقط من (أ) لفظ (والأوضاع)

١١٨

الجسم أثر الفاعل المختار

[قال (الثالث)

أن الجسم أثر الفاعل المختار ابتداء أو انتهاء ، لما سيجيء من إثبات قدرة الواجب فيكون حادثا لما مرّ].

لا خفاء في أن الجسم ، بل كل ممكن يحتاج إلى مؤثر ، ولا بدّ من الانتهاء (١) إلى الواجب تعالى.

وسيجيء أنه فاعل الاختيار (٢) ، وقد سبق أن كل ما هو أثر المختار فهو حادث مسبوق بالقصد إلى إيجاده ، ولا يكون ذلك إلا حال عدمه. وبهذا نثبت حدوث ما سوى الصانع (٣) من الجواهر والأعراض ، وليشكل بصفاته القديمة. ولا يتم إلا على من يجعل سبب الاحتياج إلى المؤثر مجرد (٤) الإمكان. وكذا الرابع إلا أنه لا يتوقف على إثبات كون الصانع مختارا ، لكن يبتنى على المغلطة المشهورة. وهي أن تأثير المؤثر في الشيء حال وجوده تحصيل للحاصل ، وقد عرفت (٥) حلها. وأما الخامس. فهو بعينه الأول إلا أنه بين فيه عدم خلو الجسم عن الحادث ، بأنه لا يخلو عن مقدار مخصوص أو حيز مخصوص ، وكل منهما حادث ، لكونه أثر المختار. إذ نسبة الموجب إلى جميع المقادير والأحياز على السواء.

ويردّ عليه : أنه يجوز أن يكون ذلك باعتبار المادة أو الصورة أو عدد الجواهر (٦) الفردة أو غير ذلك من الأسباب الخارجة.

__________________

(١) في (ب) والمؤثر هو الواجب

(٢) قال تعالى : «يخلق ما يشاء ويختار»

(٣) في (ب) الواجب بدلا من (الصانع)

(٤) سقط من (أ) لفظ (مجرد)

(٥) سقط من (ب) جملة (وقد عرفت حلها)

(٦) كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به فهو جوهر ، الواحدة جوهرة ، وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته ، والجوهر النفيس هو الذي تتخذ منه الفصوص ونحوها ، وجوهر السيف فرنده ، وقيل الجوهر هو الأصل أي أصل المركبات ـ

١١٩

أدلة إبطال قدم الجسم

قال (الرابع)

لو كان الجسم قديما فقدمه زائد على ذاته لكونه مشتركا بينه وبين الواجب ، وحينئذ إما أن يكون قدمه قديما ، فينقل الكلام إلى قدم القدم ويتسلسل ، أو حادثا فيلزم حدوث القديم بل الجسم لامتناع تحققه بدون القدم وضعفه ظاهر لأن القدم اعتبار عقلي فلا يتسلسل وأيضا قدم القدم عينه وأيضا معارض بأن الجسم لو كان حادثا فحدوثه إما حادث فيتسلسل أو قديم فيكون الجسم الموصوف به أولى بالقدم.

أدلة القائلين بقدم العالم والرد عليها

[قال (تمسك القائلون)

بقدم العالم بوجوه :

الأول : أن جميع ما لا بد منه في وجود العالم إن كان حاصلا في الأزل لزم وجوده ، لامتناع التخلف عن تمام العلة التامة (١) ، وإلا ننقل الكلام إلى ذلك الحادث فيتسلسل.

__________________

ـ ويطلق الجوهر عند الفلاسفة على معان ، منها الموجود القائم بنفسه حادثا كان أو قديما ويقابله العرض ، ومنها الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليها ، ومنها الماهية التي اذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع ، ومنها الموجود الغني عن محل يحل فيه.

قال ابن سينا : الجوهر هو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع اي في محل قريب قد قام بنفسه دونه لا بتقويمه (النجاة ص ١٢٦) وقال أيضا ويقال : لكل ذات وجوده ليس في موضوع وعليه اصطلح الفلاسفة القدماء من عهد أرسطو (رسالة الحدود) والخلاصة أن الجوهر هو الموجود لا في موضوع ويقابله العرض بمعنى الموجود اى في محل مقوم لما حل فيه ، فإن كان الجوهر حالا في جوهر آخر كان صورة اما جسمية أو نوعية ، وان كان محلا لجوهر آخر كان هيولى ، وان كان مركبا منهما كان جسما وان لم يكن كذلك كان نفسا أو عقلا.

(١) سقط من (أ) لفظ (التامة)

١٢٠