شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

ونسبته إلينا (١) نسبة الشمس إلى أبصارنا ، وتختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسام لهذه الاستعدادات والكمال ، أو للنفس باعتبار اتصافها بها ، أو لقوى في النفس هي مباديها ، مثلا يقال تارة : إن (٢) العقل الهيولاني ، هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية، وتارة أنه قوة استعدادية ، أو قوة من شأنها الاستعداد المحض ، وتارة أنه النفس في مبدأ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم ، وكذا في البواقي ، وربما يقال ، إن العقل بالملكة هو حصول الضروريات من حيث تتأدى إلى النظريات. وقال ابن سينا : هو صورة المعقولات الأولى ، تتبعها القوة على كسب غيرها ، بمنزلة الضوء للأبصار. والمستفاد هو المعقولات المكتسبة عند حصولها بالفعل. وقال في كتاب المبدأ والمعاد. إن العقل بالفعل ، والعقل المستفاد واحد بالذات ، مختلف بالاعتبار ، فإنه من جهة تحصيله للنظريات عقل بالفعل ، ومن جهة حصولها فيه بالفعل عقل مستفاد.

وربما قيل : هو عقل بالفعل بالقياس إلى (٣) ذاته ، ومستفاد بالقياس إلى فاعله. واختلفوا أيضا في أن المعتبر في المستفاد هو حضور النظريات الممكنة للنفس ، بحيث لا تغيب أصلا حتى قالوا إنه آخر المراتب البشرية ، وأول المنازل الملكية ، وأنه يمتنع أو (٤) يستبعد جدا ما دامت النفس متعلقة بالبدن ، أو مجرد الحضور حتى يكون قبل العقل بالفعل بحسب الوجود ، على ما صرح به الإمام ، وإن كان بحسب الشرف هو الغاية ، والرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى من الإنسانية ، والحيوانية ، والنباتية ، ولا يخفى أن هذا أشبه بما اتفقوا عليه من حصر المراتب في الأربع. نعم حضور الكل بحيث لا يغيب أصلا ، هو كمال مرتبة المستفاد. وذكر الإمام في بيان المراتب. أن النفس إن خلت عن العلوم مع أنها قابلة لها ، سميت في تلك الحالة عقلا هيولانيا ، وإلا فإن حصلت الضروريات فقط سميت حينئذ عقلا بالملكة ، وإن حصلت النظريات أيضا ، فإن لم تكن حاصلة بالفعل ، بل لها

__________________

(١) في (ب) إليها بدلا من (إلينا)

(٢) سقط من (ب) حرف (إن)

(٣) سقط من (ب) حرف (إلى)

(٤) سقط من (أ) لفظ (يمتنع أو)

٣٤١

قوة الاستحضار بمجرد التوجه ، سميت النفس حينئذ عقلا بالفعل ، وإن كانت النفس (١) حاضرة سميت النفس عقلا مستفادا. فالحالات أربع لا غير حالة (٢) الخلو ، وحالة حصول الضروريات ، وحالة حصول النظريات بدون الحضور ، وحالة حصولها مع الحضور. والمراتب هذه (٣) النفس باعتبارها ، وهو موافق لما قال ابن سينا ، ان النفس تكون عقلا بالملكة ، ثم عقلا بالفعل ، ثم عقلا مستفادا ، والمعنى أن حالتها مستفادة ، وأما ما ذكر في المواقف من أن العقل بالفعل هو ملكة استنباط النظريات من الضروريات. أي ضرورة العقل ، بحيث متى شاء استحضر الضروريات ، واستنتج منها النظريات فلم نجده في كلام (٤) القوم.

[قال (وأما العملي) :

وهو قوة التصرف في الموضوعات ، واستنباط الصناعات ، وتمييز الصالح من الفاسد لانتظام أمر المعاش والمعاد ، فيستعين ، بالنظري من جهة أن أفاعيله (٥) تنبعث عن آراء جزئية مستنبطة عن الآراء الكلية].

يعني أنها قوة بها يتمكن الإنسان من استنباط الصناعات والتصرفات في موضوعاتها ، التي هي بمنزلة المواد كالخشب للنجار ، وتمييز مصالحه التي يجب الإتيان بها من المفاسد التي يجب الاجتناب عنها ، لينتظم بذلك أمر معاشه ، ومعاده.

وبالجملة هي مبدأ حركة بدن (٦) الإنسان الى الأفاعيل الجزئية ، الخاصة (٧) بالروية ، على مقتضى آراء تخصها صلاحية ، ولها نسبة الى القوة النزوعية ، ومنها

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (النفس)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (حالة)

(٣) في (ب) هي بدلا من (هذه)

(٤) في (ب) عند بدلا من (من كلام)

(٥) في (ب) أفعاله بدلا من (أفاعيله)

(٦) سقط من (ب) لفظ (بدن)

(٧) في (ب) الحاصلة بدلا من (الخاصة)

٣٤٢

يتولد الضحك ، والخجل ، والبكاء ، ونحوها ، ونسبة الى الحواس الباطنة ، وهي استعمالها كما (١) في استخراج أمور مصلحة وصناعات وغيرها ، ونسبة الى القوة النظرية. وهي أن أفاعيله. أعني أعماله الاختيارية تنبعث عن آراء جزئية ، تستند الى آراء كلية ، تستنبط من مقدمات أولية ، أو تجريبية ، أو ذائعة ، أو ظنية ، تحكم بها القوة النظرية ، مثلا يستنبط من قولنا : بذل الدرهم جميل ، والفعل الجميل ينبغي أن يصدر عنا ، إن بذل الدرهم ينبغي أن يصدر عنا ، ثم تحكم بأن هذا الدرهم ينبغي أن أبذله لهذا المستحق ، فينبعث من ذلك شوق وإرادة الى بذله ، فتقدم القوة المحركة (٢) على دفعه الى المستحق.

[قال (ويتفرع على النظري) :

الحكمة النظرية المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي بقدر الطاقة البشرية ، وعلى العملي. الحكمة العملية المفسرة بالقيام بالأمور على ما ينبغي بقدرها. فمن هاهنا يقال : إن الحكمة هي خروج النفس من القوة الى الفعل في كمالها الممكن ، وأن الفقه اسم للعلم والعمل جميعا (٣) وقد يقال : الحكمة العملية لمعرفة الأمور المتعلقة باختيارنا ، وتخص النظرية بما ليس كذلك. فإن تعلقت بما يستغنى عن المادة ذهنيا ، وخارجا فما بعد الطبيعة. أو ذهنا فقط. فالرياضي ، أو يحتاج فيهما ، فالطبيعي ، والعملية إن تعلقت بإصلاح الشخص فتهذيب الأخلاق أو المشاركين في المنزل ، فتدبير المنزل ، أو المدنية ، فسياسة المدن الفاضلة ، اعتدال القوة الشهوية ، وهي العفة والغضبية ، وهي الشجاعة والنطقية ، وهي الحكمة ومجموعها العدالة ، ولكل طرف إفراط وتفريط هما رذيلة ، فللعفة الخمود والفجور ، وللشجاعة التهور والجبن ، وللحكمة الجربزة والغباوة].

__________________

(١) سقط من (أ) حرف (كما)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (المحركة)

(٣) هذه التعريفات خاصة بعلماء الكلام وإلا فإن للحكمة تعريفات عدة عند علماء اللغة ، وكذلك الفقه. وفي كتاب الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ويقول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»

٣٤٣

يعني أن كمال القوة النظرية معرفة أعيان الموجودات ، وأحوالها وأحكامها كما هي(١) ، أي على الوجه الذي هي عليه ، وفي نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية ، وتسمى حكمة نظرية ، وكمال القوة العملية ، القيام بالأمور على ما ينبغي. أي على الوجه الذي يرتضيه العقل الصحيح (٢) ، بقدر الطاقة البشرية ، وتسمى حكمة عملية ، وفسروا الحكمة على ما يشمل القسمين ، بأنها خروج النفس من القوة إلى الفعل ، في كمالها الممكن ، علما وعملا ، إلا أنه لما كثر الخلاف ، وفشا (٣) الباطل ، والضلال ، في شأن الكمال ، وفي كون الأشياء كما هي ، والأمور على ما ينبغي ، لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة ، أنهم على هدى من الله تعالى ، وكانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة ، لكن لا بمعنى مجرد الأحكام العملية ، بل بمعنى معرفة النفس ما لها وما عليها ، والعمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أن الحكمة المشار إليها في قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٤) هو الفقه ، وأنه اسم للعلم والعمل جميعا. وقد قسم الحكمة المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية والعملية ، لأنها إن كانت علما بالأمور المتعلقة لقدرتنا واختيارنا فعملية ، وغايتها العمل ، وتحصيل الخير ، وإلا فنظرية ، وغايتها إدراك الحق ، وكل منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام.

فالنظرية إلى الإلهي ، والرياضي ، والطبيعي ، والعملية إلى علم الأخلاق ،

__________________

(١) سقط من (أ) جملة (كما هي)

(٢) في (ب) السليم بدلا من (الصحيح)

(٣) في (ب) وانتشر بدلا من (وفشا)

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٦٩ ويرى بعض العلماء أنها ليست النبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن ، وقال أبو العالية: الحكمة : خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة ، وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا (رأس الحكمة مخافة الله) وقال أبو العالية في رواية عنه : الحكمة الكتاب والفهم. وقال إبراهيم النخعي : الحكمة : الفهم ، وقال أبو مالك : الحكمة السنة ، وقال ابن وهب عن مالك. قال زيد بن أسلم الحكمة العقل. قال مالك ، وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة : هو الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله. وقال السدى : الحكمة : النبوة. وجاء في بعض الأحاديث : من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحي إليه. رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن رافع.

٣٤٤

وعلم تدبير المنزل ، وعلم سياسة المدينة.

لأن النظرية إن كانت علما بأحوال الموجودات من حيث يتعلق بالمادة تصورا وقواما ، فهي العلم الطبيعي ، وإن كانت من حيث يتعلق بها قواما لا تصورا. فالرياضي. كالبحث عن الخطوط ، والسطوح ، وغيرهما ، مما يفتقر إلى المادة في الوجود ، لا في التصور ، وإن كانت من حيث لا يتعلق بها لا قواما ولا تصورا ، فالإلهي ، ويسمى العلم الأعلى ، وعلم ما بعد الطبيعة ، كالبحث عن الواجب والمجردات ، وما يتعلق بذلك.

واعترض صاحب المطارحات بأن في الإلهي ما يتعلق بالمادة في الجملة ، كالوحدة والكثرة ، والعلية ، والمعلولية ، وكثير من الأمور العامة ، وفي الرياضي ما قد يستغنى عنها ، كالعدد وهو مدفوع بقيد الحيثية. فإن العدد إذا اعتبر من حيث هو كان مستغنيا عن المادة ، ويبحث عنه في الإلهي.

وإذا اعتبر من حيث هو في الأوهام ، أو في الموجودات المادية ، متفرقة ومجتمعة ، فيبحث عن الجمع والتفريق ، والضرب والقسمة ، فهو علم العدد المعدود من أقسام الرياضي ، وإلى هذا أشار في الشفاء. إلا أنه قد يناقس في اختصاص حيثية الجمع والتفريق ، والضرب والقسمة.

وبالجملة المباحث الحسابية لغير المجردات ، والحكمة العملية ، إن تعلقت بآراء ينتظم بها حال الشخص ، وزكاء نفسه. فالحكمة الخلقية ، وإلا فإن تعلقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصة ، فالحكمة المنزلية والعامة ، فالحكمة المدنية والسياسية.

[قال (وأصول الأخلاق) :

الفاضلة. اعتدال القوة الشهوية ، وهي العفة (١) والغضبية ، وهي الشجاعة والنطقية ، وهي الحكمة ومجموعها العدالة ، ولكل طرف إفراط وتفريط ، هما رذيلة

__________________

(١) عف عن الحرام يعف عفا وعفة وعفافا أي كف فهو عف ، وعفيف والمرأة عفة ، وعفيفة.

وأعفه الله ، واستعف عن المسألة أي عف ، وتعفف أي تكلف العفة وتعفف الرجل أي شرب العفافة.

٣٤٥

فللعفة الخمود والفجور ، وللشجاعة التهور والجبن ، وللحكمة الجربزة والغباوة].

للإنسان قوة شهوية هي مبدأ جذب المنافع ، ودفع المضار من المآكل والمشارب وغيرها ، وتسمى القوة البهيمية ، والنفس الأمارة ، وقوة غضبية هي مبدأ الإقدام على الأهوال ، والشوق الى التسلط والترفع ، وتسمى القوة السبعية ، والنفوس اللوامة وقوة نطقية، هي مبدأ إدراك الحقائق ، والشوق الى النظر في العواقب ، والتمييز بين المصالح والمفاسد ، وتحدث من اعتدال حركة الأولى العفة ، وهي أن تكون تصرفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية ، لتسلم عن ان يستعبدها الهوى وتستخدمها اللذات ، ولها طرف إفراط هي الخلاعة والفجور ، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما ينبغي ، وطرف تفريط هو الخمود ، أي السكون ، عن طلب ما رخص فيه العقل والشرع من اللذات ، إيثارا لا خلقة ، ومن اعتدال حركة السبعية الشجاعة ، وهي انقيادها للنطقية ، ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة ، ولها طرف إفراط هو التهور. أي الإقدام على ما لا ينبغي ، وتفريط وهو الجبن ، أي الحذر عما لا ينبغي ، ومن اعتدال حركة النطقية الحكمة ، وهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة ، وطرف إفراطها الجزيرة (١) ، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي ، ولا على ما ينبغي ، وطرف تفريطها الغباوة ، وهي تعطيل الفكر بالإرادة (٢) ، والوقوف عن اكتساب العلوم ، فالأوساط فضائل ، والأطراف رذائل ، وإذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة (٣) ، هي العدالة. فأصول الفضائل العفة ، والشجاعة ، والحكمة والعدالة ، ولكل منها شعب وفروع مذكورة ، في كتب الأخلاق وكذا الرذائل. الست (٤).

__________________

(١) في (أ) الجريرة بدلا من (الجزيرة).

(٢) في (ب) الفكر والإرادة بدلا من (بالإرادة)

(٣) سقط من (ب) لفظ (متشابهة)

(٤) سقط من (أ) لفظ (الست)

٣٤٦

المبحث السادس

[قال (المبحث السادس) :

قد يشاهد من النفوس الإنسانية غرائب أفعال ، وإدراكات ، هي عندنا بمحض خلقالله تعالى ، وقالت الفلاسفة في الأفعال : إن النفس قد يكون لها قوة التصرف في غير بدنها ، حتى ربما تصير بمنزلة نفس ما للعالم ، أو لبعض الأجسام سيما ما يناسب بدنها ، فلا يبعد عنها إحداث الأمطار والزلازل ، وإهلاك المدن ، وإزالة الأمراض (١) ، ونحو ذلك ، وقد تحدث أذى فيما أعجبها لخاصية فيها ، وهي الإصابة بالعين ، أو شرور ، أو غرائب بشرتها ، ومزاولة أفعال خاصة تعلمها بالسحر ، أو باستعانة بالروحانيات ، فالعزائم ، أو بالأجرام الفلكية ، فدعوة الكواكب ، أو بتمزيج القوى السماوية بالأرضية ، فالطلسمات ، أو بالخواص والعنصرية ، فالنيرنجات ، أو بالنسب الرياضية ، فالحيل الهندسية ، وقد يتركب بعض ذلك مع البعض].

إشارة إجمالية إلى بيان غرائب أحوال وأفعال ، تظهر من النفوس الإنسانية ، وهي عندنا بمحض خلق الله تعالى ، من غير تأثير للنفوس خلافا للفلاسفة ، والكلام في ذلك يترتب على ثلاثة أقسام :

الأول : فيما يتعلق بأفعالها.

__________________

(١) كثير ما نسمع أن بعض الأولياء الصالحين تكون لهم كرامات ويؤيد ذلك حديث الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رب العزة ـ عبدي أحببني تكن ربانيا تقول للشيء كن فيكون.

وأيضا ما جاء في الحديث القدسي : ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه.

٣٤٧

والثاني : فيما يتعلق بإدراكاتها الكائنة حالة النوم.

والثالث : فيما يتعلق بإدراكاتها الكائنة حالة اليقظة.

فالأول : مثل المعجزات ، والكرامات ، من الأنبياء ، والأولياء ، والإصابة بالعين (١) ممن له تلك الخاصية بلا اختياره. ومثل السحر والعزائم ، ونحو ذلك مما يكون بمزاولة أفعال ، وأعمال مخصوصة ، وذلك لأن للنفس تأثيرا في البدن كما للجواهر العالية المجردة في عالم الكون والفساد ، وليس اقتصار تأثيرها على بدنها لانطباعها فيه ، بل لعلاقة عشقية بينهما ، فلا يبعد أن يكون لبعض النفوس قوة بها تقوى على التأثير في بدن آخر ، بل في حيوان آخر ، بل في أجسام أخر. حتى تصير بمنزلة نفس ما للعالم ، أو لبعض الأجسام ، لا سيما الأجسام التي يحصل لها أولوية بها لمناسبتها لبدنها بوجه خاص ، فلا يبعد أن تحيل الهواء إلى الغيم ، فتحدث مطرا بقدر الحاجة أو أزيد كالطوفان ، وأن تفعل تحريكا ، وتسكينا ، وتكثيفا ، وتخلخلا ، يتبعها سحب ورياح وصواعق ، وزلازل ، ونبوع مياه ، وعيون ، ونحو ذلك ، وكذا إهلاك مدن ، وإزالة أمراض ، ودفع مؤذيات وغيرها.

وربما تكون النفس شريفة قوية تطلب خيرا ، وتدعو الله تعالى ، فتستحق بهيئتها واستعدادها ترجيحا لوجود بعض الممكنات ، فتوجد وأمثال هذه إذا صدرت عن نفوس خيرة شريفة. فإن كانت مقرونة بدعوى النبوة فمعجزات ، وإلا فكرامات وقد يكون في بعض النفوس خاصية ، تحدث فيما أعجبها أذى ظاهرا ، وهو الإصابة بالعين ، وقد تستعين النفوس في إحداث الغرائب بمزاولة أعمال مخصوصة وهي السحر ، أو بقوى بعض الروحانيات وهي العزائم ، أو بالأجرام الفلكية ، وهي دعوة الكواكب ، أو بتمزيج القوى السماوية بالأرضية ، وهي الطلسمات ، أو بالخواص العنصرية ، وهي النيرنجات ، أو بالنسب الرياضية ، وهي الحيل الهندسية ، وقد يتركب بعض هذه مع بعض كجر الأثقال ، ونقل المياه ،

__________________

(١) ولذلك أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمته بالتعوذ من شياطين الإنس والجن بقراءة المعوّذتين.

قال أحمد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن مسرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر.

قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقرأ بالمعوذتين فإنك لن تقرأ بمثلهما. تفرد به أحمد.

٣٤٨

والآلات الرقاصة ، والزمارة ، ونحو ذلك ، مما يستعان عليها بجموع الخواص العنصرية والنسب الرياضية.

[قال (وقالوا في إدراكاتها المتعلقة بالنوم) :

إنها تتصل بعالم الغيب لركود الحواس ، فيحصل لها صورة إدراكية جزئية في نفسها ، أو بجعل المتخيلة ، فإن بقيت على حالها ، بحيث لا تتفاوت في المجعولة إلا بالكلية والجزئية ، وتأدت إلى الحس المشترك (١) فرؤيا صادقة ، وإن تصرف فيها المتخيلة بتبديل (٢) الصور ، فإن أمكن أن تعاد إلى الأصل بضرب من التحليل ، فرؤيا تعبير ، وإلا فأضغاث (٣) أحلام ، ومن الأضغاث ما يرد على الحس المشترك من الصور المرتسمة في الخيال بالإحساس ، أو بالانتقال إليه من المتخيلة في النوم ، حاصلة كانت قبل أو حادثة فيها عند النوم ، لتغير أفعالها بتغير مزاج الروح الحامل إياها ، كما يرى عند غلبة الصفراء من الأشياء الصفر مثلا].

إشارة إلى القسم الثاني ، وبيان ذلك أن النفس لاشتغالها بالتفكر فيما تورد عليها الحواس ، قلما تفرغ للاتصال بالجواهر الروحانية ، فعند ركود الحواس بسبب انحباس (٤) الروح الحاملة لقوة الحس عنها ، تتصل النفس بتلك الجواهر وينطبع فيها ما فيها من صور الأشياء ، سيما ما هو أليق بتلك النفس من أحوالها ، وأحوال ما يقرب منها من الأهل والولد ، والمال (٥) والبلد ، وتلك الصور قد تكون جزئية في نفسها ، وقد تكون كلية تحاكيها المتخيلة بصور جزئية ، ثم تنطبع في الخيال ، وتنتقل إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، فإن كانت الصورة المشاهدة

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (المشترك)

(٢) في (ب) بتغيير بدلا من (بتبديل)

(٣) وهي الرؤى والتهاويل التي يراها النائم في نومه ، وقد تكون أحلاما جميلة ، وخمائل وحدائق وغير ذلك.

(٤) في (أ) انخناس بدلا من (انحباس)

(٥) في (أ) بزيادة (المال والبلد)

٣٤٩

باقية على حالها ، بحيث لا تفاوت فيما جعلته المتخيلة جزئية إلا بالكلية والجزئية ، كانت الرؤيا غنية عن التعبير ، وإلا فإن كان هناك مناسبة يمكن الوقوف عليها ، كما إذا صور المعنى بصورة لازمة أو ضده مثلا ، فهي رؤيا تعبّر ، ومعنى التعبير هو التحليل بالعكس لفعل التخيل ، حتى ينتهي إلى مشاهدته النفس عند الاتصال بعالم الغيب ، فإن المتخيلة لما فيها من غريزة المحاكاة ، والانتقال تترك ما أخذت ، وتورد شبهه أو ضده أو مناسبه ، وربما تبدل ذلك إلى آخر وآخر ، وهكذا إلى حين اليقظة ، فالمعبر ينظر في الحاضر أنه صورة لأية صورة وتلك لأية صورة أخرى ، إلى أن ينتهي إلى الصورة التي أدركتها النفس ، وإن لم يكن هناك مناسبة توقف عليه ، فتلك الرؤيا تعد في أضغاث الأحلام ، وقد يقع ذلك بأسباب أخر ، مثل أن تبقى صورة المحسوس في الخيال ، فتنتقل في النوم إلى الحس المشترك (١) ، ومثل أن تألف الفكرة صورة ، فتنتقل منها عند النوم إلى الخيال ، ثم منه إلى الحس المشترك ، ومثل أن يتغير مزاج الروح ، الحامل للقوة المتخيلة ، فتتغير أفعالها بحسب (٢) تلك التغيرات ، فمن غلب على مزاجه الصفراء حاكته (٣) بالأشياء الصفراء ، والدم فبالحمراء ، والسوداء فبالسوداء ، والبلغم فبالجمد والثلج.

[قال (وقالوا فيما يتعلق باليقظة) :

إن النفس قد تقوى على الانقطاع عن عالم الحس ، والاتصال بعالم الغيب ، والمتخيلة على استخلاص الحس المشترك عن الحواس الظاهرة ، فتطلع على بعض المغيبات ، وربما يكون ذلك بسماع صوت لذيذ أو هائل أو مكتوبا ، أو تخاطبا من إنسان ، أو ملك ، أو جنى (٤) ، أو هاتف غيب ، وقد يقع بعض ذلك عند

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (المشترك)

(٢) في (ب) بتلك بدلا من (بحسب تلك)

(٣) في (ب) كانت بدلا من (حاكته)

(٤) يقول الإمام الغزالي ـ رحمه‌الله ـ ومن أول الطريق تبدأ المكاشفات حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة ، أو يسمعون منهم إشارات.

ولا عجب في ذلك فلن يتم ذلك لكل من يطلبه ولكن لصفوة مختارة وهم الذين عناهم الله بقوله : ـ

٣٥٠

ضعف القوى الحسية لمرض أو مجاهدة ، وعند دهشة الحس ، أو تحير الخيال ، بمثل سرعة عدو ، أو تأمل شفاف مرعش البصر ، أو غلبة خوف ، أو نحو ذلك.

وبالجملة : فعجائب النفوس أظهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى. وأما الكلام في الأسباب].

هذا هو القسم الثالث وهو غرائب تتعلق بالإدراكات حالة اليقظة. وذلك أن النفس قد تكون كاملة القوة ، فتكتفي (١) بالمتجاذبين ، فلا يمنعها الاشتغال بتدبير البدن عن الاتصال بالمبادئ ، أي المجردات العلوية المفارقة والمتخيلة ، أيضا قد (٢) تكون قوية بحيث تقدر على استخلاص الحس المشترك عن الحواس الظاهرة ، فلا يبعد أن يقع لمثل هذه النفس في اليقظة اتصال بالمبادئ ، فينطبع فيها صور بعض المغيبات مما كان أو سيكون ، ثم يفيض الأثر إلى المتخيلة ، ثم ينتقل إلى الحس المشترك ، فربما يكون ذلك بسماع صوت لذيذ أو هائل ، وربما يرد مكتوبا على لوح ، أو تخاطبا من إنسان ، أو ملك (٣) ، أو جنى ، أو هاتف غيب ، أو نحو ذلك ، وقد يكون مشاهدة صور ما لا حضور له عند الحس ، لا لشرف النفس ، وكمال قوته ، بل لفساد في الآلات التي يستعملها العقل ، كما في المرض والجنون ، أو لاستيلاء أمر يدهش الحس ، ويحير الخيال ، كالعدو سرعة ، وكتأمل شيء شفاف مرعش للبصر ، مدهش إياه لشفيفه ، كسواد (٤) براق ، أو لغلبة خوف ، أو ظن ، أو وهم ، تعين التخيل ، وقد يكون ذلك بالرياضات المضعفة للقوى العائقة للنفس عن اتصالها بالمبادي الجاذبة إياها إلى جانب السفليات ، إلى غير ذلك من الأسباب المؤثرة عند الفلاسفة ، والعادية عندنا ، والخالق هو الله تعالى.

__________________

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) سورة فصلت الآيات ٣٠ ـ ٣٢

(١) في (ب) فتفى بدلا من (فتكتفى)

(٢) سقط من (أ) لفظ (قد)

(٣) ثبت عن طريق العلماء أن الإنسان يمكن أن يشاهد الملاك ويستمع منه إلى بشارات.

(٤) في (أ) كسوداء بدلا من (كسواد)

٣٥١

[قال (ووقوع بعض الغرائب) :

من الحيوانات الأخر على ما تقرر في علم الحيوان (١) ، وربما يشهد بأن لها أيضا نفوسا مجردة ، والعلم عند الله].

ذهب جمهور الفلاسفة ، إلى أنه ليست لغير الإنسان من الحيوانات ، نفوس مجردة ، مدركة للكليات ، وبعضهم إلى أنا لا نعرف وجود النفس لها لعدم الدليل ، ولا نقطع بالانتفاء لقيام الاحتمال ، وما يتوهم من أنه لو كانت لها نفوس ، لكانت إنسانا ، لأن حقيقته النفس والبدن لا غير ، ليس بشيء ، لجواز اختلاف النفسين بالحقيقة ، وجواز التميز لفصول أخر لا يطلع على حقيقتها ، وذهب جمع من أهل النظر إلى ثبوت ذلك تمسكا بالمعقول والمنقول. أما المعقول. فهو أنا نشاهد منها أفعالا غريبة تدل على أن لها إدراكات كلية ، وتصورات عقلية ، كالنحل في بناء بيوته المسدسة (٢) ، والانقياد لرئيس ، والنمل في إعداد الذخيرة (٣) ، والإبل والبغل (٤) والخيل والحمار ، في الاهتداء إلى الطريق في الليالي المظلمة ، والفيل في غرائب أحوال تشاهد منه ، وكثير من الطيور والحشرات في علاج أمراض تعرض لها ، إلى غير ذلك من الحيل العجيبة التي يعجز عنها كثير من العقلاء ، وأما المنقول فكقوله تعالى (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٥) وقوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٦) الآية. وقوله تعالى (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ

__________________

(١) يقول عالم أمريكي اتجهت أنا وكلبي المعلم إلى الغابة وتوغلنا فيها بحثا عن النافع النادر. وكم كانت دهشتي عند ما شاهدت ثعبانا ينقض على قدم كلبي ويفرغ فيه كل سمه. وأسرعت خلف الكلب الذي فر هاربا أريد أن أمسك به حتى أعمل له الضمانات اللازمة واعطيه المصل الوافي من هذا السم.

ولكن الكلب كان أسرع مني إذا أخذ يبحث في الغابة عن شيء معين من أنواع النباتات وأخذ يلتهم منه كمية كبيرة. وبعدها شفي تماما من لدغة الثعبان ، وعند تحليل هذه الحشائش أحسسنا أن بها ما يشفي من كل السموم ونتساءل كيف اهتدى الحيوان وضل الإنسان؟

(٢) وهذا مشاهد في كثير من بيوت النحل ويشهد المهندسون المتخصصون بما في ذلك من حكمة وتدبير.

(٣) المشاهد في جماعات النمل أنها تبقى في الصيف تجمع الغذاء وتقوم بتخزينه إلى فصل الشتاء.

(٤) تصدر من هذه الحيوانات أفعال تجعل الإنسان يقف أمامها مشدوها.

(٥) سورة النور آية رقم ٤١

(٦) سورة النحل آية رقم ٦٨

٣٥٢

وَالطَّيْرَ) (١) وقوله تعالى حكاية عن الهدهد (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) (٢) الآية وحكاية عن النملة (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (٣) الآية.

__________________

(١) سورة سبأ آية رقم ١٠

(٢) سورة النمل آية رقم ٢٢

(٣) سورة النمل آية رقم ١٨

٣٥٣
٣٥٤

الفصل الثاني

في العقل

المبحث الأول

[قال (الفصل الثاني في العقل) :

وفيه مباحث :

المبحث الأول في إثباته. وفيه وجوه :

الأول : أول المخلوقات يلزم أن يوجد وحده ، ويوجد ما بعده ، وما ذاك إلا العقل(١) ، لأن للجسم كثرة ، وللهيولي (٢) ، أو الصورة أو العرض افتقارا إلى غير علته في الوجود ، وللنفس في الإيجاد ، وإلا لكان عقلا.

الثاني : علة أول الأجسام يلزم أن تشتمل على الكثرة لئلا يتعدد أثر الواحد ، ويستغني في ذاتها وفعلها عن الجسمية لئلا يفضي إلى تقدم الشيء على نفسه. أما الجسم والعرض فظاهر ، وأما النفس فلأن فعلها مشروط بالجسم ، وأما الهيولي والصورة ، فلأنه لا يحصل أحدهما بدون الأخرى. ومبنى الوجهين على امتناع صدور الكثير من الواحد ، ونفي الاختيار والصفات. مع أن المعلول الأول لا يلزم أن يكون موجدا لما بعده ، بل واسطة ، فلا يمتنع أن يكون نفسا ، أو أحد جزئي الجسم ، وأيضا افتقار النفس إلى الجسم في إدراكاتها لا يمنع استقلالها بإيجاد الجسم].

احتجت الفلاسفة على ثبوته بوجوه :

أحدها : أن المعلول الأول يجب أن يكون جوهرا مفارقا (أي ليس جسما ولا

__________________

(١) سبق الحديث عن العقل في كلمة وافية في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(٢) تكلمنا عن الهيولي والصورة ووضحنا الاصطلاحات الخاصة بهما في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

٣٥٥

جسمانيا) (١) في ذاته وفعله ، وهو المراد بالعقل ، أما الجوهرية فلأن العرض لا يمكن بدون المحل. فالمحل. إما معلول للعلة الأولى. أعني الواجب فيلزم صدور الكثير. أعني العرض ، والمحل من الواحد الحقيقي ، وأما العرض ، فيلزم تقدم الشيء على نفسه ، وأما المفارقة فلأنه لو كان جسما وهو مركب من المادة والصورة لزم المحال المذكور ، وإن كان مادة أو صورة ، وكل (٢) منهما لا يوجد بدون الآخر ، لزم فاعلية أحدهما للآخر وهو محال (٣) ، وأما المادة ، فلأن شأنها القبول دون العقل (٤) ، وأما الصورة فلأنها إنما تفعل بمشاركة المادة ، فيلزم تقدمها على نفسها ، وإن كان نفسا أي مفارقا في ذاته لا في فعله ، فالبدن الذي هو شرط الفاعلية. أما معلول للواجب فيلزم الكثرة ، أو للنفس فيلزم تقدمه على نفسه ، فصار الحاصل ، أن لنا أمرا صح وجوده عن العلة الأولى ، (وإيجاده للمعلول الثاني ، وما ذلك إلا العقل ، لأن الجسم لما فيه من الكثرة لا يصلح معلولا للعلة الأولى) (٥) وغيره لا يصلح علة للمعلول الثاني ، لأن ما يصلح منه للعلية يفتقر في عليته ، إلى أمر خارج عن ذاته ، فإن كان معلولا له لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان معلولا للعلة الأولى لزم صدور الكثرة عنها.

وثانيها : أن علة أول الأجسام يجب أن تكون عقلا ، وإلا لكان إما واجبا فيلزم صدور الكثير عنه ، وإما غيره فيلزم تقدم الشيء على نفسه ، أما إذا كان جسما أو عرضا قائما به فظاهر ، وأما إذا كان نفسا ، فلأن فعلها مشروط بالجسم ، وإلا لكان عقلا لا نفسا ، فذلك الجسم. أما الجسم الأول فيتقدم على نفسه بمرتبة. وأما الثاني والثالث فيتقدم بمراتب ، وأما إذا كان مادة أو صورة ، فلأن كلا منهما لا يوجد بدون الأخرى ومجموعهما جسم ، فلو كان فاعل الجسم الأول إحداهما لكان قبل الجسم الأول جسم ، وفيه تقدم الشيء على نفسه بمرتبة ، أو بمراتب. واعترض

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (أ)

(٢) في (ب) وكلاهما بدلا من (وكل منهما)

(٣) سقط من (ب) لفظ (محال)

(٤) في (ب) العقل بدلا من (الفعل)

(٥) ما بين القوسين سقط من (ب)

٣٥٦

على الوجهين بمنع بعض المقدمات ، أي لا نسلّم امتناع صدور الكثير عن الواحد. وقد تكلمنا على دليله ، ولو سلّم ، فلم لا يجوز أن يكون الواجب مختارا يصدر عنه الكثرة بواسطة الإرادة؟ ولا نسلّم أن أول (١) ما يصدر عن الواجب يلزم أن يكون أحد الأمور المذكورة. لم لا يجوز أن يكون صفة من صفات الواجب ، ثم يصدر المعلول الثاني والثالث عن تلك الصفة ، أو عن الذات بواسطتها ، ولا نسلّم أن المعلول الأول يجب أن يكون موجبا لما بعده ، لجواز أن يكون واسطة ، وحينئذ يجوز أن يكون أول ما يصدر نفسا أو مادة أو صورة ، ثم يصدر بواسطته البدن ، أو الجزء الآخر من الجسم ، ولا نزاع في جواز صدور الكثير عن الواحد عند اختلاف الجهات ، والاعتبارات ، ولا نسلّم أن البدن شرط لفاعلية النفس ، بل لإدراكاتها.

فإن قيل : فتكون مستغنية عن المادة في الذات والفعل ، ولا نعني بالعقل سوى هذا.

قلنا : المدعي إثبات جوهر مفارق في ذاته ، وفعله ، إيجادا كان أو إدراكا ، ويجوز أن يكون الصادر الأول مستغنيا في فعله الإيجادي دون الإدراكي ، فإن اشترط في النفس الاحتياج إلى المادة في الإدراك فقط ، كان هذا نفسا أو فيهما جميعا كان هذا غير العقل والنفس فلا يتم المطلوب.

[قال (الثالث) :

إن دوام حركات الأفلاك بالإرادة لا يجوز أن يكون إلا لنيل شبه دائم غير منقسم بمعقول كامل بالفعل ، لا يتناهى كمالا ، وإلا لزم الانقطاع أو طلب المحال. وليس هو الواجب ، وإلا لم تختلف الحركات فيتعين العقل ، وردّ بمنع أكثر المقدمات].

أي ثالث وجوه الاحتجاج على ثبوت العقل. أنه قد ثبت أن حركات الأفلاك

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (أول)

٣٥٧

إرادية ، فيكون المطلوب محسوسا أو معقولا. والأول باطل. لأن طلب المحسوس إما أن يكون للجذب أو للدفع ، وجذب الملائم شهوة ، ودفع المنافر غضب ، وهما على الفلك محال ، لأنه بسيط متشابه الأحوال ، لا يتغير من حالة غير ملائمة إلى حالة ملائمة ، فتعين الثاني ، وهو أن يكون المطلوب معقولا ، وذلك المطلوب معشوق ، لأن دوام الحركة ، إنما يكون لفرط طلب تقتضيه محبة مفرطة (١) هي العشق.

فالعاشق الطالب. إما أن يريد نيل ذاته ، أو نيل صفاته ، أو نيل شبه إحداهما ، وإلا لما كان له تعلق بالمعشوق ، والأولان باطلان ، لأن الذات أو الصفة ، إما أن تنال في الجملة ، فيلزم انقطاع الحركة لامتناع طلب الحاصل وهو محال (٢) ، لأنها علة وجود الزمان ، وإما أن لا ينال أصلا ، فلا بدّ من اليأس عن حصول ما هذا شأنه ، ويلزم الانقطاع ، أو دوام طلب المحال على أن نيل الصفة محال لامتناع زوالها عن محلها ، فتعين الثالث ، وهو أن يكون الطلب لنيل شبه بالمعشوق ، ولا يجوز أن يكون شبها مستقرا ، وإلا يلزم الانقطاع ، أو طلب الحاصل ، بل شبها غير مستقر ، أي شبها (٣) بعد شبه ، بحيث ينقضي شبه ويحصل آخر ، ويجب أن يحفظ ذلك بتعاقب الأفراد ، لا إلى نهاية ، وإلا يلزم الانقطاع ، فيثبت أن المطلوب حصول مشابهات غير متناهية تحصل على التدريج في أوقات غير متناهية ، لئلا يلزم انقطاع الحركة فيكون المعشوق موجودا متصفا بصفات كمال غير متناهية بتحرك الفلك ، ويستخرج بحركته الأوضاع الممكنة ، من القوة إلى الفعل ، ويحصل له بكل وضع شبه بالمعشوق الذي هو بالفعل من كل الوجوه ، ولم يزل يزول وضع ويحصل آخر ، فيزول شبه ويحصل آخر ، ويحفظ كل منهما بتعاقب الأفراد والفلك ، يقبل منه للقبض بواسطة تلك المشابهات ، ولا يجوز أن يكون ذلك هو الواجب ، وإلا لم تختلف الحركات ، فتعين أن يكون فعلا ، ويثبت بذلك تعدد العقول.

__________________

(١) في (أ) مغرطه بدلا من (مفرطة)

(٢) سقط من (ب) جملة (وهو محال)

(٣) في (أ) بزيادة لفظ (بعد)

٣٥٨

والاعتراض عليه. أنا لا نسلّم وجوب دوام حركة السماء ، وامتناع انقطاعها ، ولا نسلّم أن طلب المحسوس ، لا يكون إلا للجذب (١) أو الدفع. لم لا يجوز أن يكون لمعرفته أو التشبه به أو غير ذلك.

ولا نسلّم استحالة الشهوة ، والغضب ، على الأفلاك. ولا يلزم من تشابه أجزائها في الحقيقة تشابه أحوالها.

ولا نسلّم أنه يلزم من عدم نيل ذات المعشوق ، أو حاله ، حصول اليأس ولا من نيله انقطاع الطلب. لم لا يجوز أن يدوم الرجاء ، أو يكون المعشوق ، أو حاله أمرا غير قار ، يتحفظ نوعه ، بتعاقب الأفراد ، كما ذكرتم في الشبه. ولا نسلّم أن المعشوق الموصوف بصفات كمال غير متناهية هو العقل ، وإنما يلزم ذلك لو كان ذلك على الاجتماع دون التعاقب ، وبعض هذه وإن أمكن دفعه ، لكن لا يتم المطلوب إلا بدفع الكل.

__________________

(١) الجذب : المد ، يقال : جذبه وجبذه على القلب واجتذبه أيضا.

وجذبت المهر عن أمه : أي فطمته قال الشاعر

ثم جذبناه فطاما نفصله

ويقال للناقة إذا قد لبنها قد جذبت فهي جاذب ، والجمع جواذب وجاذبته الشيء اذا نازعته إياه ، والتجاذب التنازع والانجذاب سرعة السير. والجذب بالتحريك : الجمار وهو شحم النخل والواحدة جذبة.

٣٥٩

المبحث الثاني

[قال (المبحث الثاني في أحواله) :

زعموا أنها عشرة بعدد الأفلاك بعد الأول نفيا لجانب القلة دون الكثرة والعاشر هو المدبر لعالم العناصر بحسب الاستعدادات الحاصلة من تجرد أوضاع الأفلاك ، وأنها لبراءتها عن المادة ، حلولا وتعلقا أزلية منحصرة أنواعها في أشخاصها جامعة لكمالاتها ، عاقلة لذواتها ، ولسائر المجردات ، بل لجميع الكليات دون الجزئيات.

يشير إلى إثبات (١) أحكام تتفرع على إثبات العقول المجردة منها ، أنها عشرة. بمعنى أنها ليست أقل من ذلك. وأما في جانب الكثرة فالعلم عند الله تعالى. كيف. ولا قطع بانحصار الأفلاك الكلية في التسع ، بل يجوز أن يكون بين الفلك المحيط بالكل ، وفلك الثوابت أفلاك كثيرة ، وأن يكون كل من الثوابت في فلك.

ولو سلّم فيجوز أن يكون لكل من الأفلاك الجزئية عقل يدبر أمره ، ويتشبه هو به ، بوجه لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وحده ، وإنما تصير عشرة مع كون الأفلاك تسعة. لأن الأول مصدر لفلك ، ونفس ، وعقل ، وهكذا إلى الآخر ، فتكون العقول الصادرة تسعة ، ومع الأول المصدر عشرة ، والعاشر الذي هو عقل الفلك الأخير يدبر أمر (٢) عالم العناصر بحسب الاستعدادات ، التي تحصل للمواد العنصرية ، من تجدد الأوضاع الفلكية. والمراد بتدبير العقول ، التأثير وإفاضة الكمالات لا التصرف الذي للنفوس مع الأبدان ، ومنها أنها أزلية لما سبق من أن كل حادث

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (إثبات)

(٢) في (أ) بزيادة لفظ (أمر)

٣٦٠