شرح المقاصد - ج ٣

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

شرح المقاصد - ج ٣

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


المحقق: الدكتور عبدالرحمن عميرة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات الشريف الرضي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

والجواب : النقص بالحادث اليومي ، وليس الفرق بأنه يستند الى حوادث فلكية متعاقبة لا إلى نهاية دفعا له على أن الكلام في العالم الجسماني ، فلم لا يجوز أن يكون حدوثه مشروطا بتطورات أو إرادات.

وبالجملة : حوادث متعاقبة لأمر مجرد.

وقد سبق أن حديث لزوم المادة لكل حادث ضعيف ، والمنع بأنه لم لا يجوز أن يكون من جملة ما لا بد منه ، الإرادة التي من شأنها الترجيح أي وقت شاء من غير افتقار الى مرجح آخر ، ويكون تعلق الإرادة أيضا بمجرد الإرادة ، ووجوب العالم بهذا التعليق لا ينافي اختيار الصانع بل يحققه].

بقدم العالم بوجوه.

الأول : أن جميع ما لا بد منه لتأثير الصانع في العالم وإيجاده إياه ، إما أن يكون حاصلا في الأزل أو لا (١).

والثاني : باطل فتعين الأول وهو يستلزم المطلوب. وتقريره من وجهين :

أحدهما : أنه لما وجد في الأزل جميع ما لا بد منه بوجود العالم لزم وجوده في الأزل (٢) ، والمقدم حق (٣) فكذا التالي ، أما اللزوم فلامتناع تخلف المعلول عن تمام علته لما مرّ ، وأما حقية المقدم ، ولأنه لو لم يكن جميع ما لا بد منه لوجوده ، إما أن يكون حاصلا في الأزل أو لا ويتسلسل.

والجواب : النقض إجمالا (٤) وتفصيلا. أما إجمالا (٥) فهو أنه لو صح هذا الدليل لزم أن لا يكون ما يوجد اليوم من الحوادث حادثا لجريانه فيه لا يقال الحادث اليومي يتوقف على استعدادات في المادة مستندة الى الحركات

__________________

(١) في بزيادة لفظ (يكون)

(٢) سقط من (ب) لفظ (الأزل)

(٣) في (ب) لازم بدلا من (حق)

(٤) في (ب) جملة بدلا من (إجمالا)

(٥) في (ب) جملة بدلا من (إجمالا)

١٢١

والأوضاع الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، ووجود كل منها مشروط بانقضاء الآخر لا إلى بداية على سبيل التجدد والانقضاء دون الترتيب في الوجود ، على ما هو شأن العلل والمعلولات ، ليلزم التسلسل المحال.

فإن البرهان (١) إنما قام على استحالة التسلسل في المبادي المترتبة دون المعدات المتصرمة ، لأنا نقول : بعض البراهين كالتطبيق والتضايف يتناول ما يضبطها الوجود مترتبة سواء كانت مجتمعة أو متصرمة كما سبق آنفا.

ولو سلّم فالكلام في العالم الجسماني فيجوز أن يكون حادثا مستندا الى حوادث متعاقبة ، لا أول لها كتصورات أو إرادات من ذات مجردة ، مثل ما ذكرتم في الحادث اليومي. لا يقال تعاقب الحوادث ، إنما يصح في الجسمانيات دون المجردات لما سبق من أن كل حادث مسبوق بمادة ومدة.

لأنا نقول : قد سبق الكلام على ذلك هنالك. وأما تفصيلا فهو. أنا لا نسلّم أنه لو كان جميع ما لا بد منه في إيجاد العالم حاصلا في الأزل ، كان العالم أزليا ، وإنما يلزم لو لم يكن من جملة ما لا بد منه ، الإرادة التي من شأنها الترجيح والتخصيص متى شاء الفاعل من غير افتقار الى مرجح ومخصص ، من خارج قولكم يلزم تخلف المعلول عن تمام علته وهو باطل ، لامتناع الترجيح بلا مرجح.

قلنا : لا نسلم بطلان التخلف في العلة المشتملة على الإرادة والاختيار ،

__________________

(١) البرهان : هو الحجة الفاصلة البينة يقال برهن يبرهن برهنة اذا جاء بحجة قاطعة للدد الخصومة ، وبرهن بمعنى بين ، وبرهن عليه أقام الحجة ، وفي الحديث : «الصدق برهان» البرهان هنا الحجة او الدليل. والبرهان عند الأصوليين ما فصل الحق عن الباطل ، وميز الصحيح عن الفاسد بالبيان الذي فيه (تعريفات الجرجاني)

أما عند الفلاسفة : فهو القياس المؤلف من اليقينيات سواء كان ابتداء وهي الضروريات أو بواسطة وهي النظريات (تعريفات الجرجاني)

قال ابن سينا : البرهان قياس مؤلف من يقينيات لانتاج يقيني (النجاة ص ١٠٣) والحد الأوسط في هذا القياس لا بد من ان يكون علة نسبة الأكبر الى الأصغر فإذا اعطاك علة اجتماع طرفي النتيجة في الذهن والوجود معا سمي برهان اللم ، قال ابن سينا : البرهان المطلق هو برهان اللم وبرهان الإنّ (راجع النجاة ص ١٠٣ ـ ١٠٤)

١٢٢

فإنه ليس ترجحا بلا مرجح ، بل ترجح المختار أحد المقدورين من غير مرجح خارج واستحالته ممنوعة كما في أكل الجائع أحد الرغيفين ، وسلوك الهارب أحد الطريقين.

فإنه قيل : لا نزاع في أن نفس الإرادة لا يكفي في وجود المراد ، بل لا بد من تعلقها ، فإن كان قديما كان (١) العالم قديما ، وإن كان حادثا ، كان ذلك الترجح ترجحا (٢) بلا مرجح.

قلنا : لا بل ترجيحا به ، فإن تعلق الإرادة مما يقع بالإرادة من غير افتقار إلى أمر آخر ، والحاصل إنما نجعل شرط الحوادث تعلق الإرادة وتلتزم فيه التخلف عن تمام العلة.

دليل آخر على إمكان قدم العالم

والرد عليه

[قال (الثاني)

إن كلا من إمكان العالم وصحة تأثير الواجب فيه أزلي ، وإلا لزم الانقلاب ، فلو لم يكن وجوده أزليا لزم ترك الجود (٣) مدة غير متناهية.

والجواب : أنه مع كونه خطابيا مبنى على عدم التفرقة بين أزلية الإمكان وإمكان الأزلية ، وقد سبق مثله آنفا].

لما كان إمكان (٤) العالم أزليا ، وكذا صحة تأثير الصانع فيه ، وإيجاده إياه لزم أن

__________________

(١) سقط من (أ) جملة (قديما كان)

(٢) سقط من (ب) لفظ (ترجحا)

(٣) في (ب) الوجود بدلا من (الجود)

(٤) الإمكان في اللغة : مصدر أمكن امكانا كما تقول اكرم اكراما وهو أيضا مصدر امكن الشيء من ذاته.

والامكان في الشيء عند المتقدمين هو إظهار ما في قوته الى الفعل وذلك انك اذا تصورت طبيعة الواجب كان طرفا وازائه في الطرف الآخر طبيعة الممتنع وبينهما طبيعة الممكن والمسافة التي بين الواجب والممتنع اذا لحظت وسطها على الصحة فهو أحق شيء واولاه بطبيعة الممكن وكلما قربت هذه النقطة التي كانت وسطا الى أحد الطرفين كان ممكنا بشرط وتقييد ، فقيل ممكن قريب من الواجب وممكن بعيد عنه (أبو حيان التوحيدي ومسكويه (كتاب الهوامل والشوامل ص ١٠٠) ـ

١٢٣

يكون وجوده أيضا أزليا ، لكن المقدم حق ، إذ لو كان في الأزل ممتنعا ثم يصير ممكنا فيما لا يزال ، لزم انقلاب المحال ، فكذا التالي ، وجه اللزوم أنه إذا كان الإمكان مع صحة التأثير متحققا في الأزل ، ولا يوجد الأثر إلا فيما لا يزال ، كان ذلك تركا للجود مدة لا تتناهى ، وذلك لا يليق بالجواد المطلق.

والجواب : بعد تسليم امتناع ترك الجود. أنه إنما يلزم لو أمكن وجود العالم في الأزل على أن يكون الأزل ظرفا للوجود وهو ممنوع ، والثابت بالبرهان (١) استحالة الانقلاب ، هو أن وجوده ممكن في الأزل ، على أن يكون الأزل ظرفا للإمكان. ألا ترى أن الحادث بشرط الحدوث ممكن أزلا ، ووجوده في الأزل محال دائما ، وقد سبق ذلك في بحث الوجوب والإمكان والامتناع.

دليل ثالث على قدم العالم

والرد عليه

[قال (الثالث)

إن الجسم مركب من مادة هي قديمة ، لامتناع تسلسل المواد ، ومن صورة هي لازمة للمادة لما مرّ فيكون قديما ، والجواب : منع المقدمات].

قد سبق الكلام على ما يدعيه الفلاسفة من تركب الجسم من الهيولي والصورة (٢) ، وكون الهيولي قديمة وكونها غير منكفة عن صورة ما.

__________________

ـ قال ابن سينا والامكان إما أن يعني به ما يلازم سلب ضرورة العدم وهو الامتناع.

وأما أن يعني به ما يلازم سلب الضرورة في العدم والوجود جميعا (الاشارات ٢٤) فاعتبار الذات وحدها لا يخلو اما أن يكون مقتضيا لوجوب الوجود أو مقتضيا لامتناع الوجود (النجاة ص ٣٦٧) ونحن نسمي إمكان الوجود قوة الوجود (الشفاء ٢ ـ ٤٧٧ والنجاة ٣٨٥)

(١) في (ب) والثانية بدلا من (الثابت)

(٢) الصورة في اللغة : الشكل الهندسي المؤلف من الأبعاد التي تتحدد بها نهايات الجسم ، كصورة الشمع المفرغ في القالب فهي شكله الهندسي ومن قبيل ذلك صورة التمثال ، والأنف ، والجبل ، والغيم فهي تدل على الأوضاع الملحوظة في هذه الأجسام كالاستدارة والاستقامة والاعوجاج.

والصورة عند الفلاسفة مقابلة للمادة وهي ما يتميز به الشيء مطلقا فإذا كان في الخارج كانت ـ

١٢٤

دليل رابع على قدم العالم

والرد عليه

[قال (الرابع)

الرابع أن الزمان (١) قديم ، لأن سبق العدم عليه لا يتصور إلا بالزمان. فيلزم وجوده حين عدمه وقدمه يستلزم قدم الحركة والجسم لما مرّ.

والجواب : أنه لم سلّم وجود الزمان بمعنى مقدار الحركة ، فلم لا يجوز أن يكون تقدم العدم عليه؟ كتقدم بعض أجزائه على البعض؟ والفرق بين التقدم والتأخر داخلان في مفهوم أجزاء الزمان دون عدم الحادث ووجوده ممنوع.

ولو سلّم فالمقصود منع انحصار أقسام السبق].

لما كان الزمان أعني مقدار الحركة القائمة بالجسم قديما ، كان الجسم قديما ، اما اللزوم فظاهر ، وأما حقيقة الملزوم ، ولأنه لو كالزمان حادثا أي مسبوقا بالعدم ،

__________________

ـ صورته خارجية ، وإذا كان في الذهن كانت صورته ذهنية غير أن المادة في نظرهم لا تتعرى على الصورة الجسمية والفلاسفة يفرقون بين الصورة الجسمية ، والصورة النوعية بقولهم : ان الصورة الجسمية جوهر بسيط متصل لا وجود لمحله دونه ، قابل للأبعاد الثلاثة المدركة من الجسم في بادئ النظر ، أو هي الجوهر الممتد في الأبعاد كلها ، المدرك في بادئ النظر بالحس ، على حين أن الصورة النوعية جوهر بسيط لا يتم وجوده بالفعل دون وجود ما حل فيه (تعريفات الجرجاني)

(١) الزمان : الوقت كثيره وقليله ، وهو المدة الواقعة بين حادثتين أولاهما سابقة ، وثانيتهما لاحقة ، ومنه زمان الحصاد ، وزمان الشباب وزمان الجاهلية ، وجمع الزمان أزمنة ، اي أقسام وفصول ، وتقول أيضا : الأزمنة القديمة ، والأزمنة الحديثة.

والزمان في اساطير اليونانيين : هو الاله الذي ينضج الأشياء ويوصلها الى نهايتها.

والفرق بين الزمان والدهر ، والسرمد ، أن نسبة المتغير الى المتغير هي الزمان ، ونسبة الثابت الى المتغير هي الدهر ، ونسبة الثابت الى الثابت هي السرمد. وقد زعم (أرسطو) أن الزمان مقدار حركة الفلك الأعظم وذلك لأن الزمان متفاوت زيادة ونقصانا ، فهو إذن كم ، وليس كما منفصلا لامتناع الجوهر الفرد فلا يكون مركبا من آنات متتالية فهو اذن كم متصل ، الا انه غير قار ، فهو اذن مقدار لهيئة غير قارة ، وهي الحركة.

وقد أخذ معظم فلاسفة العرب بهذا المعنى الأرسطي الا أن المتكلمين زعموا أن الزمان أمر اعتباري موهوم ، وعرفه الأشاعرة بقولهم : انه متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر موهوم.

وقال الرازي في المباحث المشرقية ان للزمان كالحركة معنيين أحدهما أمر موجود في الخارج ، غير منقسم وهو مطابق للحركة ، وثانيهما أمر متوهم لا وجود له في الخارج.

١٢٥

فسبق العدم عليه لا يكون بالعلية أو الشرف أو الرتبة ، وهو ظاهر ، ولا بالطبع ، لأن الزمان ممكن ، والممكن يقتضي لا استحقاقية الوجود والعدم نظرا الى ذاته ، فلا يفتقر بذاته إلى عدمه ، كيف والمتقدم بالطبع يجامع المتأخر ، وعدم الشيء لا يجامع وجوده ، فتعين أن يكون بالزمان وهو أيضا محال ، لاستلزامه وجود الزمان حين عدمه ، لأن معنى المتقدم بالزمان ، أن يوجد المتقدم في زمان لا يوجد فيه المتأخر.

والجواب : بعد تسليم وجود الزمان عبارة عن مقدار الحركة. أنا لا نسلم انحصار أقسام السبق في الخمسة المذكورة [بالمعاني المذكورة] (١) لأن سبق أجزاء الزمان بعضها على البعض خارج عن ذلك ، فليكن سبق عدم الزمان على وجوده كذلك. لا يقال التقدم والتأخر داخلان في مفهوم أجزاء الزمان فإن تقدم الأمس على الغد ظاهر بالنظر الى نفس مفهومه ، ولا كذلك حال عدم الحادث بالنسبة الى وجوده ، لأنا نقول : إنما جاز ذلك من جهة أن الأمس اسم للزمان المأخوذة مع التقدم المخصوص ، وإما في نفس أجزاء الزمان فلا بل غايته لزوم التقدم والتأخر فيما بينها ، لكونها عبارة عن اتصال غير قار.

ولو سلّم ، فالحادث من حيث الحدوث أيضا كذلك ، إذ لا معنى له سوى ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم.

ولو سلّم. فالمقصود منع انحصار السبق في الأقسام الخمسة مستندا الى السبق فيما بين أجزاء الزمان ، فإنه ليس زمانيا بمعنى أن يوجد المتقدم في زمان لا يوجد فيه المتأخر ، ولا يضرنا تسميته زمانيا بمعنى آخر ، وقد سبق تحقيق ذلك في موضعه.

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب)

١٢٦

أدلة إبطال القائلين بقدم العالم

[قال (هذا والتحقيق)

أن مسبوقية العالم بالعدم ، إنما هو بحسب امتداد وهمي ، تقدر به الأمور نسميه الزمان ، فإن ثبت وجود زمان هو مقدار للحركة ، لم نمنع حدوثه بهذا الاعتبار وبهذا يظهر الجواب عما قيل : إن لم يتقدم وجود الصانع على وجود العالم بقدر غير متناه ، لزم حدوث الصانع ، أو قدم العالم ، وإن تقدم لزم قدم الزمان لأن معنى لا يتناهى القدر وجود قبليات وبعديات منصرمة لا بداية لها ، وهو يستلزم قدم الحركة والجسم].

يريد أن الزمان عندنا أمر وهمي يقدر به المجددات ، وبحسبه يكون العالم مسبوقا بالعدم (١) ، وليس أمرا موجودا من جملة العالم يتصف بالقدم أو الحدوث.

فإن أثبت الفلاسفة وجود الزمان بمعنى مقدار الحركة لم يمتنع سبق المعدم عليه ، باعتبار هذا الأمر الوهمي كما في سائر الحوادث. وبهذا يظهر الجواب عن استدلالهم على قدم العالم ، بأن وجود الباري ، إما أن يكون متقدما على وجود العالم بقدر غير متناه أو لا فعلى الأول : يلزم منه قدم الزمان لأن معنى لا تناهي القدر ، وجود قبليات وبعديات متصرمة لا أول لها ، وهو معنى قدم الزمان ، ويلزم منه قدم الحركة والجسم ، لكونه مقدرا لها. وعلى الثاني يلزم حدوث الباري ، أو قدم العالم. لأن عدم تقدمه على العالم بقدر غير متناه ، إما بأن لا يتقدم عليه أصلا ، وذلك بأن يحصل معه في وقت حدوثه فيكون حادثا ، أو يحصل العالم معه في الأزل ، فيكون قديما ، وإما أن يتقدم عليه بقدر متناه ، وذلك بأن لا يوجد قبل ذلك القدر فيكون حادثا وهو محال.

__________________

(١) العدم فقدان الشيء ما تقتضيه طبيعته من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته وهو عدم إضافي لا عدم مطلق ويطلق عند المنطقيين على وقوع النسبة بين محمول وموضوع ليس من شأنه أن يكون له ذلك المحمول ، ولا أن يؤدي انتفاؤه عنه الى نقص في ماهيته كقولنا (ليس زيد جالسا) والعدمى هو المنسوب الى العدم ، ويطلق على كل حد يدل على فقدان الشيء لاحدى الصفات التي تقتضيها طبيعته كالعمى للانسان وكل شيء مصيره الى الزوال كالسماء المظلة ، والأرض ، والمال والجاه والملك فهو عدمي.

١٢٧

الفصل الثاني

الجسم مركب وبسيط وفلكي وعنصري

قال (الفصل الثاني فيما يتعلق بالاجسام على التفصيل) والكلام فيه مرتب (١) على أربعة أقسام ، لأن الجسم (٢) إما مؤلف من أجسام مختلفة الطبائع فمركب ، وإلا فبسيط ، والبسيط إما فلكي أو عنصري. والمركب إما ممتزج أو لا وقد يرسم البسيط بأنه الذي يكون جزؤه المقداري كالكل في الاسم ، والحد (٣) ، والمركب بخلافه.

مثل البحث عن خصوص أحوال البسائط الفلكية أو العنصرية ، أو المركبات المزاجية ، أو غير المزاجية ، أو حال ما هو من أقسام بعض هذه الأربعة.

قال (جزؤه المقداري)

احترازا عن الجزء العقلي كالجنس والفصل (٤) ، أو العيني كالهيولى والصورة ،

__________________

(١) سقط من (أ) لفظ (فيه)

(٢) الجسم في بادئ النظر هو هذا الجوهر الممتد القابل للابعاد الثلاثة الطول ، والعرض والعمق ، وهو ذو شكل ووضع ، وله مكان اذا شغله منع غيره من التداخل فيه معه ، فالامتداد وعدم التداخل هما إذن المعنيان المقومان للجسم ، ويضاف إليهما معنى ثالث ، وهو الكتلة والجسم الطبيعي عند قدماء الفلاسفة هو مبدأ الفعل والانفعال ، وهو الجوهر المركب من مادة ، وصورة ، وهم وان كانوا يطلقون الجوهر أيضا على كل متحيز ، فيكون معنى الجوهر أعم من معنى الجسم.

(٣) الحد في اللغة المنع والفصل بين الشيئين ، ومنتهى كل شيء حده ، والحد في اصطلاح الفلاسفة هو القول الدال على ماهية الشيء ، وهو تعريف كامل ، أو تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه ، كتعريف الانسان بالحيوان الناطق.

وينقسم الحد الى تام وناقص فالتام هو ما يتركب من الجنس والفصل القريبين كتعريف الانسان بالحيوان الناطق ، والناقص : هو ما يكون بالفصل القريب وحده ، أو به وبالجنس البعيد ، كتعريف الانسان بالجسم الناطق ، ومن شرط الحد التام أن يكون جامعا مانعا أي يجمع المحدود ويمنع غيره من الدخول فيه ، ومن شرطه أن يكون مطردا ومنعكسا.

(٤) الفصل : عند المنطقيين له معنيان أحدهما ما يتميز به شيء عن شيء ذاتيا كان أو عرضيا لازما أو مفارقا شخصيا أو كليا وهو مرادف للفرق. وثانيهما ما يتميز به الشيء في ذاته ، وهو الجزء الداخل في الماهية ، كالناطق مثلا ، فهو داخل في ماهية الانسان ومقوم لها ويسمى بالفصل المقوم. وهذا المعنى الثاني هو الذي أشار إليه ابن سينا في قوله : وأما الفصل فهو الكلي الذاتي الذي يقال على نوع تحت جنس فى جواب أي شيء هو منه ، كالناطق للإنسان فبه يجاب حين يسأل أي حيوان هو (النجاة ص ١٤).

١٢٨

فإنه لا يكون مثل الكل في الاسم والحد لا في البسيط ولا في المركب.

[قال (والمأخوذ في كل)

من تفسيري كل قد يعتبر حسيا ، وقد يعتبر حقيقيا. فبالاعتبارية الحيوية مركب حقيقة والماء بسيط مطلقا ، والفلك بالتفسير الأول خاصة ، والذهب بالتفسيرين مركب حقيقة ، بسيط حسّا].

قد ذكر لكل من الجسم البسيط والجسم المركب تفسيرين أحدهما وجودي ، والآخر عدم له. فالآن يشير إلى أن ما جعل مأخذ التفسيرين. أعني التألف من الأجسام المختلفة الطبائع ، وتساوي الجزء والكل في الاسم والحد ، قد يعتبر من حيث الحقيقة وقد يعتبر من حيث الحس ، فيحصل لكل من البسيط والمركب أربعة تفسيرات مختلفة ، بالعموم والخصوص ، متعاكسة في الوجودية والعدمية ، فللبسيط ما لا يتألف من المختلفات ، حقيقة ما لا يتألف منها حسا ما يساوي جزؤه الكل حقيقة ما يساويه حسّا ، وللمركب ما يتألف حقيقة ما يتألف حسا ما لا يساوي حقيقة ما لا يساوي حسّا. فالمأخوذ من المأخذ الأول للمركب وجودي ، والبسيط عدمي ، ومن المأخذ الثاني بالعكس. فمثل الحيوان لتألفه حسّا وحقيقة من الأجسام المختلفة ، وعدم مساواة جزئه الكل في الاسم والحد لا حسا ولا حقيقة كان مركبا بأي تفسير فسر ، وبأي اعتبار أخذ ، والماء لعدم تألفه منها ، ولمساواة جزئه الكل ، فبهما كان بسيطا كذلك ، والفلك لعدم تألفه منها لا حسا ولا حقيقة ، وعدم مساواة جزئه الكل كذلك كان بسيطا على التفسير الأول بالاعتبارين ، مركبا على التفسير الثاني بالاعتبارين ، والذهب لتألفه من الأجسام المختلفة حقيقة لا حسّا ولمساواة جزئه الكل حسّا لا حقيقة كان على التفسير الأول مركبا ، إذ أخذنا باعتبار الحقيقة بسيطا ، إذا أخذ باعتبار الحس [وعلى التفسير الثاني بالعكس] (١).

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من (ب)

١٢٩

ما سبق أكثره عن تهويمات الفلسفة وهو غير مسلم

[قال (وليعلم)

أن معظم مباحث الفصل حكاية عن الفلسفة مبنى على أخوال (١) فاسدة أو غير ثابتة].

يريد أن أكثر المباحث (٢) التي تورد في الأقسام الأربعة من هذا الفصل حكاية عن الفلسفة غير مسلمة عند المتكلمين لابتنائها على أصول ثبت فسادها ، مثل كون الصانع موجبا لا مختارا ، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، أو لم تثبت صحتها ، مثل كون الأجسام مختلفة بالحقيقة ، ومركبة من الهيولي والصورة.

__________________

(١) في (ب) أصول بدلا من (أحوال)

(٢) في (ب) المبادي بدلا من (المباحث).

١٣٠

المبحث الأول

إثبات المحدد (١)

[قال (القسم الأول في البسائط الفلكية)

وفيه مباحث :

المبحث الأول : في إثبات المحدد. قد سبق أن من الجهات ما هو حقيقي بتوجه إليه بعض الأجسام بالطبع وهو العلو والسفل ، فلا بدّ من تحديدهما بجسم واحد كري محيط بالكل ، يتحدد بمحيطه القرب ، وبمركزه البعد ، أما الوحدة فلأنه لو تعدد فمع مخالطة البعض بالبعض يتعين المحيط للتحديد ، وبدونها كان كل في جهة من الآخر ، فلا تكون الجهة به قبله أو معه على أن المتحدد بكل منهما يكون هو القرب منه لا البعد ، وأما الكرية فلامتناع تركبه ، أو زواله عن الاستدارة لاقتضائهما جواز الحركة المستقيمة التي لا تكون إلا من جهة إلى جهة ، فيتنافى كون الجهة به].

جعل أول المباحث في ثبات فلك محيط بجميع ما سواه من الأجسام يسمى محدد الجهات ، وتقرير البرهان أنه قد سبق أن الجهات موجودات ذوات أوضاع ، وأنها حدود ونهايات للامتدادات ، وأن العلو والسفل منها جهتان متعينتان لا تتبدلان ، وهذا يستلزم وجود محدد به يتعين وضعهما ، ويلزم أن يكون جسما واحدا كريا (٢) محيطا بالكل ليتعين العلو بأقرب حد من محيطه ، والسفل بأبعد حد منه وهو المركز. أما الجسمية فلوجوب كونه ذا وضع ، وأما الوحدة فلأنه لو تعدد

__________________

(١) المحدد : كل ما كان معينا ومحكما ، ودقيقا تقول : المنهج المحدد ، والمقادير المحددة.

والمحدد أيضا هو الموضوع الذي ذكرت جميع خصائصه ومميزاته حتى صار واضحا وبينا ويرادفه المعرّف ويقابله اللامحدود واللامتعين.

(٢) سقط من (أ) لفظ (كريا)

١٣١

بأن يكون جسمين مثلا. فإما أن يحيط أحدهما بالآخر أولا. فإن أحاط كان هو المحدد ، إذ إليه الانتهاء دون المحاط ، وإن لم يحط كان كل منهما في جهة من الآخر ، فيكون متأخرا عن الجهة ، أو مقارنا لها سابقا عليها ، ليصلح محددا لها ، وأيضا كل منهما. إنما يحدد جهة القرب منه دون البعد فإنه غير متحدد. والمطلوب إثبات ما يحدد الجهتين المتقابلتين معا (١) وفيه نظر لجواز أن يكون الجسماني بحيث يكون غاية القرب من كل منهما ، غاية البعد من الآخر ، فيتحدد بهما الجهتان ، فلذا كان المختار هو الوجه الأول. وأما وجوب كونه كريا فلأنه بسيط (٢) يمتنع زواله عن مقتضى طبعه أعني الاستدارة ، إذ لو كان مركبا أو بسيطا زال عن استدارته لزم جواز الحركة المستقيمة على أجزائه وهو محال ضرورة أنها لا تكون إلا من جهة إلى جهة ، فتكون الجهة قبله أو معه ، فلا تكون متحددة به ، وجه اللزوم ، أما في البسيط الزائل عن الاستدارة فظاهر ، وأما في المركب فلأن تألفه لا يتصور إلا بحركة بعض الأجزاء إلى البعض ، ولأن من لوازمه جواز الانحلال ، لأن كل واحد من بسائطه يلاقي بأحد طرفيه شيئا غير ما يلاقيه بالطرف الآخر مع تساويهما في الحقيقة ، فيجوز أن يلاقي ذلك الشيء بالطرف الآخر ، وذلك بالحركة من جهة إلى جهة ، وفي هذا نظر لأنه إنما يستدعي تقدم الجهة على حركة الأجزاء لا على نفس المركب (٣) ، وبهذا يظهر أن الاستدلال بهذا الوجه على بساطة المحدد ليس بتام.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (معا)

(٢) سقط من (ب) لفظ (بسيط).

(٣) المركب : هو المؤلف من أجزاء كثيرة ، ويقابله البسيط كالجسم ، فإنه إذا كان مؤلفا من أجزاء كثيرة كان مركبا ، وإذا لم يكن كذلك كان بسيطا.

واللفظ المركب أو المؤلف عند المنطقيين : هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم. مسموعه ، ومن معانيها يلتئم معنى الجملة ، كقولنا : الانسان يمشي أو رامي الحجارة. (راجع النجاة ص ٧ لابن سينا)

١٣٢

رد وجهين من الاستدلال على كرية المحدد

[قال (لا لما قبل)

إن غير الكري إنما يحدد القرب دون البعد فإنه ممنوع أو أن حركته سيما على الجسم المستدير يستلزم وقوع الخلاء ، فإنه لو فرض مقعر المحدد مستديرا ، ومحدبه بيضيا يتحرك على قطره الأطول أو عدسيا (١) يتحرك على قطره الأقصر (٢) ، لم يلزم (٣) الخلاء ، وأما الإحاطة ، فلأن غير المحيط لا يحدد سوى القرب ، وهو ظاهر].

إشارة إلى رد وجهين آخرين استدل بهما على كرية المحدد ، أحدهما أنه لو لم يكن كريا لم يتحدد به إلا جهة القرب ، لأن البعد غير محدد ، أو ردّ بالمنع ، فإن الشكل البيضي أو العدسي ، بل المضلع أيضا يشتمل على وسط هو غاية البعد عن جميع الجوانب ، بحيث إذا تجاوزته صرت في القرب من جانب الستة (٤) غاية الأمر أن الأبعاد الممتدة منه إلى الجوانب لا تكون متساوية.

وثانيهما : أنه لو لم يكن كريا لزم من حركته خصوصا على الجسم المستدير وقوع الخلاء إذ لا مالئ لفرج (٥) الزوايا.

وردّ بأنه لو فرص مقعره مستديرا ، ومحدبه بيضيا ، ويتحرك على قطره الأطول أو عدسيا ، ويتحرك على قطره الأقصر لم يلزم الخلاء.

__________________

(١) العدسة : يمكن بواسطتها تجميع أو تفريق الأشعة الضوئية ، وهي عادة من الزجاج ذات انحناء في أحد سطحيها أو كليهما ، وهي إما لامة أو مفرقة. بؤرة العدسة هي النقطة التي تتجمع عندها أشعة ضوئية تسقط متوازية ، وموازية للمحور الأصلي للعدسة في حالة المفرقة امتدادات الأشعة بعد انكسارها عند ما تسقط متوازية وموازية للمحور الأصلي. تستخدم العدسات (الضوئية) في آلة التصوير او المجهر ، والمنظار الفلكي ، والنظارات الطبية ، ولعدسة العين أهمية خاصة في رؤية الاجسام العدسة الالكترونية : تجمع أو تفرق حزمة من الالكترونات وتستخدم في الميكروسكوب الالكتروني. (راجع الموسوعة الثقافية ص ٦٥٨)

(٢) في (ب) الأصغر بدلا من (الأقصر)

(٣) في (ب) للزم بدلا من (لم يلزم)

(٤) في (أ) البتة بدلا من (الستة) وهو تحريف

(٥) في (ب) يأتي بدلا من (لا مالئ)

١٣٣

فإن قيل : طبيعة المحدد واحدة لما سيجيء ، فيكون محدبه مستديرا كمقعره.

قلنا : فيكون ذلك استدلالا برأسه لا يفتقر إلى ذكر الحركة ، ولزوم الخلاء (١) ، والشكل البيضي سطح يحيط به قوسان متساويتان ، كل منهما أصغر من نصف دائرة. والعدسي ما هما أعظم. وكل منهما إذا أدير على نفسه حصل مجسمه ، وأما كون المحدد محيطا بذوات الجهات ، فلأن غير المحيط إنما يتحدد به القرب منه وهو ظاهر ، فلا يكون محددا للجهتين. هذا خلف.

المراد بمحدد الجهة ما يتعين به وضع الجهة

[قال (ثم معنى تحديده)

الجهات تعيين أوضاعها به ، وإلا فالفاعل لا يلزم أن يكون جسما ، والقابل ليس إلا واحدا ، لأن العلو نقطة من الفلك ، والسفل من الأرض ، لكن من حيث أنها مركز للمحيط ، ومتحددة به المحيط بتعين مركزه ولا عكس. ولهذا لم يكن للأرض دخل في التحديد ، وإنما تعين المحيط بالكل ، لأن المحاط قد يمتد الإشارة منه ، فلا يكون هو المنتهى ، وعلى هذا يكون المحدد بالحقيقة ، هو محدب المحيط ، ويكون مقعره تحت كما في سائر الأفلاك بحسب الأجزاء المفروضة ، وبعضهم (٢) على أنه نفس المحيط حتى يكون كله فوق لذاته].

جواب سؤال تقريره أن المراد بمجرد الجهة إن كان فاعلها ، فلا نسلم لزوم كونه ذا وضع فضلا عن الإحاطة ، وإن كان قابلها ، فمحدد العلو والسفل لا يكون واجدا ضرورة أن المركز لا يقوم بالمحدد وتقرير الجواب : أن المراد به ما يتعين به

__________________

(١) الخلاء عند الفلاسفة : خلو المكان من كل شيء فإذا قلت مع ديكارت مثلا : إن المادة امتداد لزمك القول: ان الخلاء المطلق متناقض ومحال. ويطلق الخلاء عند بعضهم على الامتداد الموهوم المفروض في الجسم أو في نفسه الصالح لأن يشغله الجسم ، ويسمى أيضا بالمكان والبعد الموهوم ، والفراغ الموهوم ، وحاصله البعد الموهوم الخالي من الشاغل.

ويطلق الخلاء أيضا على خلو المكان من مادة معينة توجد فيه بالطبع كخلاء (البارومتر) وعلى الخلو من الفكر : كخلو الجملة من المعنى ، وخلو الشعر من الخيال.

(٢) في (ب) ويقتضي بدلا من (وبعضهم) وهو تحريف

١٣٤

وضع الجهة ، وظاهر أن تعين الوضع لا يكون إلا بذي الوضع ، وتعين السفل بوسط الأرض ليس من حيث أنه نقطة من الأرض ليكون للأرض دخل في التحديد ، فيتعدد المحدد ، بل من حيث أنه مركز لمحيط فلك الأفلاك ، ومتحدد به ضرورة أن المحيط يتعين مركزه ، والمركز لا يتعين محيطه لجواز أن يحيط به دوائر (١) غير متناهية ، فبهذا الاعتبار كان المحدد للجهات هو الفلك دون الأرض ودون كليهما.

فإن قيل : سلمنا أن المحدد يكون واحدا محيطا بذي الجهة ، لكن من أين يلزم أن يكون هو المحيط بالكل ، ولم لا يجوز أن يكون محدد جهة النار هو فلك القمر مثلا. كما هو حكم الأمكنة ، فإن محدد كل مكان إنما هو المحيط به ، وإن كان محاطا للغير ، بل اطباقهم على كون النار خفيفة على الإطلاق بمعنى أنها تطلب جهة الفوق ، مع أنها لا تطلب إلا مقعر فلك القمر ، ربما يدل على أنه محدد جهتها.

قلنا : المحيط إذا كان محاطا (٢) للغير لم يكن منتهى الإشارة ضرورة امتدادها إلى الغير ، فلم يكن محددا للجهة التي هي طرف الامتدادات ، ومنتهى الإشارات ، وهذا بخلاف المكان، فإنه سطح المحيط المماس لسطح ذي المكان ، فطلب النار بالطبع مقعر فلك القمر إنما يدل على أنه مكانه الطبيعي لا جهتها. فإن العنصر إنما يطلب بالطبع حيزه لا جهته بأن يصل إلى الجسم المشتمل على حقيقة الجهة ، بل لا يكون ذلك إلا في الماء الطالب للأرض. ألا ترى أن النار لو فرضت قاطعة لفلك القمر ، كانت متحركة إلى فوق لا من فوق ، ولهذا اتفقوا عل أن فوق النار فلك

__________________

(١) الدائرة : منحن مستو مقفل. جميع نقطه على نفس البعد من نقطة في المستوى تسمى المركز ، والمستقيم الواصل بين أي نقطتين على المحيط يسمى «وترا» فإذا مر بالمركز صار «قطرا» والنسبة بين طول محيط أي دائرة وقطرها ثابتة وتساوي ٧ / ٢٢ تقريبا ويرمز لها بالرمز ط فمحيط الدائرة ٢ ط نق ٢ حيث نق نصف القطر ومساحة الدائرة ط نق ٢ ، والمستقيم يقطع الدائرة على العموم في نقطتين فإذا انطبقت نقطتا التقاطع صار «مماسا» ويكون عموديا على نصف القطر المار نقطة التماس وتعتبر الدائرة مرسومة خارج شكل كثير الاضلاع اذا وقعت جميع رءوسه على محيطها ، ومرسومة داخله اذا كان كل ضلع فيها مماسا لها ، وللدائرة أهمية خاصة في الرياضة ، فهي تدخل أساسا لكثير من النظريات. (راجع الموسوعة الثقافية ص ٤٣٨)

(٢) في (أ) محالا بدلا من (محاطا)

١٣٥

القمر ، وفوقه فلك عطارد (١) ، وهكذا إلى المحدد. وقولهم : إنها تطلب جهة الفوق يجوز بمعنى أنها تطلب المكان الذي يلي جهة الفوق ، وبعد الاتفاق على أن المحدود فوق الكل. اختلفوا في أنه هل ينقسم بحسب الأجزاء المفروضة إلى فوق وتحت كسائرة الأفلاك حيث يجعل ما يلي محيط المحدد كما لمحدب فوق ، وما يلي مركزه تحت كالمقعر ، فجوزه بعضهم بناء على أن المحدد بالذات هو محدبه إذ إليه الانتهاء ، فتكون الإشارة من مقعره إلى محدبه من تحت ، ومنعه بعضهم زعما منه أن المحدد هو نفسه فيكون كله فوق ، بخلاف الأرض ، فإن تحتيتها ليست لذاتها ، بل لكونها في صوب المركز حتى لو تحركت عنه كانت حركة من تحت.

إثبات المحدد مبنى على امتناع الخلاء

[قال (تنبيه)

لما كان عندنا الخلاء ممكنا ، والأجسام متماثلة ، والحركات مستندة إلى قدرة المختار، لم يتم ما ذكروه ، ولم تمنع الحركة المستقيمة على السموات ، ولم تثبت ما فرعوا على ذلك ، من أنها لا تقبل الخرق والالتئام ، ولا الكون والفساد ، ولا الكيفيات الفعلية ، والانفعالية. ونحو ذلك ، وزعم بعض القدماء أنها في غاية الصلابة ، واليبس ، والملاسة ، ولها في تمارسها نغمات (٢) يسمعها أصحاب الرياضة].

__________________

(١) عطارد : أقرب الكواكب الى الشمس يطلق عليه وعلى الزهرة اسم كوكب سفلى لوقوع مساريهما بين الأرض والشمس له أوجه كالقمر ومتوسط بعده عن الشمس ٥٧٥٣٦٠٠٠ كم ودورته حولها ٨٨ يوما وكتلته ١ / ٣٧ من كتلة الأرض وكثافته ٣ / ٥ كثافتها ، وهو لا يبتعد عن الشمس أكثر من ٢٨ لذا لا يبقى طويلا فوق الافق بعد الغروب أو قبل الشروق ، فيصعب رصده ، دورته حول محوره تستغرق ٨٨ يوما مثل دورته في مساره ، لذا كان أحد نصفيه دائما مواجها للشمس فتربو حرارته على ٥٦٠ ف بينما تنخفض في النصف الآخر الى قريب من الصفر المطلق ، وليس له أقمار ، ولا يحتفظ بغلاف جوي. (راجع الموسوعة الثقافية ص ٦٦٨)

(٢) في (ب) نفحات بدلا من (نغمات)

١٣٦

لا خفاء في أن إثبات المحدد مبنى على اقتناع الخلاء ، وإلا لجاز أن تنتهي إليه الامتدادات وتتعين به أوضاع الجهات ، وعلى اختلاف الأجسام بالحقيقة ، واستناد بعض حركاتها إلى الطبيع ، وإلا لما كان من الأجسام ما يقتضي صوب المحيط ، ويتحرك إليه بالطبع ، ومنها ما يقتضي صوب المركز ويتحرك إليه بالطبع ، فلم يكن العلو والسفل جهتين طبيعيتين ، ولما كان عندنا أن الخلاء ممكن ، وأن الأجسام متماثلة ، يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر ، وأن الحركات مستندة إلى قدرة الفاعل المختار ، لا أثر فيها للطبيعة ، لم يتم ما ذكروه في إثبات المحدد بالتفسير المذكور ، ولم تمتنع الحركة المستقيمة على السموات كما (١) لم تمتنع على العناصر لتحقق الجهات بدونها ، ولم يثبت ما فرعوا على إثبات المحدد ، وعدم قبوله الحركة المستقيمة من أن السموات لا تقبل الخرق والالتئام ، ولا الكون والفساد ، ولا الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، ولا الألوان والطعوم ، والروائح ولا اللين والصلابة (٢) والخشونة والملاسة ، ولا الخفة والثقل إلى غير ذلك مما ورد به الشريعة المطهرة ، على أنه لو تم ما ذكر. ففي المحدد خاصة دون سائر الأفلاك. فإن تمسكوا بأنه علم بالرصد أنها تتحرك على الاستدارة فيكون فيها مبدأ ميل مستدير فلا تتحرك على الاستقامة ، لامتناع اجتماع المثلين.

قلنا : لو سلّم ذلك ، فامتناع انقطاع الاستدارة ، وحدوث الاستقامة لم يعلم بالرصد، ودليل سرمدية (٣) الحركات لم يتم. كيف وقد جعلوها إرادية لا ذاتية ، يمتنع انفكاكها ، وزعم جماعة من قدماء الحكماء المتألهين. أن الأفلاك في غاية

__________________

(١) في (ب) بل بدلا من (كما)

(٢) سقط من (أ) لفظ (والصلابة)

(٣) السرمد في اللغة : الدائم الذي لا ينقطع وفي التنزيل العزيز : «قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا الى يوم القيامة» والسرمدي هو المنسوب الى السرمد ، وهو ما لا أول له ، ولا آخر ، وله طرفان أحدهما دوام الوجود في الماضي ويسمى أزلا والآخر دوام الوجود في المستقبل ويسمى «أبدا» وفرق بعضهم بين الزمان والدهر والسرمد. فقال ان نسبة المتغير الى المتغير هي الزمان ونسبة المتغير الى الثابت هي الدهر ، ونسبة الثابت الى الثابت هي السرمد.

فالسرمد بهذا المعنى مرادف للابد اللازماني وهو المطلق او الشيء الذي لا نهاية له.

١٣٧

ما يكون من الصلابة واليبس والملاسة ، وهي في دورانها (١) يماس بعضها بعضا ، فيسمع منها المتلطفون بالحكمة والرياضة أصواتا عجيبة غريبة موسيقية مطربة ، وألحانا ونغمات متناسبة مستحسنة (٢) تقف عندها القوى البدنية ، وتتحير النفوس البشرية.

__________________

(١) في (ب) ذواتها بدلا من (دورانها) وهو تحريف

(٢) في (ب) مستحبة بدلا من (مستحسنة)

١٣٨

المبحث الثاني

المحدد تاسع الأفلاك في زعمهم

[قال (المبحث الثاني)

زعموا أن المحدد تاسع الأفلاك بمعنى قيام الدليل على وجود التسعة ، وإن جوز بعضهم ردها إلى الثمانية بل السبعة].

قد انجر الكلام هاهنا إلى ذكر جمل من علم الهيئة (١) الباحث عن أحوال الأجسام (٢) البسيطة العلوية والسفلية من حيث كمياتها ، وكيفياتها ، وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها ، لأن بعض ذلك مما ينتفع به في الشرعيات ، كتعدد المشارق والمغارب ، واختلاف المطالع ، وأمر القبلة ، وأوقات الصلاة ، وغير ذلك ، وبعضه مما يعين على التفكر في خلق السموات والأرض المؤدي إلى مزيد خبرة ببالغ حكمة الصانع ، وباهر قدرته وبعضه مما يجب التنبه لفساده ، فيحكى كذلك وهذا العلم فيما بينهم أيضا ، يذكر على طريق الحكاية ، عن علم آخر فيه براهينه يسمونه (٣) المجسطي ، فلا بأس إن اقتصرنا على مجرد الحكاية ، لكن على وجهها إن شاء الله تعالى ، لا كما وقع في المواقف. فيتعجب من له أدنى نظر في هذا الفن من قلة اهتمام الحاكي بالمحكي ، ويتخذ ذلك مغمزا على المتصدي لتحقيق العلوم الإسلامية ، فنقول لما وجدوا الشمس والقمر وسائر الكواكب متحركة

__________________

(١) علم الهيئة أحد الأقسام الأصلية للحكمة الرياضية ، ويعرف فيه حال أجزاء العالم في أشكالها وأوضاع بعضها عند بعض ومقاديرها وابعاد ما بينها ، وحال الحركات التي للافلاك ، والتي للكواكب وتقدير الكرات والقطوع والدوائر التي بها تتم الحركات ويشتمل عليها كتاب المجسطي (رسالة ابن سينا في أقسام العلوم العقلية تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات الرسالة الخامسة ، ص ١١١ ـ ١١٢)

(٢) في (ب) الأجرام بدلا من (الأجسام)

(٣) في (أ) يمسونه بدلا من (يسمونه)

١٣٩

بالحركة اليومية من المشرق إلى المغرب ، ثم وجدوها بالنظر الدقيق متحركة حركة بطيئة من المغرب إلى المشرق ، ووجدوا الكواكب السبعة. أعني الشمس والقمر وزحل (١) والمشتري ، والمريخ والزهرة وعطارد ذوي حركات غريبة مختلفة غير متشابهة بقياس بعضها إلى البعض ، وكانت الكواكب عندهم مركوزة في الأفلاك لا كالحيتان في المياه ، بنوا على (٢) ذلك أن الأفلاك الكلية الشاملة للأرض ، الكائنة على مركزها تسعة ، اثنان للحركتين الأوليين ، وسبعة لحركات السبعة السيارة لامتناع الحركتين المختلفتين في زمان واحد من جسم واحد. وأما في جانب الكثرة فلا قطع لجواز أن يكون كل من الثوابت على فلك وأن تكون الأفلاك غير الكوكبية (٣) كثيرة محيط بعضها بالبعض ، لكنهم لم يذهبوا إلى ذلك لعدم الدليل ، ولأنهم (٤) لم يجدوا في السمويات فضلا لا حاجة إليه ، وجوز بعضهم أن تكون (٥) كون الأفلاك ثمانية ، تستند الحركة الأولى إلى مجموعها ، لا إلى فلك خاص ، وذلك بأن تتصل بها نفس واحدة تحركها الحركة اليومية. قال صاحب التحفة : ـ فيجوز أن تكون سبعة بأن تكون الثوابت ودوائر البروج على محدب فلك زحل ، وتتعلق نفس بمجموع السبعة. تحركها الحركة الأولى ، وأخرى بالسابعة تحركها الحركة (٦) الأخرى. لكن بشرط أن نفرض دوائر البروج [متحركة بالسريعة دون البطيئة لتنتقل الثوابت بها من برج إلى برج (٧)] كما هو الواقع.

[قال (وإنه لا كوكب عليه وإنه يتحرك)

من المشرق إلى المغرب ، على منطقة].

__________________

(١) سبق الحديث عنه في كلمة وافية

(٢) سقط من (ب) حرف الجر (على)

(٣) في (أ) الغير المركبة بدلا من (غير الكوكبية) وهي تحريف

(٤) سقط من (ب) لفظ (ولأنهم)

(٥) سقط من (أ) لفظ (ان تكون)

(٦) سقط من (أ) لفظ (الحركة)

(٧) ما بين القوسين سقط من (ب)

١٤٠